(١) مفردات العلم
تعني مفردات العلم محاولات تعريفه عن طريق
ذكر الألفاظ المشابهة أو القرينة به مثل
المعرفة واليقين والحال والإيمان والدليل
وغيرها من المفردات المتعلقة بالعلم أو وسائل
التعبير عنه بالحروف والأسماء والإشارة وسائر
مفردات اللغة.
١ وإذا تكلم الإنسان عُرف. وإذا تكلم
المنافق عرف. الكلام كاشف. وهو هيبة الإنسان
٢ المعرفة إشارة ورمز تكون عليها
الواردات متصلة والأحوال متشابهة
٣ العلم لغة. واللغة جروف وأسماء
وأفعال. وبذهاب الأسماء تذهب المعاني. وإذا
ذهبت المعاني انكشفت. فاللغة حجاب. كل شيء شجر.
واللغة مثل الشجر، جذور وجذوع وفروع وأوراق وثمار.
٤ اللغة وسيلة للتعبير. الباطل
يستعير الألسنة، والحق لا يستعيرها من غيره.
٥
وما يخص نظرية العلم في علم الكلام الأشعري
الصوفي هو أن العلم ليس تصورًا للمعلوم ولا
معناه بل هو تخيله إن أمكن
٦ العلم لا يتغير بتغير العلوم. ولا
يتغير المعلوم بتغير العلم. وإحاطة العلم
بالعلوم يقتضي تناهيه. ولا يلزم من تعلق العلم
بالمعلوم حصول المعلوم في نفس العالم ولأمثاله.
العلم والعالم والمعلوم شيء واحد
٧ ولا يوجد شيء من العلم التصوري
مكتسب بالنظر الفكري. والأشياء كلها مجتمعة في
المعرفة وليست في العقل. والمعرفة كلها مجتمعة
في العقل وليست في العلم. والعلم كله مجتمع في
العقل وليس في السنة. والسنة مجتمعة في العمل
غير مجتمعة في الإخلاص. والعمل كله مجتمع في
الإخلاص غير مجتمع في الحلم
٨ المعرفة كالريح، والعقل كالفتيلة.
تهب المعرفة على العقل كما تهب الريح على
الفتيلة. والعلم كالنار والمريد كالزند. وتنير
النار على قدر الزند
٩ والعالم لا يفرض على الأشياء نسقا
بل يدرك نسق الأشياء
١٠ والعين تشير إلى ذات الشيء الذي
تبدو منه الأشياء. وهي تغني عن البحث والطلب.
وعين الجمع اسم من أسماء التوحيد
١١ وهو لفظ مشابه يدل على عضو العين
وعلى منبع الماء وعلى مصدر المعرفة.
والعلم أقل من المعرفة. العلم باب والمعرفة
أبواب. وأحيانًا تعني المعرفة المعلومات
المنقولة المحفوظة. وفي هذه الحالة تكون أقل من
العلم المباشر ويكون العلم أعمق من المعرفة
١٢ والعلم وجد وليس مجرد معرفة. هنا
يكون العلم أعلى من المعرفة. والعلم طلب
المعرفة. وهنا تكون المعرفة أعلى من العلم
١٣ وقد لا يكون العبد عارفا إلا إذا
كان عالمًا بالله. ولا يكون عالمًا إلا إذا كان
رحمة للخلق. السماء رحمة للأرض. وبطن الأرض
رحمة لظهرها. والآخرة رحمة للدنيا. والعلماء
رحمة للجهال. والكبار رحمة للصغار، والنبي رحمة
للخلق. والله رحيم بالخلق. أصل المعرفة الخلقة
١٤ والعالم بحاله أفضل من العارف
بحاله لأنه يعرف الشكر. والعارف يعبد في الحال،
والعابد يعبد بالحال. ولا يصح إعلام الحال أو
المعرفة مع العاصي لأن الحال إيجابي، والمعصية سلب
١٥ بدء الأشياء المعرفة، وآخرها
العلم. وبدء الشيء العلم وآخره المعرفة. وآخر
باب من العلم أول باب من المعرفة. وأول باب من
المعرفة السكون إلى الله. وكمال الذكر هو العلم
بالمشاهدة. المعرفة أقرب إلى الإدراك الحسي،
والعلم تحويل هذه المعرفة الحسية إلى معرفة
عقلية أي إلى علم. وفي نفس الوقت بداية الشيء
العلم به واخره المعرفة بالمعنى الباطني أي
العلم بحقيقته. فالمعرفة الحسية سابقة على
العلم، والمعرفة الحدسية تالية له. والعلم
اللدُنِّي هو المشاهدة التي تأتي بعد الذكر.
١٦
ويستحق العبد أن يسمى عارفًا بالله بأول درجة
من درجات المعرفة إذا وقف بعمله على همومه
فيعرف كل هم بالقلب. والعلم أدنى درجات الذكر.
وكماله الحكمة
١٧ من عرف الله في الدنيا فإنه بلاء
وغم إلى الأبد
١٨ مع أن المعرفة والسعادة شيء واحد
عند الصوفية خاصة الغزالي. المعرفة توقظ الوعي
وتعطي الإحساس بالواجب، وتبعث على
الأمل.
ويفسح التصوف مجالًا لنفسه في حد العلم كما
فعل المحاسبي في «كتاب العلم»
١٩ يعتمد على حجج نقلية أقل وتحليل
عقلي وأخلاقي أكثر، وعود إلى تصنيف العلوم
٢٠ فالعلم علمان: الأول، علم الفقه،
وهو علم الحلال والحرام، علم أحكام الدنيا، وهو
علم الظاهر فإن طال فلخصومات الناس. والدنيا
مؤسسة على العدل والخصومات قائمة على الشهوات
والأهواء ترد إلى الأصول. وهو فرض عين. علم
الفقه الذي بدأ منه التصوف وانتهى إليه. هو علم
البيع والشراء والنكاح والطلاق، علم المعاملات
الخاصة والعامة، علم أصول الأمر والنهي. هو علم
طلب المشكلات والشبهات أي علم الواقع. وهو
العلم النافع
٢١ وإدراك العلم لا يتم بالفقه
٢٢ والبدعة بين الفقه والتصوف. لا
يثبت حساب للمبتدع لأنه لا سنة له. وأشنع بدعة
الوقوف على طلب العلم، والتفاضل عما لا يعلم
كما قال سقراط «ما ظل الإنسان عالما ما طلب
العلم فإذا ظن أنه علم فقد جهل»
٢٣ وصاحب البدعة لا تقبل توبته لأنها
انحراف عن الطريق. ومع ذلك
وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ.
٢٤
والثاني علم أحكام الآخرة، وهو علم الباطن،
علم العبادة الباطنة، الورع والتقوى والزهد
والصبر وسلامة الصدر وسخاوة النفس وحسن الطاعة
والصدق والإخلاص. وكلها جلال في مقابل الحرام
وهي أهواء النفس
٢٥ وهو علم ضروري، فرض كفاية. وهذه هي
أصول الدين. فالعقائد أخلاق، التحلي بالأخلاق
السنية والتخلي عن الأخلاق الدنية وهو أحد
تعريفات التصوف. تمثلها الرسول
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ
اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ. وأكرم الناس
عند الله أتقاهم
إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ
أَتْقَاكُمْ. وأشر شيء هو أشر العلماء.
علماء المساكين.
والعلماء ثلاثة: عالم في القلب، وعالم في
السمع، وعالم في التعلم من أعلى إلى أدنى.
الأول صاحب العلم المباشر، والثاني صاحب العلم
المنقول، والثالث صاحب العلم المحصل. والقراء
ثلاثة: قارئ عرف الكل، وقارئ عرف النصف، وقارئ
عرف الدرس. الأول صاحب العلم الكلي، والثاني
العلم الجزئي، والثالث المحصل. الكل الظاهر
والباطن، والجزء الظاهر، والدرس التلاوة
٢٦ وقد أعطي الرسول ثلاثة علوم: علم
يقيني، وربما علم ظني، وعلم سري لا يظهر
٢٧ علمه يقينًا الشريعة التي يعرفها
العامة، وعلمه ظنا الطريقة التي يعرفها الخاصة،
وعلمه السري هو الحقيقة.
التصوف هو العلم الأول، علم الإيمان السابق
على علم القرآن. فالإيمان يسبق القراءة والفهم.
ومن اشتغل بطلب العلم وقراءة القرآن لم يصبه
المرة البتة أي حزن أو سوء الحظ أو ابتلاء.
فالعلم هو العلم الإيماني. العلم حلم، صديق
المؤمن. العمل دليله. والرفق أخوه. والبر
والده. والصدق أمير جنده
٢٨ ليس العلم مجرد معرفة خالصة بل هو
موقف أخلاقي يرتبط بالحلم والرفق والبر والصدق.
العلم هو الأصل. وهو الشهادتان
٢٩ أصل العلم قول لا إله إلا الله
والخوف واجتناب النواهي، ورجاء أداء الفرائض،
والحب والشوق، والاقتداء بالسنة
٣٠ المعرفة معرفة الإيمان. والعقل عقل
الإيمان. واليقين يقين الإيمان. والروح روح
الإيمان. والحياة حياة الإيمان. وهذه هي الحياة
وإلا فالموت. واضح أن الإيمان هو المصدر الأول
للمعرفة. واليقين والروح والحياة أقرب إلى
المسيحية منها إلى الإسلام.
٣١
وهو علم الباطن وفرائض القلوب
٣٢ والخضر نموذجه. وهو أعلم أهل الأرض
من ولد آدم
٣٣ ومن لم يبلغ علمه هذا القدر فإنه
ميت. يخرج منه حي يظهر حاجته وفقره وسره. يدبر
أمره، ويتولى أموره. فالعلم متواصل بين الأحياء
والأموات، وبين الأموات والأحياء
٣٤ دعوى العلم حجاب. وكمال العبد
سكونه إلى جهله. وعلى قدر سكونه لا يحجب عن
ربه. ليس العلم ادعاء وإلا كان حجابًا. ولا
يسعى في طلبه وإلا كان جهلًا. العلم كشف لحجاب
٣٥ العلم كشف وبهوت عندما تشتد الرؤية
وتنبهر بها العين. والحجب خمسة: حجاب أعيان،
وحجاب علوم، وحجاب حروف، وحجاب أسماء، وحجاب
جهل. والبهوت من صفات الجبروت لأنه يأخذ
بالعين، ويطغى الموضوع على البصر
٣٦ العلم هو الحياة والحياة هي العلم.
وكلاهما صفتان لله مع القدرة في الثلاثي الأول
٣٧ ودون العلم هو الموت. العلم حياة.
والسكون روح. واليقين نفس وهو عين الشيء.
فالمعرفة والوجود شيء واحد
٣٨ العلم حركة حتى يأتي اليقين.
فيتحول إلى سكون. والعمل حركة حتى الإخلاص
فيصير طمأنينة. فالحركة نقص. والسكون كمال
٣٩ الناس موتى إلا العلماء. والعلماء
موتى إلا الخائفين. والخائفون مقطوعون إلا
الراجين. والراجون لا يصلون إلا المحبين.
والمحبون هم الذين يؤثرون الله على كل شيء. وفي
تسلسل آخر: الناس موتى، إلا العلماء. والعلماء
سكارى إلا العاملين. والعاملون مخدوعون إلا
المخلصين. والمخلصون وجلون حتى يعرفوا خاتمتهم
٤٠ الدنيا جهل وموات إلا العلم.
والعلم حجة على الخلق إلا إذا عمل به. والأعمال
هباء إلا الإخلاص فيها. والإخلاص لا يعرفه إلا
الله. وما على الإنسان إلا الحذر من الموت.
فالأعمال بخواتيمها
٤١ والسؤال: كيف يقيم الإنسان حياته
على ما لا يعرف؟
العلم حال من مقام عمومية
٤٢ وطلب العلم على قد الحال. وطلب
الحال على قد اليوم. وطلب علم اليوم على قد
الأنفاس والهموم. وطلب الهموم على قد الخاطرات،
وطلب الخاطرات على قد الخروج منها
٤٣ فالعلم علم شعوري، علم هموم الحياة
الحياة اليومية في المنزل أو في العمل طبقًا
لضرورة الحياة العملية. العلم يفرضه العمل. بل
هو علم العمل. العلم هو العلم بالحال في اليوم
ومن اليوم. هو العلم في اللحظة
٤٤ هو علم النفس. ومن النفس الهمة،
ومن الهمة الخاطرة، ومن الخاطرة الحركة
٤٥ والغضب الذي يهيجه العلم رحمة.
فالعلم ليس نظريًّا بل وجدانيًّا، ليس مجرد
معرفة بل سلوك
٤٦ وغضب الأنبياء والعلماء حكم لأنهم
لا يصدرون عن الهوى
٤٧ ويختلف العلماء في الذات
ومقاماتهم. ويتكلمون على قدر معاملاتهم.
وهو علم أخلاقي، علم الإخلاص أي الصدق مع
النفس، ومعرفة آفات النفس ومكايد العدو، إبليس
أي الصراع بين الخير والشر. خير العبادات،
الإخلاص. ويقتضي التمييز بين المداراة
والمداهنة. المداراة كل ما يدل على الدنيا.
