بين الحب والإثم
أصبحت مبتهجة القلب، راضية النفس، ناعمة البال، مبتسمة للنهار المشرق كما كان يبتسم لها النهار المشرق.
وكانت مع ذلك تخفي شيئًا طالما تعودت إخفاءه من اضطراب النفس، وقلق الضمير. وكان هذا الاضطراب والقلق، يعتادانها من حين إلى حين، في مواعيد معينة معروفة هي التي كانت تضرب بينها وبين صاحبها للقاء مرتين في الأسبوع أو مرات. فكانت تهتم لهذه المواعيد قبل أن يحين حينها، تهيئ لها وتستعد لاستقبالها. ولم يكن هذا شيئًا يسيرًا ولا هينًا، ولا محببًا إلى نفسها، ولكنه كان من هذه الآلام الثقال التي يحتملها الناس؛ لأنهم يلقون من ورائها لذات عذابًا.
فقد كانت هذه المواعيد آثمة لا يقرها الخلق، ولا يرضاها الدين، ولا تطمئن إليها أوضاع الناس فيما ألفوا من سنة وتقليد. وكانت صاحبتنا هذه على ذلك تحيا في أسرة كريمة معروفة لا ترقى إليها ظنة ولا يبلغها ريب، فكان ذلك يشق عليها ويؤذيها، وربما أرَّقها ليلة كاملة بما كان يثير في نفسها من عواطف الألم والندم، والخوف والإشفاق. ومن عواطف الحرص مع ذلك على هذه المواعيد التي امتزج حبها بنفس هذه البائسة وقلبها، أشد الامتزاج وأقواه، فأصبحت لا تستطيع الحياة إلا لهذه المواعيد، وأصبحت لا تستقبل يومًا من أيام الأسبوع ولا ساعة من ساعات اليوم إلا فكرت فيما بين هذا اليوم أو هذه الساعة، وبين يوم الموعد أو ساعته من أمد.
وكانت من أجل هذا كله قد انتهت إلى ما ينتهي إليه أمثالها من هذه الحياة الغريبة التي يتم فيها الاتفاق والائتلاف بين الخوف والرجاء، وبين الألم والأمل، وبين السعادة والشقاء. كانت أسعد الناس بهذه المواعيد تنعم بالتفكير فيها، والسعي إليها، والاستمتاع بما تدخره من لذة وبهجة وأمل، وكانت أشقى الناس بهذه المواعيد تألم أشد الألم وألذعه حين تفكر فيما تضطرها إليه من خروج على السنة المألوفة، وإعراض عن الخلق الكريم، ونقض للعهد المسئول.
وقد طالت عشرتها لهذا الشقاء وتلك السعادة التي أصبحت تنتقل بينهما هادئة مطمئنة كما تتنقل في غرفات بيتها وحجراته. تضيق بالألم والشقاء فتتركها إلى السعادة والرجاء، تتمثل صاحبها وقد أقبل عليها باسمًا مشرق الوجه يسعى إليها في هدوء ظاهر متكلف، وهيام خفي مكظوم، حتى إذا لقيها طوَّف معها في هذه الحديقة أو تلك أو أوغل بها في هذا الريف أو ذاك، أو أمعن بها في الصحراء من شرقي الوادي أو غربيه، ثم يعود بها إلى حيث ألفا أن يعودا حين يتقدم المساء. ثم يودعها بعد حين طويل أو قصير، وقد ضربا للقائهما موعدًا آخر يضمر لهما مثل ما أظهر لهما هذا الموعد من حياة كلها ابتهاج ونعيم.
فإذا قضت حظها من هذا التفكير الحلو انتقلت منه إلى تفكير مر شديد المرارة، فرأت زوجها الكريم النبيل، وأبناءها الأغرار الأطهار، وتمثلت حبهم لها وثقتهم بها واطمئنانهم إليها، وانصراف هذا الزوج إلى ما ينصرف إليه من عمل، واحتماله ما يحتمل من جهد، وإقبال هؤلاء الأبناء على ما يقبلون عليه من درس في نشاط حلو يحبب الحياة إلى الأحياء. ثم تمثلت مع هذا كله مكانها من الإثم، وأنها ليست أهلًا لهذا الحب ولا جديرة بهذه الثقة ولا خليقة بهذا الاطمئنان. وكانت كذلك قد ألفت الاضطراب بين هذه العواطف المختلفة، فكانت تُرى راضية ناعمة مشرقة الوجه، وإن في قلبها لألمًا لاذعًا وحزنًا عميقًا. وكانت تُرى أحيانًا كئيبًا كاسفة البال مظلمة اللحظ، وإن من وراء هذا كله لسعادة وغبطة وابتهاجًا.
