المقدمة

(١) «من النص إلى الواقع» إلى «الفناء والبقاء»

جرَت العادة على النقد الذاتي المستمر، من عمل إلى عمل، ومن محاولة إلى محاولة، بغيةً لمزيد من الكمال والإحكام، أخذًا بعين الاعتبار ما وُجه من نقدٍ رصين. فالإنسان ما زال يطلب العلم، فإذا ظن أنه علِم فقد جهِل.١ لم يكن النقد الموجه إلى «من النص إلى الواقع» كبيرًا نظرًا لإحكام الموضوع ولأن علم أصول الفقه بذاته أكثر العلوم إحكامًا، وأقلها عُرضة للنقد، وربما ما زال مبكرًا. فلم تُعقد عليه إلا ندوة واحدة بالرغم من الاعتزاز به وتقديره. فلم يُقرأ بعد من الأصوليين والعلماء بالرغم من إعجابهم به وتقديرهم لصاحبه. وربما لأنه لم يظهر من خلال أجهزة الإعلام، موطن الشهرة الزائفة والمزايدة والتضحية بالموضوع وصاحبه من أجل الإثارة والسبق الصحفي. وربما خوف العلماء منه والذين تعوَّدوا على التجريح والاستبعاد لعلميته ورصانته. وربما لحرج المسئولين الرسميين حتى لا يوافقوا على ما لا توافق عليه المؤسسات الدينية التابعة للدولة ونظامها السياسي. وربما خوفًا من النقاش العلمي الجاد بعد أن تعوَّدوا على عموميات الإعلام وادعاءات التجديد والأفكار النمطية السابقة.٢

ومع ذلك يمكن ممارسة النقد الذاتي على «من النص إلى الواقع». فالعيب لا يظهر إلا بعد الاكتمال. والجنين لا يبدو إلا بعد الولادة. والممكن أكثر غنًى من الواقع. وما بالقوة أكثر اتساعًا مما بالفعل. والمؤلف هو الناقد بالأصالة. والمبدع هو الذي يعلم حدود الإبداع. والأم أَقدر على وصف معاناة الولادة من المولد.

  • (أ)
    كان الهدف من الجزء الأول «تكوين النص» تفكيك النص الأصولي القديم، وبيان أنه لا يوجد نص ثابت خالد أبدي واحد عبر كل العصور. تتعدد قواعده وأصوله. بِنيته متحركة داخل النص الأصولي السني والشيعي على حدٍّ سواء. كان القصد «تحريك النص» من جديد وهو عنوان الفصل عن النص الأصولي الشيعي.٣ لذلك كثُر حضور النص بعد ترتيبه زمانيًّا لبيان تغير القواعد والأصول التي يُبنى عليها العلم عبر الزمان مما يسمح بتطويره مرة أخرى طبقًا لهذا العصر. فيتحرك النص من جديد عبر التاريخ. كان الهدف هو القضاء على تكلس النص وثباته بل وقدسيته، والعودة إلى الاجتهاد البشري في إبداع النصوص. كان الهدف هو هز سلطة القدماء التي ما زالت أحد أسباب توقُّف حركة العلم، بالإضافة إلى إحساس المحدثين بالدونية أمامهم، فلم يترك السلف للخلف شيئًا. كان الهدف إثبات أن النص الأصولي ليس نصًّا ثابتًا أبديًّا أزليًّا إلى آخر الزمان، بل هو نص تاريخي حتَّمَته ظروف كل عصر ومستواه الثقافي. فقد خرج التراث كله من حيز التاريخ إلى الإطلاق. وتحول من اجتهادات الأجيال المتتالية إلى مقدس خارج الزمان نظرًا لعجز الأجيال المتأخرة عن التواصل معه واستئنافه وكتابة نصوص جديدة دون الاكتفاء بدراسة النصوص القديمة وعرضها وتكرارها بعد أن انفصل الذات الدارس عن الموضوع المدروس، وتحول إلى مستشرق ينظر إلى موضوع مغاير له وليس مسئولًا عنه. تمايز بينه وبين تراثه ولم يتوحَّد معه. فتكلس التراث وتشيَّأ وتحجَّر، وأصبح قديمًا يدرسه المحدثون. ومع ذلك جاء الجزء الأول «تكوين النص» علميًّا للغاية، تاريخيًّا صِرفًا، لا يظهر فيه التجديد بوضوح، أقرب إلى القدماء منه إلى المحدثين، ثقيل في القراءة، ممل الاستيعاب. يُظهر صاحبه عالمًا لا مجددًا، مؤرخًا لا أصوليًّا، يعرض القدماء ولا يخاطب المحدثين. كان السبب هو الرغبة في تسوية الأرض أولًا قبل الزرع، وحفر التربة وتقليبها قبل البذر، فما جدوى بناء جديد على أرض لم تسوَّ؟ وقد قامت محاولات قبل ذلك لإعادة البناء دون تسوية من القدماء المتأخرين ومن المحدثين المعاصرين، فسرعان ما انهار البناء.٤
  • (ب)
    كان مفهوم البنية وتعدد قواعدها هو المفهوم السائد الذي على أساسه تم تقسيم الأصول، غياب البنية أو حضورها، احتجابها أو ظهورها، أحادية أو ثنائية أو ثلاثية أو رباعية … إلخ. لم يستعمل لفظ البنية بمعنى المحدثين عند البنيويين.٥ كان له معنًى عام وشائع في اللغة المتداولة.٦ كان يعني فقط الأصول أو القواعد التي يُبنى عليها العلم. هي البنية الظاهرية وليست البنية الباطنية، بنية النص وليست بنية الفكر، بنية القول وليست بنية الرؤية، بنية التعبير وليست بنية المعنى، فتعددت البنيات بين الكثير والقليل، بين الدال على الفكر وغير الدال الذي يكتفي برصد الموضوعات في أبواب وفصول وأقسام وأجزاء. غابت أولًا ثم حضرت ثانيًا ثم غابت ثالثًا. منها ما كان تقليدًا واتباعًا مثل كثير من النصوص التي تتكاثر فيها الأقسام والأجزاء، ومنها ما كان اجتهادًا واتباعًا مثل البنية الرباعية في «الموافقات». منها ما كان لاشعوريًّا ودون قصد بل مجرد إحصاء لترتيب الأبواب، ومنها ما كان شعوريًّا عن قصد ولو عن طريق الصورة الفنية مثل «المستصفى»، عن صورة الثمرة والمستثمر، والمستثمر وطرق الاستثمار. تكاثرت فصول البنيان بعد أن تعدَّدت وأصبح من الصعب فَهم دلالاتها. كان المقصود هو بيان عدم وجود بنية واحدة ثابتة للعلم مما يسمح بإدخال البنية الثلاثية.
    وقد تم اختيار البنية الثلاثية التي قام عليها الجزء الثاني «بنية النص»، وليس الرباعية في «المستصفى». وهي البنية التي قامت عليها متون أصولية أخرى عديدة ابتداءً من «الرسالة» وانتهاءً إليها.٧ وهي بنية تكشف عن التطابق بين بنية النص (المصادر الشرعية الأربعة، ومباحث الألفاظ، والأحكام الشرعية) وبنية الوعي التاريخي والوعي النظري والوعي العملي.
  • (جـ)

    كان الجزء الأول «تكوين النص» بمثابة التمهيد للجزء الثاني «بنية النص». كان هو «البولدوزر» الذي يسوي الأرض بدلًا من إقامة الجزء الثاني على نتوءات أو منخفضات لم يتم تسويتها من قبل وإلا انهار البناء الجديد. كان الهدف من الجزء الأول هو تحرير الوعي الأصولي من ثقل التاريخ حتى يستطيع أن يقبل النص الأصولي الجديد ويتفهمه بعقل حر دون خوف من القدماء المجتهدين أو قهر من المحدثين المقلدين.

    ومع ذلك كان «البولدوزر» بطيء الحركة، ضعيف الصوت، هادئ المعول، لا يجرف الكثير. كان مجرد تحريك للتربة دون دكها. كان يعمل دون صخب ودوي ربما لعزوف صاحبه عن الفرقعات، الرصاص الفارغ «الفشنك»، وصخب الإعلام. لم يؤدِّ غرضه على نحوٍ مباشر. يحتاج إلى وقود ليدور محركه بدلًا من دفعه باليد. يحتاج إلى وقت حتى يدرك أهميته طلاب العلم في الجامعات الدينية والمدنية بعيدًا عن الاستقطاب الحالي بين سلفيين وعلمانيين، قدماء ومحدثين، محافظين ومجددين.

    كان الركام الناشئ منها كثيرًا مبعثرًا. غطى على الحفر والأسس الفارغة التي في حاجة إلى صب جديد. كان أشبه بوقوع البناء بطريقة التفجير أو الزلزال حتى غطى الركام على الأساس المطلوب دون إعادة حفره وصبه من جديد، وظهرت على المشاهد علامات الحزن على المنزل المهدم أكثر من علامات الفرح لمشروع البناء الجديد الذي لم يرَه بعد في الجزء الثاني «بنية النص».

