(١) اللفظ والمعنى
وبالرغم من شيوع اشتقاق الاسم في الدراسات
الثانوية والكتب الجامعية حتى أصبح معروفًا عند
جمهور الطلاب إلا أنه ما زال واردًا في
المؤلفات القديمة. فقد اشتق اسم الصوفية من لبس الصوف
١ وقد فعل ذلك الأنبياء من قبل. وهو
حكم على الظاهر
٢ ولا فرق بين التصوف بألف لام
التعريف وتصوف بدونهما. فالمعنيان
متقاربان.
وربما يكون قد اشتق من الصفاء. وكان في الأصل
صفوي. والصفاء هو القيام لله في كل وقت بشرط الوفاء
٣ الصفاء من كدر الأغيار والخروج من
مراتب الأشرار. ويعني الصفاء أنه إذا تحقق
العبد بالعبودية وصافاه الحق حتى صفا من
البشرية نزل منازل الحقيقة، وقارن أحكام الشريعة
٤ الصوفي هو الخارج من النعوت
والرسوم وألزم نفسه باسم الصوفي لتصفيته من
ممازجة الأكوان كلها بمصفاة من صافاه في الأزل.
الصوفي من صفي من كل درن فلم يبق فيه وسخ المخالفات
٥ وربما لا يكون الاشتقاق لفظيًّا بل
معنويًّا. فقد سمي الصوفية بهذا الاسم
لاشتمالهم على الخلق بظاهر العابدين، والانقطاع
عن الحق بمراتب الموحدين. وسموا كذلك لبقية
عليهم من نفوسهم، ولتنسمهم بروح الكفاية،
وتظاهرهم بوصف الإنابة.
التصوف تصفية القلب عن موافقة البشرية،
ومفارقة أخلاق الطبيعة، وإخماد صفات البشرية،
ومجانبة دواعي النفسانية، ومنازلة الصفات
الروحانية، والتعلق بعلوم الحقيقة، واستعمال ما
هو أولى من السرمدية، والنصح لجميع الأمة،
والوفاء لله على الحقيقة، واتباع الرسول في الشريعة
٦ وهل الموافقة مع البشرية عيب؟
ولماذا مفارقة الأخلاق الطبيعية؟ أليست الأخلاق
الإسلامية أخلاق الفطرة؟ ولماذا إخماد الصفات
البشرية وليس إيقاظها؟ ولماذا مجانبة دواعي
النفسانية وليس إثبات الشعور؟ ولماذا منازلة
الصفات الروحانية وليس تأكيدها وتحقيقها؟
٧
وبهذا المعنى، الصوفي من صفا من الكدر،
وامتلأ من الفكر، وانقطع إلى الله من البشر،
واستوى عنده الذهب والمدر. وهو دائم التصفية،
يصفي الأوقات عن شوب الأكدار بتصفية القلب عن
شوب النفس … ويعينه على كل هذه التصفية دوام
افتقاره إلى مولاه.
٨
وربما اشتق الاسم من أهل الصفة. والصوفية من بقاياهم
٩ والاشتقاق صفوي وليس صوفيا. وبصرف
النظر عن اشتقاق اللفظ، ويسمون خراسان «سكفتية»
أي سكان المغارات. وفي الشام «جوعية». ويسمون
أبرارًا ومقربين وصابرين وصادقين وذاكرين
ومحيين. وهي ألفاظ مرسلة تشير إلى بعض أوصاف
الصوفية، فضائلهم ومقاماتهم. وسمي الصوفية بهذا
الاسم لاستتارهم عن الخلق بلوائح الوجد
وانكشافها بشمائل القصد.
١٠
ومن حيث المعنى الصوفية هم أهل الصفوة. أي
المصطفون في الفهم والاتباع لكتاب الله
والموافقون له.
١١ وهو لفظ قرآني. والاصطفاء للأنبياء
والصديقين. وقد خص به موسى للتوحيد. الاصطفاء
هو الاجتباء في سابق العلم.
١٢ وتتخصص الدعوة للمصطفين وطبقًا
لتفاوت المستمعين ودرجاتهم في قبول الخطاب بين
الإقرار، والإقرار والاتباع، والإقرار والاتباع
والتحقيق. هم العلماء الذين يخشون الله،
الراسخون في العلم. وهم الذين يثورون القرآن.
١٣ هم الذين يلقى إليهم السمع
ويتدبرونه عند التلاوة وفهم الخطاب بما يخاطب
به المتلقي. وهم أرباب القلوب في فهم القرآن.
وهم السابقون والمقربون والأبرار لطرقهم في
الفهم والاستنباط. وهذا لا يعني التراخي في فهم
القرآن بل التشديد فيه دون التخلي عن الفهم
الإشاري للحروف والأسماء، وعلى قدر حضور الصوفي
ودرجة قربه من الله. وهناك مقياس للاستنباط
وصواب وخطأ في الفهم الإشاري للقرآن. خطوة إلى
الأمام وخطوة إلى الخلف نظرًا لتعدد الفهم
الإشاري طبقًا لأعماق الشعور. ويؤكد الصوفية
ذلك درءًا لاتهام الفقهاء لهم بسوء التأويل.
الصوفي من اختاره الله لنفسه فاصطفاه، وعن نفسه
براه. ولم يرد إلى تعمل وتكلف بدعوى. التصوف
قدر إلهي وليس اختيارًا إنسانيًّا. وهم الذين
يقتدون بالرسول في الفهم والموافقة.
١٤ والرسول هو القدوة في الأخلاق
والأفعال والأحوال التي اختارها الله له. وقد
رخص الرسول للأمة ووسع عليهم فيما أباحه الله
في حالات خاصة وعامة في الاقتداء به. وأهل
الصفوة يأخذون بالعزائم. ويتبع مشايخ الصوفية
الرسول ضد من يزعم خروجهم على السنة.
ويستنبط أهل الصفوة من القرآن والحديث فهما
صحيحًا لهما طبقًا لتفرقة الرسول بين الظاهر
والباطن. وقد يقع الاختلاف في مستنبطات أهل
الحقيقة في معاني علومهم وأحوالهم. واختلاف أهل
الباطن مثل اختلاف أهل الظاهر. ويستنبط أهل
الصفوة تخصيص النبي وشرفه وفضله على إخوانه من
الكتاب عن طريق الفهم.
