يتم تصنيف
العلوم طبقًا للموضوع: علوم شرعية وعلوم غير شرعية
أو طبقًا للمنهج: علوم نقلية وعلوم عقلية، علوم
عقلية وعلوم قلبية أو طبقًا للتاريخ، علوم السلف
وعلوم الخلف، أو طبقًا للعقائد، علوم الدنيا وعلوم
الآخرة. وقد يجمع التصنيف بين الموضوع والمنهج في
قسمة العلوم إلى علم العقل وعلم الأحوال علم
الأسرار، علم الظاهر وعلم الباطن، علم التنزيل وعلم
التأويل. وبالرغم من كل هذه التقسيمات الثنائية أو
الثلاثية للعلوم إلا أنها تنتهي كلها إلى أن العلم
علم واحد، وهو العلم الإلهي. ويقال العلم والمعرفة
على التبادل ولكن الغالب هو العلم فقسمة المعرفة
إلى نقلية وعقلية هي نفسها قسمة العلم.
وتسير هذه التصنيفات الثنائية طبقًا لنسق واحد.
وفي الحقيقة هي قسمة واحدة متكررة في أشكال متعددة.
فعلوم الشرع والنقل والعقل والظاهر والتنزيل والسلف
والدنيا علم واحد. والعلوم غير الشرعية هي علوم
القلب والتجربة والباطن والتأويل وعلوم الخلف وعلوم
الآخرة وعلم الأحوال والأسرار. وفي النهاية هذه
الثنائيات هي الظاهر. وباطنها وحدانية العلم الذي
لا تمييز فيه بين شرع ولا شرع. بين نقل وقلب، عقل
وتجربة، ظاهر وباطن، تنزيل وتأويل، سلف وخلف، دنيا
وآخرة، أحوال وأسرار.
(١) العلوم شرعية أو غير شرعية١
وتنقسم العلوم إلى شرعية أو غير شرعية.
٢ الشرعية من الأنبياء والدين لا
تستند إلى العقل مثل الحساب، ولا التجربة مثل
الطب، ولا السماع مثل اللغة. والعلوم غير
الشرعية تنقسم إلى محمود ومذموم ومباح. المحمود
مرتبط بمصالح الدنيا كالطب والحساب. والمذموم
كالسحر والطلسمات والشعوذة والتلبيسات. والمباح
كالشعر والتاريخ دون إسفاف.
وقد يتداخل الكم مع الكيف في تحديد المحمود
والمذموم. وبالتالي يكون العلم ثلاثة أقسام:
الأول مذموم قليله وكثيره وهو ما لا نفع فيه.
والثاني محمود قليله وكثيره مثل العلم بالله،
صفاته وأفعاله، ومثل العلم بالكتاب والسنة.
والثالث يحمد الكفاية، ويذم الفضل.
٣
ويذم العلم لأسباب ثلاثة: أن يؤدي إلى ضرر
لصاحبه أو لغيره مثل علم السحر والطلسمات وهو
مذكور في القرآن، وأن يكون مضرًّا بصاحبه في
الغالب كعلم النجوم الحسابي أو أحكام النجوم
التي يستدل بها على الحوادث والأسباب مثل طب
الأبدان. وهو مضر بالخلق، تخمين خالص، لا فائدة منه.
٤
وينقسم المحمود إلى فرض كفاية وفرض عين أي
فضيلة. فرض الكفاية هو الضروري الذي لا يمكن
الاستغناء عنه كالطب للأبدان والحساب للصناعات،
والفلاحة والحياكة والسياسة والحجامة والخياطة.
٥
والعلوم الشرعية محمودة كلها. ولها أصول
وفروع ومقدمات ومتممات. والأصول أربعة: الكتاب
والسنة والإجماع وآثار الصحابة دون القياس.
والفرع ما فهم من هذه الأصول بموجب معانيها
وليس ألفاظها. منها ما يتعلق بمصالح الدنيا وهو
الفقه، ومنها ما يتعلق بأمور الآخرة مثل كتاب
«الإحياء». والمقدمات هي علوم الآلات والوسائل
كاللغة والنحو والكتابة والخط. والمتممات مثل
ما يتعلق باللفظ في علوم القرآن وهي القراءات،
وإلى ما يتعلق بالمعنى مثل التفسير واعتماده
على نقل اللغة، وإلى ما يتعلق بالأحكام مثل
الناسخ والمنسوخ والعام والخاص والنص والظاهر،
وهو علم أصول الفقه. والمتممات في الأخبار
والآثار مثل العلم بالرجال والجرح والتعديل
وعلم مصطلح الحديث لضبط الرواية.
والعلم المحمود هو الكلام عند المتكلمين فهو
علم التوحيد. وعند الفقهاء هو الفقه لمعرفة
العبادات والحلال والحرام في المعاملات. وعند
المفسرين والمحدثين هو علم الكتاب والسنة أساس
العلوم كلها مثل حديث أركان الإسلام الخمسة.
٦ وعند الصوفية هو علم التصوف، علم
المقامات والأحوال. هو العلم بالإخلاص وآفات
النفوس. هو علم الباطن. هو علم المعاملة التي
كلف بها العاقل. وهي ثلاثة: اعتقاد وفعل وترك.
الاعتقاد مثل الشهادتين تقليدًا عند العامة،
وبرهانًا عند الخاصة.
والفقه أشرف من الطب لأنه علم شرعي مستفاد من
النبوة في حين أن الطب علم إنساني خالص. هو علم
للجميع في حين أن الطب علم للمرضى وحدهم. وهو
مجاور لعلم الآخرة لأن أعمال الجوارح لصيقة
بأعمال القلوب.
٧ والفقهاء والمتكلمون مثل الخلفاء
والقضاة والعلماء. فالعلم علمان: علم الأمراء
وعلم المتقين. علم الأمراء هو علم القضاء. وعلم
المتقين هو علم اليقين والمعرفة.
٨ ولا يفتي إلا ثلاثة: أمير أو مأمور
أو متكلف. الأمير هو الإمام العالم. والمأمور
هو صاحب منصب الفتيا. والمتكلف هو العالم
بالقصص وعبر التاريخ. يمثل الأمير الوعي العلمي
السياسي، والمفتي الوعي العلمي الاجتماعي،
والقاضي الوعي العلمي التاريخي.
٩ وأحيانًا يتفق الفقهاء والصوفية في
تصنيف العلم. فالعلم علمان: علم الأديان وعلم
الأبدان كما قال الشافعي. علم الأديان علم
الحقائق والمعارف. وعلم الأبدان علم السياسات
والرياضيات والمجاهدات.
١٠
والعلم علمان: علم الأمراء وعلم المتقين.
الأول علم القضايا، والثاني علم اليقين
والمعرفة. والقضاء ثلاثة: قاضي يقضي بالحق وهو
يعلم، فهو في الجنة. وآخر يقضي بالجور وهو
يعلم، فهو في النار. وقاضي يقضي بالجور وهو لا
يعلم، فهو أيضًا في النار. وماذا عن القاضي
الذي يقضي بالحق وهو لا يعلم؟
ويمكن إدخال علوم التصوف ضمن منظومة العلوم
الشرعية. والنظرة الكلية للعلوم أو بما يسمي
«تقسيم» العلوم أو «إحصاء» العلوم أو «تصنيف»
العلوم هي القادرة على تحديد ميدان كل علم
وغايته. فعلوم الشريعة أربعة أقسام:
(أ) علم الرواية والآثار والأخبار، ينقله
الثقات عن الثقات. مثل علم الحديث.
(ب) علم الدراية، وهو علم الفقه والأحكام
المتداول بين العلماء والفقهاء والذي يعتمد على
الاستنباط وإعمال العقل والمصلحة.
(ﺟ) علم القياس والنظر والاحتجاج على
المخالفين، وهو علم الجدل لإثبات الحجة على أهل
البدع والضلالة لنصرة الدين مثل علم
الكلام.
(د)
علم الحقائق والمنازلات، علم المعاملة
والمجاهدات، والإخلاص في الطاعات والتوجه إلى
الله من جميع الجهات والانقطاع إليه في جميع
الأوقات، وصحة المقصود والإرادات، وتصفية
السرائر من الآفات، وإدانة النفوس بالمخالفات،
والصدق في الأحوال والمقامات وحسن الأدب في
السر والعلانية، والإعراض عن الدنيا، والوصول
إلى الكرامات والاكتفاء بخلق السموات. وهو أعلى
مراتب العلوم. وكل علم مسئول عن أخطائه يصححه أهله.
