المسألة الرابعة والسبعون
لِمَ سهُل الموت على المعذَّب، مع علمه أن العدم لا حياة معه وليس بموجود فيه، وأن الأذى وإن اشتد فإنه مقرون بالحياة العزيزة؟
هذا وقد علِم أيضًا أن الموجود أشرف من المعدوم وأنه لا شرف للمعدوم، فما الذي يُسهِّل عليه العدم؟
وما الشيء المنتصِب لقلبه؟
وهل هذا الاختيار منه بعقل أو فساد مزاج؟
الجواب
قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:
هذه المسألة وإن كان الغرض فيها صحيحًا فالكلام فيها مضطربٌ غير مُسلَّم المقدمات؛ وذلك أن الإنسان إذا مات فليس يعدم رأسًا، بل إنما تبطل عنه أعراض وتُعدَم عنه كيفيات، فأما جواهره فإنها غير معدومة، ولا يجوز على الجوهر العدم بتة؛ لِما تبيَّن في أصول الفلسفة من أن الجوهر لا ضد له ومن أشياء أُخَر ليس هذا موضعها.
فالجوهر لا يقبل العدم من حيث هو جوهر، وأجزاء الإنسان إذا مات تَنْحَلُّ إلى أصولها، أعني العناصر الأربعة، وذلك بأن يستحيل إليها.
فأما ذوات الجواهر الأربعة فهي باقيةٌ أبدًا.
وأما جوهره الذي هو النفس الناطقة فقد تبيَّن أنه أحق بالجوهرية من عناصره الأربعة، فهو إذن دائم البقاء أيضًا.
ولما لم تكن مسألتك متوجهةً إلى هذا المعنى، وإنما وقع الغلط في أخذ مقدمات غير صحيحة، وإرسال الكلام فيها على غير تحرُّز، وجب أن نُنبِّه على موضع الغلط ثم نعدل إلى جواب الغرض من المسألة فنقول:
إن الحياة ليست بعزيزة إلا إذا كانت جيدة، وأعني بالحياة الجيدة ما سَلِمَتْ من الآفات والمكاره، وصدرت بها الأفعال تامةً جيدةً، ولم يلحق الإنسان فيها ما يكرهه من الذل الشديد والضيم العظيم والمصائب في الأهل والولد، وذلك أن الإنسان لو خُيِّرَ بين هذه الحياة الرديئة وبين الموت الجيد، أعني أن يُقتل في الجهاد الذي يذُب به عن حريمه ويمتنع به عن المذلة والمكاره التي وصفناها، لوجب بحكم العقل والشريعة أن يختار الموت والقتل في مجاهدة من يسومه ذلك.
وهذه مسألة قد سبقت لها نظيرةٌ، وتكلمنا عليها بجواب مقنع، وهو قولك: ما سبب الجزع من الموت؟ وما سبب الاسترسال إلى الموت؟ فليُرجع إليه فإنه كافٍ.