والمداهنة السكوت على أمر الدين. فلا ينخدع
العلماء بثلاثة أشياء بعد معرفتها: معرفة
العدو، ومعرفة الدنيا، ومعرفة النفس
٤٨ ويرمز إلى العلم بحركة البدن.
فجلوس المتعلم الجثي على الركب. وجلوس العالم
الانتصاب. وجلوس المحب، الفخذ على الفخذ.
الانحناء للمتعلم، والوقوف للعالم، والملامسة للمحب
٤٩ وتتجلى الأخلاق في سلوك العلماء.
وفي علم العالمين أثبت الله أسماءهم عنده في
العلماء، راضين عنه، قانعين به عمن سواه،
حامدين له على ما ابتلاهم، ومستغفريه من كل
أفعالهم، طالبين السلامة والعفو، خائفين عدل
الله، وراجين فضله. ليس العالم فقط هو حامل
العلم بل من له سلوك العلماء الفضيلة والتقوى.
أما أنهم معروفون سلفًا نظرًا لعلم الله المسبق
بكل شيء فذاك خارج عن نطاق العلم وأدخل في
العقائد. والغوص في العلم قد يؤدي إلى الهلاك
في الطريق إلا علم الرضا وبنية الإخلاص.
٥٠
والعلوم روحية وكونية أو بتعبير المعاصرين
إنسانية وطبيعية. العلوم الروحية مثل علم عيسى
وهو علم الحروف والنفخ
٥١ والعلوم الطبيعية أي الكونية ثلاثة:
٥٢ علم التوالد والتناسل ويكشف عن
العلم الإلهي. وعلم التوالج والالتحام والنكاح
الحسي والمعنوي. وهناك علم منزل المنازل وترتيب
جميع العلوم الكونية
٥٣ وهي منازل معرفيه
٥٤ ولكل منزل أربعة أصناف
٥٥ أما منزل الرموز فإنه يحتوي على
منازل أخري
٥٦ والعلوم الكونية مصدر للمعرفة
٥٧ وهي عاشقة لعلوم التوحيد
٥٨ وتختص الأقطاب بأربعة علوم
٥٩ والأقطاب الرموز علوم مثل علم سر
الأزل، وعلم الأولياء
٦٠ وبعضه في جداول أبجدية على أربعة
أعمدة وسبعة مراتب
٦١ والعالم النوراني أعلى منزلة
٦٢ العلم القليل لمن حصله من الصالحين
٦٣ وهي علوم تستقل العلوم بإدراكها.
ويتأرجح الموقف بين المعرفة والوجود، بين العلم
والكون مثل «أنت معنى الكون». فالعلم قصد.
والنظر اتجاه. والرؤية علاقة متبادلة بين
الرائي والمرئي.
٦٤
ولكل شيء ثمرة. وثمرة العلم والمعرفة التقرب
إلى الله
٦٥ وثمرة العلم الروحي هو التوجه إلى
الخالق لا إلى المخلوق، إلى ما وراء الطبيعة
وليس إلى الطبيعة بمصطلحات الفلاسفة
٦٦ والله لا يدرك مباشرة إلا من خلال
الطبيعة والأدلة على وجوده. وهو علم ما لا يسع
جهله من علم التوحيد.
والله لا يري من وراء الأضداء رؤية واحدة
٦٧ ومن عرف الله فلا عيش له إلا في
معرفته. ومن رآه فلا قوة له إلا في رؤيته. إذا
عرفه خف مكره. ولا يعرفه إلا المصطفون لعلمه
٦٨ العلم علم الإيمان. وهو علم
التوحيد كفرض
٦٩ ولا يقال للعالم إنه لم يعلم ويفهم
بالله لأن العالم لا يخرج بالله إلا بما فهم.
فعلم الله علم عقلي وواقعي. ليس عصيًّا على
الفهم أو التجربة. من طلب العلم لله أو للآخرة
فهو على سبيل النجاة.
٧٠ فالعلم وسيلة للنجاة وطلاب العلم
ثلاثة: الأول أخذ الأصل والفرع من السر فهلك،
والثاني أخذ
الأصل والفرع من غيره فسلم. والثالث أخذ الأصل
وثبت الفرع فصار عيشه متصلا مع الآخرة.
٧١
ويتضمن علم العباد ثلاثة أمور: العلم بالجهل،
والعلم بالوسوسة، والعلم بالنسيان. لذلك نشأ
الاختلاف في العلم. وهو ليس ضد العلم. وليس
بأمر إلهي
٧٢ وطلب العلم يدعو إلى سماع الاختلاف
وتمسك العالم بما له وتركه ما ليس له، وهو موقف
مسبق. فالعالم ليس له شيء وليس ضد شيء بل يسمع
ويحلل ويقارن ويفضل. وإذا جوز العلماء الاختلاف
فإنهم علماء سوء. وهو مثل موقف إخوان الصفا من
اختلافات المتكلمين. وينتهي العالم بفقد الورع
والخشوع. وتزين له الدنيا فيرغب فيه وتغريه.
ويطلبها سمعةً ورياءً دون رعاية لدين
٧٣ إنما ينشأ الخلاف في العلم من درجة
يقظة وعي العلماء. ليس هناك أفضل من الورع في
العلم. والورع ترك ما لا بأس فيه إلى ما فيه
بأس أي إنه معاناة ومقاومة.
وللعالم علامات مثل عدم الجزع من شدائد
الدنيا، والصبر على مرارتها، وعدم الفرح
برخائها ولا بغنائها أو الحزن على ما فات منها،
وبنصح الخلق لوجه الله
٧٤ العالم هو المقاوم الملتزم، النقي
الطاهر. ليس صعبًا على العلماء من التمييز بين
المداراة والمداهنة وبين الظن واليقين. فالعلم
يقوم على التمييز بين المختلطات، وأحكام
المتشابهات بلغة الأصوليين. ولا يجوز تقليد
العالم من سبقه من العلماء حتى يعلم حالهم من
فعلهم هل يلزمه أم لا. فالعالم حالة شعورية
ووضع اجتماعي. وكلاهما متغير
٧٥ والعلماء نوعان: عالم يحمله علمه
وهو معصوم، وعالم يحمله علمه، يبحث عن الحيل
والرخص والمكر والخديعة
٧٦ وإذا أخذ من كل عالم زلته فمتى يصل
إلى الله؟ قد يكون للمشتغل بالعلم هفوات في
الدنيا حتى يعود إلى العلم من جديد.
٧٧
العالم لا يفرط. فالعلم اعتدال، موقف والتزام
٧٨ والعالم الذي يتكلم بين الخلق تكون
الخلائق عنده سواء. ولا ينشغل بها وإلا مُحي
العلم من قلبه
٧٩ هذا الحياد في العالم قد يفقد
العالم حركته واتجاهه فيه. فهموم العلم تجمع
بين هموم الدنيا وهموم الآخرة، هموم العلم
والوطن. والعلم صمود ومقاومة
٨٠ وسمي العالم عالما لأن أفعاله كلها
تنسب إلى الحول والقوة لا إلى التدبير. فالعالم
صاحب علمه. وعلمه حال وقوة. وكل عالم آمر
بالمعروف وناه عن المنكر. فعلمه متصل بالعرش
٨١ دور العالم إذن النقد الاجتماعي.
العلم نقد وشك ومراجعة. ومن لا يرى الكل
تلبيسًا كان المكر منه قريبًا.
٨٢
(٢) العلم والجهل
العلم ضد الجهل. ولا يزال العبد عالمًا ما
دام جاهلًا. فإذا ظن أنه علم فقد جهل كما قال
سقراط قديما مما يبين توارد الخواطر بين
الواصلين في مختلف الحضارات
٨٣ ودعوى العلم جهل
٨٤ وفاز العلماء بجهل الجهال ولم
يعبئوا بجهلهم. وتعليم النفس سابق على تعليم
الآخر. وفاقد الشيء لا يعطيه. والعلم يصرفه
الجهل كما يصرف النهار الليل. الجهل حجاب
والعلم كشف. وما اصطحب جاهلان وسلم بعضهما من
بعض. ولا اصطحب عالم جاهلًا إلا سلم الجاهل بالعالم
٨٥ العلم سلام، والجهل حرب. وعن طريق
التصوير الفني العلم هو الجنة والجهل النار
٨٦ وقد يصير العلم مشوبا بالنار عندما
يتحول إلى جهل
٨٧ ولا دليل أنجع من العلم
٨٨ العلم دليل العلم. العلم حرز
والجهل غرور
٨٩ العلم تبصر واستبصار والجهل غرور
وقطع. وخطأ العالم أضر من عمي الجاهل
٩٠ فالعلم يتبعه الناس ويتحقق في
العمل. ومن خاف دلالة علمه كثر جهله
٩١ العلم يورث اليقين، والثقة بالنفس.
ويفوز العلماء بجهل الجاهل ولا يعاقبون. فالعلم
جهد قدر الطاقة. يمنع الجهل بالله إيثار الله
على النفس
٩٢ وثلاثة أشياء تذهب بقلب العبد
وعقله: الجهل، والمعصية، والنسوان
٩٣ فالجهل في حد ذاته رذيلة بتعبير
سقراط. والمعصية خرق للشريعة. والنسوان اتباع
بلا حدود للشهوة. وفي مقابل ذلك ثلاثة أشياء
مضادة تثبت قلب الإنسان: العلم والطاعة
والذكر.
ومعنى تجويع النفس وتعريتها في الحديث الشهير
هو التجرد من الجهل والتجلد في طلب العلم
٩٤ الجاهل ميت، والناس نيام، والعاصي
سكران، والمعسر هالك. فالعلم حياة، والحياة
يقظة، والواجب وعي، والمراجع ناج. وإذا كان
الموت بالأمس والنزع اليوم، وعدم الميلاد الغد
فالهلاك في استرجاع الماضي وذكر الآتي. والنجاة
في التنفس وهو العلم. الجهل موت
٩٥ ويرجى أن يمن الله عليهم. فالعلم
فضل ومنة
٩٦ والجهل هو الفقر الذي استعاذ منه
النبي. الجهل فقر العقل.
٩٧
وعلامة الجهل الغضب بلا سبب، والكلام غير
النافع، والعطية في غير محلها، وإفشاء السر،
والثقة بكل الناس، وعدم التمييز بين الصديق والعدو
٩٨ والمعرفة اعتراف بالجهل. وهو أيضًا
ما نصت عليه آية
وَفَوْقَ
كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ٩٩ ومن أظهر محاسنه لمن لا يملك ضره
ولا نفعه فقد أظهر جهله. فالجهل ليس فقط نقص
المعرفة بل السلوك الجاهل
١٠٠ وهو مثل الأبله في دنياه الفقيه في دينه
١٠١ ولا يضر الأحمق كثرة الالتفات
وسرعة الجواب لأنه لا يقوم على العلم
١٠٢
والجهل مثل الموت عامان في الدنيا إلا العلم.
والعلم حجة على الخلق حتى دون العمل به. والعمل
هباء إلا الإخلاص فيه. ويكون صاحبه على حذر حتى
الموت، ولا يعلمه إلا الله. الجهل موت في
الدنيا، ونار في الآخرة. فالهوى والإرادة وسوء
النية والشهوة طرق إلى النار. الشهوة ذهاب
للعقل والعلم والبيان. ومما يذهب العقل والقلب
الجهل والمعصية والنسيان. ويرد العقل بالعلم
والطاعة والذكر. الجاهل ميت، والعاصي جيفة،
والمصر على المعصية دود. الخلق أحياء ثم ماتوا
بجهلهم. والجهل طبع الإنسان لأن الإنسان على
الطبيعة يعمل أكثر مما ينظر. والنسيان طبع
الجدل لأن الجدل ليس علما بل صراعا وقتيًّا مع
الخصوم ينتهي بانتهاء المعركة، والمعصية طبع
النسيان لأن الفعل ابن وقته.
والطريق إلى الخلاص العلم بدل الجهل، والطاعة
بدل المعصية، والذكر بدل النسيان. والذكر مع
العمل يؤدي إلى التواصل، والذكر مع الطاعة يؤدي
إلى الشكر، والشكر يؤدي إلى المزيد من الشكر.
والجهل يتضمن ثلاثة أمور: أعمال البر
بالمخالفة، والإصرار على شيء متشابه، وأمل شيء
لا وسع فيه. والجاهل يؤدي إلى الجاهل إلى
الهلاك كما قال المسيح: الأعمى لا يقود أعمى.»
١٠٣
الجهل أن يكون الإنسان أمام نفسه دون اقتداء بإمام
١٠٤ وهو ما يجعل العلم بشيخ وكأن النفس
لا تعرف بنفسها شيئًا كما قال سقراط اعرف نفسك
بنفسك». الجهل هو الدنيا. والغاية النفس. وغاية
النفس البعد. ومن ارتبط العلم بالآخرة، والغاية
أبعد من النفس، القرب. الجهل أساس الكفر. وهو
أول ابتلاء للإنسان. فالإيمان علم. وعقاب الجهل
ظلمة الهواء وهو التحير، وظلمة السماء وهو ترك
الاقتداء، وسخط الرب وهو التحير في الاقتداء.