١١
(٢) العلوم نقلية أو قلبية
العلوم نوعان: نقلية من ميت عن ميت، وقلبية
من الحي الذي لا يموت. الأولى المعارف النقلية
كالقرآن والحديث والتفسير والسيرة والفقه.
والثانية المعارف الذوقية كالتصوف.
١٢ الأولى ينقلها الناس والثانية ينهل
منها الصوفية.
١٣ وقد خصت الأمة بثلاثة علوم:
الإسناد، حفظ الكتاب، وعلم الإيمان، وثباته في القلوب.
١٤ العلمان الأولان نقليان. والثالث
علم قلبي. وفي تصنيف آخر خصت الأمة الإسلامية
بأربعة علوم: الإسناد، وحفظ الكتاب، وشيوع
العلم عند كل الناس وليست عند طبقة معينة مثل
الأحبار والقسيسين، وثبات الإيمان في القلوب ضد
الشك والظن. يحسن العلم بالرواية لمن يطلب. أما
طلب العلم للتزين به عند الخلق فإنه يبعد عن الرسول.
١٥ والعالم الذي يكون علمه من الله،
يأخذ عنه ما يشاء كيف يشاء بلا تحفظ ولا كتب.
١٦ ويرخص في النقل بالمعنى واستعمال
المرسل والمقطوع لأنها ليست باطلة يقينًا وغير
مخالفة للكتاب، وحسن الظن أحد مراتب اليقين،
والأخذ بالضعيف دون الرأي والقياس.
١٧
ولا تأتي المعرفة من العلم المدون بل
بالتجربة مثل الشك. فإذا ابتدأ الإنسان بالشك
كتب الحديث فتر. وإذا ابتدأ بكتب الحديث ثم
تنسك نفذ.
١٨ لا يستمد العلم من بطون الكتب ولا
من أقوال المتقدمين بل من الأحوال النفسية.
فالعلم حالة شعوره.
١٩ ليس العلم بكثرة الرواية. إنما
العالم من اتبع العلم واستعمله واقتدى بالسنن
وإن كان قليل العلم.
٢٠ فالعلم ليس نقلًا بل ممارسة. كانت
المعرفة في القلوب ثم صارت في الكتب.
٢١ وليس الخبر كالمعاينة.
٢٢
ما كتب صحيح إلى صحيح، وما لقي صحيح صحيحا،
وما افترقا في الحقيقة.
٢٣ فالتدوين تدوين قلبي. المعرفة
غايتها الاتحاد. ومن عمل بعلم الرواية ورث علم
الدراية ثم علم الرعاية ثم هدي إلى سبيل الحق.
٢٤ فالعلم طريق من الرواية إلى
الدراية إلى الحق.
المعرفة مقامان: معرفه سمع ومعرفة عيان. الأولى
تصديق من الإيمان، والثانية مشاهدة عين اليقين.
وأعلى العلوم علم المشاهدة عن عين اليقين. وهو
علم المقربين. وأدناها علم التسليم والقبول دون
إنكار أو شك. وهو لعموم المؤمنين. علم الإيمان
والتصديق لأهل اليمين. وما بينهما مقامات.
٢٥ واليقين ثلاث مقامات: يقين معاينة
مطابق للخبر، وهو علم الصديقين والشهداء، ويقين
تصديق واستسلام للخبر، وهو يقين المؤمنين
الأبرار، ويقين ظن يقوي بدلائل العلم والخبر
وأقوال العلماء وهو يقين المتكلمين. والفلسفة
ليست علما. وهي أربعة أجزاء. الأول الهندسة
والحساب مباحان. والثاني المنطق وهو داخل في
علم الكلام. والثالث الإلهيات، وهي في النهاية
رأي قوم مثل الاعتزال يخطئ ويصيب. والرابع
الطبيعيات وأكثر الخطأ فيها وهي أقل فضلًا من الطب.
٢٦
والعلم الشفاهي غير المدون هو العلم القلبي
غير المكتوب، «عن ربي عن قلبي» وليس «من ميت عن
ميت». الأول علم الأحياء، والثاني علم الأموات.
٢٧ وتبدأ بعض المواقف بقرآن غير مباشر
مثل
مَنْ جَاءَ
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ
أَمْثَالِهَا،
وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا،
إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ
شَيْئًا. ثم يتحول التنزيل إلى تأويل،
والنص إلى تجربة حية، والعلم المدون عن طريق
اللغة إلى العلم المباشر عن طريق القلب.
٢٨ العلم المباشر رؤية، والعلم المدون
مكتوب. و«كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة».
٢٩ العلم كشف، والعبارة حجاب. العلم
تجل والعبارة ستر. لذلك كان الصمت أولى من
الكلام. ويعرف الحال من المستند. وإذا كان
المستند ذكري رد إلى الله.
٣٠ والعلم مباشر بين العالم والعلوم
ليس علما باللوح والقلم.
٣١ العلم حدسي، رؤية مباشرة، لا
يستطيعها الفهم. يلوح في الضمير وأدق من الفهم.
٣٢ وعندما يتكشف الحق، لا حاجة إلى
دليل نقلي وبرهان عقلي. يغني عن دليل القوم
والحدوث ودليل الصنعة والصانع. فالحديث لا يثبت
القديم. وهو نفس النقد الذي وجهه ابن رشد فيما
بعد لأدلة وجود الله عند الأشاعرة. الدليل من
الله وإلى الله ولله. هو دليل التفرد، دليل
وجود من يحبه.
٣٣
العلم المكتوب يولد السقم والضنى والملل. لا
يهيم في الفؤاد. في حين أن العلم الحي نتيجة
للبكاء الدائم الذي تجري به السفن كما هو الحال
عند الحسن البصري الذي كان يترك بركة من دموع
بعد السجود في الصلاة. هو نتيجة للتهجد وسهر الليالي.
٣٤ والرسائل المتبادلة بين العبد
والرب ليست رسائل مدونة بل رسائل روحية. والحب
المتبادل بين الحبيبين لا يحتاج إلى خطاب بل هو
حب روحي. وإذا أرسل الله القرآن كتابًا فإن رده
يكون بالروح.
٣٥
علم الصوفية يوجب إنكار كل علم مرسوم. وهو كل
علم معلول. وما بان شيء فيمتحي. ليس علمًا
مدونًا. وإن كشف فإنه يتحول إلى مدون ولا يكون
علمًا. كان العلم في الصدور فأصبح في كتاب مطمور.
٣٦ العلم يورث الخوف، والوجل،
والسكينة والطمأنينة على قدر أحوال الناس
مقاماتهم. وتصح الأحوال إذا كانت عن نتائج العلوم.
٣٧ فالعلم شعوري بين السلب كالخوف
والوجل والإيجاب مثل السكينة والطمأنينة. وما
فائدة علم لا يتخارج، ولا يتحول إلى معلوم
يستفيد منه الناس؟ «أعوذ بالله من علم لا
ينفع».
وبالرغم من تأكيد التصوف النفسي على العلم
والمعرفة إلا أن الأحوال النفسية تجب العلم.
٣٨ العلم تجربة ذاتية ونظر خاص
ومشاركة الآخرين فيها.
٣٩ وحجة القائل تقنع إن كان ما يؤيدها
في التحقيق. والسماع لا يفهم.
هناك ما يؤيده من وجد السامع.
٤٠ فالتجربة المشتركة هي عنصر التفاهم
بين القائل والسامع. لا يعرف النار إلا القداح،
والحزن إلا النواح.
٤١
ونموذج التدوين هو علم الحديث الذي يعتمد في
صدقه على السند. يعطي الحلاج سندًا آخر من
الطبيعة. فالطبيعة هي التي تحدث. والصوفي يسمع
صوت الطبيعة ويتلقى علومه منها. فلا السند ولا
المتن صحيحان تاريخيًّا ولكنهما دالان روحيًّا.
٤٢ وقد يروي الحديث عن الشأن والقلب
بعد السند وقبل المتن. ويعطي سبعة وعشرين
حديثًا جديدًا في السند والمتن. وقد تتفاوت
سلسلة الرواة من اثنين إلى سبعة.
٤٣ وقد يصل إلى الله وقد لا يصل. يكفي
الملأ الأعلى أو الطبيعة أو القلب أي السماء
والأرض والنفس وما بينهما. وقد يكون الحديث
مركبا من سندين أو ثلاث يبدأ كل منها بلفظ «حدثنا».
