طيف
ما كان أعذب هذا الصوت الذي كان يبلغ أذنيها من بعيد، من بعيد جدًّا، فيملأ قلبها الثائر المضطرب راحة وأمنًا وهدوءًا، ويملأ نفسها المفجوعة الجزعة طمأنينة ودعة واستقرارًا.
وما كان أجمل هذا الطيف الضئيل الذي كان يتراءى لها ثم لا يلبث أن يستخفي ليعود فيتراءى لها مرة أخرى. ولا تكاد تحقق النظر فيه حتى ترى صورة كانت أحب إليها من كل صورة، وتتبين شخصًا كان آثر عندها من كل شخص، وتحس كأنها وجدت شيئًا عزيزًا فقدته منذ حين قريب، وما كان أغرب هذا الشعور الذي كانت تجده في أثناء ذلك؛ فقد كانت تحس حزنًا يشتد على قلبها حتى يوشك أن يفطره، ثم تجد نعمة وراحة تردان عنها هذا الحزن ردًّا، ثم تجد بشرًا يغمر قلبها ونفسها وعقلها، ويكاد يخرجها عن طورها، ويبلغ بها شيئًا يشبه الجنون، ثم تحس كأنها تفيق من سكرات لا عهد لها بها، وإذا دموع غزار تنهال من عينين لم تتعودا البكاء.
وكانت تجاهد لتسترد صوابها الذي شرد عنها، ورشدها الذي لم يبعد عهدها به، ولكنها لم تكن تبلغ من ذلك ما تريد، إنما هو الصوت العذب يأتيها من بعيد، من بعيد جدًّا، فيملأ أذنيها، والطيف الجميل يتراءى لها من بعيد، من بعيد جدًّا، فيملأ عينيها، وإذا قلبها يضطرب بين الثورة والهدوء، ونفسها تضطرب بين الجزع والبشر، وعقلها يضطرب بين الاستقرار والجنون. وفي الحق إنها لم تعلم أكانت يقظة أم نائمة حين تبدل من حولها كل شيء فجاءة ومن غير تمهيد ولا إعداد، فانجابت تلك الظلمات الكثاف التي كانت تملأ غرفتها، وطردت تلك الوحدة المطلقة التي كانت تحيط بشخصها وغرفتها وبيتها، وتملأ الطبيعة من حولها سكونًا مخيفًا وروعة مثيرة للقلق، وغمر نفسها وغرفتها نور لا سبيل إلى حده ولا الإحاطة به.
ثم نظرت فإذا غرفتها نفسها تتبدل، وإذا هي ترى كأنها في مكان لم تر نفسها فيه من قبل، ولكن يخيل إليها أن لها به عهدًا ما، بعيد الأرجاء لا يبلغ الطرف له آخر مهما يدر في نواحيه، قد قامت فيه ألوان مختلفة أشد الاختلاف من الشجر، ونسقت فيه ضروب متباينة أشد التباين من الزهر، وترقرق فيه نسيم هادئ خفيف كأنما تملؤه الحياة، وجرت فيه غدران دقاق شديدة الصفاء، كثيرة الالتواء، وانطلقت فيه أصوات الطير بغناء جميل يملؤه السحر والبهجة، ويتردد فيه من حين إلى حين حنان حزين.
رأت نفسها فجاءة في هذا المكان، وأحاط بها فجاءة هذا الجمال الغريب الذي لا يحد ولا يوصف، ولو قد خلى بينها وبين نفسها وعقلها لاجتهدت في أن تتعرفه وتتبين أمره، وفي أن تبحث وتفكر لتعرف أين هي، وماذا ترى، وماذا تجد. ولكنها لم تفرغ لنفسها لحظة، ولا بعض لحظة، وإنما كان يشغلها عن نفسها هذا الصوت العذب البعيد الذي كان يملأ أذنيها، وهذا الطيف الحلو البعيد الذي كان يملأ عينيها، وهذه الألوان المختلفة من الشعور التي كانت تملك قلبها ونفسها وعقلها حين تسمع الصوت العذب وترى الطيف الجميل.
وكان أشد ما يؤثر في نفسها مما يحمل الصوت إلى أذنيها، هذا اللفظ الذي ظنت أنها لن تسمعه من مصدره منذ انتزع الموت منها في أشد قسوة وعنف ابنتها العزيزة، لفظ «أماه»!
وكان أشد ما يؤثر في نفسها حين كانت ترى ذلك الطيف، هذه الابتسامة الحلوة التي عرفتها في أثناء مرض ابنتها، والتي كانت تظهر على ذلك الوجه الشاحب الكئيب، فتصور الحب والبر وتصور الدعابة والتعزية معًا.
كانت المسكينة تظن أنها لن تسمع ذلك الصوت ولن ترى هذه الابتسامة، فسل عن حزنها العميق، وعن سرورها الفياض، حين كانت تسمع وترى ما ظنت أن قد قطعت بينها وبينه الأسباب.