وكمال العبد سكونه إلى جهله. وعلى قدر السكون
لا يحجب عن الله. فهل السكون أولى من الحركة،
والجهل أولى من العلم كطريق إلى المعرفة
الكشفية؟
الجهل نسيان وبالتالي المعرفة تذكر
١٠٥ ولا يكون الخطأ والنسيان إلا من
المتقين. مع أن الخطأ والنسيان بشريان، وأعم من
النواهي والأوامر
١٠٦ خلق الله الأجساد جاهلة ناسية. وقد
لا يتلاقيان حتى تكون الأرواح واحدة والدين
والسر واحد والزهد والورع واحد
١٠٧ الجسم سبب الكثرة والروح سبب
الوحدة.
(٣) العلم واليقين
ولا يوجد لفظ «العلم» ضمن ألفاظ الصوفية كلفظ
مفرد قبل الحديث عن علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين
١٠٨ ولا يحدد العلم باليقين بل يحدد
اليقين بالعلم. فالعلم لا يكون إلا يقينًا.
واليقين هو ما لا يدخل الشك فيه. وهو ضد المكر
والاستدراج. ولا يطلق على الله لأنه ليس اسمًا
توقيفيًّا مع أن الله هو الحق، والحق مقولة
معرفية. ويمكن للأسماء أن تكون اصطلاحًا
واشتقاقًا مثل «المؤمن» و«المطعم» في
الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ
وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ. وعلم المعرفة
واليقين له فضله على سائر العلوم
١٠٩ فليس العلم بكثرة الرواية ولكن
بالخشية. وحظ الخلق من اليقين على قدر حظهم من
الرضا. وحظهم من الرضا على قدر عيشهم منه. علم
الإيمان والتوحيد وعلم المعرفة واليقين مع كل
قوة من موقن حسن الإسلام. مقامه وحاله وقربه مع
الله. العلم والإيمان قرينان لا يفترقان.
واليقين ثمرة التوحيد. فمن صفا في التوحيد صفا
في اليقين
١١٠ اليقين عبد المولى والمولى عالم
بحاله. وأدنى يقين ثقة العبد بالله.
اليقين نور في القلب تشاهد به أمور الآخرة،
ويخرق بقوته كل حجاب للمشاهدة
١١١ هو حدس داخلي يساعد الحواس
الخارجية على الإدراك. اليقين نور يستضيء به
العبد في أحوال فيوصله إلى درجات المتقين
١١٢ والحضور أفضل من اليقين لأن الحضور
وطنات واليقين خطرات. الحضور كشف ومواجهة
للحقيقة واليقين صدقها. الحضور عين اليقين،
واليقين حق اليقين
١١٣ اليقين هو المشاهدة أي الجمع بين
العلم والتحقق
١١٤ هو مشاهدة الإيمان بالغيب
١١٥ ويشمل علم الحال. وهو أعلى من علم
المقام.
اليقين النظر بعين القلب إلى ما عند الله مما
وعده وادخره
١١٦ هو تحقق الأسرار بأحكام المغيبات
وكأنه يوجد يقين ذاتي بلا أسرار أو مغيبات.
وأنفع اليقين ما عظم الحق في العينين وصغر ما دونه
١١٧ اليقين ترك الشكوى عندما يضاد
المراد مع أنه إذا بطلت الشكوى توقف البحث عن اليقين
١١٨ فالشكوى أشبه بالشك الذي يؤدي إلى
اليقين عند القدماء والمحدثين. وإذا كان المراد
لم يتحقق فلماذا ترك الشكوى وعدم الاعتراض؟
١١٩ وإذا كان الطريق واضحًا والحق
لائحًا والداعي مسموعًا فلمَ الحيرة والعمى؟
وهل في الدنيا وضوح بهذا المعنى؟ أليست الحيرة
والتردد والشك طريقًا إلى اليقين كما عبر عن
ذلك الفلاسفة؟
١٢٠
الظن واليقين نقيضان مثل الكلام والصدق،
والعبادة بالجوارح والورع
١٢١ فلا يترك اليقين للظن
١٢٢ ومن ظن حرم اليقين في حين أن الظن
أي الشك طريق اليقين
١٢٣ واليقين لا يأتي إلا بعد الظن.
ويستطيع العالم الفقيه التمييز بين الظن واليقين
١٢٤ وهي تجربة الشك والإيمان ولكنها
إلى الإيمان أقرب مثل عمر الخيام. غيب الحديث
خاف. والرمز متخاف. والثقة في التصريح. فغاية
الإيمان اليقين. وغاية اليقين ما يجده الإنسان
في قلبه ويمسه بروحه. ويهيم عليه بفؤاده. وتسلو
به نفسه
١٢٥ والظن من النفوس الكاذبة والأماني
الخاتلة والوساوس الحاجبة لأنهم شاهدوا النفوس
من الحظوظ
١٢٦ والظن مثل الوهم لا يقود إلى المعرفة
١٢٧ ويعتذر الصوفي عن جهله وشكه وظنه
١٢٨ وحسن الظن هو تنزيه المولى عن الهم
١٢٩ وموقف الرفق هو موقف اليقين النظري
وليس حسن المعاملة في السلوك وهو حسن الظن.
اليقين يحمي من الاضطراب، ويهدي إلى الحق. في
حين أن حسن الظن يؤدي إلى التصديق.
١٣٠
والوقوف على حق اليقين وهو القرآن، ثم إعطاء
علم اليقين ثم مشاهدة عين اليقين يؤدي إلى
سلامة الصدر. وعلامة ذلك الرضا بالقضاء والقدر
والهيبة والمحبة، والحفظ والوكالة من غير تهمة
اعتراض وكأن الاعتراض تهمة.
١٣١
وهو لفظ قرآني
١٣٢ له ثلاثة معاني: علم اليقين، عين
اليقين، حق اليقين. والكشف لا يزيد من علم
اليقين. وباستكمال حق اليقين يصير البلاء نعمة،
والرخاء مصيبة. واليقين هو المكاشفة. وهي على
ثلاثة أوجه: مكاشفة العيان بالإبصار يوم
القيامة، ومكاشفة القلوب بحقائق الإيمان
بمباشرة اليقين بلا كيف ولا حد، ومكاشفة الآيات
بإظهار قدرة الأنبياء بالمعجزات وللأولياء
بالكرامات.
واليقين حال رفيع. وأصله على ثلاثة
أحوال:
الأول للأصاغر وهم المريدون من العام. ولهم
أول مراتب اليقين، الثقة بما في يد الله واليأس
مما في يد الخلق. هو ارتفاع الشك. وإذا وجد
العبد الرضا بما قسمه الله تكامل اليقين. هو
تحقيق القلب بالمعنى الذي هو به.
والثاني للأواسط وهم الخصوص وهو زوال
المعارضات على دوام الأوقات. وإذا تحقق العبد
باليقين ترحل من يقين إلى يقين حتى يصير اليقين
له وطنًا. واليقين هو المشاهدة.
والثالث للأكابر وهم خصوص الخصوص وهو تحقيق
الإثبات لله بكل صفاته. وهو دوام انتصاب القلوب
لله بما أورده عليها من اليقين والإلهام. ولا
يحدث إلا بعد قطع كل العلاقات والأسباب. وهو
آخر الأحوال وأصلها وباطنها. نهايته التصديق
بالغيب وإزالة كل شك وريب، والاستبشار وحلاوة
المناجاة، وصفاء النظر ومشاهدة القلوب بحقائق
اليقين، وإزالة العلل. اليقين بالمعنى يؤدي إلى
مشاهدة الأحوال. وإذا انكشفت حقائق المعنى خرج
من أشجان الخلق، وخاطب بالتقريب، وهو الكشف عن
الصديقية.
وصحة اليقين أول شعب الإخلاص وله ثلاث
علامات: سكون القلب إلى الثقة بالله، والانقياد
لأمر الله، والإشفاق والوجل من سابق العلم
١٣٣ ولليقين أول وآخر أوله الطمأنينة،
وآخره إفراد الله الكفاية.
لذلك اليقين على ثلاث درجات من أدناها إلى
أعلاها، من علم اليقين إلى عين اليقين إلى حق اليقين
١٣٤ علم اليقين يقوم على البرهان مثل
العلوم العقلية أو النظرية: الكلام والفلسفة
والأصول. وعين اليقين يقوم على البيان والقدرة
على التعبير مثل فنون الأدب ومنها التجارب
الشعرية. وحق اليقين يقوم على العيان والمشاهدة
والحضور والرؤية المباشرة مثل علوم التصوف. علم
اليقين لأصحاب العقول، وعين اليقين لأصحاب
العلوم، وحق اليقين لأصحاب المعارف.
اليقين على ثلاثة مقامات: الأول المعاينة
المطابقة للخبر وهو مقام الصديقين والمقربين
والشهداء. والثاني التصديق والاستسلام المطابق
للخبر أيضًا وهو مقام المؤمنين. يضعف ويقوى مثل
الإيمان. يزيد وينقص طبقًا للأسباب والعادة
والحجب والمكاشفة، والوسائط والمباشرة. يأنسون
بالخلق. ويتلونون بالخلاف. وهو لعموم المؤمنين،
لأصحاب اليمين. والثالث يقين ظن يقوى بدلائل
العلم والخبر وأقوال العلماء. يقوى ويضعف
بالأدلة. وهو يقين المتكلمين وأهل الرأي وعلوم
العقل والقياس والنظر. هو علم التوحيد والمعرفة
على قدر اليقين، واليقين على قدر الصفاء
والإيمان، والصفاء والإيمان على قدر المعاملة
والرعاية. والظل الذي توارى إليه موسى هو ما
خصه الله به من علم اليقين
١٣٥ علم اليقين ما يأتي بالدليل. وعين
اليقين علم لا نزاع ولا اضطراب فيه. وحق اليقين
لا حركة ولا سكون فيها.
١٣٦ علم اليقين يدل على الأفعال. فإذا
فعلها وأخلص فيها وظهرت له البينات صار حق اليقين.
١٣٧
(٥) المعرفة الكشفية
وإذا كان العلم خيرًا من المال وكان يحرس
العالم فإن العالم يحرس المال. فإنه أيضًا نور
يقذفه الله تعالى في القلب. وهو المعرفة
الكشفية. وإذا كان العلم استبيانًا للمشكلات في
الدين فإن المعرفة بيان شبهات حاكت في الصدور.
العلم عقلي والمعرفة قلبية
١٥٣ والعارف بحاله أفضل من العالم
بحاله. فالعلم عقلي والمعرفة شعورية. والمعرفة
التي لا يعترف بها أحد مخيفة. وإنكار المعرفة
التي لا يعمل بها المفكر أيضًا مخيفة. والإنكار
صفة المعرفة وحليفتها. الجهل صورتها. وغيابها
عن الأفهام آيتها.
والمعرفة تناقض بين الذات والموضوع. إذ كيف
تعرف الذات موضوع المعرفة بلا أين ولا متى، بلا
مكان ولا زمان ولا جهة ولا بداية ولا نهاية؟ هل
الذات والموضوع اتصال أم انفصال؟ لا تصح
المعرفة إلا لمحدود ومعدود ومجهود ومكدود
١٥٤ المعرفة للما وراء، لما وراء
الوراء، وما وراء المدى، وما وراء الهمة، وما
وراء الاسرار، وما وراء الأخبار، وما وراء الإدراك
١٥٥ وهناك ادعاءات عدة لإمكانية
المعرفة تستلزم المعرفة الكشفية وتبررها.
ويسوقها ابن تيمية لنقد المنطق الأرسطي ولتبرير
الوحي وهي: أولًا، إمكانية المعرفة بالفقد
والوجد. وهما حالتان نفسيتان من الأحوال. فكيف
يعرف المفقود الموجود؟ وكيف يعرف الحادث
القديم؟ ثانيًا، إمكانية المعرفة بعد الجهل.
والجهل حجاب، والمعرفة كشف حجاب. ثالثًا،
إمكانية المعرفة بالاسم لأن الاسم لا يفارق
المُسمى. فهل يمكن الوصول من الاسم إلى المسمى،
ومن اللغة إلى الوجود، ومن الصوت أو الحرف إلى
الشيء والعالم؟ رابعًا، إمكانية المعرفة
بالمعروف نفسه، وهو تحصيل حاصل. فكيف يمكن
المعرفة بالمعروف وهو غير معروف بعد؟ خامسًا،
إمكانية المعرفة والاستدلال عليه بالخلق والصنع
كما قال المتكلمون والحكماء. وهو اكتفاء
بالصنعة دون الصانع. وكيف يدل الأقل على
الأكثر، والكم على الكيف، والمرئي على
اللامرئي؟ سادسًا، ويمكن معرفته بالعجز عن
معرفته كما قيل «العجز عن إدراك الإدراك
إدراك». وكيف يدرك العاجز وهو منقطع عن المعروف
ولا اتصال بين العارف والمعروف؟ سابعًا، ويمكن
معرفته على التبادل. فالمعرفة قصد متبادل بين
الذات العارف وموضوع المعرفة. «كما عرفني
عرفته». وإذا كان المعلوم مفارقًا للذات فكيف
يعرف؟ ثامنًا، يمكن معرفته كما وصف نفسه. وهو
اقتناع بالخبر دون الأثر، وبالرواية دون
الدراسة. وهو إقرار باستحالة المعرفة لأن
المعروف هو الذي عرف نفسه بنفسه. تاسعًا، يمكن
معرفته بالحد المنطقي، الجنس والفصل. والمعروف
لا يحد ولا يتحيز ولا يتبعض، لا جنس ولا فصل له.