٤٤ وقد يرد حديثان بإسناد واحد.
٤٥ ولا فرق بين ظواهر الطبيعة وعوالم
الملأ الأعلى وعالم النفس والقلب والجوارح
ومعاني النص الديني، القرآن والحديث. فالواقع
والعقل والوحي شيء واحد. ولا يوجد تطابق ضرورة
بين الظواهر على مستوياتها الثلاثة. إذ كلها
تخضع لتأويلات متعددة. لذلك كثر الشراح بين
الحقيقة والمجاز.
وقد يكون السند من الأفراد مباشرة مثل الحسن
أو رمزًا مثل ساعة الساعات وهو آدم بجميع قوى
النفس مثل الإرادة، إرادة الصفات القائمة
بالذات القديمة، مع بعض الصفات الأخلاقية مثل
الإحسان، إحسان القدرة أو المعرفة.
٤٦ وقد تكون سلسلة الرواة من نظرية
المعرفة، من الإيمان المعروف إلى اليقين
الموجود عن العلم القديم.
٤٧ ومن الفهم المبين عن القرآن المجيد
عن محمد عن جبريل عن الله.
٤٨ وقد يكون السند من الاسم العزيز عن
الروح القديم عن المعنى المحيط عن الله.
٤٩ وتدخل الفطرة الساطعة كإحدى وسائل
المعرفة مع المعرفة الأصلية والكلمة العليا
وصنع المجيد.
٥٠ ويدخل الحق الأعلى، والجليل
الوحيد، والحدان، الركن والمقام، كوسائل علوية للمعرفة.
٥١ وقد يدخل القدم والغيب ضمن وسائل
المعرفة مثل روح الحياة ونور السمع والبصر.
٥٢ وقد تدخل السماء والأرض مع الفطرة
والقدرة والجلال.
٥٣
وقد تتدخل الملائكة في نظرية العلم مثل
«الملك الحكيم» كناية عن جبريل أو «الكروب
الكبير» كناية عن إسرافيل مع الرؤية الصادقة،
واللوح المحفوظ، والعلم. ومن ثم تكون الرواية
على مرحلتين، راو وهو «الرؤيا الصادقة» عن راو
آخر «الكروب الكبير».
٥٤ عن الطور عن ياقوت النور وهي الشمس
عن صاحب الميزان وهو إسرافيل. وقد وقع التجلي
في الطور، مع نور الشمس مع نور الوحي.
٥٥ وقد يرمز إلى قوى النفس بالملائكة
أو الملوك. فالمملوك البصير هو العقل الناطق أو
النفس المطمئنة أو الخيال المبصر. والملك هو
ملك الإلهام أو كشف الغيب. والملك الشاخص هو
الروح المقدسة المراقبة لمشاهدة الغيب. والمالك
المتدبر هو العقل الكلي أو الروح الكلية.
٥٦
وقد تكون حلقات السنة معرفية أخلاقية نصية
مثل الميثاق، والبرهان، ومجمع القرآن. والميثاق
ينزل على قلب العارف.
٥٧ وقد يكون السند من أبعاد الوجود
الإنساني مثل البلاء والنعمة، والقضاء والقدر
المتصل بالركن والعرش.
٥٨
وقد تتداخل العوالم العلوية في نظرية المعرفة
مثل سدرة المنتهى مع العقل الوجيه والحياة
الدائمة والروح المكنون. العقل هو العقل الفعال
عند الفلاسفة. وكلها ألفاظ معرفية لها دلالات
علوية عرشية.
٥٩ وقد تتداخل العوالم العلوية مع
وسائل المعرفة مثل الحكمة والكلمة. قوس الله
المشرقة بالأنوار عن المشارق، والبروج عن
القطب، وصاحب هبابة المراح عن المدبرات.
٦٠ وقد يكون السند كله من الملأ
الأعلى مثل بيت الله، وقوس الله، بيت الله
الوسيع. وبيت الله هو الكعبة أو كناية عن
القلب. وقوس الله قوس قزح، وقوس الحق أو قوس
القدر والقضاء أو قوس العلم أو قوس الأزل والأبد.
٦١ ورجب اسم الشهر واسم الله ولسان
شهادة الخير من الغيب، والعزة ملك العزة.
وخَادم البيت المعمور عيسى أو جبريل وصاحب
الستر الأقصى عزرائيل وميكائيل والسفير الأعلى إسرافيل.
٦٢
وقد يبدأ السند من علم المعادن مثل الياقوت
الأحمر، والضياء المخمر، والصورة الكائنة،
والشأن المشهود ثم يرجع إلى الله.
٦٣ وقد تكون كناية عن الطبيعة
فالياقوت الأحمر قرص الشمس أو عن القلب.
والضياء المخمر ضياء الكرسي أو العرش. والصورة
الكائنة آدم أو الروح أو العقل أو القضاء
والقدر. والشأن المشهود مراد الحق من الخلق أو
لوح العلم أو خبر الحق أو عالم الأمر.
٦٤ وقد يكون السند من مظاهر الطبيعة
وحدها: عن خضرة النبات وألوان الأنوار عن حياة
القوم. وقد تكون خضرة النبات كناية عن رياض
القلب وأنوار الغيب والتجلي. وحياة القدم هي
حياة النبات.
٦٥ وقد تكون مظاهر الطبيعة كلها من
«الآثار العلوية» بتعبير الفلاسفة أي الظواهر
الجغرافية، الظل والنور. إذ يتحدث الخلق أي
الكون عن الظل الممدود عن شاهد المعظم وهي
الشمس عن النور الفريد وهو الرسول.
٦٦ وترمز كل ظاهرة من الأنوار لعالم
روحاني في فريح الجنوب منها الأفق العلوي إلى
بحر الغيب في السماء السابق. وميم الخازن عين
ملك المحيط الذي يهب الفيض. وعقاد المن هو عاقد
فقار السموات والأرض أو عقد ذنب أو برج العقرب
أو حلقات ذوائب المالك أو أكتاف إسرافيل.
٦٧ وقد يتداخل الملك اللطيف مع مظاهر
الطبيعة مثل السحاب المتراكم، والبرق الخاطف،
والرعد المقدس، والقوة المحمية بالغيب المنهمر
في أفق النور بين الشمس والقمر، والملك. اللطيف
هو الذي بيده خزائن المطر. وقد تكون هذه
الظواهر الجغرافية ملائكة. وقد يكون ذلك كله
كناية عن عالم القلب.
٦٨ وقد تتداخل مظاهر الطبيعة بين
الأرض والسماء، الأرض مثل السجنج وهي صحراء
المشرق أو أرض عرفات أو أرض مكة أو الوادي
المقدس أو كناية عن القلب أو الصدر، والقدس
وعدن المعبود. وقد تكون الكعبة أو زوار قوائم
العرش والسماء مثل الفردوس الأعلى، والقبة
الأزلية فوق العرش.
٦٩
وقد تتداخل جميع أنواع الرواة مثل الهلال
اليماني، وهو قمر يظهر في الآخرة أو الكعبة أو
الحكمة اليمانية أو أويس القرني أو النور بين
عيني جبريل، عن الطائر الميمون هدهد سليمان،
وحيدرة الملك أسد الملك أو العرش أو الثريا، عن
نشر التشوب وهو نشور القدم، عن النور الثابت
وهو نور الإيمان، عن لسان الغيب اللطيف وهو
الإلهام أو حكمة القلب.
٧٠
وقد يكون الرواة من الزمان والبروج مع تحديد
السنوات. فالميزان هو برج الميزان عام ٢٧٠.
والعصر لسان الدهر أو الغيب.
٧١ وقد يتداخل الزمان مثل الجمعة في
الأشخاص مثل آدم مع رواد الكعبة وشهود الحق.
٧٢ وقد يتداخل الزمان كتاريخ، العصر
الماضي مع الأمر والمالك.
٧٣
وينقسم المتن إلى نوعين: مباشر وهو القول عن
الله عز وجل، وغير مباشر أقرب إلى الخبر أو
رواية الفعل. وهو نوع من الوضع بالمعنى، «ما
رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن» وليس فقط
نقلًا بالمعنى.
ويتضمن المتن الموضوعات الصوفية المعروفة
دونما حاجة إلى تغيير السند مثل التعارض بين
الشريعة والحقيقة، الظاهر والباطن، الدنيا
والآخرة والمحبة. وكلها متون عرفانية لا شأن
لها بالحياة العملية، وهي الغاية من الحديث
كمصدر ثان للوحي.