١٥ وكما يتبع أهل الصفوة الرسول
يتبعون أيضًا صحابة الرسول وأهل الصفة.
١٦ وقد كان الاسم معروفا منذ عهد
الرسول وفي صحبته مثل العباد والزهاد والفقراء
والراضين والمخبئين والبكائين. وكانوا يقيمون
في آخر المسجد. ولم ينهرهم الرسول بعد إقامة
الدولة وبناء المجتمع، ولكن نهرهم عمر. فمن
يطعمهم أعبد منهم. وكان الصوفي يطوف بالكعبة
قبل الإسلام.
١٧
لا يهم إذن الأصل الاشتقاقي للفظ «التصوف»
بالرغم من صعوبته. فالحقل الدلالي واحد، الصفاء
أو الصفوة أو الصفة أو الصف أو الصوف أي هيئة
أو سلوك معين يدل على الانعزال عن العالم
والتوجه نحو النفس، من الخارج إلى الداخل أو من
الدنيا إلى الآخرة.
١٨ وربما سموا صوفية لبقية بقت في
نفوسهم وإلا استحالت التسمية.
١٩
والصوفي لا يمكن تعريفه وكأنه مصطلح علمي،
ولكنه هو الفقير المجرد من الأسباب. وهو مع
الله بلا مكان، ويعلم كل مكان. فالصوفي بالموقف
والسلوك وليس بالاشتقاق أو التعريف.
٢٠ وكل التعريفات اجتهادات يختلف
عليها الصوفية أنفسهم. يقبلون بعضها ويرفضون
البعض الآخر.
٢١ وقد يكون أحد أسباب كتابة ألفاظ
الصوفية ومصطلحاتهم حل ما فيها من إشكالات في تعريفها.
٢٢
الصوفي هو المقرب. وهو ليس مذكورًا في
القرآن. بل ترك ووضع اسم «المقرب» بدلًا عنه.
ولا يستعمل هذا الاسم في المغرب وتركستان وما
وراء النهر لأنهم لا يتزينون بزي الصوفية «ولا
مشاحة في الألفاظ». وكل مشايخ الصوفية
المذكورين في كتب الطبقات من المقربين. وعلومهم
علوم أحوال المقربين الأبرار. هم الصوفية دون
التزيي بزي أو اشتباه. فالتصوف سلوك وليس شكلًا.
٢٣
وقد يكون الاشتقاق صوتيًّا وليس حرفيًّا.
فصوفي على وزن «عوفي» أي عافاه الله، و«كوفي»
أي كافأه الله، و«جوزي» أي جازاه الله. ففعل
الله ظاهر في كل الأحوال.
(٣) الأولياء والفتيان والملامتية والشطار
والظرفاء والبهاليل
النبوة للأنبياء، والولاية للأولياء.
الأنبياء للمشاهدة، والأولياء للمجاورة،
والصالحون للملازمة، والعوام للمجاهدة.
١٢٨ أرواح الأنبياء في حالة الكشف
والمشاهدة. وأرواح الصديقين في القربة والاطلاع.
١٢٩ ويسمع الصوفي صوت الله الداخلي،
هاتفًا باطنيًّا، إلهامًا لا وحيًا مباشرة ودون
واسطة. من كان لله مطيعًا كان الله له وليًّا
يثق بالله ويحكم عليه ولاستجاب لسؤاله حتى لو
كان زوال الدنيا.
١٣٠ فالله يأخذ الصوفي وليًّا. والصوفي
يأخذ الله وليًّا. فالولاية متبادلة.
اطلع الله على قلب أوليائه. فمن لم يصلح منهم
للمعرفة شغله بالعبادة.
١٣١ فالعبادة أقل من الولاية. ومن صفات
الأولياء، الثقة بالله في كل شيء، الغنى به عن
كل شيء، والرجوع إليه في كل شيء.
١٣٢ والسؤال: ألا توجد مرجعية أخرى
يمكن استعمالها كمقياس للصدق؟
بُسط بساط المجد للأولياء ليأنسوا به وليرفع
عنهم حشمة بديهية المشاهدة. وبساط الهيبة بسط
للأعداء ليستوحشوا منه قبائح أفعالهم. فلا
يشاهدوا ما يستروحون منه إليه في المشهد الأعلى.
١٣٣ الولي من يوالي أولياء الله ويعادي أعداءه.
١٣٤ وإذا زاد الله في الولي ثلاثة زاد
منه ثلاثة. إذا زاد جاهه زاد تواضعه، وإذا زاد
ماله زاد سخاؤه، وإذا زاد عمره زاد
اجتهاده.
أبى المليك إلا اختيار الأولياء ومتعرضا لهم
بأعدائه. ويختبر في قربه بعدوه لمعرفة صبرهم
عليه. فإن صبروا على بلوى الأعداء جللهم
بالعلم، وحباهم بالوصل، وأسكنهم في جواره،
ونعمهم بمشاهدته، ولذذهم بذكره، وأوصلهم
بمعرفتهم، وجعلهم أئمة يقتدى بهم، ونجاة لعباده
ورحمة لهم في أرضه، وجعل محبتهم في قلوبهم،
وأنسهم في رؤيتهم، وحلاوة في قلوبهم.
١٣٥ ولا يعظم أقدار الأولياء إلا من
كان عظيم القدر عند الله. ولا يقدر الولي إلا
الولي. في حين ينكر الولاية الجهال في قلوبهم
لضيق الصدور من الصادر، وبعد العلوم عن موارد
القدرة. والاستهانة بالأولياء من قلة المعرفة بالله.
١٣٦
والولي لا يسمي نفسه وليًّا ولا يشير إلى سمة
يتسم بها لأن من شروطه عدم تعرف الآخرين عليه.
الولي لا يفشي سره مباشرة أو على نحو غير مباشر
كأن يظهر فقره وزهده. وأفضل عمل رعاية السر،
وعدم الالتفات إلى شيء سوى الله.