١٥٦ عاشرًا، ولا يمكن معرفته على
الحقيقة لأن وجود العارف أقل من وجود المعروف
وهو ادعاء.
١٥٧
والمعرفة ليست فقط تصورًا بل تصديقًا. ولا
يعني التصديق الحكم بل إيجاد البرهان اليقيني
على صدق المعرفة. الخلق كلهم يدعون المعرفة دون
صدقها على عكس الأنبياء والأولياء
١٥٨ وصدق المعرفة هو علم العلم. ولا
يعرف الشيء إلا بضده. فلا يعرف الإخلاص إلا بالرياء
١٥٩ وإذا عرف العبد العدو عرف ربه.
فالمعرفة بالضد، ومعرفة الشيطان شرط لمعرفة
الله. ومعرفة الشر مقدمة لمعرفة الخير.
١٦٠
والمعرفة فكر أي إنها معرفة حياة. وشجرة
المعرفة تسقى بماء الفكرة
١٦١ ولا حياة إلا لأهل المعرفة وهم
الخلق. وهم متحركون في أسبابهم. يربون على
الأرض. فالحياة حركة. والمعرفة حركة «صوفية»
١٦٢ والعارفون بين ذائق وشائق ووامق.
فالمنة شاقتهم. والشوق ذوقهم. من ذاق في شوق
فردي سكن وتمكن ومن ذاق من غير ري أورث
الانزعاج والهيمان
١٦٣ والعطش على درجات: عطش البراري،
وعطش شط النيل. فالعارف لا يرتوي.
١٦٤
حقيقة المعرفة الخروج من المعارف، قراءة ما
بين السطور، استنباط العلم من المعلومات، ألا
يخطر بالقلب ما دونه. المعرفة هي المعرفة الجوهرية
١٦٥ تحدث المعرفة إذا بدا الشاهد، وفنت
الشواهد، وذهبت الحواس، واضمحل الإحساس.
فالمعرفة هي المعرفة الباطنية. البداية
المعرفة، والنهاية التوحيد. وقد سمي الشاهد
شاهدًا لأن الشاهد الحق شاهد في الضمير، مطلع
على الأسرار، وشاهد لجماله في خلقه وعباده.
ويشهد الصوفي بقطع منزل المريدين وهموم
العارفين.
المعرفة إحضار السر بصنوف الفكر في مراعاة
مواجيد الأذكار على توالي إعلام الكشوف.
فالمعرفة شعورية وهي معرفة الحال في الوقت
١٦٦ هي رؤية الأشياء، واستهلاك الكل في
الأجزاء. فالمعرفة طبيعية ورؤية الكل في
الأجزاء وليست معرفة صورية نظرية مجردة.
المعرفة وصفية. من عرف ما وصفه وصف ما عرفه. ثم
تسلب المعرفة لذة المعرفة لأنها تصبح همًّا.
١٦٧
ولا تتم المعرفة مع الشهوة. ولا يعرف نفسه من
تصحبه شهوته
١٦٨ لذلك الزهد شرط. هم العارف ما
يأمل، وهم الزاهد ما يأكل. هم العارف ما يأكل.
وهم الزاهد ألا يأكل
١٦٩ العارف صافي الباطن مختلط الظاهر
في حين أن الزاهد صافي الظاهر مختلط الباطن.
فالعارف أعلى من الزاهد. العارفون غرباء في
الآخرة، والزاهدون غرباء في الدنيا
١٧٠ ومن عرف الله فإنه يزهد في كل شيء
يشغله عنه. والمحبة طريقها. وأمل العارف في
الدنيا الإيمان وفي الآخرة العفو. وأمل الزاهد
في الدنيا الآيات، وفي الآخرة الكرامات. العلم
يورث المخافة، والمعرفة تورث الإنابة، والزهد
يورث الراحة
١٧١ حقيقة المعرفة محبة لله بالقلب،
وذكره باللسان، وقطع الهمة من كل شيء سواه.
وهذا تعريف للمعرفة بالمعروف وليس تعريف
المعرفة في ذاتها. ومن علامة المعرفة المحبة
لأن من عرف أحب ومن أحب عرف
١٧٢ شرط المعرفة استحضار الله في القلب
من أجل يقظة الضمير واستيعاب الكل.
تتم المعرفة بتضييع ما للعارف والوقوف مع ما
لله. ولماذا لا تكون المعرفة من ذاتها وليس من
خارجها، بالوقوف مع الذات وليس ضدها؟ وعلامة
العارف ألا يفتر عن ذكر الله، ولا يمل من أداء
حقه، ولا يستأنس بغيره. ويعرف الله بالله،
ويعرف ما دون الله بنور الله
١٧٣ فما دور المعرفة المستقلة إذن؟
المعرفة في ذات الحق جهل، والعلم في حقيقة
المعرفة حيرة، والإشارة شرك في الإشارة. وأبعد
الخلق من الله أكثرهم إشارة إليه. فذات الله
خارج المعرفة. ومعرفة المعرفة حيرة. والله ليس
في مكان حتى يشار إليه. ومن ثم يستحيل معرفة
الله أو العلم به أو الإشارة إليه. والمعرفة في
ذات الحق جهل خوفا من الوقوع في التشبيه.
والعلم في حقيقته. المعرفة جناية لوجود الظاهر
والباطن. والإشارة من المشير شرك لأنه يتضمن الأثنينية
١٧٤ من التمس الحق بنور الإيمان كمن
يطلب الشمس بنور الكواكب. فالحق أسطع من
الإيمان به
١٧٥ ليس على العارف أشد من الحجاب عن
الله ولو طرفة عين. فالمعرفة مشاهدة وكشف.
المعرفة تهتك الحجب بين الإنسان والله والدنيا
هي التي تحجب. العلم كشف والدنيا حجاب. المعرفة
سراج والعقل فتيل. والعلم نار والمزيد زيت.
وعلى قدر الزيادة تكون النار. وهو التشبيه
القرآني، السراج المضيء الذي لم تمسسه نار.
تتولد الشكوى وضيق الصدر من قلة المعرفة بالله.
ومن أراد أن يعرف حل محل نفسه ومتابعتها للحق
أو مخالفتها له فلينظر مما يماليه في مراد له.
فإن كان مثله فإنه متابع للحق. وهي التجربة
المشتركة بين الذوات. وما يحبب الخلوة للعارفين
ويحميهم من الغفلة وثبة الأكياس عن فخ الدنيا.
مع أن العلم يأتي من التجارب الحية في الحياة
اليومية.
والدعاء الأثير بصفاء المعرفة وتصحيح
المعاملة على السنة بين الإنسان والله وصدق
التوكل عليه، وحسن الظن به، ومن كل من يقرب
إليه من العوافي في الدارين. والمعرفة في
الدنيا مع اليقين والتوكل. المعرفة نور واليقين
هداية، والتوكل سر أطلع الله الأنبياء
والصديقين على اليسير منه. والمعرفة تؤدي إلى
المحبة بالضرورة. فالأخلاق شرط المعرفة وسابقة
عليها. الأخلاق مقدمة والمعرفة نتيجة. العارف
لا يكدره شيء، ويصفو له كل شيء
١٧٦ والمعرفة نتيجة صفاء القلب. لا
يمرح بشيء، ولا يخاف من شيء. وعلامة العارف أن
يكون طعامه واحدًا، وبيته حيثما أدرك، وشغله بربه
١٧٧ شرط المعرفة النفس العارية والبطن الجائع
١٧٨ وأيضًا عدم الفتور عن ذكره ولا
الملل من حقه ولا الاستئناس بغيره. وأدنى ما
يجب على العارف أن يهب له ما قد ملكه
١٧٩ وثواب العارف من ربه هو.
١٨٠
والمعصومون يعيشون في رحمة العلم، والمطيعون
في رحمة القرب. فالعلم عصمة، والقرب طاعة.
والعصمة والطاعة ليستا صفتين بشريتين. العلم
خطأ وصواب، والطاعة يتجاذبها الهوى. ومن عرف
الله نال معرفته. ومن نال معرفة جوز أمره على
كل شيء دونه. فالمعرفة عمل. وكل شيء جائز دون
الله. ومعرفة قيام الله تذهب النوم. فالعمل
سابق للمعرفة وتال لها في آن واحد
١٨١ وعند أهل المعرفة للدين رأسمال:
خمسة في الظاهر وهي: صدق اللسان، وسخاوة الملك،
وتواضع الأبدان، وكف الأذى واحتماله. وخمسة في
الباطن: حب وجود السيد، وخوف الفراق، ورجاء
الوصول، والندم على ما فعله، والحياء من الرب
١٨٢ لا فرق إذن بين الأخلاق والمعرفة.
الأخلاق مقدمة للمعرفة ونتيجة لها في آن
واحد.
ولا
تأتي المعرفة من الدنيا بدائها ودوائها ولا
يرجع إليها
١٨٣ إنما العبادة تؤدي إلى معرفة الله
والجهل بالله يمنع من معرفته. العبادة شرط
المعرفة، والمعرفة شرط العبادة. وثلاثة أشياء
تستحكم بها مقام العبودية لله: الفهم والزهد
والفراسة. وهي العلم والطاعة والإخلاص. وضدها
الجهل والمعصية والرياء
١٨٤ وهناك فرق بين العابد والعارف.
العابد يعبد الحال، والعارف يعبده في الحال.
فحال العابد خارجي مثل أوقات الشعائر في حين أن
حال العارف داخلي، حال النفس
١٨٥ العبادة ظاهر، والمعرفة
باطن.
والعارف كل يوم أخشع لأنه كل ساعة أقرب. وشرط
القرب عدم الانشغال عن الله حتى بحلاوة القرب
١٨٦ العارف لا يلزم حالة واحدة. إنما
يلزم ربه في الحالات كلها. وما يرفع العبد
العلم والأدب والأمانة والعفة. فالعلم هو العلم الأخلاقي
١٨٧ والأخلاق شرط المعرفة. والاستقامة
ركيزة الأخلاق وأحسن معرفة هي أحسن أخلاق. ومن
علامة المعرفة بالله القيام بحقوقه وإيثاره على
النفس فيما دخل تحت القدرة. فالمعرفة حقوق، ليس
فقط حقوق الله بل أيضًا حقوق الإنسان
١٨٨ ولا توجد درجة أعلى من العارف إلا
وجود المعروف. فهو قادر على معرفة كل شيء. وقد
تختلف المعارف إلا في تجريد التوحيد. وأدنى
واجب للعارف أن يهب للمعروف ما قد ملكه
١٨٩ وليس للعارف نعمة لأنه في كل نعمة.
١٩٠
وإذا عرف الإنسان نفسه عرف ربه، فالله حال في
النفس
وَفِي أَنْفُسِكُمْ
أَفَلَا تُبْصِرُونَ. وإذا عرف الإنسان
عقله، عرف ما بينه وبين الله. فالله قصد للعقل.
وإذا عرف العلم عرف كيفية الوصول إلى الرب،
فالعلم طريق إلى الله. عظمة أهل المعرفة بالله
النظر في عظمته وملكه وطلب مرضاته أو في زاده
أو في انتظار القدوم إليه. فالمعرفة به وبرضاه
وبرزقه مع الانتظار للذهاب إليه. دور الإنسان
إذن سلبي خالص. والعالم غائب عنه. والفعل لا
وجود له. ومعرفة الله إحدى ضرورات ثلاث مع
ضرورة الخلق وضرورة الحال أي الافتقار إليه.
وهي ضرورات خارج حرية الإنسان. والأصل في
المعرفة معرفة الربوبية ثم القول ثم العلم ثم
اليقين ثم اليمين ثم الإيمان ثم الإسلام ثم
الشهادة ثم الحكم والحاكم هو الله. فالله بداية
المعرفة ونهايتها.
١٩١
والمعرفة على ثلاثة أنواع: معرفة إقرار،
ومعرفة حقيقة، ومعرفة مشاهدة. ينتج عنها أشكال
التعبير بالعبارة والكلام والإشارة.
١٩٢ ومعرفة الرسول درجة من درجاتها،
ولو اقترب منها الصوفي لاحترق. وهي بداية ظهور
الحقيقة المحمدية
١٩٣ والمعرفة على ثلاث درجات: طلب الله
من الغفلة، والهرب من الله للعجز عنه والوقف
دون طلب أو هرب
١٩٤ المعرفة مطالعة القلوب لإفراده على
لطائف تعريفة.
١٩٥ من عرف الله ذهب من قلبه النوم.
فالمعرفة يقظة دائمة. ولا يعرف إلا إذا كانت
هيبته في القلب. ولا يذكر إلا إذا شعر بالطامة
١٩٦ والقلب المتخلي عن سوى الله يرى
الغيب والأسرار. ليس للعارف حاجة ولا اختيار
فقيامه بموجده.