  • (د)

    ثم أتى الجزء الثاني «بنية النص» واضحًا مرتبًا، ولكنه غرق في تحليل اللغة كما قام به القدماء. ولم يكتفِ بالاشتباه اللغوي الذي يبدأ منه التجديد. ربما كان القصد اللاشعوري هو إمكانية تحويل التحليلات اللغوية عند الأصوليين إلى علم اللغة العام ليخفف ثقل الأحكام الشرعية خاصة أحكام التكليف، وبوجه أخص الحلال والحرام بعد أن اختزل العلم فيها في أذهان العامة الذين يخشَون من السلوك التلقائي وأنصاف العلماء الذين يودون إبقاء العلم أداة للسيطرة على الناس والمؤسسات الدينية التابعة للنظم السياسية التي تستعمل الدين كأداة للضبط الاجتماعي.

    تضخم الوعي التاريخي خاصة في مسائل الرواية. وكانت أقرب إلى هم القدماء في نقد السند من هم المحدثين في نقد المتن.٨ كما غرق في تحليل أنواع العلل بحيث تاهت دلالة التحليل وسط هذا الكم الهائل من التفصيلات. كان المبرر هو عدم ترك تحليلات القدماء دون إشارة حتى يعيش المحدثون معهم، ويشعروا بهم إيجابًا أم سلبًا. فيتضخم الحجم بلا داعٍ إلا استهلاك مادة القدماء، وإعادة عرضها. وما كان يتطلب التطوير والتفصيل هو الوعي العملي، المقاصد والأحكام، جاء على قدر ما ترك القدماء، ومقاصد الشريعة، وأحكام الوضع هي زُبدة العلم. خشي من التطوير الزائد حتى لا ينفصل العلم عمَّا تركه القدماء، لحظة «الموافقات» وحتى يتم التغير من خلال التواصل، ولا تكون المسافة شاسعة بين إبداع القدماء وتطوير المحدثين. ويمكن لجيل آخر أن يطور الوعي العملي ويقلِّص الوعي النظري. ويعيد التوازن إلى أبعاد العلم الثلاثة: الوعي التاريخي، والوعي النظري، والوعي العملي.٩
  • (هـ)

    وبالرغم من أن العنوان يتضمن لفظين: «النص» و«الواقع» إلا أن العمل كله أتى أقرب إلى النص منه إلى الواقع. طغت النصوص، وتوارى الواقع مشرئبًّا برأسه من الانهيار، يطلب الخروج. قد يكون السبب في ذلك أيضًا إبقاء الطابَع المنطقي الخالص لعلم الأصول، وما يتميز به من إحكام نظري. وعلم الفقه هو العلم الذي يتم فيه التحول من فقه العبادات إلى فقه المعاملات، ومن فقه الحلال والحرام إلى فقه المجتمع. ربما كان السبب هو كثرة تحليل الواقع ووصف تحديات العصر في المؤلفات الثقافية مثل «هموم الفكر والوطن»، «حصار الزمن». وربما كانت هناك خشية من الخطابة والحديث العام عن مآسي العصر وأحزانه، وعلم أصول الفقه علم محكم ودقيق. والقراءة المتأنية قادرة على تلمس الواقع والإحساس أو الإمساك به من خلال خيوط قائدة قصيرة أو حبال طويلة. فمن الأفضل ظهور الواقع على نحو غير مباشر حتى يبقى العلم في الأصول وليس في الفروع. وكثيرًا ما تتحدث النصوص القديمة عن «زماننا» و«عصرنا» دون تفصيل أحوال الزمان وظروف العصر.

  • (و)
    كانت مشكلة إعادة بناء العلوم القديمة كبر الحجم. «من العقيدة إلى الثورة» (خمسة مجلدات) ومن النقل إلى الإبداع (ثلاثة مجلدات كل منها ثلاثة أجزاء، وفي مجموعها تسعة). وجاء «من النص إلى الواقع» مجلدين. أصغر من حيث الكم. ومن في هذا العصر قادر على قراءة مجلد واحد؟ التحدي الآن هو إخراج «من الفناء إلى البقاء» في مجلد واحد، اللهم إلا إذا كبرت الأبواب الثلاثة الرئيسية: التصوف الأخلاقي، التصوف النفسي، التصوف الفلسفي. وتحول كل منها إلى فصول. واستحالَ ضمُّها في مجلد واحد. فأصبحت ثلاثة مجلدات. وبعد وضع المقدمة عن «الوعي الصوفي» لوصف تطور النص الصوفي كما هو الحال في الجزء الأول «تكوين النص» و«من النص إلى الواقع» تضخمت كما تضخم، وأصبح بابًا مستقلًّا، هو الباب الأول من الجزء الأول عن التصوف الخلقي. ثم تضخم هذا الباب الأول إلى ثلاثة فصول: الوعي التاريخي، الوعي الموضوعي، الوعي النظري. ثم تغيرت الفكرة الشائعة أن ابن عربي آخر الصوفية وما بعده شرَّاح له مثل النابلسي والشعراني، وهو ما قيل أيضًا عن ابن رشد أنه آخر الفلاسفة وما بعده شرَّاح، عندما اتضح قدر التصوف العملي بعد «الفتوحات» على مدى خمسة قرون فأصبح فصلًا رابعًا. ولما كثرت النصوص وتعددت وتضخَّم هذا الباب الأول بفصوله الأربعة ولم تنته بعد المقدمة، أضيف إليها فصل خامس عن التصوف وموضوعه داخل منظومة العلوم قبل أن تبدأ فصول التصوف الخلقي: الشريعة والأخلاق، والرذائل والفضائل، والتوحيد الخلقي. فانفصلت المقدمة وأصبحت هي الجزء الأول «تكوين النص» وهو عنوان الجزء الأول من المادة بناء علم أصول الفقه في «من النص إلى الواقع».١٠
وضمت الأجزاء الثلاثة الأولى: التصوف الخلقي، التصوف النفسي، التصوف النظري، ثم زيد عليها التصوف العملي في جزء ثانٍ «بنية النص»، وهو نفس عنوان الجزء الثاني «من النص إلى الواقع».١١ هذا هو الوضع وهو أفضل من حيث الكم. جزءان: الأول عن تطور النص الصوفي، والثاني عن «بنية النص الصوفي» أفضل من مقدمة طويلة وثلاثة أجزاء من حيث الكم.١٢ والأعمال التكوينية بطبيعتها ضخمة الحجم. والأعمال التأسيسية مشاريع كبرى. «الشفاء» عدة مجلدات اختصرها صاحبها في «النجاة»، ثم شرح الملخص في «الإشارات والتنبيهات». وأعمال ابن رشد الشارحة لأرسطو أكبر وأوسط وأصغر، تفاسير وتلخيصات وجوامع. و«المغنى» للقاضي عبد الجبار عشرون مجلدًا في علم أصول الدين. وشروح علم أصول الفقه عدة مجلدات مثل «البحر المحيط» للزركشي. وفي التصوف «الإحياء» و«الفتوحات» كل منها أربعة مجلدات. يبدو أن مشروع «التراث والتجديد» خارج من بين القبور، به روح القدماء من حيث الإسهاب والتطويل. قد يأتي جيل جديد يلخص كل ما فعل القدماء حتى تسهل قراءة المحدثين.١٣