١٣٧ وهو في ستر حاله أبدًا. والكون كله
ناطق من ولايته. والمدعي ناطق به. والكون كله
ينكر عليه.
١٣٨ الولاية كالنبوة بها صدق وادعاء.
الأولياء أسرار نعم الله. والأصفياء رهائن
كرمه. والأحباء عبيد منته. فهم عبيد محبته لا
يُعتقون، ورهان كريم لا يفكون وأسرار نعم لا
يطلقون. فالولي عبد وأسير ورهين.
١٣٩ الولاية فضل. وكما أن لأهل الفضل
فضل لم يروه فإذا رأوه فلا فضل لهم فكذلك لأهل
الولاية ولاية لم يروها. فإذا رأوها فلا ولاية لهم.
١٤٠ فالفضل والولاية من الأسرار، من
عالم اللاشعور.
وعلامة الأولياء أن تكون همومهم لله، وشغلهم
فيه ومزارهم إليه.
١٤١ وعلامتهم أيضًا خوف الانقطاع عنه
لشدة في قلوبهم من الإيثار له والشوق إليه.
١٤٢ وعلامة الولاية ثلاثة: تواضع عن
رفعة، وزهد عن قدرة، وإنصاف عن قوة.
١٤٣ والحرص على استمرار الولاية غرور.
فلم يحرص الأنبياء على استمرار النبوة.
من نظر إلى ولي فقبله وأكرمه أكرمه الله على
رءوس الأشهاد.
١٤٤ فالولي لله ومن والاه فقد والى
الله. وما تعبد متعبد بأكثر من التحبب إلى
أولياء الله مما يحبون. محبة أولياء الله دليل
على محبة الله. والله لا يحتاج إلى واسطة في
محبته. وقد عجل الله لأرواح أوليائه التلذذ
بذكره، والوصول إلى قربه. وعجل لأبدانهم النعمة
بما نالوه من مصالحهم وأجزل نصيبهم من كل شيء،
أبدانهم من الجنانيين وأرواحهم من الربانيين.
فالأولياء أصحاب مصلحة مزدوجة في الدنيا
والآخرة، في البدن والنفس. ولهم لسانان: واحد
يعرفون به الصنائع الإلهية، وواحد في الظاهر
يعرفون به علم المخلوقين. لسان الظاهر يكلم
الأجساد ولسان الباطن يناجي الأرواح.
١٤٥ ويعرف الأولياء في الخلق بلطف
لسانهم، وحسن الأخلاق، وبشاشة الوجوه، وسخاء
الأنفس، وقلة الاعتراض، وقبول الأعذار، والشفقة
على الخلائق، برهم وفاجرهم.
١٤٦
وكما يظهر للأنبياء معجزات وآيات، للأولياء
كتمان كرامات حتى لا يفتن الناس بها.
١٤٧ الأولياء مرتبطون بالكرامات
والدرجات. والأنبياء مكشوف لهم عن حقائق الحق.
فالكرامات والدرجات عندهم وحشة.
١٤٨ الأنبياء منبسطون على بساط الأنس،
والأولياء على درجات الكرامة.
١٤٩ الولي من أيد بالكرامات وغيب عنها.
فالكرامة علامة الولاية.
١٥٠ ومن عامل الله على رؤية ما سبق منه
إليه مشى على الماء أو في الهواء فليس بشيء من
الله بعجيب. ومن تأدب بآداب الصالحين يصلح
لبساط الكرامة، وبآداب الأولياء يصلح لبساط
القربة، وبآداب الصديقين يصلح لبساط المشاهدة،
وبآداب الأنبياء يصلح لبساط الأنس والانبساط.
١٥١ تظهر الكرامات على من عامل الله
على رؤية السبق.
١٥٢ من
أظهر
كراماته فهو مدرع ومن ظهرت عليه الكرامات فهو
ولي. فالكرامة تظهر طبيعية لا صنعة. آيات
الأولياء وكراماتهم رضاهم بما يسخط العوام عن
مجاري المقدور. مع أن العوام تعشق كرامات
الأولياء لأنها من صنع خيالهم. وتتعدد مستويات
الكرامة. فالطيران في الهواء أفضل من المشي على الماء.
١٥٣ وقد أعار الله بعض أخلاق أوليائه
إلى أعدائه ليستعطف بهم على أوليائه، وكأن الله
يلجأ إلى التحايل ويعير الصفات من شخص إلى آخر
وكأن الصفات غير ذاتية.
١٥٤
ومع الولاية هناك الفتوة. فالفتى معنى آخر
للصوفي، والفتيان للصوفية والفتوة للتصوف. ليست
الفتوة فقط إسقاط الرؤية وترك النسبة ولكنها
أداء الإنصاف وترك مطالبة الإنصاف. وهي زيادة
على آدم وذريته. تؤخذ من الاستعمال والمعاملة
وليس من النطق. وتعرف بالممارسة وليس بالتعريف.
ومن علامة الفتى أن يرى الفتيان ولا يستحي منهم
في شمائله وأفعاله. الفتوة أن تنصف ولا تنتصف.
١٥٥
الفتوة عذر الإخوان في الزلات وعدم معاملتهم
بما يوجب الاعتذار.
١٥٦ الفتوة إذن هي الشهامة. هي احتقار
النفس وتعظيم حرمة المسلمين. تقوم على إنكار
الذات والتضحية بالنفس في سبيل الآخر.
١٥٧ من النفاق لبس لباس الفتيان دون
حمل أثقال الفتوة. الفتوة رؤية أعذار الخلق
وتقصير الذات، وتمامهم ونقصانها والشفقة على
الخلق كلهم برهم وفاجرهم. وكمال الفتوة هو عدم
الانشغال بالخلق عن الله.
١٥٨ الفتوة رؤية فضل الناس بنقصان الذات.