وقد أصبحت في هذا اليوم ظاهرة الرضا واضحة الابتهاج تستقبل ساعات النهار مبتسمة للأمل متهيئة للنعيم، متعجلة حركة الفلك مشفقة مع ذلك من طارئ يطرأ أو حادث يلم، مشفقة أيضًا من هذه العيون الخفية التي ترى الناس ولا يراها الناس، ومن هذه الآذان الخفية التي تسمع الناس ولا يعلم الناس بمكانها، ومن هذه الألسنة الخفية التي تتلقى عن أعين الغيب وآذانه صورًا وألفاظًا، فما أسرع ما تسعى بها أو ترسلها في الهواء إرسالًا. على أن صاحبتنا أرادت أن تنصرف في هذا اليوم عن كل ما يحزن أو يسوء، وأن تسبق الموعد إلى الاستمتاع بجمال الربيع وبهجة الحدائق والجنات.
وما يمنعها أن تقضي وجه النهار في مكان من هذه الأمكنة الجميلة الهادئة التي يبسم فيها الزهر النضر، ويرق فيها النسيم، ويسعى من تحتها النيل هادئًا مطمئنًّا كأنه ساع إلى الرياضة والنزهة لا يلتمس غرضًا ولا يدفعه دافع إلى الإسراف في الحركة والنشاط. ما يمنعها أن تخلو إلى سعادتها وشقائها في مكان من هذه الأماكن الهادئة تعكف على نفسها الراضية حينًا وعلى نفسها الساخطة حينًا، فإذا ضاقت بهذه أو تعبت من تلك خلت إلى هذا الزهر الباسم، وإلى هذا النسيم الهادئ، وإلى هذا النهر المطمئن، فناجتها في دعة وأمن واطمئنان.
ليس ما يمنعها من ذلك وقد مضى زوجها إلى عمله المألوف، ينفق فيه أكثر النهار. ومضى أبناؤها إلى مدرستهم أو إلى مدارسهم، لا يعودون منها إلا مع المساء. واستقل الخدم بأعباء البيت بعد أن تلقوا أمرها فيما يحتاج إلى أن تأمر فيه. وأتيح لها ما يتاح لأمثالها من هذا الفراغ الذي قلما يملؤه الخير وكثيرًا ما يملؤه الشر.
خرجت إذن مع الضحى يرافقها صديقاها: السعادة من يمين والشقاء من شمال، ويسعى بين يديها أمل هادئ مطمئن يبسم لها عن اللذة حينًا وعن التعزية والتسلية حينًا آخر. ولم تكره أن تأخذ صحيفة من هذه الصحف التي تعرض على الناس، لتنظر فيها قبل أن تنظر في نفسها، أو قبل أن تنظر في الطبيعة حين تخلو إلى الطبيعة. فقد يكون الإنسان سعيدًا كأقصى ما يسعد الناس، وقد يكون شقيًّا كأقصى ما يشقى الناس، ولكن هذا لا يمنعه، وما ينبغي أن يمنعه من أن ينظر في الصحف نظرة قصيرة عجلة ليعرف أنباء أمثاله، وما يلم بهم من خير وشر، فيعطف عليهم بابتسامة أو شيء من البر، فما يحسن بالإنسان أن يكون أثِرًا، تشغله سعادته أو شقاؤه وآماله أو آلامه عما يلم بمعاصريه من الحوادث والخطوب.
