استيلاء الدولة العثمانية على رودس
جلس السلطان سليمان القانوني على عرش السلطنة العثمانية، وفي نيته فتح رودس تعزيزًا
لقوته
البحرية، وتسهيلًا للمواصلات بين مصر والآستانة، والسفر إلى الحرمين الشريفين، وكان يقول
إنه ليس للدولة العثمانية طريق إلى الغرب غير بلغراد ورودس، فبعد فتح بلغراد أخذ يتأهب
لفتح
رودس، فأمر بحشد الجيوش وإعداد المعدات وتجهيز السفن؛ لعلمه بمناعة هذه الجزيرة وشهرة
فرسانها، وأعدَّ أسطولًا من ٣٠٠ بارجة كبيرة و٤٠٠ سفينة لنقل الذخائر و١٠٠٠٠ جندي بحري
بقيادة الوزير الكبير مصطفى باشا الذي عين سر عسكر لهذه الحملة، وأقلع الأسطول قاصدًا
رودس
في ١٠ رجب سنة ٩٢٨ﻫ / يونيو سنة ١٥٢٢م، ثم سار إليها السلطان سليمان بنفسه في ١٨ رجب،
وكان
حاكمها يومئذٍ «دي ليل آدم»، وهو آخر من تولى أمر الجزيرة من هؤلاء الفرسان، ولما وصل
الأسطول إلى جزيرة هركيت دعاها الوزير إلى الطاعة والتسليم، فأبت فحاصرها وفتحها عنوةً
في
٢٠ شعبان/١٥ يوليو، ثم سار حتى مرَّ من بوغاز رودس ورسا أمام فيلانوفا، وهي من أقاليم
الجزيرة، فاستعد جنودها للحرب، فعمد الوزير إلى المخادعة، وكان مشهورًا بالدهاء والمهارة
في
الفنون الحربية، فترك ٢٠٠ سفينة في فيلانوفا وعاد ببقية السفن إلى البوغاز للوقوف في
أوكوزبورنو، فلما مرت السفن أمام الحصون أُطلقت عليها القنابل من القلاع، فأصابت بعضها،
ورأى الوزير أنه إذا رسا في أوكوزبورنو أصبح عرضة لقذائف المدافع الكبيرة، فسار بأسطوله
ووقف في مرفأ مرمريس — وهي مدينة في بر الأناضول تجاه رودس، ويُسمِّيها الإفرنج مارمارتسا
—
ولما وصل السلطان سليمان نزل بها أيضًا، وعيَّن يوم ٥ رمضان/٢٩ يوليو لضرب المدينة، وكان
الأسطول قد استولى على جبل سان أتيان وعلى قرية سان جورج، وكلاهما من ضواحي المدينة،
وقبل
اليوم المعين للحرب انتقل السلطان سليمان من مرمريس إلى رودس. ونصب فسطاطه على رابية
في
«قزل تبة»
١ لمراقبة حركات الجيش وإصدار الأوامر، وكانت حصون المدينة في منخفض من الأرض لا
يظهر منها للخارج غير شرفاتها، ولها متاريس عرضها ٥ أمتار و٢٥سم تحميها خنادق محفورة
في
الصخر عرضها من ٣٠ إلى ٤٥ مترًا، وعمقها من ١٢ إلى ١٨ مترًا، ومن داخلها القلاع والأبراج
وهي باقية إلى الآن، وكان الميناء الكبير (المعروف بميناء الكمرك) محصنًا وفي وسطه برج
العرب، وقد ربط الفرسان في مدخله سلسلة ضخمة لمنع السفن من اجتيازه، وسدُّوا الميناء
الثاني
(المعروف باسم مندراكي ويُسمِّيه الترك الترسانة) بمراكب شحنوها حجارة وأغرقوها فيه،
وكان
عدد الفرسان ٢٩٢، ثم انضم إليهم كثير ممن كانوا في أوروبا ومن المتطوعين حتى بلغ عددهم
٦٥٠
فارسًا، وكان جيشهم مؤلفًا من ٦٠٠٠ جندي، وقد اختُصَّتْ كل طائفة من الفرسان بالدفاع
عن قسم
من الحصون والقلاع، وكانت الحصون مقسمة سبعة أقسام موزعة على فرسان فرنسا وألمانيا وإنجلترا
وإسبانيا والبرتغال وإيطاليا وبروفنسا وأوفرن، أما الجيش العثماني فكان عدده مائة ألف
غير
الرؤساء، وقد أحاط بالمدينة من الشمال والجنوب وصوَّب مدافع الحصار الكبيرة نحو الحصون
والقلاع، وبعض تلك المدافع من النوع المعدِّ لقذف الكرات الحجرية الضخمة، ولا يزال كثير
من
هذه الكرات في رودس حتى الآن، يشهد بصحة ما رواه المؤرخون عن حجمها الهائل، وفي اليوم
المُعَيَّن ابتدأت الحرب ووُضعت اللغوم في عدة مواقع، وفي ١٦ رمضان/٩ أغسطس أتت نجدة
مصرية
من ٢٤ سفينة حربية انضمت إلى القوة العثمانية، وفي ٤ سبتمبر انفجر لغم فنسف جانبًا من