١٥٩ هي سمة التواضع، وعدم رؤية الإنسان
زيادة فضل له على غيره. هي فضيلة دون رؤية
النفس فيها. الفتى من لا خصم له ولا يكون هو
خصما لأحد. بل الخصومة لله على النفس. الفتوة
كف الأذى وبذل الندى والمسالمة لدرجة عدم
منافرة الفقير ومعارضة الغني وهما ضروريان
للتغير الاجتماعي. الفتى من كسر الصنم مثل
إبراهيم، وتكسير الأصنام رمز للقضاء على الضلال
الديني والانحطاط الخلقي والفساد الاجتماعي.
كما أن الفتوة عدم الهروب من المسائل وعدم
الاحتجاب من القاصدين.
١٦٠
وهي
الستر على عيوب الأصدقاء حماية لهم من شماتة
الأعداء. وهي من طباع الأحرار. واللؤم من شيم الأنذال.
١٦١ الفتوة واللؤم نقيضان مثل الشهامة
والخسة، البطولة والجبن. التصوف هو الحرية
والفتوة، وترك التكلف في السخاء، والتظرف في
الأخلاق، والعودة إلى الطبيعة. الفتوة حفظ السر
مع الله على الموافقة، وحفظ الظاهر مع الخلق
بحسن العشرة واستعمال الخلق.
١٦٢ الفتوة هي حسن العلاقة مع الله
والبشر على مستوى الأخلاق. هي الإيمان بالله
بلا واسطة. أصل الفتوة الحفاظ، والشكر، والصبر، والرضا.
١٦٣ وبعضها أخلاق وبعضها مقامات.
الفتوة ما عليه الأنصار، الفتوة العملية، إيثار
الآخر على النفس.
١٦٤ هي الإيثار مع العطاء، والشكر مع
المنع، إظهار النعمة وأسرار المحنة. الفتوة حسن
المراعاة، ودوام المراقبة، واتحاد الظاهر
والباطن. والفتى من يخالف هواه، ومن يترك ما
يهوى لما يخشى.
١٦٥ الفتوة حسن الخلق وبذل المعارف لمن
تبغضه، وبذل المال لمن تكرهه، وحسن الصحبة مع
من ينفر القلب معه. هي حالة العطاء المستمر،
ومقابلة الإساءة بالإحسان، الإقبال على الناس
دون مقابل. تتضمن الفتوة المروءة والشهامة
وربما البطولة. الفتوة اتباع السنة والتقاليد
وعدم الخروج عن المعروف.
وللفتوة علامات ثلاث: وفاء دون حلف، ومدح بلا
مقابل، وعطاء بلا سؤال.
١٦٦ وهي وفاء دون حفاظ. فالفتوة عدم
الادخار وعدم الاعتذار أي مناقضة بالبخل
والتنصل. وتتحدد الفتوة سلبًا كما تتحدد
إيجابًا. فليس من الفتوة الربح على الصديق لأن
ذلك ضد المروءة، وصب النساء الماء على أيدي
الرجال لأن ذلك ضد الشهامة. واستخدام الرجل من
يتعاصى عليه في تقديم السفرة لأن ذلك ضد
الأريحية. الفتوة دعوة عشرة وعدم التغير إذا
حضر واحد أو أحد عشر. والفتى من لا يميز عند من
يأكل عنده بين ولي أو كافر. ويستوي عنده المقيم
والطارئ. الفتوة ترك التمييز بين الناس وتفضيل
أحد على آخر. ليست فقط أخلاقا فردية بل هي
أيضًا عادات اجتماعية وخصائص للشعوب مثل اشتهار
الشام بالفتوة، والعراق باللسان، وخراسان بالصدق.
١٦٧
والملامتية من نفس روح الفتوة. فالملامتي لا
يظهر خيرًا ولا يضمر شرًّا. ويخفي حاله على
وجهين لتحقيق الإخلاص والصدق ولستر الحال عن
غيره. يرى كتم الأحوال والأعمال. ويستوحش من
ظهورها. ولا يكون لأهل الملامة دعوى على أحد
وليس لديه ما يدعيه.
١٦٨ الملامتي يخرج الخلق من عمله
وحاله. وإن أثبت نفسه فهو مخلص. والصوفي أيضًا
أخرج نفسه من عمله وحاله كما أخرج غيره فهو
مخلص. وشتان بين المخلص والخالص والمخلص.
والفرق في رؤية الإخلاص. الملامتي يتمسك
بالإخلاص ويعظم موقعه لديه. والصدق أصل
والإخلاص فرع. الملامتي مقيم في أوطان إخلاصه
غير متطلع إلى حقيقة خلاصه. وهو الفرق بين
الملامتي والصوفي. يتقدم الملامتي على المتصوف
ويتأخر عن الصوفي. الملامة خوف القدرية ورجاء المرجئة.
١٦٩
عند الملامتية الذكر على أربعة أقسام: ذكر
باللسان، وذكر بالقلب، وذكر بالسر، وذكر
بالروح. ذكر الروح يشمل السر والقلب واللسان
وهو ذكر المشاهدة. وذكر السر يشمل ذكر القلب
واللسان وهو ذكر الهيبة. وذكر القلب يشمل ذكر
اللسان وهو ذكر الآلاء. وذكر اللسان بمفرده هو
ذكر العادة.
١٧٠
وكما يوجد الفتوة والملامتية يوجد أيضًا
الشطار. فالشاطر من شطرت نفسه عن الباطل.
١٧١ والظرفاء مع أهل الفتوة وأهل
الملامة. الظريف هو الخفيف على ذاته وأخلاقه
وأفعاله وشمائله من غير تكلف.
١٧٢ والصوفية هم أيضًا البهاليل.
١٧٣ والبهلول أشبه بجحا، ظاهره غير
باطنه. ظاهره البلاهة، وباطنه الحكمة. ظاهره
الجنون، وباطنه العقل.
١٧٤ وكلهم «أولاد البلد»
و«الجدعان».
(٤) الحروف والأسماء
اللسان ليس هو العضو الذي في الفم أو اللغة
بل هو البيان عن علم الحقائق، علم البلاء لسان.
وعلم بلاء البلاء سنان. لسان العلم ما تأدى
إلينا بواسطة. ولسان الحقيقة ما تأدى إلينا بلا
واسطة. ولسان الحق لا يأتي إلا بالكشف.