وكذلك انتهت إلى حيث أرادت أن تقضي ساعات من الوقت خالية إلى نفسها، وإلى الطبيعة، وأنفذت برنامجها أو أخذت في إنفاذه، فردت نفسها إلى حيث ينبغي أن تكون مستترة مستخفية حتى تفرغ لها بعد حين، وأعرضت عن الزهر والشجر، وعن النسيم والعشب، وعن النيل الهادئ المطمئن، وأخذت تنظر في هذه الصحيفة التي اشترتها والتي كانت تقدر أنها لن تنفق معها إلا لحظات معدودات.
وهي لم تنفق معها إلا لحظات معدودات حقًّا، ولكنها مع هذا لم تفرغ لنفسها ولم تناج سعادتها ولا شقاءها ولم تناغ هذا الزهر النضر ولا هذا الشجر الملتف ولا هذا النيل الرزين، ولم تسمع غناء هذه الطيور التي لم تكن تنفك تغرد، ولم تكن مع ذلك نائمة ولا مغشيًّا عليها، وإنما كانت مستقرة في مكانها الذي اختارته، وكان الذين يمرون بها — لو أن أحدًا مر بها في هذا المكان الذي اختارته بعيدًا عن طريق المارة — يرون امرأة قد جلست كأنها التمثال لا تأتي حركة، ولا تنطق بكلمة، وإنما هي دموع غزار تنهلُّ في صمت على وجه كان جميلًا ناضرًا، فأدركه هذا الذبول المؤلم الذي يدرك وجوه الناس، حين يعصف بقلوبهم خطب أليم.
ولست أدري أقضت في مجلسها هذا ساعة أم ساعات! ولكنها كانت في بيتها قبل أن يعود زوجها من عمله، ولم تكد تبلغ هذا البيت حتى أسرعت إلى غرفتها فأصلحت من أمرها، وردت إلى وجهها شيئًا من الجمال المصنوع، وأخذت نفسها أخذًا عنيفًا حتى اضطرتها إلى شيء من الهدوء واعتدال المزاج. ثم خرجت إلى حيث يلقاها زوجها حين يعود من عمله كل يوم.
ولم يلاحظ زوجها، ولم يلاحظ أبناؤها — حين عادوا مع المساء — إلا أنها لم تكن مسرفة في النشاط ولا غالية في الابتهاج. وليس هذا بالشيء الغريب؛ فقد ألفوا منها هذه الكآبة الخفيفة تغشى وجهها من حين إلى حين. وليس من الطبيعي أن يكون الإنسان فرحًا دائمًا مبتهجًا دائمًا شديد النشاط في كل يوم.
ولو أنها استمعت لضميرها واستجابت لما كانت تدعوها إليه طبيعة الأشياء، والمألوف من سيرة الناس؛ للزمت بيتها هذا المساء ولانتهزت أول فرصة تتاح لها، فخلت إلى نفسها في غرفتها واستسلمت لهذا الحزن العميق الذي كان يجاهدها جهادًا عنيفًا ليظهر وينفجر، والذي كانت تجاهده جهادًا عنيفًا ليكمن ويستخفي.
نعم لو أنها استجابت لما كانت تدعوها إليه طبيعة الأشياء أو المألوف من سيرة الناس، لفعلت هذا أو لاندفعت في شيء من هذه الحركات التي ينفق الناس فيها وقتهم، وينسى الناس بها أنفسهم من لقاء الأصدقاء وزيارتهم أو استزارتهم والتحدث إليهم بما لا يفيد، والاستماع منهم لما لا يغني، واصطناع هذا النوع من النفاق الاجتماعي الشائع الذي يخفي علينا أنفسنا ويخفي أنفسنا على الناس.
ولكنها كانت في هذا المساء جامحة النفس، ثائرة الضمير، هائجة الغريزة، شاردة الإرادة، فلم تستمع لطبيعة الأشياء، ولم تستجب للمألوف من سيرة الناس، ولم تخل إلى نفسها في غرفتها، ولم تفر من نفسها إلى صديقاتها، وإنما استجابت لشيء واحد: هو هذه العاطفة التي كانت تلح عليها أشد الإلحاح في ألا تخلف الموعد الذي ضربته لصاحبها مهما تكن النتائج ومهما تكن الظروف. فإن المواعيد لا تضرب لتنقض، وإنما تضرب ليوفي بها أصحابها. وهي تعلم حق العلم أنها إن ذهبت للقاء صاحبها حيث اتفقا أن يكون بينهما اللقاء، فلن تجده، وأنها قد تنتظره ساعة وساعة، وقد تنتظره الليل كله، وقد تنتظره الدهر كله؛ فلن تراه لأنها قرأت نعيه في تلك الصحيفة التي اشترتها صباح اليوم.