(٣) العلوم عقلية أو تجريبية
يطلب العلم بثلاثة مناهج: طريق الاستدلال
والاعتبار، وطريق البحث والنظر، وهو جزء من
المنهج الأول، وطريق التوقيف والأثر وهو العلم
النقلي الذي يعتمد على الرواية. وهي القسمة
السابقة للعلوم بين العلوم العقلية والعلوم
النقلية. كما يتبع العلم طرقا أخرى مثل: طريقة
الجدل التي استعملها المتكلمون، وطريق تحليل
العلل الذي استعمله الأصوليون، وطريق الذوق
والكشف والإلهام وهو طريق الصوفية، طريق الحدس.
لذلك تنقسم العلوم إلى عقلية وقلبية، برهانية
وكشفية، نظرية وذوقية.
وتعتمد هذه
القسمة الثانية على منهجين سابقين: منهج الوقوف
والتسليم وهو أشبه بتوقيف الحكم انتظارًا لمنهج
أفضل. ومنهج إعلان العجز والتقصير وترك ذلك
لتقدم المعارف، انتظارًا للفرج الرباني.
٧٤
واستقراء كرام الأصول يؤدي إلى مكارم الأخلاق
مثل إحسان المحسن والتجاوز عن المسيء، والعفو
عن الزلة، وإقالة العثرة، وقبول المعذرة،
والصفح عن الجاني، ومثل هذا من مكارم الأخلاق.
٧٥ والحكم غير التجربة. والوصف غير المغازلة.
٧٦ وهي نفس قسمة العلم إلى علمين: علم
العلماء والعلم التجريبي. الأول يقوم على
النظر. والثاني على الذوق. الأول مكتسب والثاني
مطبوع. الأول خارجي، والثاني داخلي.
٧٧ فالعلم مخاطبة بالقلب ثم مشافهة باللسان.
٧٨ وقلوب العارفين ترى ما لا يراه
الناظرون. وتناجي الألسنة بأسرار تغيب عن
الكرام الكاتبين وهم ملائكة يورث الشراب علوم
الغيب
وتتجاوز علوم القدماء. وعليها شواهد ضد كل
منكر. هو علم الخاصة الذين أخلصوا في السر حتى
وصلوا إليه.
٧٩
وبدلًا من قسمة العلم أو المعرفة تقسم
المشاهدة. فالمشاهدة مقامان: مشاهدة الاستدلال،
ومشاهدة الدليل. مشاهدة الاستدلال قبل المعرفة
من الخبر أي السمع ومشاهدة الدليل بعد المعرفة
أي العيان. أولى العلوم علم المشاهدة عن عين
اليقين. وهو علم المقربين. وأدناها علم التسليم
والقبول دون إنكار أو شك وهو لعموم المؤمنين.
علم الإيمان والتصديق لأهل اليمين وما بينهما مقامات
٨٠ لا يأتي علم الإيمان واليقين نتيجة
الذهن وثمرة العقل بل عن طريق المشاهدة
والتحقيق وإلا وقع في الشرك والنفاق. وعلم
التوحيد والصفات لا خلاف عليه. والخلاف فيه
بدعة لا تغتفر على عكس أخطاء علوم الظاهر
٨١ وهو على عكس العلماء ورثة الأنبياء
٨٢
وقد تنقسم المعرفة إلى كسبية وإلهامية. إذ
تأتي المعرفة من مصدرين من عين الجود، ومن بذل
المجهود. الأولى إلهام، والثانية اكتساب. وهو
نفس التمييز بين الحال والمقام
٨٣ والعلم علمان: ما جاء من فوق
إلهاما من غير تعلم، وما جاء من تحت مثل علم
الكلام. الأول إيمان، والثاني زندقة
٨٤ الإلهام علم يغدق في القلب بلا
تعلم أو كسب مثل بوادي وخواطر النفس عند
الصوفية، والحدس عند الفلاسفة. ويتطلب الاهتمام
الذي يتحول إلى هم وحصر، وعيا يقظا قادرًا على الاستقبال
٨٥ وهو إبداعي في صياغاته وأشكاله
الأدبية. الروح إلهام، وأشكال التعبير عنها إبداع.
٨٦
ومع ذلك قد تنهار بعض العلوم. فهناك أربعة
علوم: الديانة، والطب، والنجوم، والكيمياء.
ولكل منها آفة. آفة الديانة الكلام في القدر.
وآفة الطب التجربة. وآفة النجوم الحكم. وآفة
الكيمياء التعرض والإظهار على النفس
٨٧ وآفة الفلك علم أحكام النجوم. وآفة
الكيمياء السحر وكشف بواطن الأمور.
وقد بدلت ألفاظ خمسة من العلوم وتغير قصدها
مثل الفقه والعلم والتوحيد والتذكير والحكمة.
تخصص الفقه بالفروع الغريبة في الفتاوى
وتفصيلاتها. وكان يطلق العلم على الله وأفعاله
وآياته. ثم تحول إلى جدال مع الخصوم في مسائل
خلافية. تحول علم التوحيد إلى صناعة الكلام
والجدل مع الخصوم. وتحول الذكر والتذكير إلى
«ما نرى الوعاظ في هذا الزمان». وهو القصص
والأشعار والشطح والطامات والقصص، وليس التذكير
بالموت والآخرة وعيوب النفس وآفات الأعمال.
وشطحات الصوفية دعوات عريضة في العشق الإلهي
حتى ادعاء الاتحاد وارتفاع الحجاب والوصول إلى
الرؤية والمشاهدة والمشافهة كما حدث للحلاج
والبسطامي. وهي أيضًا كلمات غير مفهومة يدل
ظاهرها على غير باطنها. وأطلق لفظ الحكيم على
الطبيب والشاعر والمنجم.
٨٨
وظهر علم الخلاف وأقبل الناس عليه لتشعب
المسائل بعد عصر النبوة والخلافة الأولى،
واحتياج الناس إلى الفقهاء والمتكلمين لاستنباط
الأحكام والدفاع عن العقيدة
٨٩ وتشبيه هذه المناظرات بمشاورات
الصحابة ومفاوضات السلف مجرد تلبيس، دافعه
الخصومة وليس مصالح الأمة. اشتغل الأوائل
بالعلم لأنه من فروض الكفايات وليس الأعيان.
ولا يوجد فرض كفاية أهم من المناظرة. ويفتي
الناظر برأيه لا بمذهب فقهي معين وإلا كان
تحزبًا. ولا يناظر إلا في مسألة واقعة أو قريبة
الوقوع. وتكون المناظرة في الخلوة وليس في
المحافل وأمام الأكابر والسلاطين، بغيا للشهرة
والحظوة. ويطلب الحق بصرف النظر عن مظهره هو أو
غيره من الخصوم. ويجوز الانتقال من نظر إلى
نظر، ومن دليل إلى دليل، ومن إشكال إلى إشكال
والرجوع إلى الحق. وأخيرًا يناظر من هو أهل
المناظرة من العلماء الفحول لإظهار الحق وليس
للعراك مع الصغار والانتصار عليهم
٩٠ تهدف المناظرة إلى إفحام الخصوم
وإظهار الفضل والشرف والبراعة والبطولة بقصد
المباهاة والمماراة واستحسان الناس واستمالتهم.
تقوم على العجب والكبر من ناحية وعلى الحسد
والمراءاة من ناحية أخرى، تزكية النفس والتقليل
من الآخر. يتتبع الناظر عورات الخصوم ليشهر به،
ويشخص الموضوع. كما يقوم على الاستكبار والعناد
والغضب والبغضاء وحب المال والجاه
٩١ والحذر من المراء في القرآن.
والمراء هو الجدل. والحذر أيضًا من الجدال في
الدين، والكلام في التحديد أي في المنطق وقضايا
الحد والتعريف
٩٢ فالعقل والمحاجة والتصورات ليست
طريقا. والجدل ليس علمًا. والكلام الناشئ عنه
ليس علمًا لأنه يقوم على الخصومة.
٩٣
ولا ينظر إلى صحة العقائد من جهة علم الكلام.
يكفي إيمان العوام وسلامة الفطرة، والبعد عن
الخصومات، ومعرفة الحق دون تأويل يخطئ ويصيب،
ويناقض ظاهر الشرع. العلم عن طريق التواتر
والقطع على المعلوم
٩٤ يكفي القرآن كدليل وصحة الألفاظ
كبرهان. وهو نفس موقف الغزالي في «إلجام العوام
عن علم الكلام» «والمضنون به على غير أهله».