١٧٥ اللغة حرف واسم ولفظ ومنها تتكون
العبارة. وكلها أفعال. الحرف فعل. والاسم فعل،
واللفظ فعل. والحروف ليست مسموعة أو مكتوبة فقط
في تكوين الألفاظ بل هي حركات وسكنات في
العالم. تكون الأسماء الحسنى. فهي أكثر من حروف
صوتية أو خطية.
١٧٦ ولكل حرف حد في التلاوة. ولا يجاوز
المسموع في التفسير المنقول.
١٧٧ هي حروف المعجم لأن لها معنى في المعاجم.
١٧٨ وهي في حاجة إلى ترجمة لتعدد الألسنة.
١٧٩ الحروف لغات وتصريف وتفرقة وتأليف،
موصول ومقطوع ومبهم ومعجم وأشكال وهيئات.
١٨٠ الحروف من حيث الشكل منكوسة وأفقية
ومستقيمة أي رأسية والغرض من ذلك إظهار «لمع
ولوائح وإشارات من أسرار الوجود».
١٨١ والوجود في الذات.
١٨٢
الحرف نطق، والهم صمت.
١٨٣ والله قريب من الحرف إن نطق، وبعيد
عنه إن صمت.
١٨٤ فالله رب الحروف والمحروف فليس لها
منه مجال. وهو مرقب الحرف والحروف فليس لها عن
فعله مدار. وللحرف حكم أودعه الله. وللمحروف
حكم وصفه الله. ويكون التأويل هو التطابق بين
الحكم المودع مع الحكم الموضع، والرجوع إلى
الله لتنفيذ ما حكم.
١٨٥ وسواء ثبت الحرف أو عارضه فلا
الإنسان من الله ولا الله من الإنسان.
١٨٦ فالتأويل ما زال درجة من درجات
القرب دون الوصول. والخروج من بين الحروف ينجي
من السحر. ثم يسقط الحرف، وتهدم الدنيا
والآخرة، ويحترق الكون كله، ويبقى الرب بمفرده.
فاللغة مرتبطة بالتخاطب في الدنيا.
والحرف يسري في الحرف في النطق كالنغم. ويقود
الحرف الحسن إلى الجنة والسيئ إلى النار.
١٨٧ فالحرم هو المقام يوم القيامة.
وكلاهما من اشتقاق واحد. ومع ذلك لا يستطيع
الحرف التعبير عن المحامد ولا الثبوت في المقام.
١٨٨ الحرف هوة عميقة من يلتفت إليه أو
إلى ما فيه ولا ييأس من الله حتى ولو كانت
الحروف سيئة. وأعظم الحروف ما أعطى علما أو لم
يعط. فالعلم مباشر أو غير مباشر. جاهز أو يعد،
بالفعل أم بالقوة، ظاهر أم كامن. وإذا ما وصل
الصوفي إلى الله في نهاية الطريق يجعل الحرف
وراءه. فالحرف حجاب مانع من المعرفة المباشرة.
بل إن معنى الحرف حرف لأنه قرين. والسوى حرف
لأنه مغاير. وهو موضع شك حتى ولو كان به الكيف.
الحرف حجاب والحجاب حرف. وأصحاب الحروف محجوبون
عن الكشوف.
ويقف الحرف أمام الكون، والعقل أمام الحرف،
والمعرفة أمام العقل، والإخلاص أمام المعرفة.
١٨٩ الحرف لا يلج الجهل ولا يستطيعه.
وهو دليل على العلم. والعلم وراء الحروف.
والحضرة تحرق الحروف. والحرف لا يلج الحضرة.
وأهل الحضرة يعبرون الحروف ولا يقفون عليها. بل
ينفونها بما في ذلك من نفي الخواطر. والخارجون
عن أنفسهم خارجون عن الحروف.
١٩٠ الحرف يسري حيث القصد. القصد جيم
جنة أو جحيم. أهل الحرف الظاهر أهل النار، وأهل
الحرف الباطن أهل الجنة. الحرف نار الله وقدره
وحتم أمره وخزانة سره. ولا دخل للعبد في قوة
النار وإلا أكله نور الحرف. والحرف فج إبليس،
محفوف بالمخاطر.
١٩١ ومقام العبد من وراء الحرف. ولا
يدخل العبد إلى الحرف إلا ونظر الله في قلبه
ونوره على وجهه واسمه على اللسان.
١٩٢
أربعة حروف يهيم بها القلب. وتتلاشى بها هموم
الفكر: الألف لألفة الخلائق، واللام للملامة،
ثم لام أخرى تأكيدًا على المعنى، ثم الهاء
للهيام. وهي الحروف التي تكون «الله».
١٩٣ الألف أول حرف في «الله». والهاء
الهوية، والعين العالم. فلكل حرف مخرجه الصوفي
الدال عليه. وتشير الحروف إلى عوالم الشهادة
والملكوت، والغيب والملكوت، والشهادة والجبروت،
والغيب والجبروت، والملك والجبروت، والملك
والشهادة، والشهادة والقهر.
١٩٤ والواو وصال، والدال دلال، والحاء
حياء، والطاء طهارة، والواو الوفاء، والصاد
صفاء، واللام دهاء لمدارالعمر، والخاء خفاء،
والشين إشارة. وهنا الحرفان يدلان معًا.
١٩٥
والحروف ليست فقط حروف اللغة بالنطق أو
بالكتابة بل هي الوجود.
١٩٦ والوجود هو عالم العناصر الأربعة:
الهواء والماء والنار والتراب.
١٩٧ والحروف على علاقة بالأفلاك. وهي
على أربع مراتب.
١٩٨ وكل حرف له مرتبته في العناصر
الأربعة: الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة.
١٩٩
ومن تكلم بالحروف فهو معلول. ومن كان كلامه
بالمثقاب فهو مضطر. فالحروف ما زالت في إطار
عالم الخلق.
٢٠٠ والكلام نظر واستدلال وليس
مشاهدة.