زاوية
حصن الفرسان الإنجليز، فهجم الجنود العثمانيون على هذا الحصن كالأسود، ووثبوا من ثغرة
فيه
على الفرسان، وغنموا منهم سبعة أعلام، ولما رأى الرئيس الأعظم حرج الموقف نزل بنفسه إلى
ميدان القتال بقوة عظيمة، ووقعت معركة كبرى كان النصر فيها للفرسان، وبلغ عدد من قُتل
من
الجنود العثمانية نحو ألفي رجل، وبعد ستة أيام أعادوا الكرَّة فانهزموا وقتل منهم عدد
لا
يقل عن الذين قتلوا في الواقعة الأولى، وقتل من عساكر الفرسان ثلاثون رجلًا منهم قائد
المدفعية وحامل لواء الرئيس الأعظم، وبعد يومين هجمت الجنود العثمانية مرة أخرى على الحصن
وعبرت من الثغرة التي فيه ورفعوا عليه خمسة أعلام، أخذ الفرسان منها علمًا بعد قتال عنيف،
وفي ٢٣ سبتمبر صدر الأمر بالهجوم في اليوم التالي هجومًا عامًّا، وأُعلن هذا الأمر ليلًا
في
الجيش كله، وفي فجر الغد قامت الحرب على قدم وساق، وامتد القتال من الشمال إلى الشرق
والجنوب، وحمِيَ وطيسه في عدة أماكن، وكان أشدُّه في حصون فرسان إسبانيا، وكانت الجنود
العثمانية تعبر الخنادق وتتسلق الأسوار وتقتحم الأهوال لا تصدها القنابل ولا السيوف،
ولا ما
كان يصبه الفرسان عليهم من المواد الملتهبة حتى غصَّت الخنادق وشرفات الحصون بجثث القتلى
والجرحى، وقتل من الجنود العثمانية في ذلك اليوم خمسة عشر ألف رجل، وفي ٢٢ أكتوبر حاولوا
الهجوم على حصن الفرسان الإنجليز مرة أخرى فانهزموا، ثم زحفوا على حصون فرسان إيطاليا
وبروفنسا، فقتل منهم خلق كثير وأعادوا الكرة على حصن إيطاليا، فقتل منهم خمسمائة رجل،
ثم
حملوا على حصون فرسان إسبانيا وإيطاليا، فقتل منهم ثلاثة آلاف رجل، ولما رأى السر عسكر
ما
حلَّ بالجيش بعد انهزامه مرارًا عدل عن الهجوم، وعزم على الاستمرار في حصار المدينة بواسطة
الخنادق واللغم. وفي ١٠ ديسمبر فاوض السلطان سليمان الفرسان في تسليم المدينة وأمهلهم
ثلاثة
أيام، ووعدهم بالكف عن القتال إذا أذعنوا لطلبه، فعقدوا مجلسهم وتفاوضوا في الأمر، فاختلفت
آراؤهم وعارض أكثرهم في التسليم، وعزموا على طلب الإمهال للنظر في الأمر، وخابروا السلطان
في ذلك، فكبُر عليه وأمر بالاستمرار في الحرب، وفي ١٨ ديسمبر هجمت الجنود العثمانية على
حصن
فرسان إسبانيا فانهزموا ثم أعادوا الكرة على هذا الحصن بقوة عظيمة واستولوا عليه، وكان
الفرسان في خلال ذلك قد أدركهم الضعف والوهن، فثبطت هممهم وخارت عزائمهم، فطلب رئيسهم
دي
ليل آدم من السلطان سليمان المفاوضة في التسليم.
وقد تم ذلك بشروط عرضها «دي ليل آدم» وقبلها السلطان، وروى المؤرخون أن الجيش العثماني
لما عجز عن فتح الجزيرة بعد تلك المعارك الهائلة فترت همته وكاد يكف عن القتال، وإذا
برسالة
أتته في سهم من فوق أسوار المدينة، وفيها من الأنباء عن قوة الفرسان ومواقع الضعف ما
شدَّد
عزيمته، فأعاد الكرَّة وفاز ببُغيته، وقد أُرسلت هذه الأنباء بإيعاز من أحد كبار القواد
واسمه «أندريه دامرال»، فقد كان هذا القائد يطمح من زمن في تولي الرئاسة، ولما وقع الانتخاب
على «دي ليل آدم» حقد عليه وأضمر له السوء، فكان يرصده بالغوائل حتى نشبت هذه الحرب،
فانتهز
الفرصة ليشفي غلته، وقد انكشف أمره فأمر الرئيس بعقد مجلس حربي لمحاكمته، وقد أبان التحقيق
أنه كان يبعث للجيوش العثمانية برسالة في كل أسبوع عن حالة الحصون والذخيرة وعدد القتلى،
فحكم المجلس عليه بالقتل بعد تجريده من رتبه ودرجاته، فقتلوه ومثَّلوا به.
