الحب اليائس
قال القسيس وهو يضحك للراهبة وهي تبكي: على رسلك أيتها الأخت العزيزة؛ فإن الله يكره الإسراف لعباده حتى في حبه والإنابة إليه، واحذري أن يكون إغراقك في هذا الندم وإلحاحك في هذا الحزن الذي يوشك أن ينتهي بك إلى اليأس من روح الله الذي لا ييأس منه المؤمنون؛ احذري أن يكون هذا مظنة للريبة، وثقي — وأنت واثقة طبعًا — بأن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فاجتهدي في ألا يظهر الله منك على سر تكرهين أن يظهر عليه.
وكان ضحك القسيس هادئًا، حتى إذا انتهى إلى هذه الجملة قوي وظهر فيه العنف حتى وجمت له الراهبة لحظة، ثم ثابت إلى نفسها وجففت دمعها ونهضت متثاقلة، وخرجت صامتة لم تحي الشيخ ولم تقل له حرفًا، وإنما مضت أمامها لا تلوي على شيء كأنما أوذيت في ضميرها، فلم تر دفعًا لهذا الأذى إلا أن تفر من مصدره فرارًا.
وما أظنك فهمت من هذا الحديث كله شيئًا، وأي غرابة في ذلك؟ فأنت لم توكل بحل الألغاز ولا بتأويل المشكلات، وإنما أنت قارئ أو قارئة — أستغفر الله — قارئة أو قارئ، يعرض عليه الفصل، فإن استقبله فاهمًا لأوله مضى فيه حتى يبلغ آخره، وإن أعياه أول ما يستقبل منه تجلد إن كان من أولي العزم ومضى في القراءة، لعله إن تقدم بعض الشيء كشفت عنه الحجب، وذللت له الصعاب، وفهم ما لم يكن يفهم، وإن لم يكن من أولي العزم أعرض عن القراءة وألقى الصحيفة أو الكتاب إلقاءً.
وأنا أرجو لك أن تكون جلدًا صبورًا وأن تمضي في القراءة شيئًا، فلعلك تفهم عاقبة هذه الألغاز والرموز. والحق أني لم أكن لألغز ولا لأوثر الرمز والإيماء، ولا لأقدم في أول هذا الفصل ما حقه أن يكون في آخره. لكن الكتَّاب المحدثين يذهبون هذا المذهب حين يريدون أن يقصوا عليك أقصوصة لها حظ من قيمة، أو نصيب من طرافة، وهم فيما يظهر إنما يذهبون هذا المذهب تشويقًا للقارئ وإيقاظًا لحبه الاستطلاع وميله إلى تعرف الأنباء.
وأنا أظن أن القصة التي أريد أن أقصها عليك خليقة أن أشوقك إليها وأنبهك إلى دقائقها، ومن هنا ذهبت في أولها مذهب الكتاب المحدثين. ومن يدري؟ لعلي لم أفعل ذلك إلا تقليدًا لهم واقتفاءً لآثارهم، وتكلفًا لبعض فنهم الطريف. وسواء أكان هذا أم ذاك، فقد أفرغ بعد كلام قليل أو كثير من هذه المقدمات، وأنتهي بك إلى القصة نفسها؛ لترى أنت أخليقة هي بالعناية، أم ليس لها خطر ولا شأن؟
ولا ينبغي أن تسألني فيم هذه المقدمات، أو فيم هذا التعليل والتحليل، والإبعاد عن الموضوع والتكلف الذي يزهق النفس ويثقل على القلب! لا تسألني هذا السؤال؛ فإن جوابه حاضر: وهو أني أريد أن أذهب في هذا أيضًا مذهب جماعة من الكُتاب المحدثين الذين يريدون أن يظهروك لا على القصة التي يحبون أن يقصوها عليك فحسب، بل على مذهبهم في القصص وطريقتهم في التفكير أثناء القصص، يريدون أن يظهروك على أنفسهم حين يتحدثون إليك؛ لتراها واضحة جلية، ولترى أنهم يصدقونك ويكبرونك كل الإكبار، فلا يعبثون بك ولا يتكلفون لك، ولا يكذبون عليك.
وأنا أعترف بأني لا أحدثك عن هذه الراهبة التي كانت تبكي بين يدي القسيس، والتي كان القسيس يضحك لها ليردها إلى الأمن والطمأنينة، فأساءت به الظن وقدرت أنه يضحك منها ويهزأ بها، فانصرفت عنه كئيبًا محزونة الفؤاد يكاد يملأ نفسها اليأس — لم أحدثك عن هذه الراهبة البائسة السعيدة، إلا لأن حديثها أعجبني وراقني وأثَّر في نفسي أبلغ التأثير، وإياك أن تظن أنه حديث مصطنع قد ابتكره الخيال ابتكارًا، فلو كان الأمر خيالًا لأنبأتك بذلك، ولكنه حديث كله حق وصدق. ولا لك من أن تقبل مني ذلك، لا لشيء إلا لأني أنبئك به، والأصل في الكاتب أنه صديق القارئ، ينصح له ولا ينبئه إلا بالحق، أليس كذلك؟
كانت هذه الراهبة في الوقت الذي بكت فيه بين يدي القسيس وضحك لها فيه، أو ضحك منها القسيس، قد بلغت الخمسين من عمرها أو كادت تبلغها، وكانت قد أنفقت في الدير أعوامًا طوالًا لا تقل عن ربع قرن، متكلفة ما تتكلفه الراهبات في صدق واقتناع وإيمان من حياة الزهد والنسك، ومن خشونة العيش وتكلف الجهد الثقيل، وكانت قد خصصت نفسها بعد أعوامها الأولى في الدير لخدمة الفقراء والبائسين، وللعناية بالمرضى والذين مسهم الضر وألح عليهم الشقاء.