الحرف حرف الله، والعلم علمه. والإنسان عبد
الله لا عبد الحرف ولا عبد العلم. والوقوف بين
يدي الله وليس بين الحروف والعلوم. الحروف
والعلوم نفسها تقوم بين يدي الله مثل الإنسان.
هي خزائن الله، من دخلها حمل أمانته. إن حملها
لله لا لنفسه كرامة. وإن حملها لله ولنفسه
مطالبة. وإن حملها لنفسه وليس لله يبرئ الله من
ذمته. تشهد الحروف على صنعة الله. هي مطايا
لرؤية وجه الله.
٢٠١ الحرف والمحروف دهليز إلى العلم،
والعلم دهليز إلى الاسم، والاسم دهليز على
المسمى. الاسم والعلم والحرف حجب وأبواب، ستر
وكشف. والكل يؤدي إلى النور.
٢٠٢ إذا جاءت ترجمة الله ينقطع بها
العبد عن ملكه وملكوته. فإذا بدت ينقطع عنها
إلى أن تصير التراجم والحروف آلة للمعرفة،
ومركبا للنطق.
٢٠٣ الحرف بداية ونهاية.
٢٠٤ الحروف كلها مرضى إلا الألف
لاستقامتها، والأخرى مائلة. والميل مرض.
٢٠٥
لذلك كانت الحروف موضوعًا للتأويل. لها ظاهر
وباطن وهو موضوع كتاب «الطواسين» أي حرفي الطاء
والسين. فالسين في ياسين وموسى أنوار الحقيقة.
وأقرب إلى الله من حروف «يا» و«مو».
٢٠٦ وطلب التوحيد من حرفي اللام ألف
وإلا كان كفرًا. والتعرف على الهوية من خط
الاستواء حيرة. وهنا يتوحد الفكر بالحرف
بالرياضة بالطبيعة.
٢٠٧ وعين التوحيد في السر، والسر بين
الخاطرين، والخاطران بين الفكرتين، والفكرة
أسرع من الرؤية.
٢٠٨ الحرف إحدى طرق الوصول إلى الله.
٢٠٩ وهناك ثلاثة حروف دون إعجام. وباقي
الحروف رموز غامضة لا تفك.
٢١٠ وعبادة الله ستة أحرف، بينها حرفان
أعجميان. وهما أصل الإنسان، وآخر للإيمان.
وتقوم الحروف مقام بعضها البعض.
٢١١ الحروف تقديس وإفراد وتركيب.
٢١٢ والأعداد مثل الحروف سر من أسرار
الله في الوجود. يتصرف الإنسان بين أربع حقائق:
ذاتية وربانية وشيطانية وملكية. وهذه الحروف
والألفاظ من غير تأويل ولا صرف. والمتأولة أهل
فكر ونظر.
٢١٣
والحروف في أوائل السور لها دلالات. الألف
المألوف، واللام الآلاء، والميم الملك، والصاد الصادقون.
٢١٤ والقرآن به علم كل شيء، وعلم كل
شيء في الأحرف التي في أوائل السور، وعلم
الأحرف في اللام ألف، وعلم اللام ألف في الألف،
وعلم الألف في النقطة، وعلم النقطة في المعرفة
الأصلية في الأزل، وعلم الأزل في المشيئة، وعلم
المشيئة في غيب الهو، وغيب الهو في التنزيه
لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ. فالحرف في البداية يحيل إلى
الألوهية في النهاية. وتتعدد تأويلات الحروف
حسب الحالات. إذ يمكن القول أيضًا أن الألف
للأزل واللام للأبد، والميم ما بينهما، والصاد
الاتصال والانفصال. وهي ألفاظ تجري أيضًا حسب
العبارات، والحق يتجاوزها.
٢١٥
ولله الأسماء والأوصاف بعد الحروف أودعها.
وكلها في ترتيب القيومية.
٢١٦ الأسماء نور الحروف. والمسمى نور الأسماء.
٢١٧ لكل اسم مسماه ولكل مسمى نوره.
الحقيقة تحد الأسماء والأسماء قيومية.
٢١٨ وهو لفظ قرآني كثير الذكر. ويطلب
العبد من قلبه محو أثر الأسماء فيه باسم الله
حتى تثبت سلطته ويفنى معناه.
٢١٩ تعرف الأسماء والحروف والإنسان في
بشريته والخيل يأكل العقل». وإذا كان الحذر من
خيل العقل فالأولى الحذر من خيل القلب.
٢٢٠ والعبد عند الله أعظم حرمة من اسمه.
٢٢١ فالمسمى أعظم من الاسم ولماذا
تقديس الأسماء؟ الاسم حروف لاستدلال المسمى
بالتسمية على إثبات المسمى. فإذا سقطت الحروف
فإن المعنى لا ينفصل عن المسمى.
٢٢٢ تاهت الخليقة في العلم، وتاه العلم
في الاسم، وتاه الاسم في الذات. فالاسم حلقة
متوسطة بين الكون والعلم من ناحية والذات من
ناحية أخرى. والاسم رسم ووسم. والرسم ما رسم به
ظاهر الخلق، برسم العلم ورسم الخلق فيمتحي
بإظهار الحق. أما الوسم فهو ما وسم الله به
المخلوقين في سابق علمه بما شاء كيف شاء فلا
يتغير عن ذلك أبدًا. الوسم أقرب إلى الطبيعة
والخلقة داخل الشيء وليس خارجه. فإذا كان
الظاهر فالوسم
هو الباطن.
٢٢٣
والأسماء ألفاظ وقد يكون اللفظ الصوفي مركبًا
بالإضافة مثل صاحب قلب. ويعني ليس له عبارة
ولسان وفصاحة وبيان. علم باطني دون تعبير.
٢٢٤ ومن الألفاظ تنشأ المصطلحات.
فللصوفية طرقهم في التعبير في المسائل واختلاف الأجوبة.
٢٢٥ العلم كله نصفان: سؤال وجواب. ولهم
مسائل خاصة لم يتكلم فيها إلا هم. وهي كثيرة لا
تحصى إنما يذكر منها البعض فقط.
