المسألة الخامسة والتسعون
لِمَ صارت غَيْرة المرأة على الرجل أشد من غيرة الرجل على المرأة؟
هذا في الأكثر والأقل، وكيفما كان ففيه خبيء وهو المشدِّد على أحدهما والمخفِّف عن الآخر.
وقد أدت الغيرة جماعة إلى تلف النفوس، وإلى زوال النعم، وإلى الجلاء عن الأوطان.
•••
ثم قلت في المسألة التالية لهذه:
ما الغيرة أولًا؟ وما حقيقتها؟ وكيف أصلها وفصلها؟
وعلى ماذا يدل اشتقاقها؟ وهل هي محمودة أو مذمومة؟ وهل صاحبها ممدوح أم ملوم؟
فإن إثارة هذا أبلغ بك إلى الفوائد، وأجرى معك إلى الأمد، وبوقوفك عليها تعرف غيرها وتتخطى إلى ما عداها.
الجواب
قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:
أما الغَيْرة فهي خُلُق طبيعي عام للإنسان والبهائم.
وهو ممدوح إذا كان على شرائط الأخلاق، أعني إذا وُضِع في خاص موضعه ولم يُتجاوز به المقدار الذي يجب ولم ينقص عنه على مثال ما ذكرناه فيما مضى من سائر الأخلاق كالغضب والشهوة؛ فإن هذه أخلاق طبيعية وإنما يُحمد منها ما لم يخرج عن الاعتدال وأصيب به موضعه الخاص به.
وحقيقة الغيرة هي منع الحريم وحماية الحَوْزَة لأجل حفظ النسل والنسب، فكل من كانت غيرته لأجل ذلك، ثم لم يتجاوز ما ينبغي حتى يحكم بالتهمة الباطلة فيُصدِّق بالظنون الكاذبة ويبادر إلى العقوبة على ذلك، ولم ينقص عما ينبغي حتى يتغافل عن الدلائل الواضحة ويترك الامتعاض من الرؤية والسماع إذا كان حقًّا، وكان معتدل الخُلُق بين هذين الطرفين يغضب كما ينبغي وعلى ما ينبغي فهو محمود غير ملوم.
فأما من فرَّط أو أفْرَط في الغيرة فسبيله سبيل من تجاوز الاعتدال في سائر الأخلاق إلى الزيادة أو النقصان، فقد بيَّنا أن الزيادة والنقصان في كل خُلُق يَهْجُمُ بصاحبه على ضروب من الشر وأنواع من البلايا والمكاره، ويكون هلاكه على مقدار زيادته أو نقصانه منها ومن شرائطها المذكورة في الأخلاق.
•••
فأما زيادة حظ الأنثى على الذكر من الغيرة، أو الذكر على الأنثى، فليس بلازم طريقة واحدة، ولا جارٍ على وتيرةٍ واحدة، بل ربما زاد ذكر على أنثاه في هذا المعنى، وربما زادت أنثى على ذكرها فيه، كما يعرض لهما ذلك في قوة الغضب وغيره من الأخلاق.
على أن الذكر أولى بالمُحَامَاة وأخص بهذا الخُلُق؛ لأنه تُستعمل فيه قوة الغضب والشجاعة، وهذا أولى بالذكر منه بالأنثى، وإن كانت الأنثى تشارك فيه الذكر.
وها هنا خلة لا بأس بذكرها والتنبيه عليها؛ فإن كثيرًا من الناس يضل عن وجه الصواب فيها، وهي أن الغيرة إذا هاجت قوتها، وكان سببها الشهوة وحب الاستئثار، وأن يختص الإنسان بحال لا يشاركه فيها غيره، وكان هذا العارض له في غير حرمته ولا من أجل حفظ نسبه وزرعه فهو أمر قبيح.
وإن كانت على شرائطها التي ذُكِرت فهو أمر حسن جميل.
وأما سقوط هذه القوة دفعة فَهُجْنَةٌ قبيحة، فقد نجد في بعض الحيوان من لا تعرض له الغيرة كالكلب والتيس، ويُسَبُّ به الإنسان إذا ذُكِرَ به وسُمِّي باسمه.
ونجد أيضًا بعضها غيورًا محاميًا كالكبش وغيره من فحول الحيوان، فيُمدح بذكره الإنسان إذا شُبِّه به وسُمِّي باسمه.
فلست أعرف وجه السب بالتيس، والمدح بالكبش، إلا لِما يظهر من هذا الخُلُق في أحدهما دون الآخر.
فهذه حال الغيرة وحقيقتها وما يجب أن يُمدَح منها أو يُذَم.