١٩٧
ومقتضى العقل أن يعلم العارف أن الله غني عن عمله
١٩٨ وأكمل العقلاء من يقر بالعجز عن
معرفته. فكيف إذن حضوره في كل شيء وهو مجهول؟
١٩٩ ويعرف الرب بذكره وقول لا إله إلا
الله مع الثبات
٢٠٠ وقد يكون العالم محجوبًا من الله
إن لم يعلم أن ما لديه من العلم هو مجرد سطر من
اللوح المحفوظ
٢٠١ والعارف لا يسأل. ومن لا يعرف لا
يعرف قول العارف
٢٠٢ فالمعرفة شرط المعرفة، المعرفة
الأولية شرط المعرفة الثانية، المعرفة البديهية
أو الحدسية شرط المعرفة الإلهية. ولا يزال
العارف يعرف، والمعارف تعرف حتى يهلك العارف في
المعارف فيتكلم عن العارف ويبقى بلا معارف
٢٠٣ ولو أن مئات الألوف من الملائكة
بقدر جبريل وميكائيل وإسرافيل في قلب العارف ما
أحس بهم العارف. وإن أحس بهم فليس بعارف لأن
المعرفة لاشعورية.
٢٠٤ إذا رأى أحد العارف هابه، وإذا
فارقه هابه. وإذا رأى الصادق الزاهد هابه. وإذا
فارقه هان عليه أمره.
٢٠٥
وعلامة العارف خمسة أشياء: القيام على باب
الرب، الإقبال إليه، الأنس به، عدم الانشغال
إلا به، والفرار من الخلق إلى الخالق، ومن
الأسباب إلى وليها
٢٠٦ وفي صنعة العارف، غيبوبة الخلق
منه. وسعة مقام العارف وأدنى صفة العارف أن
تجري فيه صفات الحق وجنس الربوبية. للخلق
أحوال. ولا حال للعارف لحجب رسومه. فلا يشاهد
في اليقظة والنوم إلا الله
٢٠٧ وإذا التفت العارف إلى الخلق بغير
إذن الخالق فإنه لم يعرف
٢٠٨ العالم يلاحظ نفسه، والعارف يلاحظ
ربه. ومن علامة المعرفة أن يصبح العارف في قبضة
الله، تجري عليه تصاريف القدرة وكان ثمن
المعرفة فقدان الحرية.
٢٠٩ المعرفة هي الدافع على الإنابة.
والعارف سره مع الله
٢١٠ العارف مع الناس وليس معهم، داخل
معهم وبائن منهم
٢١١ معرفته من الله ومن الناس، من
الوحي ومن الحياة اليومية، من السماء ومن
الأرض، من أعلى ومن أدنى، من المثال ومن
الواقع. العارف هو العليم بأسرار المنازل،
بالله وبالكون، بالحق وبالخلق.
٢١٢
(٦) المعرفة المباشرة
وتقابل درجات اليقين الثلاثة درجات الوصول
إليها وهي: المحاضرة والمكاشفة والمشاهدة.
المحاضرة في البداية تقابل علم اليقين،
والمكاشفة في الوسط تقابل عين اليقين،
والمشاهدة في النهاية تقابل حق اليقين.
المحاضرة وحضور القلب. وقد يكون بتواتر البرهان
على ما وراء الستر. والحضور استيلاء سلطان
الذكر. والمكاشفة حضور بنعت البيان دونما حاجة
إلى دليل أو طلب سبيل. لا تخلو من دواعي الريب.
ولا محجوب فيه من نعت الغيب. والمشاهدة حضور
الحق دون تهمة وكشف الستر وإشراق شمس الشهود.
صاحب المحاضرة مشروط بآياته. وصاحب المكاشفة
مبسوط بصفاته، وصاحب المشاهدة ملقى بذاته. صاحب
المحاضرة يهديه عقله، وصاحب المكاشفة يدنيه
علمه، وصاحب المشاهدة تمحوه معرفته. يبدأ
اليقين بالمكاشفة ثم المعاينة
لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ
الْيَقِينِ، والمشاهدة وهي الطمأنينة
إلى الإيمان
٢١٣ فالمشاهدة توالي أنوار التجلي على
القلب دون ستر أو انقطاع كاتصال البروق. ولا
تصح إذا ما بقي عرق قائم
٢١٤ ولا تقتضي المباينة بين الشاهد
والمشهود. المحاضرة ابتداء المكاشفة، والمكاشفة
بداية المشاهدة. وقد تضم المعاينة إلى المحاضرة
والمكاشفة والمشاهدة. فالعلم هو المعاينة. ومن
لم يعتبر بالمعاينة لا يتعظ بالموعظة ويستغني عنها
٢١٥ المعاينة هي التجربة الذاتية.
المحاضرة حضور القلب. وقد يكون بتواتر البرهان
وهو ما زال وراء الستر أو باستيلاء سلطان
الذكر. المشاهدات للقلوب، والمكاشفات للأسرار،
والمعاينات للبصائر، والمراعاة للأبصار
٢١٦ فهذه أربع درجات للمعرفة: مشاهدة
القلب، ومكاشفة السر. الأول ذات، والثاني
موضوع. والمعاينة للبصيرة والمرآة للبصر.
الأولى للعين الباطنة، والثانية للعين الظاهرة.
٢١٧
الكشف ما يستتر على الفهم فيكشف عنه للإنسان
رؤية العين. كشف العيون الإبصار. وكشف القلوب بالاتصال
٢١٨ والمكاشفة حضور بالعيان دونما حاجة
إلى دليل
٢١٩ العلوم بالوسائط، والحقائق بالمكاشفة
٢٢٠ واليقين مع الكشف
٢٢١ والكشف شهادة. وهذا موقف حق المعرفة
٢٢٢ المكاشفة أمانة الفهم وتحقيق زيادة
الحال وتحقيق الإشارة
٢٢٣ المكاشفة متعلقة بالمعاني،
والمشاهدة متعلقة بالذوات. المشاهدة للمسمى
والمكاشفة لحكم الأسماء. المكاشفة أتم من
المشاهدة إلا لو صحت مشاهدة ذات الحق. فإن لم
تكن فهي المكاشفة. المكاشفة تلطيف الكثيف،
والمشاهدة تكثيف اللطيف. الشاهد ما يشهد بما
غاب ويحضره في القلب. هو في الضمير والسر.
أحلام الغيب لا تشاهد في الدنيا ولكن تشاهد
فضائح الدعوى في عالم الشاهد. وعالم الغائب
مجهولة أحكامه
٢٢٤ والمشهود ما يشهده الشاهد. وهما
لفظان قرآنيان
وَشَاهِدٍ
وَمَشْهُودٍ٢٢٥ وشاهد
الغيب هو
شاهد الذمة. وشاهد اللبس هو شاهد النزع. وشاهد
العلم هو شاهد العمل. وشاهد النوم هو شاهد اليقظة
٢٢٦ المشاهدة إطلاع القلوب بصفاء
اليقين إلى ما أخبر الحق عن الغيوب
٢٢٧ ولا يجوز الاستدلال بالشاهد على
الغائب لأنه لا يعتد بصفات من يشاهد ولا يعاين.
وهو ذو مثل على صفة من لا يشاهد في الدنيا ولا
يعاين ولا مثل له ولا نظير
٢٢٨ و«الشاهد» ما يكون حاضرًا في القلب
وما يغلب عليه ذكره حتى كأنه يراه ويبصره وإن
كان غائبًا عنه. هو الاستيلاء على القلب حتى
يشاهد. وقد يكون المشاهد العلم أو الوجد كل ما
يحضر في القلب شاهد. والسؤال هو من يشاهد
الشاهد الحق أم يشاهد الحق الشاهد؟
٢٢٩ وفي كلتا الحالتين الشاهد والشهادة
من نفس الاشتقاق أي الفناء عن البشرية أو
البقاء فيها. ولا تتضمن المشاهدة التفرقة بل
المشاركة. المشاهدة حضور الحق. ولا تصبح لو بقي
للإنسان عرق قائم. المعرفة ظهور الحقائق،
وتلاقي الشواهد، وصرف النظر عن موضوع محدد
٢٣٠ المعرفة كلية وليست جزئية، نازلة
وليست صاعدة، استنباطية وليست استقرائية.
الواقع مثير وحامل لها، وليس مبدعها وخالقها.
المشاهدة أن تتوالى أنوار التجلي على القلب دون
ستر أو انقطاع وهي طبع وخلقة وهبة
٢٣١ المشاهدة رؤية الأشياء بدلائل
التوحيد ورؤيته في الأشياء وحقيقتها اليقين من
غير شك
٢٣٢ كما يستعمل فعل «شهد» ومشتقاته مثل
«شهد» ويعنى «أري»، «أتحقق»
٢٣٣ لذلك خصص موقف للبصيرة
٢٣٤ فالعلم معلوم ومعيون أي إنه موضوع
المعرفة والرؤية بالعين. وعلم المشاهدة لا ينير
فقط بل يحرق
٢٣٥ مشاهدة الأرواح تحقيق. ومشاهد
القلوب تعريف. فالروح تشاهد، والقلب يعرف.
٢٣٦
المشاهدة لفظ قرآني
٢٣٧ الشاهد الرب، والمشهود الكون. ومن
شاهد الله بقلبه لم يشاهد سواه. والمشاهدة ما
لا فات القلوب من الغيب دون عيان أو وجد. هو
وصل بين رؤية القلب ورؤية العيان لأن رؤية
القلوب عند كشف اليقين زيادة توهم. المشاهدة هي
المحاضرة والمناداة. هي زوائد اليقين سطعت
بكواشف الحضور غير خارجة من تغطية القلب. هو
حضور بمعنى قرب مقرون بعلم اليقين
وحقائقها.
وهي على ثلاثة أحوال:
- الأول: عند الأصاغر المريدين، هي مشاهدة
الأشياء بعين العبر ومعاينتها بأهل
الفكر.
- والثاني: عند الأواسط هو ألا يبقى في سر
المشاهد غير الله.
- والثالث: عند القلة، مشاهدة الله في قلوب
العارفين مشاهدة تثبيت في كل شيء،
ظاهرًا وباطنًا، أولًا وآخرًا. وهي
حال رفيع من لوائح زيادات
اليقين.
وتعني المشاهدة المداناة والقرب. والمكاشفة
والمشاهدة والمحاضرة بمعنى واحد. أول المشاهدة
زوايد اليقين سطعت بكواشف الحضور، والتماس
القلب دوام المحاضرة.
٢٣٨
ويشاهد
الإنسان بمشاهدة الحق إياه وليس بمشاهدته له.
فالمشاهدة نور في القلب قبل أن تكون رؤية لموضوع
٢٣٩ القدرة ظاهرة والأعين مفتوحة ولكن
أنوار البصائر ضعفت
٢٤٠ الأبصار قوية والبصائر ضعيفة
٢٤١ فظلم الأطماع تمنع من أنوار المشاهدات
٢٤٢ المشاهدة ابتلاء الخلائق بالدعاوى
العريضة في الغيب. إذا أظلتهم هيبة المشهد
انعقدت الألسنة وانقمعوا وصاروا لا شيء. ولو
صدقوا في دعواهم لبرزوا حين المشاهدة، ولرأوا
كما فعل الرسول حين طلب الشفاعة. لم ترعه هيبة
الموقف لما كان لديه من قدم الصدق
٢٤٣ وعلى قدر الابتلاء تكون المشاهدة.
وعلى قدر المشاهدة يكون الابتلاء. وعلى قدر
المعرفة بالابتلاء تكون العصمة. وعلى قدر إظهار
الفاقة والفقر إلى الله يُعرف الضر والنفع،
ويزداد العلم فهمًا وبصرًا. ما التذ عاقل
بمشاهدة لأن مشاهدة الحق خفاء ليس فيه لذة ولا
التذاذ، ولا حظ ولا احتظاظ. وإن لم يكن بالفناء
لذة ولا التذاذ، لا حظ ولا احتظاظ.
من عمل على رؤية الجزاء كانت أعماله وثوابه
بالعدد والإحصاء. ومن عمل على المشاهدة أذهلته
عن التعداد والعدد، وكان أجره بلا عدد
٢٤٤ ولذة الثواب في الآخرة على قدر لذة
التعبد في الدنيا. وقياسًا على ذلك يقال عن
الرؤية.
والعلماء متفاوتون في ترتيب مشاهدات الأشياء
في ثلاث طبقات: من الأشياء إلى الله، ومن الله
إلى الأشياء، ومن الأشياء إلى الأشياء. بقيت من
الله إلى الله وتكتمل بذلك الأسفار الأربعة كما
حددها صدر الدين الشيرازي
٢٤٥ وكيف تشهده الأشياء وهي تغنى
بذواتها عن ذواتها فيه؟ وكيف تغيب عنه وبه ظهرت
وبصفاته؟ لا يشهده شيء ولا يغيب عنه، تلك وحدة
الذات والموضوع.
اشرأبت القلوب لمشاهدة ذات الحق فألقيت لها
الأسامي. واستترت الذات إلى وقت التجلي.
فالأسماء واسطة الذات وإشارة عليها. لذلك
أظهرها الحق وأبداها للخلق ليسكن بها شق
المحبين. وتأنس بها قلوب العارفين
٢٤٦ من أعرض عن مشاهدة الله شغله الله
بطاعته وخدمته. فالعبادة أقل من المشاهدة. ولو
بدا له نجم الاحتراق لغيبه عن وساوس الاختراق
٢٤٧ ولا يغيب أهل المشاهدة عن الله
قياما وقعودًا، ولا نومًا ولا انتباهًا. ولهم
أحوال تسطع عليها أنوار القرب. لا يتفرغون إلى
الخلق وما هم فيه. وتلك أسوأ أحوال الدهشة،
دهشة وحيرة، غيابا بأسرارهم، وحضورًا بأبدانهم.