٢٢٦ ولهم أشكال كتاباتهم والصدور
والأشعار والدعوات والرسائل. يصدرون الكتب والرسائل.
٢٢٧ ولهم أشعارهم في معاني أحوالهم
وإشاراتهم. ولهم دعواتهم يدعون بها المشايخ
المتقدمين من أهل الصفوة. ولهم وصاياهم لبعضهم
البعض. وتحديد الألفاظ وتعريفاتها يطول. وما
ذكره الصوفية بعض منها.
٢٢٨
وكما ظهرت موضوعات التصوف في المسائل
والأجوبة عليها كذلك تظهر في الألفاظ الجارية
على لسان الصوفية مثل المقامات والأحوال.
٢٢٩ بعضها ثنائي على التقابل.
٢٣٠ وبعضها أسماء مشتقة ثلاثي الإيقاع.
٢٣١ وبعضها ثنائي أو ثلاثي بالصوت.
٢٣٢ وقد يكون لفظًا واحدًا.
٢٣٣ وبعضها يشير إلى المعرفة والبعض
الآخر إلى الأخلاق، والبعض الثالث إلى
الميتافيزيقا الخالصة. والبعض تحول إلى جمل مفيدة.
٢٣٤ وهي الألفاظ التي تدور في فضاء
الفناء والتي يمكن تحويلها وقلبها إلى فضاء
البقاء.
وبعد الحروف والأسماء والألفاظ تأتي العبارة.
وهي مجموعة من الحروف. ليس لها سلطة أي حكومة؟
إذ تعرف السلطة بلا عبارة. ويمكن المعرفة بلا
عبارة بل عن طريق الحجر والمدر أي العودة إلى
الطبيعة أصل الحروف كما هو الحال في الكتابة
الهيروغليفية. السكون إلى العبارة نوم. والنوم
موت. والأفكار في الحروف، والخواطر في الأفكار.
وفكر الله الخالص من وراء الحروف والأفكار.
واسمه من وراء الذكر.
٢٣٥ وجواز الحروف توقف في الرؤية. وبعد
الوصول إلى الله تترك العبارة وراء الظهر،
والمعنى وراء العبارة، والوجود وراء المعنى.
٢٣٦
(٥) الصمت والإشارة
التصوف لغة، صريحة أو ضمنية، حقيقة أو مجاز،
عبارة أم إشارة. ومن لم يقف على إشارات الصوفية
لم ترشده عباراتهم. ولو صمت المشاهد لصمتت
العبارة وإلا لحزب السر وهلك.
٢٣٧ ولو علم الناطق آفة النطق لصمت عمر
نوح. ولو علم الصامت آفة الصمت لنطق ضعفي عمر
نوح. هناك إذن جدل بين الصمت والكلام. إذا أعجب
الكلام فالصمت. وإذا أعجب الصمت فالكلام.
٢٣٨ وتعلم الصمت مثل تعلم الكلام. وإذا
كان الكلام يهدي فإن الصمت يقي.
٢٣٩ الصمت هو علم لا أدري في مقابل
الكتاب الناطق والسنة القائمة. فالتوقف عن
الحكم علم.
٢٤٠ ولا يعني الصمت السكوت عن الحق.
فالساكت عن الحق شيطان أخرس. والخلوة شرط
الصمت. والصمت شرط التوبة.
٢٤١ ويقترن الصمت بالخلوة وترك الشهوات
وسهر الليل سنتين ثم يعرض الحال على الله
والاستعانة به. الصمت يعرف الحال. والخلوة تقطع
الآفات. وترك الشهوات يقطع عن الدنيا. والخلوة
تمنع من الاشتغال بالناس. وسهر الليل يميت
الجهل ويحيي العلم. وهذا هو الطريق إلى البديل
والصديق وإلى العلم النافع.
٢٤٢ والصمت يطيل العمر مثل التوبة
والأدب والخلوة.
ويتطلب الالتزام بالأمر والنهي الالتزام
بالصمت والخلوة، وترك الشهوات، وسهر الليل.
٢٤٣ يعرف الحال بالصمت، وتنقطع الآفات
بالخلوة والانشغال بالناس في أمور الدين
والدنيا. وإدراك الجهل والوصول إلى العلم بسهر
الليالي. ومن قام بذلك صار بديلًا من البدلاء
وصديقا مع الصديقين.
والصمت عند الصوفية رد فعل على الكلام عند
المتكلمين، ومن المغالاة في الجدل إلى المغالاة
في الصمت. ترك الصوفية الكلام بعلم. والكلام
فقط للضرورة من أجل تجنب آفات الكلام فيرفع
الحجاب والصمت هو المقام السابع في مقامات
السالكين. وهي حكمة تقتضي انقطاع الوسواس وموت
الطبيعة عن الفضولات. فعمارة القلب نعمة،
وعمارة اللسان فتنة. «الصمت حلم وقليل فاعله».
والصمت والإنصات متقاربان.
٢٤٤ وغياب الصمت يُوقع في الفضول حتى
مع الصمت. وهو حب الاستطلاع والرغبة في الكلام.
الصمت سلامة، وهو الأصل. وعليه ندامة إذا ورد
منه زجر.
٢٤٥ وقد ورث الحكماء الحكمة بالصمت
والتفكر. واللسان أحق من إطالة سجنه. لكل شيء
بابان وللسان أربعة، الشفتان والأسنان. خلق
للإنسان لسان واحد وعينان وأذنان ليسمع ويبصر
أكثر مما يقول. الصمت لسان الحلم، ومن آداب الحضرة.
٢٤٦
الكلام لا يكون إلا فيما يعني المتكلم. فإذا
نطق فيما لا يعنيه خرج عن حد الصمت. ومن عد
كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه. الكلام
مع الناس قليل، ومع الله كثير لعل القلب يراه.
صون النفس بامتلاك اللسان، وعفة اللسان صمته.
واللسان مثل السبع يعتدي دون وثاق. الصمت سكوت،
والسكوت في وهته صفة الرجل. كما أن النطق في
موضعه من أشرف الخصال.