(٢) الموضوع، المنهج، المادة العلمية، الأسلوب

(أ) الموضوع: هي المحاولة الرابعة والأخيرة لإعادة بناء العلوم النقلية العقلية الأربعة، علم أصول الدين في «من العقيدة إلى الثورة»، وعلوم الحكمة في «من النقل إلى الإبداع»، وعلم أصول الفقه في «من النص إلى الواقع». وبعد اكتمال إعادة بناء العلوم النقلية العقلية الأربعة، يتضح أن أبعد العلوم عن اللحظة الراهنة وأشدها حاجة إلى إعادة البناء هو علم أصول الدين، ثم علوم الحكمة، ثم علوم التصوف، ثم علم أصول الفقه. وأكثرها اقترابًا من تحليل التجارب الشعورية هي علوم التصوف، ثم علم أصول الفقه، ثم علم أصول الدين، ثم علوم الحكمة التي غلب عليها التحليل النظري المجرد خاصة في أجزائها الثلاثة: المنطق والطبيعيات والإلهيات، قبل إضافة «إخوان الصفا» العلوم الناموسية والشرعية وتحليلات النفس والأخلاق والاجتماع عند الفلاسفة خاصة الفارابي.
بقي من الجبهة الأولى «الموقف من التراث القديم» إعادة بناء العلوم النقلية الخمسة «من النقل إلى العقل»، القرآن والحديث، والتفسير، والسيرة، والفقه. بعدها يتم التوجه إلى الجبهة الثالثة الموقف من الواقع أو «نظرية التفسير» خشية من قصر العمر. بعدها تتم العودة إلى الجبهة الثانية «الموقف من التراث الغربي» لترصيع العقد «مقدمة في علم الاستغراب» بالأحجار الكريمة مثل فشته فيلسوف المقاومة، وظاهريات هوسرل، وبرجسون فيلسوف الحياة، ثم استئنافها عند ماكس شيلر وظاهريات الحياة الوجدانية، ونيتشه فيلسوف العدمية، ومونييه فيلسوف الشخص، ثم العودة من بداية النهاية إلى الذروة في الوعي الأوروبي هيجل الفيلسوف الشامل، واليسار الهيجلي: فيورباخ، وباور، وشترنر، وشتراوس، وماركس الشاب، ثم شلنج فيلسوف الوحدة. كل ذلك لو كانت هناك نسيئة في العمر بتعبير ابن سينا. وبالتالي يصبح مشروع «التراث والتجديد» أهم وأكبر مشروع يعبر عن الوضع الحضاري في نهاية القرن الرابع عشر وبداية القرن الخامس عشر الهجريين، ونهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين الميلاديين، وليعبر عن مرحلة جديدة من تطور الحضارات ودورانها في العالم، وإغلاق الفترة العثمانية واستئناف الإصلاح الديني وتحويله إلى نهضة شاملة في مرحلة ثالثة للحضارة الإسلامية تلحق بالمرحلة الأولى في القرون السبعة الأولى من الأول حتى السابع، مرحلة الازدهار التي أرَّخ لها ابن خلدون، وتغلق المرحلة الثانية في القرون السبعة التالية من الثامن حتى الرابع عشر لتبدأ المرحلة الثالثة، قرون سبعة ثالثة، من الخامس عشر حتى الواحد والعشرين الهجريين. «التراث والتجديد» إذن مشروع مفصلي كما حدث في الحضارة الغربية عند ديكارت (١٦٥٠م) «أنا أفكر فأنا إذن موجود» ومشروع بيكون (١٦٢٦م) «الآلة الجديدة». كان العنوان في وصف المشروع في «التراث والتجديد» المنهج الصوفي.١٤ ثم برز شيئًا فشيئًا هذا العنوان «من الفناء إلى البقاء» بنفس طريقة «من … إلى …» للدلالة على نقل العلوم القديمة كلها من مرحلة إلى مرحلة، من مرحلة القدماء إلى مرحلة المحدثين، من التأسيس الأول إلى التأسيس الثاني.١٥ وهما مصطلحان في علوم التصوف، حالان أو مقامان. يذكرهما إقبال ويجعلهما رؤية له مطالبًا أيضًا التحول من الفناء إلى البقاء.١٦ وهو لا يبعد أيضًا عن موقف الحركة السلفية عند ابن تيمية الذي يجعل البقاء هو نهاية المقامات وليس الفناء.

والتصوف بالجمع «علوم التصوف» مثل علوم الحكمة في حين أن «علم أصول الدين» و«علم أصول الفقه» بالمفرد. وهو يدل على أن التصوف يجمع عدة علوم: علم الأخلاق، وعلم النفس، والفلسفة، وليس علمًا واحدًا. فالتصوف مجموعة من العلوم تعتمد على الفقه والحديث والتفسير والسيرة خاصة في التصوف العملي.

وقد عُرض التصوف نفسه بطريقتين. الأولى تاريخية، تطور التصوف ومراحله عبر التاريخ، خاصة القرون السبعة الأولى حيث تكتمل الحضارة الإسلامية في دورتها الأولى قبل أن يؤرخ لها ابن خلدون. وفي هذه الحالة يتضح أن التصوف مر بأربع مراحل: المرحلة الأخلاقية عندما كان التصوف علمًا للأخلاق الإسلامية، في القرنين الثاني والثالث، نموذج رابعة العدوية والحسن البصري، والمرحلة النفسية عندما تحول التصوف إلى علم لبواطن القلوب في القرنين الرابع والخامس نماذج ذي النون المصري، والبسطامي والحلاج وأصحاب الشطحات، والمرحلة الثالثة مرحلة الفلسفة الإلهية في القرنين السادس والسابع، نماذج السهروردي وابن الفارض، وابن عربي وعبد الحق بن سبعين في القرنين السادس والسابع. أما الغزالي الذي جعل التصوف أيديولوجية الطاعة للناس كما جعل الكلام أيديولوجية القوة للسلطان فإنه يمثل حلقة الوصل بين المرحلة الخلقية والمرحلة النفسية وبين المرحلة الفلسفية، ١٧ كما يمثل ابن عربي حلقة الاتصال بين المرحلة النفسية والمرحلة الفلسفية، ومن ثم يكون أهم عملين نظريين في التصوف كعلم هما «إحياء علوم الدين» و«الفتوحات المكية»، والمرحلة النفسية والمرحلة الميتافيزيقية. والمرحلة الرابعة هي المرحلة الطرقية التي تحول فيها التصوف النظري في الفلسفة الإلهية إلى التصوف العملي، كما بدأ في المرحلة الأولى، ولكنه في هذه المرة تصوف جماعي طرقي في العصر العثماني. وإذا كانت كل مرحلة قد دامت قرنَين من الزمان، الخلقية في القرنين الثاني والثالث، والنفسية في الرابع والخامس، والفلسفية في السادس والسابع فإن المرحلة الطرقية قد استمرت سبعة قرون، من الثامن حتى الرابع عشر، وما زالت مستمرة حتى الآن. طالت أكثر من اللازم. وآن الأوان لانتهائها بعد محاولات حركات الإصلاح الديني تغييرها عند الأفغاني وإقبال إلى المرحلة الخامسة المرحلة «الثورية» التي يمثلها «من الفناء إلى البقاء». وقد استعملت الدراسات الثانوية هذه الطريقة المدرسية التاريخية لأنها أقرب إلى الاستيعاب والحفظ وتقديم العلوم الإسلامية القديمة كتاريخ وليس كعلوم عقلية نقلية.
ولا يوجد فصل حاد بين هذه المراحل الأربع. قد تستمر المرحلة الأخلاقية بعد القرنين الثاني والثالث. بل إن كبار الصوفية الأخلاقيين في القرنين الثالث مثل المحاسبي (ت٢٤٣ﻫ)، والحكيم الترمذي (ت٢٧٠ﻫ)، والخراز (ت٢٩٩ﻫ)، والتستري (٣١٩ﻫ)، والمرحلة الثورية الخامسة لها جذورها عند الحلاج واشتراكه في ثورة القرامطة ونجم الدين كبرى في حروبه ضد التتار في الشام، وفي المرحلة الطرقية عند المهدية في السودان في نضالها ضد الاستعمار البريطاني، والسنوسية في صراعها ضد الاستعمار الإيطالي في ليبيا، وعند محمد إقبال في نهضة الأمة في نضالها ضد الاستعمار في الخارج والتخلف في الداخل.١٨ وهذا هو مضمون الجزء الأول التصوف كتاريخ. ولا يوجد صوفي في المرحلة النفسية أو في المرحلة الميتافيزيقية إلا ولديه جانب أخلاقي. ولا يوجد صوفي في المرحلة الأخلاقية أو المرحلة الميتافيزيقية إلا ولديه تحليلات نفسية مثل المحبة عند رابعة، والخوف عند الحسن البصري، والمحبة عند ابن الفارض وابن عربي. ولا يوجد صوفي في المرحلة الأخلاقية أو المرحلة النفسية إلا ولديه بعض الجوانب الفلسفية مثل نظريات الحلول والاتحاد والحقيقة المحمدية في المرحلة النفسية. والغزالي نفسه يجمع بين كل المراحل، الأخلاقية والنفسية والميتافيزيقية، والمرحلة الرابعة، المرحلة الطرقية مرتبطة بكبار الصوفية السابقين: الأكبرية لمحيي الدين بن عربي (ت٦٣٨ﻫ)، والمَوْلوية لجلال الدين الرومي (ت٦٧٢ﻫ)، والجيلانية لعبد القادر الجيلاني (ت٥٦١ﻫ)، والرفاعية لأحمد الرفاعي (ت٦٧٨ﻫ).

والثانية عرض التصوف نفسه كطريق أو طريقة أو فهم عملي مستقل عن التاريخ، طريق صاعد من أسفل إلى أعلى، من الإنسان إلى الله. يبدأ بالتوبة، وينتهي بالفناء. وبين البداية والنهاية المقامات والأحوال. المقامات سبعة أو تسعة طبقًا لعدد فردي يحصل عليها الصوفي بجهده وبقدرته على الرياضات والمجاهدات. والأحوال مزدوجة. حالتان سلبية وإيجابية في الانتقال من مقام إلى مقام، هبة أو إشارة أو علامة على اجتياز مرحلة في الطريق مثل علامات المرور. المقامات مثل التوبة، والفقر، والصبر، والتوكل، والرضا … إلخ. والأحوال مثل: الخوف والرجاء، الصحو والسكر، المحو والإثبات، الغيبة والحضور، الفقد والوجد، الفناء والبقاء … إلخ.