٢٤٨
والمشاهدة قادرة على قهر الشيطان. كما قهره
الأنبياء والصديقون. والإنسان بين نسبتين: نسبة
إلى الحق للدخول في مقدمات الكشف والبراهين
والعظمة، وهي نسبة تحقق العبودية، ونسبة إلى
آدم للدخول في مقامات الظلم والجهل. وكما أن
شرط العلم العمل، وشرط الورع الإخلاص، فإن شرط
الإخلاص المشاهدة المتبادلة بين العبد والرب،
والصحبة المتبادلة. ولا راحة حتى يرى الله في
القلب ويقيم عليه. فالرؤية إذن قلبية وليست
موضوعية، داخلية وليست خارجية.
ولا يستطيع الإنسان أن يعلم أكثر مما في
الدنيا إلا في الآخرة عن طريق المشاهدة
والمشافهة. ويرى العبد ربه ويكلمه بإيمانه
وتسليمه له وترك جميع أحواله واختياره له، وترك
كل ما في الدنيا.
٢٤٩
ويلتزم الإنسان بعدم الشبع أو الملل عن العلم
وبأن الله يشاهد كل شيء، فالحاجة إليه والموت
على بابه. ويبعد عن المشاهدة الطمع في الخلق
والدوران عليهم بالذم أو المدح. وأفضل علم هو
علم العبد بأن الله شاهده. وأفضل شرف النظرة
إلى الله، والاستماع منه، والكلام معه. والناس
في علاقتهم بالله يعلمون أن الله شاهدهم وهو
معهم في عبوديتهم أو الاستعانة به، والصبر على
ذلك. وهو خير الدنيا والآخرة، وخير السر
والعلانية. وإذا من الله على العبد بالإيمان
وثبت في قلبه، من عليه باليمنة فشهد قلبه
الأسماء. فالأسماء موضوع للمشاهدة وليس للفهم.
وهي أيضًا مرئية وليست فقط مسموعة. وهنا يتحقق
الإسلام ثم الوصول إلى السلام ثم دار الكفاية
والولاية. والعلم بأن الله شاهد العبد مشروط
بطعام إلى الصرف، ولباس إلى المزبلة، ومال
للميراث، وأحباب للتراب. وشهادة الله للعبد
تعني أنه مطلع على أحواله، قادر على قربه، رحيم
رءوف به. وهو شرط القرب من الله والخوف منه
والإيثار له والفقر إليه. فالمشاهدة متبادلة.
يشاهد العبد الرب كما يشاهد الرب العبد. ويفرح
العبد بمشاهدة الرب له. فيعرف مقامه من الإيمان
والقرب. ويستمع إليه، ويذكره باللسان. ويطلب
مرضاته وطاعته ليرحمه. ويقوم بكل أعمال البر.
٢٥٠
من رأى شهد أن الشيء لله ولم يرتبط به. ومن
لم ير الله لم ير الشيء ولم يشهد له. وليس كل
من رأى الله شهد من رأى. الشهادة أن تعرف. وقد
يرى أحد ولا يعرف. ومن أحبه الله أشهده. فإذا
شهد به أحبه
٢٥١ ومن كان يعبد الله كأنه يراه فإن
الله يراه وإلا كان غافلًا. وقوم ينظرون إلى
الله بكرة وعشية. وبقدر طاعتهم وعلمهم لا
يحجبون عنه في كل الأوقات. فالرؤية ذاتية،
متوقفة على قدر الوعي الذاتي وليست إدراكًا
حسيًّا لموضوع خارجي.
٢٥٢
المعرفة لله بكمال الربوبية، وللنفس
بالعبودية. الله أول كل شيء. وبه يقوم كل شيء.
وإليه يصير كل شيء. وعليه رزق كل شيء. الربوبية
والعبودية لفظان متضايفان لإحساس الإنسان بأنه
عبد فيكون له رب. الرب هو الأول والقائم
والنهاية والرازق مثل صفات السيد.
٢٥٣
(٧) المعرفة الوجدانية
وتشمل المعرفة الوجدانية الخاطر والهاجس
والوارد واللطيفة واللوائح والطوالع واللوامع
والهوامع والطوارق والهجوم والبداوي واللواحظ
والزوائد وأخيرًا القوادح والعوارض والوساوس.
وكلها خلجات النفس وهواجس الشعور، بلغة البروق
واللمحات الخاطفة. وقد تفرد الصوفية بتحليلها،
مفردا أم جمعا. منها الإيجابي ومنها
السلبي.
و«الخاطر» هو ما يرد على الضمائر بصرف النظر
عن مصدره الملك أو الشيطان، الله أو النفس. إذا
كان من الملك يكون إلهامًا أو علمًا. وإن كان
من الشيطان يكون وسواسًا. وإن كان من الله فهو
خاطر. الخواطر إذن أربعة: خواطر النفس، وخواطر
الحق، وخواطر الملك، وخواطر الشيطان. خواطر
النفس تقل بالصعود إلى الحق، ويشعر بها القلب.
وخواطر الحق من فوق القلب. وخواطر الملك من
يمين القلب، وخواطر الشيطان من يسار القلب.
بنور التوحيد يقبل الخاطر من الله. وبنور
المعرفة يقبل الخاطر من الملك. وبنور الإيمان
ينهى النفس، وبنور الإسلام يرد على العدو.
وبتعبير آخر: الخواطر أربعة: رباني وملكي ونفسي
وشيطاني. والشيطاني قسمان: معنوي وحسي. والحسي
قسمان: إنسي وجني
٢٥٤ فالخاطر يشهد له ظاهر. إن كان من
الشيطان فإنه يدفع إلى العاصي. وإن كان من
النفس يدفع إلى الشهوات أو الأهواء. ويمنع أكل
الحرام من التمييز بين الإلهام والوسواس
٢٥٥ وإن سكوت النفس عن الهواجس بصدق
المجاهدة نطق القلب. النفس لا تصدق، والقلب لا يكذب
٢٥٦ والفرق بين هواجس النفس ووساوس
الشيطان هو إلحاح النفس على الطلب في حين أن
الشيطان لا يلح بل يلجأ إلى وسوسة أخرى لأن
الكل لديه سواء
٢٥٧ والإلهام من الملك قد يوافق صاحبه
وقد يخالفه. أما الخاطر من الله فإنه يوافقه.
وقد يأتي خاطران من الحق، يكون الأول أقوى من
الثاني لأنه الأسبق. وقد يكون الثاني أقوى من
الأول لأنه تال له
٢٥٨ وقد تكون الخواطر ستة. هناك
خاطران: خاطر النفس وخاطر العدو لدى كل الناس.
وهما مذمومان. يأتيان مع الهوى دون العلم.
وخاطر الروح وخاطر الملك أيضًا لدى كل الناس.
وهما خاطران محمودان لا يردان إلا بحق وما دل
عليه العلم والعقل. والعقل خاطر خامس بين الخير
والشر. متوسط بين الخواطر الأربعة. والخاطر
السادس خاطر اليقين. وهو روح الإيمان ومزيد
العلم. يرد من خاطر الحق وخاطر العقل. وهو خاطر
عند الموقنين وحدهم، وهم الشهداء والصديقون
٢٥٩ وهو استفتاء القلب ولو أفتى
الناس.
وتوزن الخواطر بميزان الشرع نفلًا أو فرضًا،
محرمًا أو مكروهًا. فإذا تساوى الخاطران يؤخذ
أقربهما إلى مخالفة الهوى. والتمسك بالشرع
يساعد على التمييز بين الخواطر. وسبب اشتباه
الخواطر أربعة: ضعف اليقين أو قلة العلم، صفات
النفس وأخلاقها أو متابعة الهوى بحزم، قواعد
التقوى أو محبة الدنيا جاهها ومالها وطلب
الرفعة والمنزلة عند الناس، وترد الآفات على
النفس إما بجهل أو غفلة أو طلب فضول.
٢٦٠
والخواطر مقامات. وقد يعني المقام الدرجة أي
المعنى العام وليس المعنى الخاص. الدرجة على
الطريق الصوفي. فأول مقامات القلوب الخواطر وهي
من الله. إما أن تسقط في جهنم أو تنزل في الجنة
٢٦١ والخاطر أول الفعل ومفتتحه.
فالخواطر أفعال، والأفعال خواطر. وإذا اجتمعت
في القلب ثلاثة معان لم تفارقه خواطر اليقين:
الإيمان والعلم والعقل
٢٦٢ ومن خواطر اليقين ما يرد بشيء لا
تظهر دلالته لخفائه أنه لا يعلم إلا بعلم
باطني، فهم التنزيل وتعليم التأويل.
٢٦٣
وتنقسم الخواطر بالنسبة إلى الخير والشر عدة
أقسام. ما وقع في القلب من عمل الخير إلهام،
ومن عمل الشر وسواس، ومن المخاوف إحساس، والأمل
في الخير نية، وتدبير المباحات أمنية وأمل،
وذكر الآخرة والوعد والوعيد تذكر وتفكير،
ومعاينة الغيب مشاهدة، وحديث النفس هم، وخواطر
العادات والشهوات لمم
٢٦٤ وترتيب الخواطر ثلاثة معفوة،
وثلاثة مطالب، الهمة وهي وسوسة النفس بالشيء ثم
يقوى فتصير نية ثم عقدًا ثم عزمًا ثم طلبًا
وسعيًا.
وبالنسبة للأنبياء العلم من الله، من التعليم
وليس من العمل، من إلهامات الله. وقد كان
للرسول علم من الله لم يطلع عليه جبريل ولا ميكائيل
٢٦٥ وكلم الله موسى تكليمًا وكلم
الأنبياء وحيًا. وهو ما يستقر في القلب مباشرة
٢٦٦ والعارف يستدل بالله على الله ويقع
الإلهام على القلب حتى ولو كان السير إليه وهما
في طريق الغيب
٢٦٧ والكشف لا يوصف باللسان ولا يدرك بالعقل
٢٦٨ الخطرة للأنبياء، والوسوسة
للأولياء، والفكرة للعوام، والعزم للفتيان.
٢٦٩
الخاطر تحريك السر لا بداية له. وإذا خطر
بالقلب لا يثبت ويزول بخاطر آخر على عكس الواقع
الذي يثبت ولا يزول بواقع آخر. الواقع هو
الثابت والخاطر هو المتغير. والخاطر الصحيح
أوله. وقد يعني الخاطر ما لا يكون للإنسان فيه
نسبة في ظهوره في الأسرار. وقد يكون القهر الذي
يستوعب الأسرار
٢٧٠ إذا وصل الإنسان إلى مقام المعرفة
حدثت له الخواطر. ولا يخطر له إلا الحق. وخاطر
الحق لا يعارضه شيء لأنه إدراك حدسي
٢٧١ ومقام الخطرات بعيد عن مقام
الوطنات لأن الخواطر تلمع ثم تخفى. والوطنات
تبدو وتثبت ثم تتحقق. وتتولد الدواعي من
الخواطر؛ إذ يظن المدعي أن ما لاح ثبت. ولا
دعوى لصاحب الوطنات.
٢٧٢
والوارد ما يرد على القلوب من الخواطر
المحمودة دون تعمد. وقد يكون واردا من الحق أو
من العلم. الواردات أعم من الخواطر لأن الخواطر
تتعلق بنوع الخطاب، والواردات تتعلق بمعناه
سرورًا أو حزنًا، بسطًا أو قبضًا
٢٧٣ تختص الخواطر بنوع خطاب أو مطالبة.
وتكون الواردات تارة خواطر وتارة وارد سرور أو
وارد حزن أو وارد قبض أو وارد بسط. الوارد ما
يرد على القلوب بعد البادي فيستغرقها. البادي
فعل والوارد ليس فعلًا
٢٧٤ وإذا ورد الوارد قد يصادف شكلًا
ليمازجه أو موافقة فيساكنها
٢٧٥ فهل الوارد من الخارج أم من
الداخل، من الأعلى أم من الأعمق؟
و«اللطائف» هبات في الخاطر من القادر. وهي
مثل لفظ «الإشارات». الإشارات من أدنى إلى أعلى
كالعلامة، واللطائف من أعلى إلى أدنى كالهبات.
لذلك وضع القشيري عنوانًا لتفسيره «لطائف الإشارات»
٢٧٦ اللطيفة إشارة تلوح في الفهم،
وتلمع في الذهن، ولا تسعها العبارة لدقة معناها
٢٧٧ للطيفة معنيان: الأول حقيقة
الإنسان أي البدن والثاني كل إشارة دقيقة تلوح
في الفهم لا تسعها العبارة. وهي من علوم الذوق
والحال. تعلم مباشرة دون رواية أو حد. ولها
معنى ثالث أوسع يشمل اللطيف كاسم إلهي. هو ما
يحصل عليه العبد من دون أن يشعر.
٢٧٨
وتأتى الألفاظ متقاربة في المعاني مثل
اللوائح والطوالع واللوامع والهوامع والطوارق.
