مقدمة
الحمد لله الذي يسَّر بالسير والنظر أسباب الاستفادة والاعتبار، وجعل في أخبار السلف عظة للخلف وذكرى لأولي الأبصار، وبعدُ، فلما كانت رودس من الجزائر التي اشتهرت بطيب هوائها وصفاء جوها؛ قصدتها في سنة ١٩١٠ ترويحًا للنفس والتماسًا للراحة، فحدتني الرغبة في استطلاع غرائبها إلى ارتياد آثارها ومعاهدها، فرأيت من الحصون المنيعة والأسوار الشاهقة ما يدل على ما بلغته هذه الجزيرة في غابر الزمن من السؤدد وعلو الشأن؛ لوقوعها بين أعظم الممالك القديمة، فكانت بهذه المثابة من أهم المراكز البحرية، وملتقى جميع السفن التجارية والحربية، فطمحَتْ إليها الأنظار وتبارى في امتلاكها كبار الفاتحين والغزاة، وتداولتها أيدي الفينيقيين والفُرس واليونان والرومان والعرب والفرسان (الشفاليه) ودولة آل عثمان. ووقع فيها من الوقائع والحروب ما يُعد من أشهر حوادث التاريخ، وقد أتى عليها حينٌ من الدهر استبحر فيه عُمرانها وأينعت فيها رياض العلوم والفنون، فأمَّها العلماء والفلاسفة من كل أوب لاجتناء ثمارها. فجزيرة هذا شأنها وتلك آثارها ومفاخرها لجديرة بأن يوضع لها في اللغة العربية كتاب شامل لتاريخها، وهذا ما دعاني إلى تدوين ما وقفت عليه من أخبارها ووصف آثارها ومعاهدها، وقد تصفحت لذلك أشهر ما أُلِّفَ عنها باللغات الإفرنجية من الكتب القديمة والحديثة، غير ما ورد فيه ذكرها من المعاجم الكبرى والنشرات العلمية ونحوها من المظانِّ، وقد اعتمدت في جميع ما دوَّنته على أشهر المصادر وأوثقها، ولم أتعرض للبحث في موضوع تاريخيٍّ أو علميٍّ إلا بعد أن أعددتُ له عدَّته، وأخذت له أهبته، وتحرَّيْتُ حقيقته.
ولما كان أهم ما وقع في هذه الجزيرة من الحوادث حصار السلطان سليمان القانوني لها في سنة ١٥٢٢م، والوقائع الهائلة التي دارت رحاها وقتئذٍ بين جيشه وبين الفرسان (الشفاليه)؛ فقد ذكرت هذه الوقائع بالتفصيل معتمدًا في ذلك على ما ورد في رسالة خطية باللغة التركية دوَّن فيها مؤلفها أخبار ذلك الحصار يومًا فيومًا، والرسالة المذكورة لم تطبع إلى الآن، ولكنها تُرجمت إلى اللغة الفرنسية؛ لأهميتها وما حوته من التفاصيل الوافية.
ولم أقتصر في ما دونته بهذا الكتاب على ذكر الحوادث التاريخية، ووصف المعاهد والآثار، بل تخلَّل ذلك مباحثُ شتَّى عن الأمم التي وفدت على بلاد اليونان في أقدم العصور، وآراء العلماء في أصلهم ومنشأهم، وأول من استعمر منهم هذه البلاد. وساقني الكلام على الآثار والمعابد القديمة إلى البحث في أساطير اليونان، وذكر أشهر معبوداتهم، ومقارنتها بما يماثلها من معبودات الأمم المتوغلة في القدم، كالمصريين والهنود والآشوريين والبابليين والفينيقيين والفرس والرومان والعرب أيام الجاهلية، وتعريف كلٍّ من هذه المعبودات بعبارة موجزة تغني عن مراجعة الكتب المطوَّلة والموسوعات، وأفردت بابًا لبيان ما قامت به إيطاليا في رودس من الأعمال العظيمة التي بلغت بها هذه الجزيرة أسمى درجة في النظام والعمران، وختمت الكلام بخلاصة تاريخية عن أشهر الجزائر التي كانت تابعة لولاية بحر سفيد في عهد الحكومة العثمانية، ومنها الجزائر التي استولت عليها إيطاليا، وصدَّرتُ الكتاب بخريطة الجزيرة منقولة عن الخريطة الكبيرة التي وضعتها البحرية الإنجليزية في سنة ١٨٤١م؛ لأنها وافية البيان وغاية في الدقة والإتقان، وحلَّيتُهُ بكثير من الرسوم والمناظر التي تنجلي بها الحقيقة للعيان. والمأمول من أولي الفضل أن يتلقَّوه بالإقبال والقبول، وحسبي شرفًا أنه ثمرة من ثمرات هذا العصر الذي ازدهرت فيه رياض المعارف، في ظل صاحب الجلالة فؤاد الأول ملك مصر المعظم، أبهج الله أيامه، ونشر بالعز والتأييد أعلامه.