التصوف كطريق يبدأ من الخارج إلى الداخل ثم من الداخل إلى أعلى، من العالم إلى النفس، ثم من النفس إلى الله، من أفعال الجوارح إلى أفعال القلوب، ومن أفعال القلوب إلى الأفعال الإلهية.

وهنا يتداخل التصوف الخلقي مع التصوف النفسي. فالفضائل عند الصوفية مثل الصدق والورع والإخلاص لا تختلف في أهدافها عن المقامات الصوفية. وقد ميَّز الصوفية في مصطلحاتهم بين الاثنين. وهناك تماثل بين المراحل الأربع في التصوف كتاريخ والتصوف كطريق، التصوف الأفقي والتصوف الرأسي. المرحلة الأولى في الطريقتين هي المرحلة الأخلاقية عند رابعة في التاريخ وفي التوبة كطريق. والمرحلة الثانية هي المرحلة النفسية لدى الحلاج في التاريخ وفي الأحوال والمقامات كطريق. والمرحلة الثالثة في التاريخ تعادل المرحلة الثالثة كطريق مرحلة الفلسفة الإلهية عند السهروردي وابن الفارض وابن عربي وعبد الحق بن سبعين. الأفقي مثل الرأسي ومسار التاريخ مثل مسار الروح. والمرحلة الرابعة الحالية وهي المرحلة الطرقية تقابل علاقة الشيخ بالمريد. والمرحلة الخامسة القادمة، المرحلة الثورية، هي مرحلة تنوير الثقافة الشعبية وحركة الجماهير لتجاوز الاستكانة والهوان لدى جيل ما بعد التحرر من الاستعمار، وانهيار الدول الوطنية الحديثة.

وهي من جديد قضية التاريخ والبنية في «من العقيدة إلى الثورة» وتفضيل البنية أي النسق العقائدي على التاريخ أي الفرق الكلامية.١٩ وهي قضية «من النقل إلى الإبداع» وتفضيل الأشكال الأدبية على التاريخ طبقًا للفلاسفة أو العصور أو المذاهب.٢٠ وهي قضية «من النص إلى الواقع»، وتخصيص الجزء الأول «تكوين النص» لتاريخ البنية، والجزء الثاني «بنية النص» لبنية التاريخ.٢١ فقد عرض علم الكلام نفسه كتاريخ للفرق وكنسق للعقائد. هكذا فعل الأشعري والباقلاني والشهرستاني وابن حزم. كما عرضت الفلسفة نفسها كبنية في موسوعات ابن سينا الأربع وكتاريخ في الدراسات الثانوية. وعرض التصوف نفسه كتاريخ في كتب الطبقات بداية بالسلمي حتى الشعراني وكبنية في «الإحياء» و«الفتوحات».

و«من الفناء إلى البقاء» أيضًا دراسة في الطريق أي في البنية وليس في التاريخ. يعرض التاريخ من خلال البنية، ولا تعرض البنية من خلال التاريخ أسوةً بالمحاولات الثلاث السابقة، «من العقيدة إلى الثورة» و«من النقل إلى الإبداع» و«من النص إلى الواقع». ومع ذلك يخرج في جزأين. الأول التصوف كتاريخ وعلم. ويضم فصولًا ستة: تشكل الوعي التاريخي، والوعي التاريخي الخالص، والوعي التاريخي الموضوعي، والوعي الموضوعي، والوعي النظري، والوعي العملي، والتصوف كعلم يضم تعريفات التصوف وتصنيفه في تقسيم العلوم وعلوم الذوق، والعلم والعمل. ويضم المراحل السابقة، ويمزجها من التاريخ إلى الموضوع.

والثاني التصوف كطريق وطريقة. ويضم الأول التصوف الخلقي. ويشمل أربعة أبواب. الشريعة إلى الأخلاق، والظاهر إلى الباطن، والأوامر والنواهي إلى الفضائل والرذائل حتى التوحيد الخلقي. والثاني التصوف النفسي الذي يضم المقامات والأحوال ووصف الطريق في الرياضة والمجاهدة ووحدة الشهود. والباب الثالث التصوف النظري الذي يضم المسائل الإلهية مثل الله والإنسان الكامل ووحدة الوجود. والباب الرابع التصوف العملي الذي يتحول فيه التصوف النظري إلى ممارسات عملية وينتقل من الطريق إلى الطريقة إلى آداب الشيخ والمريد. وبالتالي يتطابق التصوف كتاريخ مع التصوف كطريق. التقابل بين التصوف كتاريخ والتصوف كطريق.٢٢ ويمكن تقسيم مراحل التصوف إلى خمس، بزيادة المرحلة الطرقية بعد المرحلة الفلسفية، والمرحلة الثورية بعد المرحلة الطرقية. وعيب هذا التقسيم أن الطريقة موجودة منذ البداية في المراحل الثلاث الأولى خاصة المرحلة النفسية الثانية. كما أن المرحلة الإصلاحية بدأت منذ ثورة الفقهاء على الصوفية في الصراع بين التنزيل والتأويل، وعودة الصوفية إلى المشاركة في الحياة العملية، ومناهضة الفساد والتسلط الخارجي والداخلي.٢٣
(ب) المنهج: والمنهج المتبع هو تحليل الخبرات الشعورية لمعرفة مدى صدق التجارب التي يحللها الصوفية ومدى تطابقها مع التجارب الإنسانية العامة. فمنهج البحث متفق مع منهج الموضوع المبحوث، تحليل التجارب الحية للباحث وللصوفي. وهو نفس المنهج المتبع من قبل في «من العقيدة إلى الثورة» و«من النص إلى الواقع» و«من النقل إلى الإبداع».٢٤

وتنقسم التجارب الإنسانية إلى نوعين: الأول تجارب إنسانية عامة، الإنسان من حيث هو إنسان، لا يتغير بتغير الزمان والمكان، الإنسان الوجودي الذي تصفه فلسفات الوجود. والثاني تجارب إنسانية خاصة مرتبطة بعصر دون عصر تتحكم فيها الظروف السياسية والاجتماعية في كل عصر، وتختلف باختلافها. هي التجارب التي تعبر عن أحوال الأمة ومسارها في التاريخ.

وهو منهج مزدوج يقوم على تحليل النص القرآني وعلى وصف مصالح الأمة حاليًّا. فالتجربة لها أساس نصي من أعلى، وهو ما تتعامل معه علوم التأويل. ولها أساس واقعي حياتي من أسفل، وهو موضوع العلوم الاجتماعية، الاجتماع والسياسة والاقتصاد. وهما الأساسان في إعادة بناء التصوف ونقله من المرحلة القديمة إلى المرحلة الجديدة، من عصر النشأة الأولى إلى عصر النشأة الثانية.

يعتمد الصوفية على الآيات القرآنية والأحاديث النبوية كمصدر لتحليلاتهم مع تنميط معانيها في اتجاه خاص دون الاتجاه العام، واختيار جزئي لآيات وأحاديث دون أخرى. ويمكن لمجموع الآيات والأحاديث توجيه الموضوع في اتجاه آخر. لذلك تعددت مذاهب التصوف وطرقه. فإذا كان التصوف قد خرج من الكتاب والسنة فإن إرجاع الموضوع إليهما يساعد على إعادة تشكيل الموضوع. تهدف العودة إلى النص الأصلي تخليص ما وقع في النص الصوفي من شوائب وأعلاق تاريخية تحيد بالموضوع الصوفي وتميله إلى جانب دون آخر كما هو الحال في موضوع «الزهد» الذي لم يرد في القرآن إلا مرة واحدة وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ أي غير راغبين في شرائه فخفضوا ثمنه. فالذي يحدد السعر هو مدى الحاجة إلى السلعة. وهذه أهمية منهج تحليل المضمون الذي تم الإيغال في استعماله في «من النقل إلى الإبداع».٢٥

كما يعتمد الصوفية على تقديرهم لمصالح الأمة في عصرهم. فالعلوم ليست فقط أبنية نظرية بل تهدف إلى تحقيق مصالح عملية. فالكلام دفاع عن التوحيد ضد الثنوية والتثليث والتجسيم والتشبيه. والحكمة دفاع عن وحدة الثقافة، والتعبير عن الموروث بلغة الوافد ضد ازدواجية الثقافة بين متكلمين ومترجمين. وأصول الفقه وضع منهج لاستنباط الأحكام للوقائع الجديدة. وعلم التصوف دفاع عن سلامة القلب ونقاء الضمير، ونوع من المقاومة السلبية ضد تيار البذخ والترف والتكالب على الدنيا والسعي وراء السلطة والثروة. فإذا كان التصوف في نشأته تعبيرًا عن نوع من المقاومة السلبية لمظاهر السقوط والانحطاط في الأمة فإنه اليوم يُعاد بناؤه كمقاومة إيجابية بعد أن انتشرت أساليب المقاومة منذ حركات التحرر الوطني في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي حتى حركات المقاومة الآن في أوائل هذا القرن في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير.