تكفي الشريعة لسلوك الناس. وهو طريق الأنبياء.
وهي غير عقيدة أهل الكشف والوجود. ليس أمام
العوام إلا التقليد
٩٥ وقد اجتمع أربعة من العلماء، مغربي
لديه العلم بالحامل القائم، ومشرقي لديه علم
بالحامل المحمول اللازم، وشامي لديه علم
الإبداع والتركيب، ويمني لديه علم التلخيص
والترتيب. وهي الاتجاهات الأربعة مما يوحي
بتعددية المنظور في العلم.
٩٦
واعتقاد أهل الاختصاص بالنظر والكشف. ولا
يفترق كثيرًا عن علم الكلام الأشعري فيما يتعلق
بنظرية المعرفة، وحدود العقل، واستحالة معرفة
المطلق بالمقيد فيما يتعلق بالموجود أو فيما
يتعلق بالذات الإلهية أو الصفات أو الأفعال
٩٧ هناك حكم إرادي وليس اختياري. ومع
ذلك لا يوجب جبريل اختيارًا ولا قضاء وقدرًا بل
كسبًا وفعلًا حرًّا.
وتقوم المعرفة الكلامية على قياس الغائب على
الشاهد. فمعرفة الشاهد أولًا ثم الغائب ثانيًا.
ثم بعد معرفة الغائب قد لا يلتفت إلى الشاهد.
والتذبذب بين الاثنين يفقدهما معًا
٩٨ والتوحيد القلبي أفضل من التوحيد
في علم الكلام. الأول يقوم على الذوق، والثاني
على الحجاج والمناظرة والمهاترة مع الخصوم.
تنشأ المهاترة من التنافس من أجل الغلبة.
والمقصود من المذاكرة طلب الفائدة. والمناظرة
متوسطة بين المهاترة والمذاكرة
٩٩ زلت أقدام المتكلمين، ونظروا في
الآية بعقولهم، وهي لا تفهم إلا بالوجدان
١٠٠ يتردد العقل ويحتار لاكتشاف سر
الحياة. في حين أن لغة الشكر قادرة على إبرازها
١٠١ ويستمع بها إلى هاتف الحقائق،
والتحرر من عيوب العبودية.
(٤) علوم الظاهر وعلوم الباطن
وتقوم قسمة العلوم إلى علوم الظاهر وعلوم
الباطن على قسمة أخرى بين الشريعة والحقيقة،
بين أعمال الجوارح وأعمال القلوب، بين علوم
الدنيا وعلوم الآخرة. علم الظاهر هو علم
الراغبين في الدنيا والملابسين للأمراء
١٠٢ وأجمل حالات المؤمنين الظاهر. وهو
ما تقتضيه الشريعة
١٠٣ العلم ظاهر، والحقيقة باطن. ومن
نظر إلى الخلق بعين العلم مقتهم وهرب إلى الله.
ومن نظر إليهم بعين الحقيقة عذرهم.
١٠٤
وعلم الباطن له فضل على علم الظاهر
١٠٥ هو علم القلوب لا الألسنة. لا تصدر
عن الأعمال بل مقامات اليقين وصفات المتقين.
وهو علم الخشوع والزهد الذي يخشاه الشيطان.
والإخلاص أول حال العلم بالله بالعلم الباطن.
ولا نهاية لمقامات العارفين ودرجات الصديقين.
قد يؤدي علم الباطن إلى الزندقة أي خلط الأمر
والنهي بمواجيد الأسرار كما يفعل أهل الأغاليط
الذين هلكوا وأهلكوا. فعلم الباطن ذو حدين. لا
يقوى عليه كل الناس. من أفشى سره اعتبره الناس زنديقًا.
١٠٦
وعلماء
الباطن أفضل من علماء الظاهر. ومع ذلك يجتمع
الفريقان على أن طلب الآخرة خير من طلب الدنيا
١٠٧ كلا العلمين ضروري. وتظهر أولى
درجات الطهارات في الباطن والظاهر وليس في
الظاهر وحده الذي قد لا ينم عن الباطن، ولا في
الباطن وحده لأنه يظل مستورًا. ومن لم يوازن
ظاهره باطنه، وعقله قربه من الله فإن حلمه يكون
مثل حلم البهائم! ومن لم يقم باطنه ظاهره صار
باطنه منكوسًا، أسيرًا قلبه بيد العدو. وقامت
جوارحه في المعصية. وصارت نفسه مالكة له
تستعبده وتستخدمه، يضرب الشرق والغرب ويخدم نفسه
١٠٨ فالباطن أصل الظاهر. الباطن جوهر
والظاهر عرض وإلا تم أسر الإنسان بيد العدو،
وفقد السيطرة على أعمال الجوارح وفقد الاتزان
في العالم، ولم يركز إلا على نفسه وأهوائه.
عبادة الله بالشرائع في الظاهر، ورؤيته في
الباطن. علماء الظاهر زينة الأرض والملك.
وعلماء الباطن زينة السماء والملكوت. علماء
الظاهر أهل الخير واللسان، وعلماء الباطن أرباب
القلوب والعيان. اللسان معقل الخبر، والقلب
موضع النظر. علم الظاهر حكم، وعلم الباطن حاكم،
والحكم موقوف على الحاكم.
١٠٩
والباطن أساس الظاهر والظاهر يقوم على أساس
الباطن. وانتكاس الباطن انتكاس للقلب فيصبح
أسيرًا بيد العدو، وانجرفت جوارحه إلى المعصية،
وتملكه النفس وتستعبده. وهذا ما حدث لليهود
والنصارى والصابئة والمجوس والمشركين. يضربون
الشرق بالغرب ويخدمون أنفسهم. من لم يكن له في
حركاته وسكونه إمام في الظاهر يقتدي به ورجع
إلى باطنه قطع به. فالباطن وحده لا يكفي. فعل
الظاهر شكر للباطن كما أن الدنيا شكر للآخرة.
الباطن باطن بالفطنة الأصلية. وهو موضع الفكرة،
موافق للسنة وإلا كان باطلًا
١١٠ وأفضل نعمة هي الإسلام في
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ
فَحَدِّثْ ثم الختم أي البقاء عليه
وعدم التحول عنه ثم القرآن بما فيه من فرائض
وسنن وأحكام وحلال وحرام. وهذا هو الظاهر، ثم
نعم الله على المؤمنين بفتح قلوبهم ومعاينة
الغيب بلا حد ولا نهاية. وهذا هو الباطن.
١١١
وقد تتحول ثنائية الظاهر والباطن إلى ثنائية
السر والعلانية فاستقبال وجه السر هو اليقين،
واستقبال وجه الظاهر مع الباطن مشاهدة، وقيامه
عليه رضا مع الاقتداء بالنبي. فما زالت الأخلاق
الصوفية متمسكة بالسنة. والذكر هو القوة في
السر، والسنة في العلانية
١١٢ وفضل السر على العلانية لضعف في
اليقين. فإذا كمل استوت الحالتان، الخلاء والملاء
١١٣ ومن لم يوازن سره لا تصلح علانيته
١١٤ فالبداية بالباطن قبل الظاهر. وكل
من هم بشيء في سره ظهره في علانيته إلا أن
يدركه العون الخارجي فيبقى في السر. فالسر
بطبيعته حركة نحو العلن لأن الطبيعة هي اتفاق
السر مع العلن. ولا يبقى السر سرًّا إلا بإرادة
خارجية. الدنيا عند العدو، والسر عند الحبيب.
فالحبيب لا يفشي سرًّا في حين أن العدو يظهر الدنيا
١١٥ واستقبال وجه السر باليقين،
واستقبال وجه الظاهر بالقبلة
١١٦ فاليقين باطن، والقبلة
ظاهر.
والظاهر والباطن ثنائية مثل الأحوال ولكنها
في المعرفة وليست في الوجود. ويعادل في الوجود
والغياب والحضور
١١٧ ومن يعرف الباطن لا يلوم أحدًا.
فحج الناس البيت ظاهر أم حج الباطن فإلى سكن
الروح. الأول يهدي الأضاحي والثاني يعطي المهجة
والدم. الأول طواف بالبيت، والثاني طواف بالله
١١٨ والظاهر والباطن يتجلى في كل شيء
١١٩ الظاهر اللفظ، والباطن التأويل.
الظاهر صورة القصة، والباطن عظتها
١٢٠ الظاهر السماع، والباطن الفهم.