ولكن هذا لا يعفيها من الوفاء بالوعد والسعي إلى اللقاء والجد فيه. وهل كان هذا النعي الذي قرأته في الصحيفة صباح اليوم إلا كتابًا من صاحبها ينبئها فيه بأن مكان اللقاء قد تغير لظروف طارئة أقوى منه ومنها، فلن يكون اللقاء في هذه الحديقة الجميلة على الضفة الغربية للنيل، ولكنه سيكون إن أرادت في ناحية من نواحي الصحراء هناك حيث يستقر الناس بعد أن ينفضوا عن أنفسهم أوزار الحياة، أو بعد أن تنفيهم الحياة منها نفيًا.
أليس قد بيَّن لها صاحبها في هذا الكتاب مكان اللقاء في الصحراء؟! لقد كان دقيقًا في كتابه فبيَّن الطريق التي سيسلكها منذ يخرج من داره مع المساء إلى أن ينتهي إلى موعده مع الليل. سيسلك هذا الطريق هادئًا رزينًا حتى إذا انتهى إلى مسجد من مساجد الله، عطف عليه فقدم نفسه الآثمة النادمة إلى الله تائبة مستخزية تلتمس فضلًا من عفوه الذي لا حدَّ له وحظًّا من رحمته التي وسعت كل شيء.
ثم يخرج من المسجد فيتخذ سيارة ويمضي مسرعًا إلى موعده من الصحراء. وكان عقل هذه البائسة يحاول أن يتسلط على نفسها الجامحة وضميرها الثائر وعواطفها المضطربة، وأن يبين لها أن لا بد مما ليس منه بد، وأن هذه الأسباب الآثمة قد انقطعت بينها وبين صاحبها منذ عدا عليه الموت أمس، ولكنه لم يكن يبلغ مما يريد شيئًا. وهذا الليل قد ألقى ظلماته على الصحراء، فجللها برداء قاتم كثيف، وهذه امرأة ماثلة وحدها غير بعيد من هذا القبر الذي لم تفرغ الأيدي من تسويته إلا منذ وقت قصير. هي قائمة واجمة لا تدنو من القبر ولا تنأى عنه، تود لو استطاعت أن تسعى حتى تنتهي إليه فتجثو عنده وتبثه ما يملأ قلبها ونفسها من حزن وحب، ومن ألم ويأس، ومن رغبة قوية في أن تلحق بصاحبه الذي استقر فيه.
ولكنها لا تستطيع أن تخطو خطوة إلى أمام كأنما أخذت رجلاها بقيد عنيف ثقيل. وقد يخطر لها في لحظة قصيرة أن تعود أدراجها، فقد أتت لموعدها، ووفت لصاحبها، كما يستطيع الناس أن يأخذوا بحظهم من الوفاء. ولكنها لا تستطيع أن تخطو خطوة إلى وراء كأنما أخذت بقيد عنيف ثقيل. ما هذا القيد الذي وقفها في هذا المكان ومنعها أن تتقدم أو تتأخر؟ إنها مع ذلك لا تحس شيئًا، إنها لتجد ساقيها حرتين، ولكنها مع هذا لا تستطيع أن تسعى نحو القبر ولا تستطيع أن تعود من حيث جاءت.
إن قوة هائلة مخيفة مروعة قد قامت بينها وبين القبر، هي لا تراها ولا تحسها إلا حين تحاول الخطو إلى أمام، فهي حينئذ ترى ما يخيفها ويروعها، ويملأ قلبها هولًا ورعبًا، ويعقد لسانها فلا تقول، ويطبق فمها فلا تصيح.