ومقياس المنفعة والضرر وارد أيضًا عند الصوفية في البحث عن أنفع التواضع، وأنفع الإخلاص، وأنفع الفقر، وأنفع الأعمال، وأنفع الخوف، وأنفع الرجاء، وأنفع العبادات، وأضر المعاصي.٢٦

ومن ثم، يقرأ النص الصوفي القديم بطريقتين: الأولى عرض النص القديم ثم التساؤل حوله من أجل إعادة النظر في الموقف، والتشكك في حكم القدماء. والثاني الاستدراك بعدة حروف مثل «ومع ذلك»، «إلا أن» أو «واو» العطف. دون استعمال «لكن» لأنها ليست جملة رئيسية.

والنصوص موضوعة في الهوامش حتى لا تكسر اتساق الخطاب وهي نوعان: نوع يؤيد التحليل، والثاني منفر حتى يشارك القارئ في النفور منه، ٢٧ فهي نصوص موجَّهة وليست محايدة، تخضع لجدل الإيجاب والسلب.
(ﺟ) المادة العلمية: والمادة العلمية هي معظم ما كتبه الصوفية أنفسهم كنصوص مثل الحسن البصري والمحاسبي والترمذي والخراز والحلاج والتستري وابن مسرَّة والقشيري والغزالي والسهروردي وابن الفارض وابن عربي وابن سبعين والجيلاني والجيلي والشعراني والرفاعي نثرًا أو شعرًا، وكذلك ما كتبه الصوفية المؤرخون مثل «اللمع» للطوسي (ت٣٧٨ﻫ) و«التعرف» للكلاباذي (ت٣٨٠ﻫ)، و«قوت القلوب» لأبي طالب المكي (ت٣٨٦ﻫ)، و«طبقات الصوفية» للسلمي (ت٤١٢ﻫ)، «وحلية الأولياء» لأبي نعيم الأصفهاني (ت٤٣٠ﻫ)، و«الرسالة القشيرية» للقشيري (ت٤٦٥ﻫ) و«كشف المحجوب» للهجويري (ت٤٦٥ﻫ)، و«التشوف إلى رجال التصوف» للتادلي (ت٦١٧ﻫ)، حتى «الطبقات الكبرى» للشعراني (٩٣٠ﻫ)، و«طبقات الصوفية» للمناوي (١٠٣١ﻫ).

في التصوف كتاريخ أي في الوعي الموضوعي الأعمال مرتبة ترتيبًا زمنيًّا لمعرفة تطور الوعي الصوفي. وفي التصوف كطريق مرتبة ترتيبًا موضوعيًّا طبقًا لبنيته لمعرفة ما هو الطريق، بدايته ونهايته، منطلقه وغايته. وقد يكون تعريف متقدم لموضوع ما في المرحلة الخلقية أو النفسية أو الميتافيزيقية أنفع في المرحلة الثورية. وقد يبدو تماهيًا باطنيًّا بين التاريخ والبنية لأن البنية تتكشف في التاريخ، والتاريخ يفرز البنية.

والمادة العلمية المحللة هي أقوال الصوفية المباشرة وليست الحكايات المروية عنهم، كما هو الحال في علم الحديث أقوال الرسول، وليس الأفعال المروية عنه، ومثل أقوال المتكلمين والفلاسفة. فالمهم النص وليس صاحبه. فما يترسب في الذهن وما يبقى في الموروث الشعبي هو المثل العامي وإن لم يُعرف مؤلفه. ولا يهم نسبة القول إلى صاحبه إلا في الهوامش إذا دعت الضرورة وكان مشهورًا، وإلا تحولت الدراسة إلى استشراق، والتحقق من العمل لمعرفة الصحيح من المنتحل. هناك صوفية لم يتركوا مؤلفات وراءهم بل جُمعت أقوالهم ورويت عنهم أو عن رواتهم مثل رابعة العدوية والبسطامي وذي النون المصري والشبلي ومعظم صوفية القرنين الثاني والثالث الهجري الذين يذكرهم مؤرخو التصوف كالسلمي في «الطبقات» والقشيري في «الرسالة»؛ فقد انشغلوا بالتصوف العملي وهي مرحلة التصوف الخلقي قبل أن يتحول إلى تصوف نظري في القرنين السادس والسابع، مرحلة التصوف الفلسفي.

والمادة العلمية كما هو الحال في باقي العلوم الإسلامية متوافرة وغزيرة. والموجود منها يغني عن المفقود. والمطبوع من كتب التصوف يكفي لإصدار أحكام عليه، والدخول في حوار معه لإعادة بنائه. والمتاح منه أكثر مما نفد. والمطبوع منه أكثر من المخطوط. والتكرار فيه يغني عما لم يمكن الاطلاع عليه. والتعبير الكمي غير الدال لا يغني عن التحليل الكيفي الدال. ونقل الصوفية عن بعضهم البعض يغني عن المفقود.

وبطبيعة الحال لا يمكن استيعاب كل شيء، وتحليل كل نص. أما النقلات الإبداعية فلا يمكن الاستغناء عنها مثل «الرسالة القشيرية»، و«الإحياء»، و«الفتوحات».٢٨ ومع ذلك تأتي مرحلة يتوقف فيها الكم إلى أن يصبح دالًّا على الكيف. وما هو متوافر حاليًّا من الأعمال الصوفية يكفي للحكم على التصوف وإلا ظل الباحث إذا ما انتظر اكتمال الكم غير قادر على إصدار أي حكم. فالمتوافر عينة ممثلة. والاستقراء الناقص قادر على إصدار حكم لاستحالة الاستقراء الكامل. وهو ما سماه الشاطبي في «الموافقات» الاستقراء المعنوي.٢٩
وتستعمل بعض الدراسات الثانوية الأخرى التي جمعت نصوصًا وأقوالًا للصوفية عن بطون الكتب والمراجع بعد أن تناثرت أو ضاعت أو أن الصوفي لم يترك عملًا مدونًا له إلا بعض الأقوال الشفاهية المروية عنه.٣٠
وكالعادة تم استبعاد الدراسات الثانوية لأنها موضوع دراسة وليست دراسة لموضوع، سواء من المستشرقين أو من الباحثين العرب.٣١ ويستثنى ما كان منها قراءة إبداعية كنص صوفي، وليس تكرارًا له بعبارات شارحة.٣٢ وكما تم استبعاد الدراسات الاستشراقية في المحاولات السابقة لإعادة بناء العلوم القديمة «من العقيدة إلى الثورة» و«من النقل إلى الإبداع» و«من النص إلى الواقع» فإنه تم استبعادها أيضًا في هذه المحاولة الرابعة «من الفناء إلى البقاء» لأن الاستشراق ليس دراسة لموضوع بل هو موضوع لدراسة. يحتاج إلى مراجعات طويلة للأحكام والتصورات والمناهج المستعملة فيه مما يحتاج إلى جهدٍ شاق ومسحٍ كامل.٣٣ ويمكن أن يكون ذلك موضوعًا لعديد من الرسائل الجامعية في الجامعات العربية. قد تفيد في القراءة الأولية للإحاطة بالموضوع، ولكن لا يمكن الاعتماد على أحكامها ونتائجها. وهي في النهاية نوع من الدراسات الثانوية التي تسودها النزعة العلمية كما تسود الدراسات العربية النزعة الخطابية.٣٤
(د) الأسلوب: والأسلوب المتبع هو الأسلوب الإنساني المباشر خارج المصطلحات والتحليلات النظرية المعقدة. فالتصوف تجربة إنسانية تعبر عن نفسها ببساطة ووضوح، قبل أن تكون تحليلات نظرية خالصة أو شطحات أو إشارات أو رموز. وإذا كانت الغاية إعادة بناء التصوف كثقافة شعبية موروثة، من خلال الأفعال العامية من أجل إعادة بناء الثقافة الوطنية، فإن ذلك يتحقق بالأسلوب المباشر بعيدًا عن الإغراق في التنظير حتى لو تعلق الأمر بالتصوف الفلسفي. فليس العلم هو شكل الخطاب بل مضمون الخطاب.

وقد استعمل الصوفية أنفسهم النثر والشعر للتعبير عن مواجيدهم. كما استعملوا كل فنون الكلام من تصريح وكناية وإشارة ورمز وإيماء وإيحاء، خاصة في التصوف النفسي. وكبار الصوفية هم كبار الشعراء، وكبار الشعراء هم كبار الصوفية مثل ابن الفارض.

وهذا لا يعني أي تنازل عن الأسلوب العلمي الدقيق، بل هو السهل الممتنع الذي يجمع بين الدقة والتوجيه، بين التحليل النظري والتوجه العملي. يخاطب الخاصة والعامة في آنٍ واحد. هو نوع من الدراسات الوطنية التي تجمع في نفس الوقت بين هموم العلم والوطن، وهو ما اتبع من قبل في أجزاء مشروع «التراث والتجديد» الثلاثة السابقة.

(٣) السمات العامة للتصوف

وكما أن لكل علم سماته العامة كذلك للتصوف سماته العامة.٣٥ قد يشارك في بعضها علم أصول الفقه.