ترتبط ببدايات المعرفة. وهي على الترقي من
الأولى إلى الثانية إلى الثالثة مثل درجات
اليقين أو درجات الحضور
٢٧٩ اللوائح تحضر وتختفي في لحظة. ما
يلوح للأسرار الظاهرة لزيادة السمو، والانتقال
من حال إلى حال، كالإشارات للسير أو للتوقف.
والطوالع تحضر وتختفي عدة لحظات. فهي أبقى
وأدوم وأقوى. هي أنوار التوحيد تطلع إلى قلوب
أهل المعرفة
٢٨٠ واللوامع هي التي تبقى وتدوم.
فالفرق بينها في الوقت والقوة. هي مثل اللوائح
إلا أنها كالبرق في قلوب الأولياء بلا توهم
٢٨١ والطوارق ما يطرق قلوب أهل الحقائق
عن طريق السمع فيجدد لهم حقائقهم. وتأتي بعد الطوالع
٢٨٢ والمعارف لوائح وهوامع. يضيع فيها
العارف إن لم تكن له خبرة بها من مثيل
٢٨٣ اللوائح ما يلوح إلى الأسرار
الظاهرة من السمو من حال إلى حال. هو ما يلوح
للبصر إذا لم يتقيد بجارحة من الأنوار الذاتية
والسبحات الوجهية والأسماء الإلهية.
٢٨٤
وقد تكون ألفاظ المعرفة ثنائية كالأحوال.
وذلك مثل البواده والهجوم. البواده من البداء
وهو ما يفاجئ القلب من الغيب على سبيل الوله
فرحًا أو ترحًا. والهجوم ما يرد على القلب بقوة
الوقت دون تصنع أو تكلف. ويختلفان حسب قوة
الوارد وضعفه. قد تغير البواده الصوفي وتصرفه
الهواجم. وقد يستطيع السيطرة عليها فيصبحون
سادة الوقت.
٢٨٥ البادي هو الذي يبدو على القلب في
الحين من حيث حال العبد. بادي الحق يبيد ما سواه
٢٨٦ والبادي بلا بادي هو ما يبدو على
قلوب أهل المعرفة من الأحوال وصفاء الأذكار.
وهو لفظ قرآني
إِنَّهُ
هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ. يتحول معناه
من خلق الكون والبعث إلى البداية في القلب.
فالعالم ينشأ في القلب في لحظة الوعي به
٢٨٧ والهجوم والغلبة لهما معنى متقارب.
إلا أن الهجوم فعل صاحب الغلبات عند قوة الرغبة.
٢٨٨
واللحظ هو ملاحظة أبصار القلوب لما يلوح لها
من زوائد اليقين بما آمن به في الغيوب.
٢٨٩
والزوائد مجرد لفظ لم يستمر كمصطلح صوفي.
ويعني زيادات الإيمان بالغيب واليقين فزاد
الصدق والإخلاص في الأحوال والمقامات والإرادات
والمعاملات. وتستطيع كواشف الحضور تغطية القلوب
لما وارته الغيوب
٢٩٠
والقادح مثل الخاطر إلا أن الخاطر لقلوب أهل
اليقظة والقادح لأهل الغفلة. والعارض ما يعرض
للقلوب والأسرار من إلقاء العدو والنفس والهوى.
فهي إحدى وسائل المقاومة
٢٩١
والوسوسة تؤدي إلى الحيرة. وهي غير الإلهام
إلا عند أكل الحرام. فالإلهام يؤدي إلى زيادة
فهم وبيان.
٢٩٢
(٨) الحكمة النظرية
والحكمة النظرية قاسم مشترك بين الفلسفة
والتصوف فيما يعرف باسم حكمة الإشراق سواء عند
ابن سينا أو السهروردي. وهي الغالبة على التصوف
النظري. الحكمة هي النطق بالحق
٢٩٣ وهي أعظم حق من حقوق الله. ولا
يطالب الله بها إلا عندما لا توضع في حقها.
فلماذا يكون من طالبه بحقها خصيمًا؟ علامتها
معرفة أقدار الناس وعدم بخس الناس أشياءهم
٢٩٤ فالحكمة ليست متعالية ولا متدانية.
الحكماء ورثة الأنبياء. والحكمة وراثة النبوة.
وتعني إحكام الأمور. وأول علاماتها طول الصمت،
والكلام على قدر الحاجة دون ثرثرة
٢٩٥ والثرثرة مظهر من مظاهر العدم
الظاهر الذي ليس وراءه باطن مما يورث في النفس
الغثيان. ويستمع إلى الحكمة العاقل أو العامل،
يتعجب العاقل ويشتهي ما يسمع. ويتقلب العامل
وكأن في قلبه حية تتلوى.
٢٩٦ وإذا سمع الإنسان الحكمة فلم
يقبلها فهو مذنب، وإن لم يعمل بها فهو منافق،
٢٩٧ فالحكمة نظرية وعملية.
والفطنة من الحكمة، والأدب من الفطنة، وعلاقة
الأعلى بالأدنى، علاقة العام بالخاص. الفطنة من
التوفيق. وهي أهم من الفقه. ومعرفة الغيوب أعلى
درجاتها في حين أن الفطنة ذكاء عملي في الدنيا،
في عالم الشهادة ولا شأن لها بعالم الغيب.
٢٩٨
والفكر قيام الأشياء بالحق. هو الفكر في
الوجود. الفكر وقوف القلب عما عرف. والتفكر
جولان القلب، مجموعة من الأفكار المتتالية.
الفكر لحظة واحدة، والتفكير عملية مستمرة
٢٩٩ وهو ما وضح فيه الإيمان واستوفته
العقول. الإيمان أولًا، والعقل ثانيًا
٣٠٠ وهو ما ملأ القلوب من حال تعظيم
الله أي الفكر الوجداني. وهو صحة الاعتبار أي
الاستدلال العقلي. والاعتبار استدلال الشيء على
الشيء أي فكر الفكر. ونظر النظر. الاعتبار ما
نفذ في الغيب ولم يمنعه مانع. والخلود
والانفراد يفتحان القلب على العلم مع الله
بالنظر والتفكر
٣٠١ ومن صح تفكره صدق نطقه وخلص عمله
٣٠٢ فهناك علاقة بين الفكر واللغة
والعمل.
والفكرة على خمسة أوجه: فكرة في آيات الله
وعلامته تتولد منها المعرفة، وفكرة في آلاء
الله ونعمائه تتولد منها المحبة، وفكرة في وعد
الله وثوابه تتولد منها الرغبة في الطاعة
والموافقة، وفكرة في وعيد الله وعقابه تتولد
منها الرهبة من المخالفة
٣٠٣ وفكرة في جفاء النفس في جنب إحسان
الله إليها يتولد منها الحياء من الله. فالفكرة
حالة شعورية.
وطلب النظر إلى شيء حجاب عنه لأن المسافة ما
زالت بعيدة بين الطالب والمطلوب. وطلب الاستماع
من الشيء حجاب والنظر والاستماع وسوسة للقر.
الطالب والمطلوب. فالحواس لا تقدر على كشف
الحجاب. العين والأذن، البصر والسمع مجرد وسوسة
إنما هو العلم القادر على ذلك
٣٠٤ هو العلم والعمل حتى يتجلى الشيء.
فالنظر طبقًا لإرادة الناظر. وطلب النظر
والاستماع يرد إلى الفترة والشهوات والدنيا.
ويتم التخلص من ذلك بالسخاء والشجاعة والصدق.
ثم يحدث السكون إلى الله وقلة الغذاء والهرب
إليه من الخلق.
٣٠٥ لا ينبغي التفكر أو النظر أو النطق
أو التدبر أو الحركة بالأعضاء إلا بأمر المولى.
وهو سلب مطلق للذات، لقواها المعرفية والحركية
٣٠٦ حسن النظر للنفس في عاقبة الشيء
٣٠٧ فالإدراك للمصير. والنظر إلى النفس
مرة يغني عن النظر إلى الكون. كل منهما يحيل
إلى الآخر. بل إن البداية بالنظر إلى العالم
لجمع المادة ثم النظر إلى النفس لتحليلها
وإيحاء دلالتها. النظر إلى الخارج قبل النظر
إلى الداخل
وَفِي
الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا
تُبْصِرُونَ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي
أَنْفُسِهِمْ.
٣٠٨
ويصح الفهم من أربعة مواضع، في ركعتي الفجر
والوتر وعند الأكل وعند الغضب
٣٠٩ الفجر والصلاة صحيحان أما الأكل
والغضب ففيهما شك. ويعطى المؤمنون بالقدر فهم
القرآن بكل حرف ذهن، وبكل ذهن ألف فهم، وكل فهم
ألف فطنة، إذ تتعدد الأذهان، وتتعدد الأفهام،
وتتعدد الفطن، وتتعدد معاني الحروف. فلا يوجد
معنى واحد للحرف، ولا ذهن واحد، ولا فهم واحد،
ولا عمق واحد لذلك تتعدد المعاني إلى ما لا
نهاية، ألفا في ألف في ألف في ألف أربع مرات
٣١٠ والفهم على قدر العلم، والعلم على
قدر العقل، والعقل على قدر الإيمان
٣١١ وجعل الله القلم في الفهم، واللوح
في الحفظ. وقد رفع الحجاب عمن عرف وفهم. ويتم
الانتقال من الشيء إلى الدلالة. والله هو الذي
يفهم الإنسان عن نفسه لأن الإنسان لا يفهم الله
إلا به
٣١٢ فما قيمة الفهم الإنساني إذن إذا
كان عاجزًا عن الفهم بذاته؟ والتدبر في الخلق
عبرة. والتدبر في النفس موعظة. والتدبر في
القرآن حقيقة ومكاشفة. والتدبر في العالم أو في
النفس أو في القرآن.
(٩) الحق والباطل
والحق والباطل أو الصواب والخطأ، هي إحدى
الثنائيات الصوفية الشهيرة مثل: العلم
والمعرفة، الظاهر والباطن، النقلي والعقلي،
العقلي والتجريبي، النظري والتجريبي، الظن
واليقين، الخاصة والعامة، التنزيل والتأويل،
السلف والخلف، الدنيا والآخرة، الإنساني
والإلهي … إلخ. وفي كل ثنائية يمكن الجمع
بينهما إلا ثنائية الحق والباطل. وإذا كان حق
يشاركه باطل فقد خرج عن قسمة الحق إلى قسمة
الباطل. فالحق غيور لا يقبل أن يدخل في قسمة مع
شيء غيره. ومن وقف بهمته على شيء ينوي الحق
فإنه الحق لأنه لا يرضى معه بشريك. الحق واحد
والباحث عنه واحد. ومن علت همته على الأكوان
وصل إلى مكونها. ومن غيرة الحق أنه لا يجعل
لشيء غيره طريقًا، ولا يدفع أحدًا إلى اليأس من
الوصول إليه ويترك الناس حيارى وفي ظنون. فمن
ظن أنه وصل إليه ابتعد منه وانفصل عنه. ومن ظن
أنه ابتعد عنه مناه للوصول إليه. لا مهرب عنه،
ولا بد منه. وإذا كان الحق واحدًا فطالبه
وحداني الذات
٣١٣ فالوحدانية صفة مشتركة بين الذات
الإلهية والذات الإنسانية. وجود العطاء من الحق
شهود الحق بالحق لأن الحق دليل على كل شيء. ولا
يكون شيء دونه دليلًا عليه
٣١٤ الإعراض عن الحق هو السخط. وعلامة
الركون إلى الباطل التقرب من المبطلين
٣١٥ والادعاء خلو عن الحقائق. ولا
يتحقق شيء لما نطق به ادعاء.
٣١٦
مطالبة الحق إذا بدا قهر وجذب إلى ما أراد
بصولته. الحق هو الذي يفرض على الذات. وجذبة
الحق تربو على أعمال التقليد. والإغاثة ثقل
مطالبة الحق على القلب فرضا للأوامر. وأثقال
الحق لا يحملها إلا مطايا الحق
٣١٧ وقلوب أهل الحق حاضرة. وأسماعهم
مفتوحة. فالحق يدرك من خلال الحواس. ويقوم الحق
بالحق إذا بلغ الميقات حينه. واستوفى الحق
مجاري أحكامه من ظاهر هيكله. أوقد سراج الإيمان
القلب واكتسى ظاهر الهيكل بنور الحق وانتصر له
من الظالم
٣١٨ ومن لم يترك الكل رسمًا في جذب
الحق لا يحصل له الكل حقيقة. وهو الحق. الحق هو
الكل غير المرتبط بالحدود والرسوم أو البينونة،
قائم بذاته، قديم لا يلحق به شيء من الحوادث.
٣١٩
ما أبرم الحق للخلق إلا اسمًا أو رسمًا. وما
تكلم به إلا كل من لم يحقق
٣٢٠ فالحق ليس للكلام بل للتحقيق. وهو
أمر عظيم يطلبه الخلق. يطرح الدنيا والآخرة
٣٢١ إذا بدا الخلق فلا التفات إلى جنة
ونار أو التفكير فيهما. من وافق الحق في لحظة
أو خطرة لا يقع بعد ذلك في مخالفة. فالحق يعصم.
وهي موافقة الأثر الحسن والأمر الأحسن.