لباس الظاهر لا يغير حكم الباطن
١٢١ وعدم الإعجاب بالظاهر لأن الباطن
قد خرب
١٢٢ يلجأ الصوفي إلى الباطن دون
الظاهر. فالعلم والزهد والتقوى، لكل منها ظاهر وباطن
١٢٣ ويرزق العبد الحلاوة ليفرح بها
فتمنعه من حقائق القرب.
١٢٤ وفرق بين الدار وصاحب الدار على
باب الدار صوت وصياح واضطراب خوفًا من صاحب
الدار وشوقًا إليه وداخل الدار هيبة ووقار
وسكون وتعظيم وأدب وتأدب.
١٢٥ ويؤيد ذلك الحديث.
١٢٦
والتأويل للآيات التي تسمح بذلك. وهي الآيات
التي تثير الخيال والصور المجازية مثل
هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ
وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ. هو الظاهر
لا كما ظهرت الظواهر، وهو الباطن لا كما بطنت البواطن.
١٢٧ تعني الأول من يكشف عن أحوال
الدنيا للابتعاد. الثاني والآخر أحوال الآخرة
لعدم الشك فيها، والظاهر على قلوب الأولياء
لمعرفته، والباطن على قلوب الأعداء لإنكاره.
١٢٨ وقد تدل الآيات على أن الشطحات
نابعة من القرآن بتأويل بعض الآيات لإعطائها
غطاء شرعيا.
١٢٩ مثل
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ
إِلَّا أَنَا وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي
وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا
وَجْهَهُ لَتَرْكَبُنَّ طبقًا عَنْ
طَبَقٍ وَأَنَّ
إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى.
التأويل حجاب لا ينظر إليه الله مع أنه كشف
الأعماق، ومقت لا يعطف الله عليه مع أنه ضرورة
لتجاوز التجسيم والتشبيه.
١٣٠ التأويل أداة إنسانية للمعرفة في
حالة غياب العلم اللدني والكشف الرباني. القرآن
يبني، والأذكار تغرس.
١٣١ البناء على السطح والغرس في العمق.
ويبدأ التأويل بالتلاوة وفهم المعنى بالصوت
والتأثر بموسيقى القرآن من أجل حفظه بالنهار بل
لفهمه بتلاوة الليل. وليست فقط المغفرة هي
الهدف بل المعرفة من أجل العمل.
١٣٢
وفرق بين التفسير والتأويل. التفسير علم نزول
الآية، شأنها وقصتها والأسباب التي نزلت فيها.
وهو ليس للناس كافة إلا بالاعتماد على السماع
والأثر. أما التأويل فصرف الآية إلى معنى محتمل
يوافق الكتاب والسنة. ويختلف باختلاف حال
المؤول من صفاء الفهم ورتبة المعرفة ودرجة
القرب. التأويل سباق لأصحاب الهمم وكأنه يسمع
الآية من المتكلم نفسه.
١٣٣
ما أظهر الله شيئًا إلا ستره. وما ستر شيئًا
إلا أظهره حتى لا يستوي علمان ولا معرفتان ولا
قدرتان. فازدواجية الظاهر والباطن رؤية إلهية
قبل أن تكون رؤية إنسانية. والوجود أيضًا
متشابه. والقرآن أحد التجليات الإلهية والوجودية
١٣٤ لذلك أتى القرآن متشابهًا. فإذا
أضاء على السرائر بإشراقه أزال من البشرية رعونتها
١٣٥ وعلم الله يشمل الظاهر والباطن،
والعلن والسر فهو الذي أودع في الأشياء أوصافها
١٣٦ والعلوم في الله لا تتناهى
١٣٧ وكلام الخالق أزلي لا يفنى بفناء
الأقلام والمداد. ويذكر منه للناس ما يفيدهم من
معاني العبودية، والثواب والعقاب والوعد
والوعيد على قدر عقولهم. أما الباطن والكمال
فللأنبياء والأصفياء والأولياء
١٣٨ وبلغة مجردة مقياس العدم في
الوجود، في معنى وجوده. وليس مقياس الوجود في العدم.
١٣٩
(٥) علوم التنزيل وعلوم التأويل
علوم التنزيل هي علوم الفقه والشريعة والكتاب
والسنة وأسباب النزول والقياس من أجل استنباط
الأحكام الشرعية. وعلوم التأويل هي علوم التصوف
التي تذهب إلى بواطن الأحكام ومصادرها الأولى.
لذلك نشأ صراع بين أهل التنزيل وهم الفقهاء
وأهل التأويل وهم الصوفية. ويمكن معرفة الوحي
بالتنزيل كما يفعل الفقهاء أو بالتأويل كما
يفعل الصوفية، بالظاهر أو الباطن، بالنص أو
بالدليل، بالوضوح أو الخفاء
١٤٠ وكل مناهج التأويل ضعيفة حتى
المجازية منها. إنما الأقوى هو نزول الآية على
القلب فتنبثق معانيها فيه كما يحدث للعارفين والمريدين
١٤١ العبادة باللغة، والإشارة بالقلب.
١٤٢
والعلم ثلاثة: علم القرآن، وعلم السنن
والبيان، وعلم حقائق الإيمان أي القرآن والسنة
وما يستنبط منهما من حقائق الإيمان. فالتصوف
إسلامي وليس أجنبيًّا، من الموروث وليس من
الوافد. ويمكن جمعهما في علمين فقط: التنزيل
والتأويل. والعلماء ثلاثة: أصحاب الحديث
والفقهاء والصوفية. كل منهم يجمع بين العلم
والعمل. لم يكن في هذا الوقت المبكر قد نشأ
الصراع بين الفقهاء والصوفية، بين التنزيل
والتأويل. وقد أتقن علماء الحديث في ضبط
رواياتهم على ما هو معروف في علم الحديث
١٤٣ في حين اقتصر أهل الحديث على الحفظ
بالذاكرة تفوق عليهم طبقة الفقهاء لما لديهم من
قدرة على الفهم والاستنباط
١٤٤ والصوفية أصحاب علم ومذهب وطريق
وذوو منزلة رفيعة من أولي العلم القائمين بالقسط
١٤٥ يخرجون من الكتاب والسنة، ويقتدون
بالرسول كأسوة حسنة، ويقتدون آثار الصحابة
التابعين. وكما أن طبقة الفقهاء لما لديهم من
قدرة على الفهم والاستنباط أعلى مرتبة من طبقة
المحدثين. فإن طبقة الصوفية أعلى منزلة من
الفقهاء لما لديهم من جمع بين العلم والعمل،
وما خصوا به من الفضائل وحسن الشمائل. لا
يأخذون بالرخص أو يحومون حول الشبهات بل
يتمسكون بالأولى والعزائم.
١٤٦
وقد خص الصوفية بمعانيهم وآدابهم وأحوالهم
وعلومهم التي تفردوا بها عن المحدثين والفقهاء
١٤٧ وذلك مثل القناعة، والفقر والجوع،
والتواضع، والشفقة، والإيثار، وحسن الظن،
والإخلاص والمسارعة في الخير، والتوجه إلى
الله، والعكوف على بلائه، والرضا بقضائه،
والصبر على المجاهدة، ومخالفة الهوى وحظوظ
النفس، ومراعاة الأسرار، واختيار الموت على
الحياة. التصوف إذن هو ممارسة مجموعة من
الفضائل. وقد خص الصوفية بالمقامات والأحوال،
بالتوبة والورع والتوكل والرضا، والصبر،
والخشية والخوف والخضوع والمحبة، والرجاء،
والشوق والشهادة، والإنابة، والطمأنينة،
واليقين، ومعرفة النفس، والعوارض والعوائق
والعلائق والحجب.
١٤٨
وينكر التصوف على أهل الظاهر أنهم لم يعرفوا
من الكتاب إلا ظاهره، ولا من الحديث إلا
الأحكام للاحتجاج على المخالفين وطلبا للجاه والرياسة
١٤٩ الشريعة رواية ودراية. ظاهرها
بالرواية، وباطنها بالدراية
١٥٠ ويزعم بعض المتفقهة أن الصوفية
جهلة وليس للتصوف مصدر من الكتاب أو السُّنة
١٥١ ولا يوجد شاهد من كتاب أو سنة على
ذلك. ويعترض الصوفية على هؤلاء وبيان أهمية
الفقه في الدين. إنما يحتاج الفقه أن يجتمع
بالزهد، ويكون الفقيه الزاهد هو الجامع بين
الفقيه والصوفي، بين أعمال الجوارح وأعمال
القلوب، بين أحكام الظاهر وأحكام الباطن. الفقه
له نهاية، والتصوف لا نهاية له
١٥٢ لكل علم أهله دون أن ينكر فريق علم
الفريق الآخر. والكل إلى رسول الله فلا تضارب
بين العلوم بل توزيع الاختصاصات بينها.