(أ) التصوف علم عملي مثل علم أصول الفقه: غايته تحويل الناس من النظر إلى العمل عن طريق الرياضة والمجاهدة. ليس علمًا تأمليًّا أو منطقيًّا بل هو علم يهدف إلى تغيير سلوك الناس. فالعلوم العقلية النقلية نوعان: علوم نظرية كأصول الدين وعلوم الحكمة، بالرغم من وجود الحكمة العملية، ولكنها حكمة عملية نظرية، وعلوم عملية وهي علم أصول الفقه وعلوم التصوف. وهو يعبر عن الموقف القرآني والكوجيتو العملي وَقُلِ اعْمَلُوا، وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ.

(ب) وهو علم منهجي مثل علم أصول الفقه: يتحول فيه المنهج إلى منهج حياة، وليس منهجًا عقليًّا للاستدلال. وهو منهج صاعد يقوم على التأويل من «أول» أي رجع إلى المصدر الأول، وليس منهجًا نازلًا يقوم على التنزيل كما هو الحال في علم أصول الفقه، استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها اليقينية. لهذا السبب نشأ صراع بين الفقهاء أنصار التنزيل والصوفية أنصار التأويل. في التصوف الحقيقة في السماء، وفي أصول الفقه الحقيقة في الأرض. والطريق إلى الله طريق أفقي صاعد، من الأخلاق إلى النفس إلى الميتافيزيقا، من علم الجوارح إلى علم القلوب إلى علم العقول، من وحدة الذات إلى وحدة الشهود إلى وحدة الوجود.

(ﺟ) وهو علم ذوقي: يعتمد على التجربة والمشاهدة العيانية وليس علمًا نظريًّا استدلاليًّا كما هو الحال في علوم الحكمة أو علمًا استنباطيًّا استقرائيًّا كما هو الحال في علم أصول الفقه. الصوفية أهل ذوق في مقابل المتكلمين والحكماء والأصوليين أهل النظر. ويتجلى الذوق في الحدس المباشر، في الكشف والمكاشفة، في العلم اللدُنِّي الذي يقذفه الله تعالى في القلب بلا تعب ولا نصب. في حين أن باقي العلوم الإسلامية علوم برهان واستدلال، مقدمات ونتائج. الذوق يقين والنظر شك. هو علم يقيني في مقابل العلوم الإسلامية الظنية حتى ولو كانت علومًا برهانية. الجدل هو علم اليقين. والحكمة عين اليقين. أما التصوف فهو حق اليقين. هو العلم الذي فتح آفاق الشعور والوجدان وتحليل الخبرات الحية وعالم الباطن، الذوق، والقلب، والروح، والخاطر. فالعالم شعوري، والعلم شعوري. الموضوع والمنهج شعوريان. لذلك ارتبط بالأدب خاصة التجربة الشعرية.

(د) وهو علم باطني يذهب إلى ما وراء الظاهر: الظاهر مجرد علامات أو إشارات على معانٍ باطنية. لذلك ارتبط التصوف بالنزعات الباطنية، كما فعل الغزالي في «المستظهري» أو «فضائح الباطنية»؛ لذلك نقده الفقهاء وأهل الظاهر. دوَّن بعض الصوفية تفاسير صوفية مثل الحلاج والتستري والقشيري وابن عربي وغيرهم. وبجانب التفاسير اللغوية والفقهية والفلسفية والكلامية والتاريخية هناك التفسير الصوفي. فالحقيقة لها ظاهر وباطن. المتكلمون والأصوليون والفقهاء يتعاملون مع الظاهر. والصوفية وحدهم يعكفون على الباطن. وقد أُنزل القرآن بنص حديث الرسول على سبعة أحرف. وقد حول الصوفية منطق الاشتباه عند الأصوليين: الحقيقة والمجاز، الظاهر والمؤول، المحكم والمتشابه، المجمل والمبين، المطلق والمقيد، العام والخاص، للآيات المتشابهة إلى منطق محكم للغة على الإطلاق، ثم التحول من اللغة إلى الوجود، من الاشتباه اللغوي إلى الاشتباه الوجودي.

(ﻫ) وهو علم حركي لا ثبات له: النفس متحركة، والعالم متحرك، والله كل يوم هو في شأن. ينتقل الصوفي من مقام إلى مقام، ومن حال إلى حال، ومن وحدة الذات إلى وحدة الشهود إلى وحدة الوجود، ومن حرف إلى حرف، من الحرف الأول إلى الحرف السابع. ينتقل من التنزيل إلى التأويل، ومن التأويل إلى التنزيل، من الخارج إلى الداخل، ومن الداخل إلى الخارج، من الأنا إلى الآخر، ومن الآخر إلى الأنا، من الله إلى العالم في الحلول، ومن العالم إلى الله في الاتحاد. والتوحيد حركة من وحدة الذات إلى وحدة الشهود إلى وحدة الوجود، رد فعل على التصور الثابت لله في نظرية الذات والصفات والأفعال والأسماء عند المتكلمين. والمقامات والأحوال في ارتقاء مستمر، من التوبة إلى الفناء.

(و) ويبدع التصوف عالمًا من صنع الخيال الخلَّاق بديلًا عن عالم الواقع الذي تم نفيه واستبعاده والتراجع عنه بعد أن أصبح عصيًّا على الطاعة، لا يمكن تغييره: عالم الخيال ميسور خلقه، يسهل اتباعه. وهو ليس من صنع الوهم بل هو حقيقة بديلة تصنعها الروح، وينسجها الخيال. هو عالم الأقطاب والأبدال، عالم الأرواح المتآلفة، عالم الملأ الأعلى. فالحقائق ليست في عالم الأعيان بل في عالم الأذهان بتعبير الفلاسفة. والحقائق العلوية من وضع الخيال. لذلك امتزجت التجربة الصوفية بالتجربة الأدبية الإبداعية لفنون القول خاصة الشعر ثم النثر ثم القصة. وقد يكون عالم الخيال أكثر واقعية من عالم الواقع. وقد يكون أكثر تأثيرًا من علم الأخلاق.

(ز) وهو علم إنساني يبدأ من «الإنسان الكامل» الإنسان الأخلاقي، وهو الإنسان المتعين: وينتهي أيضًا ﺑ «الإنسان الكامل» وهو الله كما هو الحال عند ابن عربي وعبد الكريم الجيلي الذي طالما غاب في علم أصول الدين لصالح الإنسان الكامل وحده، كما تجلى في نظرية الذات والصفات والأفعال والذي انقسم في علوم الحكمة إلى بدن ونفس، بدن في الطبيعيات، ونفس في الإلهيات. فإذا سئل: لماذا غاب مبحث الإنسان في تراثنا القديم؟ كانت الإجابة بل حضر بوضوح في التصوف.٣٦ ومن ثم لا تدعي حضارة واحدة فقط مثل الحضارة الأوروبية أنها هي الوحيدة صاحبة النزعة الإنسانية، في حين مثلها التصوف منذ إخوان الصفا حتى ابن عربي، وقد تكون أحد أسباب أزمة حقوق الإنسان في وجداننا المعاصر هو غيابه في التراث القديم وحضوره في التصوف كإنسان إلهي، وفي الأصول عليه واجبات أكثر مما عليه حقوق.٣٧

(٤) نشأة التصوف

(أ) لم ينشأ التصوف من مصدر فارسي أو هندي شرقًا أو يوناني أو مسيحي غربًا، نظرًا لعيوب منهج الأثر والتأثر.٣٨ فالثنائيات الفارسية طبيعة بشرية توجد في كل حضارة، في الأخلاق والتصوف. وإذا كان بعض الصوفية من أصل مجوسي فإن غيرهم ليسوا كذلك في مصر والشام والمغرب.٣٩
والفقر الهندي والحلول والاتحاد أيضًا في كل حضارة مستقلة عن الأخرى. ولا يعني أن بعض الصوفية من أصول هندية أن التصوف هندي. ولا يعني انتشاره في خراسان وتركستان أنه آسيوي، ودراسة البيروني عن الهند دراسة علمية تاريخية حضارية لا تعني تأثر التصوف الإسلامي بالهند. وإبراهيم بن أدهم هذا الأمير الذي تحوَّل إلى صوفي في كل حضارة، وليس متأثرًا بحياة بوذا. والفناء الصوفي حالة نفسية لا أثر فيها للنرفانا. ورسالة ابن سبعين «الرسالة النورية» التي بها ما يُشبه الأذكار الهندية متأخرة للغاية. وما أبعد المغرب عن المشرق!٤٠ والنحل الصوفية مثل نحلة أورفيوس وفيثاغورس موجودة في كل حضارة «واعرف نفسك بنفسك» لدى كل حكماء الشرق والغرب مع تغيير اتجاهها إلى أعلى مثل «من عرَف نفسه فقد عرَف ربه». والأفلاطونية المحدثة بها من تصوف الشرق وليست مصدر التصوف. هي معلولة وليست علة.٤١ والتصوف الفلسفي نهاية التصوف متأخر عن التصوف الأخلاقي بداية التصوف. والتصوف المسيحي يتبع طبيعة النفس البشرية والظروف النفسية والاجتماعية والسياسية للجماعة المسيحية مثل التصوف الإسلامي تمامًا دون أثر أو تأثر. وكان للعرب قبل الإسلام صلات مع كل الديانات والطوائف وليس فقط مع النصارى، والزهد في كل حضارة.٤٢ قد ينجح المستشرق في التعرف على العوامل المادية للظاهرة، ولكنه لا يعرف المحمول أي دلالة للظاهرة وما تمثله من قصد حضاري.