وكان صوت ابنتها يحمل إليها من بعيد، من بعيد جدًّا، ألفاظًا حلوة فيها تسلية وتعزية، ويحدثها أحاديث تصور البهجة والدعة والنعيم. وكانت ابتسامات ابنتها تحمل إلى نفسها هذه المعاني التي أشرت إليها آنفًا، ومعاني أخرى جديدة تدل على أن ابنتها راضية ناعمة مطمئنة، وكأنما كانت تسمع وترى من ابنتها ما يلقى في نفسها أن الفتاة سعيدة مبتهجة لا تريد مهما يكن من شيء أن تخرج من سعادتها وابتهاجها، وكأنما كانت تقول لأمها: لا تحدثيني عن العودة إليكم ولا تطلبيها إليَّ، فلو قد خيرت لما اخترتها، ولو قد خلى بيني وبينها لما رغبت فيها، ولا ملت إليها، بل لكان انصرافي عنها ونفوري منها أعظم جدًّا مما تقدرين.
وكان هذا الحديث يلذع قلب الأم المسكينة أشد اللذع ويؤذيه أعظم الإيذاء، ويثير فيه شيئًا من الغيظ، فكانت تهم بأن تعاتب ابنتها، ولكن الفتاة لم تكن تمهلها، وإنما كانت ترسل إليها في صوتها العذب وابتسامها الحلو معاني تصور التعزية والتسلية والتشجيع، وتصور فوق ذلك الحب والعطف والرثاء. وكأن الفتاة كانت تقول لأمها إني أرثي لك مما تجدين، ولو استطعت لمحوت الحزن من قلبك محوًا، ولرددت إليه حظًّا من أمن ونصيبًا من دعة، ولكني لا أستطيع، فلا بد للكتاب من أن يبلغ أجله، ولا بد لقوانين الحياة والموت من أن تنتهي إلى غايتها، فقد قُضي على الناس أن يموت منهم من يموت، ويحيا منهم من يحيا، وأن تكون الذكرى هي الصلة بين أولئك وهؤلاء، وأن يكون في الذكرى كثير من الحزن والألم، وقليل من الراحة والدعة، وأن تعمل الأيام عملها على كر النهار ومر الليل، فيسعى العزاء إلى النفوس شيئًا فشيئًا، فيقرها ويهدئها ولعله ينتهي بها إلى النسيان.
وكانت الفتاة ترسل إلى أمها في صوتها العذب وابتسامها الحلو أحاديث أخرى تقول فيها: إني لم أزرك الليلة معزية عن فقدي، فأنا أعلم أن أوان هذا العزاء لم يأن بعد، وأنا أعلم أن للحزن أجلًا يجب أن يبلغه، وأن للموتى على الأحياء حقوقًا يجب أن تؤدى إليهم، ولكن رأيتك صباح اليوم مولهة مدلهة، مهدمة محطمة، قد فطر الجزع قلبك تفطيرًا، وفرق الهلع نفسك تفريقًا، فأشفقت عليك ورثيت لك، وأقبلت أرد على قلبك المكلوم بعض الدعة وعلى نفسك الثائرة بعض الهدوء.
رأيتك صباح اليوم حين أقبلت على قبري تزورينه، فراعك ما رأيت أو راعك ما لم تري.
وارحمتاه لك أيتها الأم التعسة! ماذا كنت تظنين أنك سترين؟ ألم تسمعي أحاديث الموتى؟ ألم تسمعي أحاديث القبور؟ ألم تعلمي أن الأجسام بعد أن تفارقها النفوس توارى في التراب، فيهون منها ما كان عزيزًا، ويهمل منها ما كان مصونًا كريمًا؟ ألم تعلمي أن قبور المصريين تنبث في الصحراء مهملة شعثًا في أكثر الأحيان؟ لأن أصحاب القبور من الموتى لا يحفلون بقبورهم ولا يعنيهم أن تقوم في الصحراء الغبراء أو في الحديقة الغناء، إنما هم عن هذا كله في شغل بما ادخر الله لهم وبما ادخروا هم لأنفسهم من وراء القبور.
ولأن نظرة الأحياء إلى القبور ليست أدنى إلى الابتسام والبهجة من نظرة الموتى، وإنما هي نظرة حزينة كئيبة تلائم حزن الصحراء وكآبتها. فهم لا يريدون أن يزينوا الموت ولا أن يسبغوا عليه ظلًّا من جمال الدنيا. وإنما هم يفهمون الموت فهمًا قاسيًا كالموت نفسه.