وإن قوة أخرى ليست هائلة ولا مروعة ولا مخيفة، ولكنها حزينة ملحة في الحزن، شاحبة ملحة في الشحوب، نحيلة ضئيلة، ولكنها مع ذلك قوية لا تراها هذه المرأة إذا التفتت أو تحولت، ولكنها إذا همت أن تخطو إلى وراء أحست صوتًا يمزق القلوب ويفرق النفوس؛ يقول لها في حزن: «إلى أين تذهبين؟! وحبك ماذا تصنعين به؟! وهل بقي لك أمل في الحياة؟» والوقت يمضي، والليل يتقدم، والسكون من حول هذه المرأة يتصل ملحًّا ثقيلًا، وهي في مكانها قائمة واجمة يثوب إليها عقلها بين حين وحين، فتحاول الحركة فلا تستطيع، وتحاول الصياح فلا تستطيع، وتحاول النجوى فلا تستطيع، وإنما هي تمثال قد حيل بينه وبين الحركة والقول، ولم يَحُلْ بينه وبين الحس والشعور والتفكير.
ثم تضطرب في هذا التمثال الشاعر المحس المفكر رعدة قوية، تظهر في أصل نفسه، ثم تنتشر مسرعة في جسمه كله. وإذا المرأة قد انطلق لسانها المعقود، وفتح فمها المطبق، ووجدت القدرة على الحركة، واستطاعت إن أرادت أن تخطو إلى أمام، وأن تخطو إلى وراء، كأنما رفعت عنها قيود وأغلال كانت قد فرضت عليها فرضًا. ولكنها مع ذلك لا تسعى إلى القبر، كأنها تحس أنها إثم كلها، وأن هذا القبر قد أصبح بمنجاة من الإثم الجديد.
كم كانت تحب لو سقت هذا القبر بهذا الدمع الغزير الذي ينهل على وجهها، ولكنها مع ذلك لا تفعل، كأنها تحس أن هذا الدمع إثم كله، وأنه سيستحيل نارًا محرقة إن بلغ هذا القبر، وما ينبغي لهذا القبر أن تمسه منها النار.
كلا، لقد حيل بينها وبين صاحبها حيًّا حين قطع الموت ما كان بينهما من الأسباب، ولقد حيل بينها وبين صاحبها ميتًا، حين قام تمثال الإثم بينها وبين هذا القبر. إن الطريق حرة مطلقة من ورائها تستطيع أن تسلكها متى شاءت، لن تجد من يردها، ولن تجد ما يعوقها. إن هذه القوة الحزينة التي كانت قائمة من ورائها تمنعها من الرجوع، قد تحولت عن موقفها شيئًا وخلت بينها وبين الطريق، واتخذت صورة الرفيق الحزين المستخزي الذي يريد أن يرافقها وألا يفارقها ما وجد إلى مرافقتها سبيلًا.
وهذا شخص آخر يظهر في وجهه الحزم والصرامة، ولا يخلو وجهه مع ذلك من رفق ولين، قد أقبل حتى قام عن يمين هذه المرأة هادئًا رفيقًا تجري في وجهه ابتسامة حلوة لا تخلو من كآبة وحزن، وهو يظهر الاستعداد لمرافقة هذه المرأة وأخذها بالتعزية الحلوة الحازمة ما وجد إلى ذلك سبيلًا.
والمرأة تتحول عن موقفها وتسعى بين هذين الرفيقين في طريقها عائد إلى بيتها. وهما يسعيان معها عن يمين وشمال صامتين لا يقولان شيئًا. ولكنها تفهم عنهما كل شيء؛ فأما أحدهما فيحدثها عن زوجها الوفي وأبنائها الأغرار الأطهار، وأما الآخر فيحدثها عن هذا القبر الذي حال بينها وبين من كانت تحب، والذي احتوى حبها وأملها ولذتها وسعادتها جميعًا.
وتمضي أيام وأيام، وتمضي أشهر وأشهر، وتمضي أعوام وأعوام، وتتقدم السن بهذه المرأة. ولكنها دائمًا لا تنظر إلى يمين إلا رأت شخص الواجب هائلًا يظهر في وجهه الحزم الحلو، وتجري في وجهه الابتسامة الحزينة. ولا تنظر عن شمال إلا رأت شخص الحب هائلًا يظهر في وجهه حزن وخزي، ويظهر في وجهه كذلك تصميم على ألا يفارق هذه المرأة حتى تفارق الحياة.