(ب) لم ينشأ التصوف نشأة داخلية من الكتاب والسنة باجتزاء بعض الآيات والأحاديث دون غيرها. وإلا أصبح الكتاب والسنة يمثلان نزعة دنيوية بآيات وأحاديث أخرى مجتزأة من سياقها. وفي كلتا الحالتين يرد الجزء إلى الكل. والتصوف رد فعل على الكلام والفلسفة وأصول الفقه والفقه وليس نابعًا منها. والطرق الصوفية ظاهرة اجتماعية في مجتمعات الفقر والوفرة على حد سواء، تعويضًا عن الفقر وإشباعًا للروح. وفي القرآن مجاهدة النفس وجهاد العدو على حد سواء، ومقامات مثل الصبر ورفض الصبر فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ على حد سواء، والتوكل والاعتماد على النفس، والرضا والغضب، وأحوال مثل الخوف والحزن ورفضها لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. والرضا بالتخلف والقعود مذموم رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ. وحياة الرسول بها تأمل وحرب، تهجد ويقظة، روح وجنس، عزلة وصحبة، عبادة ومعاملة، قوة وضعف، كمال إلهي ونقص بشري، حلم وغضب، تسامح وانتقام، رحمة وعدل، شفقة وعداوة، معاشرة واعتكاف، تواضع واعتزاز بالنفس، حياء وصراحة، فلا حياء في الدين، عطاء وتقتير على النفس، ولاية ومسكنة «اللهم أحيني مسكينًا، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين»، دعاء وفعل.

والصحابة مثله عاشوا حياة الإسلام في كليتها دون إيثار جانب على جانب. وكان الاقتداء في كل شيء في الزواج والحرب، وليس فقط في الحياة الروحية. والحياة الخلقية القائمة على التقوى واليقين والتواضع والمحبة والطهارة والزهد هي حياة خلقية وليست صوفية بالضرورة. ورؤية عمر عن بعد سارية في الشام معروف في علم النفس في تحليل قوى الإدراك، والتمكن قوة ذاتية وليس تدخل إرادة خارجية. ويتفاضل الصحابة في ميزان التعادل بين الحياة الروحية والحياة العملية، والصحابة في عصر ونحن في عصر آخر. والتاريخ يتغير. والتقليد ليس مصدرًا من مصادر العلم.

(ﺟ) لم ينشأ التصوف نشأة شيعية. فلا فرق بين التصوف السني والتصوف الشيعي. والتميز بينهما ينم عن بقايا طائفية وغربية أو استشراق من آثار التاريخ. كما أنه يهدف إلى رفض التصوف الشيعي الذي تغلب عليه نظريات الاتحاد والحلول دفاعًا عن التصوف السني عند الغزالي من أجل تحرير التصوف خاصة الغزالي للإبقاء على سلطته إبقاء على الوضع القائم، أيديولوجية السلطة للحاكم في «الاقتصاد في الاعتقاد»، وأيديولوجية الطاعة للمحكوم في «إحياء علوم الدين»، وتكفير فرق المعارضة في «المستظهري» أو «فضائح الباطنية»، وأخذ الحكم بالشوكة دون البيعة تبريرًا للانقلاب العسكري. ومن الطبيعي أن تكون هناك علاقة بين التصوف والتشيع. فقد نشأ كلاهما كحركة معارضة للحاكم الظالم. التصوف باسم أهل السنة، والتشيع باسم الإمام الغائب، الأول حركة علنية سنية، والثاني حركة سرية باطنية. وكلاهما حركة صامتة. الأولى في العاجل، والثانية في الآجل. الأولى في الحاضر، والثانية في المستقبل، الأولى في النفس، وهو الجهاد الأكبر، والثانية في الواقع والسياسة والدولة.

(د) إنما نشأ التصوف كتوجه نحو الآخرة كرد فعل على التكالب على الدنيا، والتقاتل على السلطة، وإراقة الدماء في الصراع السياسي على الخلافة في عصر الفتنة الكبرى. اغتصب الأمويون السلطة. وبايع الناس خوفًا وطمعًا. واستشهد الأئمة من آل البيت وفي مقدمتهم الحسين. واستحالت المقاومة. فآثر فريق العزلة والانشغال بالتجارة الحلال لأنه إذا اقتتل المسلمان فالقاتل والمقتول في النار. القاتل لأنه قاتل، والمقتول لأنه كان حريصًا على قتل صاحبه، والأعمال بالنيات. وآثر فريق ثالث اعتزال الدنيا برمتها، السياسة والتجارة، السلطة والثروة، والانشغال بإصلاح النفس بعد أن استعصى عليهم تغيير العالم. وحاولوا تطهير النفس من الرغبات والأهواء والدوافع والميول، والشهوات وحب الدنيا. وخلقوا بالخيال عالمًا بديلًا من الأقطاب والأبدال يعيشون فيه، مدينة روحية سماوية بدلًا من المدينة المادية الأرضية، مدينة يعيش فيها أهلها في محبة وألفة وسلام، وليست مدن الخلافة والإمارة التي يتقاتل عليها طلاب الدنيا وحب الجاه والمال والثروة. فالتصوف نشأ من الداخل وليس من الخارج. وهذا الداخل ليس الكتاب والسنة أي النص بل من الواقع الاجتماعي السياسي ورد الفعل عليه.

(ﻫ) كما نشأ التصوف كمنهج ذوقي وكرد فعل على العلوم العقلية التي جعلت العقل أساس النقل كالمعتزلة والفلاسفة. صحيح أن الوحي والعقل شيء واحد ولكن بإضافة الحدس والواقع؛ فالتصوف يعتمد على الكشف والحدس والرؤية المباشرة. ولا يكتفي بعلم اليقين عند المتكلمين، ولا بعين اليقين عند الفلاسفة، بل يذهب إلى حق اليقين. وفي كل حضارة الرومانسية رد فعل طبيعي على «الكلاسيكية»، أو الوجدانية والعاطفية رد طبيعي على العقلانية أو الصورية.

(ز) نشأ التصوف أيضًا كرد فعل على ثنائيات المتكلمين والفلاسفة وتقسيمات الأصوليين وتفريعاتهم. فقد وقع المتكلمون والفلاسفة باسم الدفاع عن التوحيد في ثنائية حادة: الخالق والمخلوق، الواحد والكثير، العلة والمعلول، الجوهر والعرض، القديم والحديث، الواجب والممكن التي تفصل بين الله والعالم. فحدث رد فعل عند الصوفية لرد الاعتبار للتوحيد في الحلول أو الاتحاد، وحدة الشهود أو وحدة الوجود بين الله والعالم، وبين الله والإنسان. الثنائية الأولى ظاهر، والتوحيد الثاني باطن.