١٥٣
وبالإضافة إلى التفاسير الكبرى مثل تفسير
القرآن العظيم للتستري، و«لطائف الإشارات»
للقشيري، و«تفسير ابن عربي» هناك بعض الملاحظات
الجزئية على تفسير الصوفية في أقوالهم مع بعض
التطبيقات العملية لتفسير بعض الآيات المتناثرة
لاستخراج بعض الموضوعات الصوفية منها خاصة
المقامات والأحوال. فبالنسبة لمنهج التفسير
يمكن قراءة القرآن بثلاث نيات: بدون الله أو
للختم أو لاستخراج العلم
١٥٤ بدون الله ميزته أنها قراءة
إنسانية اجتماعية طبيعية خالصة وليست قراءة
عقائدية دينية غيبية. والختم قد يكون حفظًا دون
فهم كما يفعل الصبية أو الكبار قارئو القرآن
على المقابر. واستخراج العلم هو الأفضل، ليس
العلم الطبيعي بل العلم الإنساني.
ولا يقرأ القرآن بعد قيام الليل. إنما يقام
الليل إلى الله أولًا وليس إلى ورد معلوم أو
جزء مفهوم. ويقف العبد أمام الله وجها لوجه،
ويتحادثان ويتفاهمان. فالصوفي يعود إلى المصدر
الأول دون وساطة القرآن. وينصرف أهل الورد وأهل
الجزء ويبقى أهل القيام
١٥٥ وصفوة القرآن موضع الأسامي.
فالقرآن له قلب وهي الأسماء. الأسماء تجليات
للذات في صفات ومصدر الأفعال في نظرية الذات
والصفات والأفعال. ولا يوجد صوفي إلا وعبر عن
تجاربه الإنسانية من خلال شرح الأسماء مثل
القشيري والغزالي.
١٥٦
ليس التفسير علمًا نظريًّا فحسب بل هو أيضًا
علم عملي. فالقرآن هو المطهر عن دنس الأكوان.
هو أحسن الأسرار. وله الشرف على سائر الكلام
١٥٧ وتعليم الرحمن القرآن يعني تعليم
الأرواح شفاهًا ومخاطبة في الأنفس وبطريق الوسائط
١٥٨ فالقرآن عالم شعوري وليس عالمًا
تصوريًّا. وقد تكون الاستعاذة من الشيطان لا
قيمة لها لأنه لا يستطيع زحزحة كلام الحق
١٥٩ فالأمر نفسي وليس موضوعيًّا ولكل
حرف تفسير في البسملة. باسم الله الهبة،
والرحمن العون والنصرة، والرحيم المحبة
والمودة. وهي معاني متميزة لا تفوت على العارف.
هي علوم الوجود لا علوم الوجود.
١٦٠
والتفسير الجزئي نتيجة للاستفسار عن معنى بعض
الآيات المتناثرة التي تثير بعض التشابه أو
التي تحتاج إلى تأويل لبعض السور الرمزية
١٦١ ومع ذلك يمكن تجميعه في عدة
موضوعات مثل التفسير الموضوعي للقرآن في التصوف
الخلقي والتصوف النفسي والتصوف النظري. فمن
التصوف الخلقي مثل تفسير وشروه
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ
بَخْسٍ ويعني خاصة ثمن الشراء ثم
تعميمه إلى المعرفة ومشاهدة الله بثمن الكونين
١٦٢ فالتفسير هو تعميم الخاص إلى
العام. وتتحول آية
قُلْ
مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ إلى تجربة
صوفية، قلة المتاع في الدنيا وعظمة الحصيلة في
الآخرة. وتحويل اتجاه الآية إلى أعلى مثل العمل
الصالح
مَنْ كَانَ
يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا
صَالِحًا١٦٣ وقد يكون التفسير للتعيين، تعيين
بركات السماء والأرض بخير الدنيا والآخرة
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ
الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا
عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ وسلوك الطريق في آية
وَأَنِيبُوا إِلَى
رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ١٦٤ ويستشهد على الصدق بآية
لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ
صِدْقِهِمْ وقد يتطلب الصدق إعلان عدم
المعرفة بالجواب
مَاذَا
أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا١٦٥ والإيمان هو المعرفة، وإحباط العمل
عدم قبول الخدمة في آية
وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ
عَمَلُهُ١٦٦ والتقوى تؤدي إلى الإيمان والإخلاص
بنص آية
وَأَلْزَمَهُمْ
كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا
وَأَهْلَهَا ولباس التقوى لأهل الحصور
وَلِبَاسُ التَّقْوَى
ذَلِكَ خَيْرٌ. والتقوى هو معنى في آية
اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ
حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ١٦٧ وقد لا يحتاج استعمال الآية إلى
تأويل كالخشوع في الصلاة في آية
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ
* الَّذِينَ هُمْ فِي
صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ١٦٨ وعلامة العارف فساد الملوك في
القرى
إِنَّ الْمُلُوكَ
إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا
وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً
وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤).
١٦٩
ومن التصوف النفسي تظهر بعض المقامات
والأحوال على العموم أو على الخصوص مثل بكاء
الفرح في آية
وَإِذَا
سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى
أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ.
وبكاء الأسف من آية
تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ
الدَّمْعِ حَزَنًا١٧٠ والإشارة إلى الطريق في آية
وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ
مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ
يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ
عَلَى اللهِ١٧١ وحالة الجمع في قول
أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ
الْآفِلِينَ١٧٢ وتدبر القراءة في آية
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ
القرآن١٧٣ والتوكل استسلام لله بدليل
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ
فَهُوَ حَسْبُهُ. وهو فريضة
وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ والحركة من أجل
الكسب مباحة
آمَنُوا
أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا
كَسَبْتُمْ. والحب بلوى من المحبوب
للحبيب بدليل
يُحِبُّهُمْ
وَيُحِبُّونَهُ فالمحبوب هو الذي يبدأ
١٧٤ والصوفي لا يكتفي بالشراب ويطلب
هَلْ مِنْ مَزِيدٍ.
١٧٥
ومن التصوف النظري نسبة تحقق العبودية
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ
يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ
هَوْنًا إِنَّ
عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ
سُلْطَانٌ فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ
رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ
لَدُنَّا عِلْمًا والنسبة إلى آدم تدخل
في مقام الظلم والجهل
وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ
ظَلُومًا جَهُولًا١٧٦ والحق ثقيل على القلب
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ
قَوْلًا ثَقِيلًا١٧٧ والله يظهر الغائب، ويغيب بدليل
كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي
شَأْنٍ١٧٨ والعزة لله وللإنسان
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ
فَلِلهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا١٧٩ والجمع بين إرادتين في
تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا. والله هو الذي يحمل الصوفي
المسافر
وَحَمَلْنَاهُمْ
فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ١٨٠إِنَّا
لِلهِ إقرار بالملك،
وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ إقرار على النفس بما لها
١٨١ ولا يفهم الله إلا بالله. فالله هو
الموضوع والمنهج.
١٨٢
وفي الأخرويات، حسية الجنة استمرار لحسية
الدنيا
وَلَكُمْ فِيهَا
مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ١٨٣ ومن أراد الآخرة دعاه الله إلى
قربه
وَمَنْ أَرَادَ
الآخرة وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ
مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ
مَشْكُورًا.
١٨٤ وأحيانًا يكون حساب الثواب كما
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ
فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وأحيانًا
أخرى كيفًا
١٨٥ وفي بداية الخلق آدم له صفتان: آدم
الذي غوى
وَعَصَى آدم
رَبَّهُ فَغَوَى وآدم المصطفى
إِنَّ اللهَ اصْطَفَى
آدَمَ.
١٨٦
ويخضع تأويل الحديث مثل تأويل القرآن لنفس
المنطق مع تأويل لبعض الألفاظ مثل تأويل لفظ
«الأبله» في حديث أكثر أهل الجنة البله» بأن في
دنياه هو الفقيه في دينه
١٨٧ وتأييد للاعتراف بالإحسان حديث
«جبلت القلوب على حب من أحسن إليها»
١٨٨ والصوفي شاهد الله في الأرض «أنتم
شهداء الله في الأرض» وشرط الصوفي ألا يعلم
الآخرون عنه أنه كذلك، وألا يطلع على سره أحد الخلق
١٨٩ وحديث الله كالثلج في الصيف. وجوده
غريب وبقاؤه أغرب.