٣٢٢ الحق إذ لاحظ عبدًا ببره غيبه عن
كل مكروه في وقته، وإذا لاحظه بسخطه أظهر عليه
من الوحشة ما يهرب منه كل أحد
٣٢٣ فالحق منطق العلاقات بين الذوات،
منطق العداوة والصداقة. هو الحق الاجتماعي وليس
الحق النظري. ومن قلت آفاته اتصلت بالحق أوقاته
٣٢٤ فالحق يجمع بين الحقيقة
والأخلاق.
ما نطق أحد عن الحق إلا كان محجوبًا. فالحق
كشف. وأعظم حجاب بين الإنسان والحق الاشتغال
بتدبير النفس، والاعتماد على آخرين عاجزين مثل الذات
٣٢٥ ولماذا يكون الانشغال بتدبير النفس
حجابًا عن الحق، وإثبات الذات الحقيقة الفلسفية
الوجودية الأولى عند كثير من الفلاسفة قدماء
ومحدثين من الموروث والوافد؟ ولماذا عجز الذات
وقواها لا ينتهي؟
والحقيقة غير الحق. الحقيقة للشيء والحق هو
الكل. ومن ادعى شيئًا من الحقيقة كذبته شواهد
كشف البراهين
٣٢٦ الحقيقة كلها علم. والعلم كله
حقيقة، لا فرق بين الذات والموضوع.
٣٢٧ الحقيقة هم يسقط هم البحث ويبدأ هم
التبعة. ينتهي
هم النظر
ويبدأ هم العمل. والحق واحد لا يجمع. والحقائق
جمع حقيقة إذا تجلت حقائق الحق لسر أزالت
الظنون والأماني لأن الحق إذا استولى على سر
قهره. ولا يبقى للغير معه للغير أثر
٣٢٨ وإذا بدت الحقائق سقطت آثار الفهوم
والعلوم، وبقي الرسم الجاري لمحل الأمر، وسقطت
منها حقائقها.
٣٢٩
الحقيقة ثلاث: حقيقة مع العلم، وحقيقة معها
العلم، وحقيقة تشطح عن العلم. وأتم الحقائق ما
قارن العلم. الحقيقة كلها علم، والعلم كله
حقيقة وتأبى الحقائق أن تدع في القلوب مقالة
للتأويلات. فالحقيقة رؤية واضحة مباشرة لا لبس
فيها. الحقائق المختزنة إذا بدت حجبت الحقائق
المستترة.
الألسنة ثلاثة: لسان علم بالوسائط، ولسان
حقيقة الوصول إلى الأسرار بلا وسائط، ولسان حق
ليس له طريق. وحقيقة الوصول ذهاب العقول. وكل
حقيقة تخالف الشريعة فهي كفر.
والتحقيق تكليف العبد لاستدعاء الحقيقة جهده
وطاقته. والتحقق مثل التحقيق، التعلم والتعليم.
والحقيقة مفرد والحقائق جمع. ونعني وقوف القلب
بدوام الانتصاب بين يدي من آمن به وإلا بطل الإيمان
٣٣٠ والحقوق أي الأحوال والمقامات
والمعارف والإرادات والقصود والمعاملات
والعبادات. والحقوق لا تجتمع مع الحظوظ لأنهما ضدان
٣٣١ وأهل الحقائق أكلهم أكل المرضى،
ونومهم نوم الغرقى. وما حصل عليه أهل الحقائق
في حقائقهم أن الله غير مفقود فيطلب، ولا ذو
غاية فيدرك. فمن أراد موجودًا فهو ممرور.
الموجود معرفة حال وكشف علم بلا حال.
الحق هو الله. والعبد موقوف مع الحق بالحق
للحق أي مع الله بالله لله. وهو دوران العبد
وتغليقه ثلاث مرات بالله فلم يعد يبقى منه شيء ظاهر
٣٣٢ وهو نفس
معنى منه
وبه وله. ويتحقق العبد بالعبودية إذا سلم
القياد من نفسه إلى ربه وتبرأ من حوله وقوته،
وعلم أن الكل له وبه.
وعلامة الحقيقة البلوى أو رفع البلوى. وليست
الحقيقة في الله فقط بل هي أيضًا في الإنسان
وحقيقة الإنسانية ألا يتأذى أحد من إنسان.
فحقيقة الاسم في نفسه، الاستئناس مع كل شيء.
٣٣٣
وفي الصباح يستذكر الإنسان آفات الليل لتأدية
حق الله ونصيحة النفس كما يؤدي الإنسان حق
الناس إذا دخل بيتا أو خرج منه. والله شاهد،
يغفر الذنب بالاستعانة به فذاك خير الدنيا
والآخرة، والسر والعلانية. وما من نفس يتنفس
العبد إلا إذا كان عارفًا بالله مصلحًا الفساد
بنفسه قبل أن يسأل الله الصحة. الله هو الذي
يهب السعادة والشقاء. فمن علامات السعادة النظر
في الشيء قبل الدخول فيه والاستعانة بالله عليه
والصبر إلى الممات. ومن علامة الشقاء سرعة
الدخول في شيء قبل استكمال علمه بالادعاء فيه
أو الجزع منه.
٣٣٤ الهوى يحجب الإنسان عن الله والنفس
عن هواها. فإذا ما تخلصت النفس منه وصلت إلى
الله. والركون إلى الله يكشف الحجاب مع الصبر
والسكون إليه والركون عليه حتى يأتي الفرج عنده
وهو إلى أبلاه
٣٣٥ ومن كان شغله مع الله ذهبت منه
الشهوات. نظر التوحيد الشعور نحو غاية واحدة.
وهو تصور ثنائي متعارض للروح والمادة بقدر ما
ينعزل الإنسان عن المادة يصل إلى الروح، التصور
المانوي القديم. وفي تصور آخر لا يعرف الروح
إلا في المادة، ولا الخير إلا في الشر، ولا
الطاعة إلا في المعصية، لا فرق بين أبي نواس
وعمر الخيام. ومعاينة الله استغناء به عن كل ما سواه
٣٣٦ وتتجلى الأخلاق الإلهية في الجنة
والنفس والخشوع. وهي من أساميه
٣٣٧ فالجنة ثواب، والنفس موطن التجلي،
والخشوع علامة الطاعة.
يسأل الرب عن حق نفسه وحق عقله وحق العلم
الذي بينه وبين العبد. وأيهما أولى بالسؤال حق
العبد أم حق الرب؟
٣٣٨ وللعبد حقوق على الرب، الأمن من
الخوف، والأمل بالرجاء، والتقرب بالحسنات،
والقبول بالتوكل عليه.
٣٣٩
وبالرغم من ندرة لفظ الحقوق في التراث،
وشيوعه في الفكر المعاصر، الحقوق والواجبات،
حقوق الإنسان، حقوق الشعوب إلا أنه يظهر
أحيانًا في التصوف. وهي على سبعة مراتب:
المؤمنون والمؤمنات المجهولون الذين لم يرهم
ولم يسمعهم أحد، والمؤمنون بالسمع دون الرؤية،
المؤمنون في الرؤية دون المشافهة، والمؤمنون في
الرؤية والمشافهة، والمؤمنون في الرؤية
والمشافهة والمحبة، والمؤمنون غير المعروفين
الذين يحبون في الله. لا تعرف حقوق الناس. غنما
تركوا الدخول في التبعات، وأقاموا أنفسهم على
الضرورة لئلا يلزمهم لا تعرف حقوق الناس لأنهم
لا يعرفون واجباتهم
٣٤٠ وجعلوا أنفسهم على الطبيعة تهربًا
من الواجبات. فكل حق يقابله واجب، وكل واجب
يقابله حق.
وتبدو ثنائية الصواب والخطأ، وهي ثنائية
معرفة وليست وجودية ملحقة بالحق والباطل
كثنائية وجودية. وإذا كان الحق والباطل مطلقين
فالصواب والخطأ نسبيان. فالصواب كل نطق عن إذن
٣٤١ وهو لدى الأنبياء وحدهم. وماذا عن
الصواب كجهد للإنسان؟ وإذا كان الصواب التوحيد
فقط، وكان التوحيد كل شيء فأين الخطأ؟ ويبدو أن
التصوف قد ضحى بالنسبي في سبيل المطلق.
(١٠) علوم الخاصة
والطريق إلى هذا العلم هو طريق الخاصة من
المؤمنين الطالبين طبقًا للتفرقة التقليدية
الثنائية بين الخاصة والعامة أو الثلاثي:
الخاصة، والعامة، وخاصة الخاصة. فكل شيء له
مستويات أو درجات أو مراتب: النجاة والحقوق
والدواعي والبواعث والرغبة والرهبة، الحقائق
والأخلاق والمعرفة. فالنجاة على أربع شعب:
بواعث، ودواع، وأخلاق، وحقائق. دفعت إليها
ثلاثة حقوق: حق الله، وحق النفس، وحق الخلق. حق
الله عبادته، وحق الخلق كف الأذى عن الناس
باستثناء إقامة الحدود، وحق النفس سلوك طريق
السعادة. فإن أبت فلجهل أو لسوء طبع. والجهل ضد
الدين. وسوء الطبع ضد المروءة. والدواعي خمسة:
الهاجس السببي وهو نفر الخاطر، ثم الإرادة ثم
العزم ثم الهمة ثم النية. والبواعث على هذه
الدواعي ثلاثة: رغبة أو رهبة أو تعظيم. والرغبة
رغبتان: رغبة في المجاورة ورغبة في المعاينة.
رغبة فيما عنده ورغبة فيه. والرهبة رهبتان،
رهبة من العذاب ورهبة من الحجاب. والتعظيم قد
يكون على الأفراد بلا مستويات. التعظيم لله
وحده. وقد يكون على الجمع، فالتعظيم لله
والرسول والأنبياء والملائكة وأولياء الله
الصالحين.
والأخلاق أنواع: خلق متعد، وخلق غير متعد،
وخلق مشترك. والمتعدي قسمان، متعد بمنفعة
كالجود والفتوة، ومتعد يدفع مضرة كالعفو
والصفح. وغير المتعدي كالورع والزهد والتوكل.
والمشترك كالصبر على الأذى من الخلق.
والحقائق أربعة. الأولى للذات المقدسة.
والثانية الصفات المنزهة. والثالثة الأفعال مثل
كان وأخواتها. والرابعة المفعولات وهي الأكوان
والمكونات. وهي على ثلاث مراتب علوية
كالمعقولات، وسفلية كالمحسوسات، وبرزخية كالمخيلات
٣٤٢ وفي قسمة أخرى الحقائق أيضًا
أربعة: الحقائق الذاتية، مشاهدة الحق من غير
تشبيه ولا تكييف، لا تسعه العبارة ولا تومئ
إليه إشارة، والحقائق الصفاتية، مشاهدة الحق
عالمًا قادرًا مريدًا حيًّا من الصفات المختلفة
والمتقابلة والمتماثلة، والحقائق الكونية،
مشاهدة الحق لمعرفة الأرواح والبسائط والمركبات
والأجسام والانفصال والاتصال، والحقائق
الفعلية، مشاهدة الحق لمعرفة كن وتعلقها
بالقدرة خارج إرادة العبد.
والمعرفة على ثلاث درجات: معرفة العوام وهي
معرفة العبودية والربوبية والطاعة والمعصية
والعدو والنفس. ومعرفة الخواص، معرفة الإجلال
والعظمة، والإحسان والمنة، والتوفيق. ومعرفة
خواص الخواص، معرفة الأنس والمناجاة، واللطف
والتلطف والقلب والسر.
٣٤٣ ومقامات المعرفة ثلاثة: الأول
ضرورة، وهي المعرفة النقلية أو الفطرية، معرفة
الروح. وهي حجة الله على الخلق. وهي أقرب إلى
معرفة العوام. والثاني ما يقع فيه سهو
المخلوقين في إقرارهم بالتوحيد. وهي معرفة
العلماء التي تحتمل الخطأ والصواب. والثالث
معرفة الخواص وهي هبة من الله لأحبائه.
٣٤٤ العوام تصف الله. والخواص لا تنطق.
جدل الباطل والحق لا يجتمعان بل يضرب أحدهما الآخر.
٣٤٥ الحدث هو ما لم يكن فكان. وهي آية
تحدث في العالم لتنبيه الخاصة لعدم ذكرها.
٣٤٦
والناس على ثلاث منازل: الأولياء وباطنهم
أفضل من ظاهرهم، والعلماء وسرهم وعلانيتهم
واحد، والجهال وعلانيتهم تخالف أسرارهم ولا
ينصفون من أنفسهم بل من غيرهم.
٣٤٧
ويقوم علم أهل الله على معرفة سبعة مسائل:
أسماء الله، التجليات، خطاب الحق بلسان الشرع،
كمال الوجود ونقصه، الإنسان من جهة حقائقه،
الكشف الخيالي، العلل والأدوية. يجمع بين
المعارف الإلهية والإنسانية والشرعية والكونية
والغيبية والأخروية
٣٤٨ ويضم كتاب المعارف موضوعات المعرفة
أكثر مما يضم وسائل المعرفة.
٣٤٩
وقد يدخل الملائكة والجن مع الإنس في
التصنيف. فالملائكة اختارت العصمة، والجن
الكفاية، واختار بنو آدم الحيلة. أي الذكاء
والجهد والمناورة. والعصمة والكفاية أقرب إلى
الجبر منها إلى الاختيار.
٣٥٠