١  «من العقيدة والثورة» إلى «النقل والإبداع»، «من النقل والإبداع» إلى «النص والواقع»، من النقل إلى الإبداع، مج١، ج١، ص٧–٢٠؛ «من النص إلى الواقع»، ج١، تكوين النص، ص٥–١٧.
٢  عُقدت هذه الندوة بالمجلس الأعلى للثقافة بعد أن تأجلت من يونيو ٢٠٠٦م إلى سبتمبر وغاب عنها الكثير من العلماء المرموقين، وحضر القليل من الزملاء خاصة من كلية دار العلوم وحقوق الإسكندرية، فلهم منا خالص التقدير.
٣  من النص إلى الواقع، ج١، تكوين النص، الفصل الرابع: تحريك البنية، ص٢٤٥–٣٤٣.
٤  على سبيل المثال «مقاصد الشريعة ومكارمها» لعلال الفاسي، و«تفعيل مقاصد الشريعة» لجمال الدين عطية.
٥  وهو المعنى الذي يناقشه محمد عابد الجابري في مقدمة «بنية العقل العربي»، محمد عابد الجابري: بنية العقل العربي، المركز الثقافي العربي، بيروت، ص١٩.
٦  من النص إلى الواقع، ج١، تكوين النص، رابعًا: البنية الثلاثية، ص٥٤–٦٨.
٧  من النقل إلى الإبداع، مج١، ص٤٠–٥٤، التدوين، مقدمة، رابعًا: مناهج الدراسة لعلوم الحكمة، (١) المنهج التاريخي والمنهج البنيوي، (٢) منهج التحليل المضمون.
٨  من نقد السند إلى نقد المتن، حصار الزمن، ج٣، ص٥٣–١٦٥.
٩  كانت ملاحظة جيتون على «ظاهريات التأويل» تضخم الوعي التاريخي على حساب الوعي العملي، والتناقص الكمِّي التدريجي، من الوعي التاريخي وهو الأضخم إلى الوعي النظري وهو المتوسط إلى الوعي العملي الذي هو الأصغر.
١٠  أصبح الآن الجزء الأول: التصوف تاريخ وعلم ينقسم إلى قسمين؛ الأول التصوف كتاريخ ويشمل ستة فصول: تشكل الوعي التاريخي، الوعي التاريخي الخالص، الوعي التاريخي الموضوعي، الوعي الموضوعي الوعي النظري، الوعي العملي، والثاني التصوف كعلم ويشمل أربعة فصول: تعريف التصوف، تصنيف العلوم، العلم الشعوري، العلم والعمل (وقد يحدث تعديل في اللحظة الأخيرة). وقد حدث التعديل بالفعل وأصبح عنوان الجزء الأول «الوعي الموضوعي» بدلًا من التصوف كتاريخ أو تاريخ التصوف، وعنوان الجزء الثاني «الوعي الذاتي» عن التصوف كعلم أو التجربة الصوفية. الأول في التاريخ، والثاني في البنية. ويشمل الجزء الأول أربعة أبواب: الوعي التاريخي، الوعي النظري، الوعي العملي، الوعي العلمي. ويضم الجزء الثاني أربعة أبواب: التصوف الخلقي، التصوف النفسي، التصوف الفلسفي، التصوف الطرفي.
١١  هذا أيضًا هو ما حدث في رسالتي الثانية لدكتوراه الدولة عندما وضعت مقدمة عن المنهج الظاهري لتطبيقه في تأويل العهد الجديد فأصبحت جزءًا بمفرده «تأويل الظاهريات»، والتطبيق «ظاهريات التأويل».
١٢  حدث هذا التطور وأنا في الرباط بالمغرب في الأيام الثقافية المصرية بالمغرب يوم ٢/ ٢/ ٢٠٠٧م كما جاءني حدس لبنية الوعي الثلاثية في «مناهج التأويل» في علم أصول الفقه في الرسالة الأولي في أكتوبر ١٩٥٦م وأنا في باريس.
١٣  وهذا ما فعله أحد تلاميذ توينبي في تلخيص «دراسات في التاريخ» للأستاذ سومرفيل (تسعة أجزاء) في مجلد واحد.
١٤  وقد كان العنوان الأول لمحاولة إعادة علم الكلام «من العقيدة إلى الثورة»، علم الإنسان المحاولة الثانية لإعادة بناء علوم الحكمة «من النقل إلى الإبداع» والعنوان الثاني فلسفة الحضارة، والعنوان الأول للمحاولة الثالثة لإعادة بناء علوم أصول الفقه «من النص إلى الواقع»، «المنهج الأصولي»، التراث والتجديد، ص٢٠٦، ٢٠٩.
١٥  وهو الشعار الذي تصدَّر كتاب «إقبال فيلسوف الذاتية» والصادر في دار المدار الإسلامي، بيروت، ٢٠٠٩م.
بروحي للحياة مع الفناء
صراع، لا أرى غير البقاء
١٦  وقد استعمل الوعي الأوروبي لفظ «جديد» مثل «الآلة الجديدة» ﻟ «فرنسيس بيكون» و«العلوم الجديدة» ﻟ «نيوتن وفيكو». واستعمل هوسرل نفس الأسلوب في المنطق «من المنطق الصوري إلى المنطق الترنسندنتالي».
١٧  وقد أدرك هذه المراحل من قبل مصطفى حلمي في «الحياة الروحية في الإسلام» وسار على أثره أبو الوفا التفتازاني في «المدخل إلى التصوف الإسلامي». وأصبحت حقيقة تاريخية مسلَّمًا بها عند دارسي التصوف ومؤرخيه.
١٨  انظر كتابنا: محمد إقبال: فيلسوف الذاتية، دار المدار الإسلامي، بيروت، ٢٠٠٩م.
١٩  «من العقيدة إلى الثورة»، ج١، المقدمات النظرية، الفصل الثاني: بناء العلم، ص١٤١–٢٢٧.
٢٠  «من النقل إلى الإبداع»، مج١، النقل، ج١، التدوين، رابعًا: مناهج الدراسة لعلوم الحكمة، ص٤٠–٥٤.
٢١  «من النص إلى الواقع»، المقدمة، ثانيًا: السمات والمنهج، كيف يمكن دراسة علم أصول الفقه؟ (ص٢٤–٢٩).
٢٤  «من العقيدة إلى الثورة»، ج١، المقدمات النظرية، خامسًا، منهجه، ص١٠٠–١١٣؛ «من النقل إلى الإبداع»، ج١، النقل، رابعًا: مناهج الدراسة لعلوم الحكمة، ص٤٠–٥٤؛ «من النص إلى الواقع»، ج١، تكوين النص، ثانيًا: السمات والمنهج، كيف يمكن دراسة علم أصول الفقه؟ ص٢٤–٢٧.
٢٥  من النقل إلى الإبداع، مج١، النقل، ج١، التدوين، مقدمة، رابعًا: مناهج الدراسة لعلوم الحكمة، منهج تحليل المضمون، ص٤٥–٥٤.
٢٦  أحمد بن عاصم الأنطاكي، طبقات الصوفية، ص١٣٨–١٤٥، أبو تراب النخشبي السابق، ص١٤٩.
٢٧  وهو المنهج الذي سميناه في رسالتنا الأولى «مناهج التأويل»، النقل الحضاري La Transposition انظر Les méthodes d’ Exégése, pp. LXXIX- CLXXIX.
٢٨  بدأت الكتاب بحوالي مائتي نص ووصلت حاليًّا إلى ثلاثمائة. ويمكن أن تزيد بمزيد من تحليل ما تبقى من أعمال.
٢٩  من النص إلى الواقع، ج٢، بنية النص، ص٣٩١–٤٠١.
٣٠  مثال ذلك «رابعة العدوية»، «شطحات الصوفية» لعبد الرحمن بدوي.
٣١  من العقيدة إلى الثورة، ج١، المقدمات النظرية، الفصل الثاني: بناء العلم، سادسًا: المصنفات القديمة، ص٢٠٣–٢٢٧، من النقل إلى الإبداع، مج١، النقل، ج١، التدوين، مقدمة، سادسًا: المصادر والمراجع.
٣٢  مثال هذه الدراسة: التأويل عند ابن عربي، لنصر حامد أبو زيد، الخيال الخلَّاق لكوربان، الخيال الخلَّاق لأوزتسو. من العقيدة إلى الثورة، ج١، المقدمات النظرية، الفصل الثاني: بناء العلم، سادسًا: المصنفات القديمة، ص٢٠٣–٢٢٧، من النقل إلى الإبداع، مج١، النقل، ج١، التدوين، مقدمة، سادسًا: المصادر والمراجع.
٣٣  من العقيدة إلى الثورة، ج١، المقدمات النظرية، الفصل الثاني: بناء العلم، سادسًا: خاتمة، المصنفات القديمة، ص٢٠٣–٢٢٧. من النقل إلى الإبداع، مج١، النقل، ج١، التدوين، مقدمة، سادسًا: المصادر والمراجع، ص٦٣–٧٦. من النص إلى الواقع، ج١، تكوين النص، المقدمة، ثالثًا: أنواع المصنفات، (٣) الدراسات الثانوية، ص٣٦-٣٧.
٣٤  التراث والتجديد، ثالثًا: أزمة المناهج في الدراسات الإسلامية، ص٧٥–١٢١.
٣٥  من النص إلى الواقع، ج١، تكوين النص، المقدمة، ثانيًا: السمات والمنهج، (١) السمات العامة لعلم أصول الفقه، ص١٨–٢٣.
٣٦  أبو بكر عبد الله بن شاهاور الرازي: منارات السائرين ومقامات الطائرين، الباب الخامس: في مقام الإنسان، الباب السادس: في مقام الخلافة المختصة بالإنسان، المقام السابع: في مقامات الإنسان عند رجوعه إلى ربه، ص٢٢٩–٢٩٢.
٣٧  انظر بحثنا: لماذا غاب مبحث الإنسان في تراثنا القديم؟ دراسات إسلامية، ص٣٩٣–٤١٥.
٣٨  التراث والتجديد، ص١٠٢–١١٠.
٣٩  هذا هو رأي تولك Thoulk لأن بعض الصوفية كانوا من المجوس، ويشاركه دوزي Douzy الرأي.
٤٠  هذا هو رأي هورتن وهارتمان.
٤١  هذا هو رأي نيكلسون.
٤٢  هذا هو رأي فون كريمر Krämer Von وجولد زيهر Goldizieher ونيكلسون Nicholson وآسين بلاثيوس Asin Palacios وأوليري O’Leary وأبو الوفا التفتازاني: المدخل إلى التصوف الإسلامي، ص٢٩–٤٠، مصطفى حلمي: الحياة الروحية في الإسلام، ص١٣–١٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