ولو أني عرفت أنك ستسعين لزياراتي حيث تظنين أني أقيم من هذا القبر المهمل في الصحراء لخذلتك عن هذه الزيارة تخذيلًا، فأنا أعلم أن قلبك لا يقوى عليها ولا يستطيع أن ينهض بأثقالها وأثقال ما تثير من الحزن والأسى. ولأني أعلم ما لا تعلمين، أعلم أن الموتى لا يزارون في القبور، فليس منهم في القبور إلا أقلهم استحقاقًا للزيارة، إنما يزارون حيث عاشوا وحيث عملوا وحيث اضطربوا للحياة ومشاغل الحياة. إنما يزارون حيث يذكرون، إنما يزارون في نفوس الذين يحبونهم من الأحياء، فهم يؤثرون أن يتخذوا من نفوس المحبين الأحياء مقامًا. إذا أحببت أن تزوريني أيتها الأم العزيزة الحزينة البائسة، فلا تسعي إلى الصحراء، ولا تقفي عند هذا القبر، ولا تظني أنك ستلقينني هناك.
ولكن اذكريني فسأحضرك كلما ذكرتني، وسترين مني في الذكرى أكثر ألف مرة ومرة مما ترين عند القبر؛ لأنك لا ترين عند القبر إلا أحجارًا ورمالًا. وأنا أعلم أن حياة الأحياء غرور، وأن للظواهر فيها تأثيرًا عميقًا بعيد المدى، وأنهم لا يستطيعون أن يفهموا الوفاء لنا إلا أن يزوروا قبورنا. فافعلي إن لم تستطيعي أن تخلصي من تأثير هذه الظواهر، ولكن اتخذي مكان قلبك الضعيف الرحيم قلبًا جلدًا قويًّا صبورًا. فإنك لا تعلمين وما أحب لك أن تعلمي ما وراء هذه الأحجار وما تحت هذه الرمال.
صدقيني أيتها الأم العزيزة الحزينة لست أحب لك هذه الزيارة، وإنما أحب لك ولنفسي هذه الذكرى الحلوة الهادئة. وإذا لم يكن بد من ساعات تشتد فيها الصلة بينك وبيني، وإذا لم يكن بد من أن تحسي كأني قريبة منك وكأنك قريبة مني؛ فليدعني قلبك الضعيف الرحيم إذا تقدم الليل شيئًا. فإنا نحن الموتى نستجيب مسرعين لدعوة القلوب الضعيفة الرحيمة ولا سيما قلوب الأمهات.
ليدعني قلبك إذا تقدم الليل كما دعاني حين تقدمت هذه الليلة. ألم تري كيف استجبت لدعائه؟ ألا تحسين قربي منك؟ ألا تجدين امتلاء قلبك ونفسك بي؟ أنعمت بقربي في الحياة كما تنعمين به الآن وقد فرَّق بيننا الموت؟ ولكن دعاءً آخر يبلغني أيتها الأم العزيزة، وإنه دعاء لا تفهمينه ولا تستطيعين أن تعلمي من أين يأتيني ولا كيف يأتيني.
انظري. إن النجوم تسرع إلى الأفول، ويجب أن أسرع معها إلى حيث لا تعلمين. إن نفوسنا لا تحسن مناجاة الأحياء حين تشرق الأرض بنور الشمس، فهي تغيب عنها الذكرى في هذه المناجاة.
إلى اللقاء أيتها الأم العزيزة الحزينة، فسأستجيب لك كلما دعاني قلبك؛ ولكن أيدعوني قلبك كثيرًا.
وتنظر الأم الحزينة فإذا الطيف ينأى حتى ينمحي، وتسمع فإذا الصوت ينأى حتى ينقطع، ثم تلتفت فإذا كل شيء من حولها قد عاد كهيئته حين أقبلت على غرفتها وقد تقدم الليل، إلا أن نور الصبح قد دخل الغرفة فأفاض على جدرانها وعلى ما فيها من الأثاث كآبة لا يعلم أجاءت منه أم جاءت من هذه النفس الحزينة التي ترى به ما حولها من الأشياء.
وكذلك أنفقت هذه الأم ليلتها حائرة، ذاهلة مضطربة بين ما كانت تسمع وما كانت تفكر. ولعلها لم تر شيئًا ولم تسمع شيئًا، ولم تفكر إلا في أنها زارت قبر ابنتها حين ارتفع الضحى من الأمس، فرأته كما ينبغي عندنا أن تكون القبور مهملة في الصحراء. ولم تتعود أن ترى القبور مهملة، ومن يدري لعل هذا الطيف الذي رأته لم يكن خيالًا، ولعل هذا الصوت الذي سمعته لم يكن صدى، ولعل هذه المعاني التي ألقيت في نفسها لم تصدر عن نفسها، وإنما ألقيت إليها من عالم آخر، ألقاها إليها هذا الصوت الرقيق العذب الذي كان يأتيها من بعيد، من بعيد جدًّا، وكان يشبه صوت ابنتها.