وكانت تجد فيما تعاني من ذلك لذة لا تعدلها لذة، وسعادة نفسية لا تبلغها سعادة، وكانت كلما بلغ منها الجهد وثقل عليها العناء ازداد نصيبها من الغبطة وحظها من الرضا. ولم تكن تؤثر من المرضى وأصحاب العلل إلا أسوأهم حالًا، وأخبثهم علة، وأقبحهم مرضًا؛ لتبتلي نفسها في العناية بهم بأشد أنواع الابتلاء، ولترى الألم الإنساني في أقبح صوره وأبشعها، ولتروض نفسها على شر ما تراض عليه النفوس، ولتثبت في قلبها أن الحياة الدنيا لعب ولهو وباطل آخر الأمر.
ومع هذا كله فقد كانت على حظ من جمال أدركه شيء من الذبول والذواء، ولكنه لم يستطع أن يغير من معالمه، ولا أن يمحو مظاهره على ما كانت تحرص عليه هذه الراهبة من أن ترد نفسها إلى شر ما تستطيع امرأة أن تبلغه من سوء الحال. ومصدر ذلك أن هذه الراهبة كانت من بيت عظيم بعيد النسب في الشرف الفرنسي، رفيع المكانة في الحياة الفرنسية منذ قرون، توارث أهله المجد والثروة والرفعة والنعمة على اختلاف العصور والظروف، وألمَّت بهم المحن فاحتملوها كرامًا، وخرجوا منها ظافرين، وما أكثر ما كانوا يمتحنون في مكانتهم وثروتهم، ثم يخرجون من المحن محتفظين بالمكانة والثروة جميعًا.
وكانت راهبتنا في أول عمرها صبية رائعة الجمال، قوية الحس، دقيقة الشعور، زكية القلب، مرهفة العقل، وكانت فتنة أبويها. كانا يؤثرانها على أخيها الذي كان يشغف بحياة العنف والمخاطرة، على حين لم تكن هي تصبو إلا إلى حياة الحب والعطف والحنان. ذهب أخوها مذهب أمثاله من شبان الأشراف، فطلب العلم، ثم اتصل بمدارس الحرب، ثم انتظم في الجيش، ثم كانت الحرب الكبرى، فكان في مقدمة هذا الشباب الذي استقبل العدو. وقد اتخذ للموت في سبيل الوطن زينة الأشراف، فلم يعد إلى أهله ولم يطل انتظارهم لأنبائه، وإنما انتهى إليهم نعيه في الأشهر الأولى لهذه الحرب.
ولما انتهى نعيه إلى أبويه كان إيذانًا لهما بأن حظهما من هذه الحياة قد انقضى، وعملهما فيها قد انتهى؛ فقد كان هذا الفتى بقية آمالهما بعد أن ذهبت أخته إلى الدير ذات يوم فلم تعد منه إليهما، لسبب لم يعرفاه ولم يستطيعا أن يهتديا إليه. ومع أنهما قد جهدا في صرف الفتاة عن الدير أقصى الجهد، وبذلَا فيه ما يستطيعان وما لا يستطيعان من السعي، واستعانا عليه بالأصدقاء من خاصتهما وبذوي المكانة والمنزلة من معارفهما؛ فإن الفتاة لم تستجب لهما ولم تسمع لما كانا يلقيان إليها من حديث، ولم ترقَّ لما كانا يسفحان من دموع!
ثم تنقضي سنة المران والامتحان والاستعداد، وتدنو الساعة التي تهب الفتاة فيها نفسها لله هبة حازمة قاطعة لا رجعة فيها ولا انصراف عنها، وتعود الأسرة إلى ابنتها ضارعة مستعطفة ملحة في الضراعة والاستعطاف، فلا تزداد الفتاة إلا إباءً وإصرارًا.