١٩٠
ويفوق الصوفية أهل الكتاب في التأويل. فعندما
سأله الراهب عن العدد الاثني عشر، والرهبان هم
أهل التأويل، أجاب بأن الواحد هو الله،
والاثنان الليل والنهار، والثلاث الطلاق ثلاث
مرات، والأربع الكتب المقدسة، التوراة والإنجيل
والزبور والقرآن، والخمس الصلوات، والست
الأيام، والسبع السموات، والثمان حملة العرش،
والتسع مدة الحمل، والعشر الكرام البررة،
والحادي عشر إخوة يوسف، والثاني عشر السنة.
١٩١
حامل القرآن لا يحتاج إلى شيء من الخلق بما
في ذلك الخلفاء والسلاطين، بل الخلق في حاجة
إليه. وقد يعني العلم والقدرة على التصرف
والحكمة. أما إن كان يعني الحصول على قدرات
خارقة للعادة سحرية تجعله قادرًا على كل شيء
فيكون أقرب إلى التصور الشعبي للتابو
١٩٢ والتباعد عن القراء مستحب لأنهم إن
أحبوا أحدًا مدحوه بما ليس فيه. وإن أبغضوه
شهدوا عليه وقبلت شهادتهم
١٩٣ هم مداحو السلطان، وسوطه على
الناس. والشاطر السخي أفضل من القارئ اللئيم
لأن السخاء فضيلة، واللؤم رذيلة. وللقرآن مفتاح
يختلف من صوفي إلى آخر، آية أو لفظ أو حدس أو
توجه. وقد يظل الصوفي عشرين عامًا حتى يعثر عليه
١٩٤ ويفهم من القرآن أحيانًا التهديد
بلطف للمعارض مثل آية
أَلَا لِلهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وهو
ليس تهديدًا بل إعلان ختم النبوة واكتمال
الوحي، وأن المراحل السابقة كلها تصب في
المرحلة الأخيرة كما هو الحال في اللاهوت
المسيحي عندما تصب رسالات أنبياء إسرائيل
السابقين في شخص عيسى نبيًّا و«إلهًا».
١٩٥
وبعد قراء القرآن قد يحار العقل في آية. أما
حفاظه فكيف يهنأ لهم البال وينامون ملء الجفون
ويشتغلون بأمور الدنيا وهم لا يفهمونه. فإذا
فهموا وعرفوا حقه وتمتعوا وناجوا به لما ناموا
فرحًا بما رزقوا ووفقوا
١٩٦ القرآن فهمه وليس تلاوته. وهو
أيضًا دافع على السلوك الفاضل. فإذا دنا القارئ
من معصية يتحدث القرآن في جوفه ويسأله لماذا حمله؟
١٩٧
وقد يستغلق كلام صوفي على صوفي آخر نظرًا
لاختلاف درجاتهما في المعرفة ولتباينهما في
الحالات النفسية
١٩٨ يتكلم صوفي من بحر صفاء الأحوال.
ويتكلم آخر من صفاء المنة. الأول مزج، والثاني
صرف. الأول بينية بين الأنا والأنت، والثاني
هوية بين الأنا والأنا أو الأنت والأنت.
١٩٩
(٧) علوم الدنيا وعلوم الآخرة
هناك فرق بين العلم بالله، والعلم بأمر الله.
الأول العلم بالحقيقة والثاني العلم بالشريعة.
وهي نفس التفرقة بين علماء الآخرة وعلماء
الدنيا. وكم من عالم فاجر، وعابد جاهل، مما
يستدعي اتقاء الفاجر من العلماء والجاهل من
المتعبدين.
وقد تبدو القسمة ثلاثية إضافة التقوى والخوف
في أخلاق العالم. حينئذ يكون العلماء ثلاثة:
عالم بالله وبأمر الله وهو العالم الكامل.
وعالم بالله وهو التقي الخائف، وعالم بأمر الله
دون الله وهو العالم الفاجر. الأول عالم بالله،
والثاني عالم لله، والثالث عالم بحكم الله.
الأول هو العارف الموقن. والثاني هو العالم
بالإخلاص والأحوال والمعاملات. والثالث العالم
بتفصيل الحلال والحرام. الأول العالم بالله لا
بأمره ولا بأيامه وهم المؤمنون. والثاني العالم
بأمر الله لا بأيامه وهم المفتون في الحلال
والحرام. والثالث العالم بالله وبأيامه وهم
الصديقون. ويكون طلاب العلم ثلاثة. الأول للعمل
به. والثاني ليعرف الاختلاف فيتورع ويأخذ
بالاحتياط. والثالث ليعرف التأويل ويجعل الحرام
حلالا. وفي قسمة أخرى طلاب العلم ثلاثة، علم
الورع مخافة الاشتباه وهو الزاهد التقي، وعلم
الاختلاف والأقاويل فيسقط الواجبات، ويتوسع
ويترخص. والثالث يسأل عن شيء فيقال لا يجوز
فيبحث عن حيلة حتى يجوز بناء على الاختلاف
والشبهة. وإذا جمع المتعلم ثلاثا تمت النعمة
عليه: الصبر، والتواضع، وحسن الخلق. وقد تكون
القسمة رباعية بين العلماء والخائفين والمحبين
والمؤثرين لله. الناس موتى إلا العلماء،
والعلماء إلا الخائفين، والخائفون منقطعون إلا
المحبين، والمحبون أحياء شهداء وهم المؤثرون لله.
٢٠٦
وعلوم الدنيا أساس علوم الدين. ولا نظام
للدين إلا بنظام الدنيا
٢٠٧ وعندما تعرض للعالم مشكلات في
الدين يحتاج إلى العارف عند حدوث شبهات في
الصدر. فعالم الآخرة هو عالم الدين.
وتنقسم أعمال الدنيا إلى ثلاثة أقسام. الأول
أصول وهي أربعة، الزراعة للمطعم، والحياكة
للملبس، والبناء للمسكن، والسياسة للاجتماع
والتعاون على أسباب المعيشة. والثاني فروع هذه
الأصول لخدمتها مثل الحدادة للزراعة، والحلاجة
والغزل للحياكة. والثالث المتمم للأصول والفروع
مثل الطحن والخبز للزراعة، والقصاصة والخياطة للحياكة
٢٠٨ وأشرفها السياسة لإرشاد الخلق.
ويعرف شرف الصناعات بثلاثة أمور، بالغريزة
وسيلة المعرفة مثل فضل العلوم العقلية على
اللغوية. فالحكمة بالعقل واللغة بالسمع والعقل
المشرق من السمع. وبالنظر إلى عموم النفع كفضل
الزراعة على الصباغة وبملاحظة المحل كفضل
الصباغة على الدباغة.
وعلوم الآخرة أربع مراتب: الأولى السياسة
العليا للأنبياء وحكمهم على الظاهر والباطن
للخاصة والعامة. والثانية للخلفاء والملوك
والسلاطين وحكمهم على الظاهر للخاصة والعامة.
والثالثة للعلماء وحكمهم على الباطن وحده
للخاصة دون العامة. والرابعة للوعاظ وحكمهم على
بواطن العوام. وتدرك العلوم الدنية، فقه الآخرة
بكمال العقل وصفاء الزكاء. والعقل أشرف ما في
الإنسان، وعموم نفعه، وشرق المحل وهو قلب البشر
ونفوسهم. وعلوم الآخرة تنقسم أيضًا إلى علم
المعاملة وعلم المكاشفة، الأول علم العمل،
والثاني علم النظر. ثم ينقسم علم المعاملة إلى
علم ظاهر يتعلق بأعمال الجوارح، وعلم باطن
يتعلق بأعمال القلوب. وأعمال الجوارح إما عادة
وإما عبادة. وعلم القلوب ينقسم إلى مذموم
ومحمود.
وللعالم خمس علامات من علماء الآخرة: الخشية،
والخضوع، والتواضع، وحسن الخلق، والزهد. ويقتضي
التفقه في الدين النذارة والحذر لأنه يقيس
الغائب على الشاهد. وعلم الآخرة من الذكر. وهو
علم المشاهدة. والمشاهدة صفة عين اليقين. وإذا
هرب العالم من الناس يؤتى إليه. وإذا طلب
العالم الناس يفر منه.
٢٠٩