وبعد أن وضعت الحرب أوزارها دعا السلطان سليمان الأمير دي ليل آدم لمقابلته، وكان
شيخًا
طاعنًا في السن وعلى محيَّاه أمارات الهيبة والشجاعة، فحضر في الوقت المعيَّن للمقابلة؛
(انظر دي ليل آدم أمام فسطاط السلطان سليمان) وعند وصوله إلى الخيمة الشاهانية كان الوزراء
في حضرة السلطان للمفاوضة في بعض الأمور، فانتظر دي ليل آدم خارج الخيمة مدة طويلة هو
ومن
معه من الفرسان، وكانت الأمطار تهطل بشدة والأرض تغمرها المياه، ثم أذن له السلطان في
الدخول بعد أن خلع عليه جريًا على العادة المتبعة في تلك الأيام، فكان ملتقاهما مؤثرًا
جدًّا، إذ لبث كل منهما صامتًا حتى ابتدأ السلطان بالحديث فقال: «اعلم أيها الأمير أن
الأيام دول والملوك والممالك مصيرها إلى الفناء، وأن الدوام لله وحده، وإني معجب بشجاعتك
وثباتك وآسف لما حل بك وبقومك»، وبعد أن بالغ في إكرامه انصرف هو ومن معه من
الفرسان.
وفي يوم ٢٦ ديسمبر دخل السلطان سليمان مدينة رودس في موكب عظيم وأطاف بالحصون وشاهد
أماكن
الوقائع، ولما بلغ قصر دي ليل آدم دخله مع بعض ياورانه، وكان قد أمهل الفرسان ١٢ يومًا
للجلاء عن الجزيرة، فسأله هل يريد مهلة أخرى، فتشكَّر له وقال: لا أريد غير المحافظة
على
الشروط التي اتفقنا عليها، فوعده السلطان خيرًا وطيَّب خاطره. وهذا من الأدلة على ما
كان
عليه السلطان سليمان من السماحة وكرم الخلق. وفي اليوم الأول من شهر يناير سنة ١٥٢٣ حضر
دي
ليل آدم عند السلطان ليودعه قبل سفره وأهدى إليه أربعة أوانٍ نفيسة من الذهب الخالص،
ثم
غادر رودس مع سائر الفرسان قاصدين جزيرة إقريطش (كريد)، وارتحل معهم أربعة آلاف من أهل
الجزيرة وقيل خمسة آلاف، وكان عدد السفن التي أقلتهم ٣٠ سفينة كبيرة، وروى بعض المؤرخين
أنها كانت ٥٠ سفينة، ولعل الفرق بين الروايتين عدد السفن التي أمر السلطان بإعدادها لنقل
المهاجرين غير سفن الفرسان، وفي ذلك اليوم ذهب السلطان سليمان في موكب حافل إلى كنيسة
القديس يوحنا، وهي أكبر كنائس المدينة، وصلى فيها الظهر بحضور الوزراء ورؤساء الجيش
والعلماء، وبعد حمد الله على هذا النصر تُليَ الخط الشريف المؤذِن بجعل هذه الكنيسة جامعًا،
وأُعلن في جميع أنحاء الجزيرة، ثم ألَّف السلطان مجلسًا للنظر في شئون المدينة، وما تحتاج
إليه من الإصلاح وترميم ما تهدَّم من الحصون، وأمر بإنشاء مأوى للفقراء (تكيَّة) وعمل
مآذن
لجميع الكنائس وجعلها جوامع وبناء مساجد جديدة، والحكم بالعدل بين سكان الجزيرة على اختلاف
مللهم وجنسياتهم.
وقد اشتهر حصار السلطان سليمان لرودس بما أطلق فيه من الكرات الحجرية الضخمة، وما
وُضع من
اللغوم المخربة في أماكن كثيرة، ولما استقام الأمر للعثمانيين بعد خروج الفرسان (الشفاليه)
حاسنوا الأهلين، وأبقوا ما في الجزيرة من التماثيل والآثار والرسوم، وما زالت الجزيرة
في
حوزتهم إلى أن احتلها الإيطاليان في سنة ١٩١٢.