ثم ينفذ القضاء وتعطى الكلمة الحاسمة، وتصبح الفتاة وقد انقطعت الأسباب بينها وبين ما وراء الدير، ومن وراءه من الحياة والأحياء، ثم تنقطع الصلة بين الفتاة وبين أسرتها فجأة، وتجهل الأسرة من أمر ابنتها كل شيء، قد نقلت من ديرها الذي كانت فيه إلى دير غير معروف، ثم أخذت الأدير تتقاذفها في أرض الوطن، وفي أرض الغربة في القارة الأوروبية، وفي الشرق القريب وفي الشرق البعيد، وفي تلك الجزر النائية التي تكثر فيها العلل المهلكة والأوبئة القذرة، ثم ترد الراهبة في عام من الأعوام إلى فرنسا، لتعمل فيها مثلما كانت تعمل في جميع المواطن التي تقاذفتها أعوامًا وأعوامًا، ولكن لتجد في وطنها بعض الراحة من هذا العناء الطويل الثقيل، الذي احتملته، ومن هذا الجهد العنيف المهلك الذي بذلته.
وكانت الراهبة قد استحقت هذه الراحة لأنها كانت قد أبلت فأحسنت البلاء. وحمِّل أنت هذه الكلمات ما تستطيع أن تحمِّلها من المعنى، فلن تؤدي إلا بعض ما أريد أن أقول؛ لأني مضطر إلى أن أوجز، راغب عن الإطالة كل الرغبة!
عادت الراهبة إلى وطنها إذن لتعمل فيه وتستريح. وهذا مريض سيئ الحال قد أدركه السل وانتهى به إلى غايته، وهو مشرف على الموت، وهو فقير بائس، ينفق ما بقي من أيامه البائسة في بيت حقير قذر. وهذه الراهبة تمرضه وتقوم بأمره، وتعينه بما تمنحه من الرحمة والعطف والحنان والعناية المادية، على أن يخطو هذه الخطوات القليلة الضئيلة التي تلقيه بين ذراعي الموت، وتستنقذه من مخالب العلة والمرض. وقد خطا المريض أكثر هذه الخطوات، ولم يبق بينه وبين الراحة إلا سبب ضئيل، ضئيل جدًّا، تقطعه أيسر وطأة للمرض، فليدع القسيس إذن ليهيئ هذا المريض للقاء ربه.
وهذا القسيس يقبل، وهذه الراهبة تفتح له الباب وتلقي عليه النظرة الأولى، وإذا قلبها يخفق خفقة تكاد أن تهوي بها إلى الأرض، لولا أن تملك البائسة نفسها وتعتمد على بعض الأثاث. وقد دخل القسيس فأدى واجبه، وأبرأ المريض من آثامه وإن لم يبرئه من علته. ثم انصرف، ولكن الراهبة تستوقفه عند الباب، وتسأله في صوت خافت مرتجف: ألم تعرفني يا أبتِ؟ فيجيبها: كلا أيتها الأخت، من عسى أن تكوني؟ فتقول: ومع ذلك فلم أكد أراك حتى عرفتك، ولم أكد أسمع صوتك حتى انهدم له قلبي انهدامًا! فيسألها القسيس ملحًّا: من تكونين؟ تجيبه: أنا فلانة بنت فلان وأخت فلان. قال القسيس وقد اضطرب صوته اضطرابًا يسيرًا: «سلام عليك أيتها الأخت، وبارك الله لك في حياتك وفي عملك.» ثم انصرف مهرولًا. ولما أمسى كان قد طلب إلى رئيسه أن ينقله إلى مدينة أخرى.
وعادت الراهبة إلى مريضها فأبلغته مأمنه، حتى إذا انتهت مهمتها ذهبت إلى القسيس الشيخ، الذي كان يضحك لها أو يضحك منها في أول هذا الفصل، تعترف له وتعتذر بين يديه، وتعلن إليه ندمها؛ لأنها ذكرت بعد هذه الأعوام الطوال حبًّا قديمًا استيأست من غايته، فذهبت إلى الدير وانقطعت لعبادة الله والبر بالبائسين، وخيل إليها أنها قد انصرفت عن الحب الإنساني، وتعزَّت عنه بهذا الحب الإلهي.
ولكنها رأت فذكرت، فعاودها الأسى، فهي نادمة وهي مشفقة من الخطيئة. وهي تلح في هذا الندم، وتغرق في هذا الإشفاق، وتطلب إلى القسيس الشيخ أن يرد إلى قلبها الأمن، وأن يستنقذ نفسها من هذا الخوف، وأن يذود عنها هذه الصور المزعجة التي يثيرها الندم أمام عينيها. والقسيس الشيخ لا يشفق عليها من ذكر هذا الحب القديم والحزن له والتأثر به، فأي شيء في هذا كله؟ إنها امرأة، إنها ابنة الإنسان، والإنسان ضعيف. إنما يشفق عليها من إطالة الندم والإغراق في التفكير، فمن يدري؟ لعل إطالة الندم على بعض الخطيئة شر من الخطيئة نفسها؛ لأنه استبقاء لها واحتفاظ بها، وحنين إليها، وادخار لهذا السبب الذي يصل بين الإنسان وبينها.
كان القسيس الشيخ رفيقًا بالراهبة، ولكنها لم تفهم منه هذا الرفق، فلما انصرفت لم تفكر إلا في أن تطلب إلى رئيستها في الدير رحلة بعيدة إلى جزيرة من تلك الجزر النائية التي يكثر فيها المجذومون، ويحتاج فيها المرضى إلى عناية الراهبات.