المسألة الثامنة والستون
ثم حكيتَ حكايات ليس لها غَناءٌ في المسألة، فلنشتغل بالجواب.
الجواب
قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:
لولا أن لفظة الالتماس تُوهِم غير المعنى الصحيح في حال النفس وظهور آثارها في هذا العالم لأطلقتها ورخَّصتُ فيها لك كما أطلقها قوم، ولكني رأيت أبا بكرٍ محمد بن زكريا الطبيب وغيره ممن كان في طبقته قد تورَّطوا في مذهبٍ بعيدٍ من الحق سببه هذه اللفظة، وما أشبهها مما أطلقته الحكماء على سبيل الاتساع في الكلام، بل لأجل الضرورة العارضة للألفاظ عند ضيقها عن المعاني الغامضة التي أطلقوا عليها.
ولكني سأشير لك إلى ما ينبغي أن تعتقده في هذا الباب، وهو أن الطبائع إذا امتزجت ضُرُوب الامتزاجات بضروب حركات الفلك حدثت منها ضروب الصور والأشكال التي تعملها الطبيعة وتقبل من آثار النفس بوساطة الطبيعة ضروب الآثار؛ لأن النفس تظهر آثارها في كل مزاج بحسب قبوله، وتستعمل كل آلةٍ طبيعية بحسب ملاءمتها في كل ما يمكن أن تُستعمَل فيه وتُنهيه إلى أقصى ما يمكن أن ينتهي إليه من الفضيلة.
وهذا الفعل من النفس لا لغرض أكثر من ظهور الحكمة، وذاك أن ظهور الحكمة من الحكيم لا يكون لغرض آخر فوق الحكمة؛ لأن أجلَّ الأفعال ما لم يُرَدْ لشيء آخر بل لذاته، وكل فعل أُريدَ لغاية أخرى ولشيء آخر فذلك الشيء أجلُّ من ذلك الفعل.
ولا يمكن أن يكون ذلك مارًّا بلا نهاية؛ فالغاية الأخيرة والفعل الأفضل ما لم يُفْعَل لشيء آخر بل هو بعينه الغاية والغرض الأقصى؛ ولذلك ينبغي ألا يكون قصد المتفلسف بفلسفته شيئًا آخر غير الفلسفة، ولا يجب أن يكون قصد فاعل الجميل شيئًا آخر غير الجميل، أعني أنه لا يجب أن يقصد به نَيْل منفعةٍ ولا طلب ذِكْرٍ ولا بلوغ رئاسة ولا شيئًا من الأشياء غير ذات الجميل لأنه جميل.
وقد أشار «الحكيم» إلى أن النفس تكمُل في هذا العالم بقَبولها صور المعقولات لتصير عقلًا بالفعل بعد أن كانت بالقوة، فإذا عقلت العقل صارت هي هو؛ إذ من شأن المعقول والعاقل أن يكونا شيئًا واحدًا لا فرق بينهما.
وهذا يتضح بعد النظر الطويل في أجزاء الفلسفة والوصول إلى آخرها.
•••
فأما حديث الإنسان الذي شكوت طوله وحكيت من الكلام المتردد الذي لم يُفِدْكَ طائلًا، فالذي ينبغي أن تعتمد عليه هو أن هذه اللفظة موضوعة على الشيء المركَّب من نفس ناطقة وجسم طبيعي؛ لأن كل مركَّبٍ من بسيطَين أو أكثر يحتاج إلى اسم مفردٍ يعبِّر عن معنى التركيب ويدل عليه كما فُعِلَ ذلك بالصورة التي تجتمع مع مادة الفضة فسُمِّيَ خاتمًا، وكما تجتمع صورة السرير مع مادة الخشب فيصير اسمه سريرًا، وعلى هذا أيضًا يُفعَل إذا اجتمع جسمان طبيعيان أو أجسامٌ طبيعيةٌ فتُركَّب منها شيء آخر فإنه يُسمَّى باسم مفرد، كما يُفعَل بالخل إذا تركَّب مع العسل أو السكر فيُسمَّى سَكَنْجَبِنًا، وكما تُسمَّى أنواع الأدوية والمعجونات من الأخلاط الكثيرة وأنواع الأغذية والأشربة المركَّبة ينفرد كل واحد منها باسم خاص، وكذلك يُفعَل بالمادة التي تستحيل من صورة إلى صورة كعصير العنب الذي يُسمَّى عصيرًا مرة وخمرًا مرة وخلًّا مرة بحسب تبدُّل الصورة على الموضوع الواحد.
فالإنسان هو النفس الناطقة إذا استعملت الآلات الجسمية التي تُسمَّى بدنًا لتصدر عنها الأفعال بحسب التمييز.