٢٤٧ ومن لم يستعن بالسكوت وقع في
اللغو. وفرق بين سكوت صونًا عن الكذب والغيبة
وسكوت لاستيلاء سلطان الهيبة.
٢٤٨ ولسان الجاهل مفتاح حتفه. والسكوت
قسمان: سكوت بالفم واللسان، وسكوت بالقلب
والضمير. فالمتوكل يسكت قلبه عن السعي وراء
الرزق. ليس الصمت خاصية للسان لكنه خاصية للقلب
والجوارح. صمت العوام باللسان، وصمت الخواص
بالقلوب، وصمت المحبين عن خواطر الأسرار. إذا
سكت المحب هلك. وإذا سكت العارف ملك. اللسان لا
يسمع إلا من القلب. والقلب لا يتكلم إلا من
اللسان. ولو سكت اللسان لما نجا من كلام القلب.
وقد يكون سبب السكوت حيرة البديهة. فإذا ورد
كشف بغتة
خرست
العبارات.
وهناك ما يقال وما لا يقال.
٢٤٩ ما يعرف يقال، وما يشاهد لا يقال.
الأول يمكن النطق به، والثاني يستحيل النطق به.
الأول مجال الكلام الثاني مجال الصمت. ما يقال
حروف، وما لا يقال إشارات. ما يقال مقولات وما
لا يقال كشوف. والمواجيد بالمقولات شطحات يحكم
عليها بالكفر. والحرف عاجز عن الإخبار عن الله
أو تعريفه. الحرف من مخلوقاته. فكيف يعبر
المخلوق عن الخالق؟ ما يقال كتابة وحساب، وما
لا يقال لا يكتب ولا يحسب. وقد كان الرسول
أميًّا لا يقرأ ولا يكتب وكان يتلقى الوحي
سماعًا.
الله هو الناطق وليس هو النطق.
٢٥٠ وهي نفس ثنائية الظاهر والباطن،
التجلي والستر، الكشف والحجب. وتجمع النطقية في
حرف، وتجمع الصمتية على هم. ويقيل الحرف والهم
على الله.
٢٥١ وإذا وصل العبد لله فإنه لا ينطق.
٢٥٢ وقد تكون المعرفة بلا نطق. الصمت
يحكم. والنطق يدعو.
٢٥٣ ويصبح الله كل شيء. صامت في الصامت
وناطق في الناطق.
٢٥٤ الصامت والناطق مقولتان في الفكر
الشيعي. وهي البيئة الرئيسية التي خرج منها
كبار الصوفية.
ومع الصمت والنطق هناك السر والخفاء. وهما
لفظان قرآنيان. السر خفاء بين العدم والوجود.
هو ما غيبه الحق ولم يشرف عليه الخلق. وسر
الخلق ما أشرف عليه الحق بلا واسطة، وسر الحق
ما لا يطلع عليه إلا الحق. وسر السر ما لا يحس
به إلا السر.
٢٥٥ السر ما لا يحس به هاجس النفس فقد
غيبه الحق. والسر سران: سر للحق بلا واسطة، وسر
للخلق بواسطة. السر من السر للسر، حق لا يظهر
إلا بحق. وما ظهر بحق ليس سرًّا.
٢٥٦ وقلوب الرجال قبور الأسرار. ولا
توجد الأسرار إلا في صدور الأحرار. فهي دلالة
على يقظة الضمير. ولا يمكن الاطلاع عليه
بالقوة، بالقهر أو التعذيب لأنه يعادل الضمير
والوجود الإنساني في ذاته.
٢٥٧ وصمت السر هو ترك الاشتغال بالماضي
والمستقبل. فالعمل تجل. وتعذب الأسرار قبل
الزلل بعد النية على العمل.
الأسرار بكر لا يفتضها وهم واهم ولا فهم فاهم
لأنها أقرب إلى حديث النفس. ومع ذلك السر هو ما
خفي ظاهره وبدا معناه. والطور هو طيران السر
إلينا وإليه.
٢٥٨ وقد يكون للسر معنى عضوي. فهو
لطيفة مودعة كالأرواح. وهو محل للمشاهدة كما أن
الأرواح محل للمحبة، والقلوب محل للمعارف. السر
ألطف من الروح. والروح أشرف من القلب. السر لا
إشراف عليه. والأسرار معتقة عن رق الأغيار من
الآثار والأطلال. ولا يطلع على سر السر إلا
الحق. السر مصون ومكتوب بين الإنسان والله. ولو
عرف السر الزر لخلع الزر.
٢٥٩
والإشارة هو ما يخفى على المتكلم كشفه
بالعبارة للطافة معناه. والإيماء إشارة بحركة
جارحة مثل التمثيل الصامت.
٢٦٠ وتؤذن ببعد الغير أو حضوره.
٢٦١ فلان صاحب إشارة أي إن كلامه مشتمل
على اللطائف والإشارات وعلم المعارف. الإشارة
كالكناية، والكناية كالإشارة. ولا يدركها إلا
الأكابر من أهل العلم. الإشارة دالة ومؤشر.
فالإشارة إلى العمل طريق الورع، والإشارة إلى
العلم طريق العبادة، والإشارة إلى الأمن في
الرزق طريق الزهد، والإشارة إلى الآيات طريق
الأبدال، والإشارة إلى الآلاء طريق العارفين.
ليس المقصود بالإشارة الحركة بالأصبع أو التوجه
نحو المكان. فلا يشار إلى الحق وإلا ردت. لا
يشار إلى الحق إلا بالحق. وأبعدهم عن الله من
يكثر الإشارة إليه. وعند أصحاب التوحيد الإشارة
شرك. وقد تكون كفرا إذا كانت الإشارة إليه
بعلم.
فالإشارة لا تكون إلا على معلوم. ومن أشار إليه
بمعرفته فقد الحد لأن الإشارة بالمعرفة لا تقع
إلا على محدود. ويشير المريد إلى الله فيجد
الله مع الإشارة ثم بإسقاط الإشارة. الإشارة
تتطلب البعد والله قريب. ويمكن فهم المطلوب
بغير الإشارة.
٢٦٢ والإشارات الإلهية متبادلة بين
الصادر والوارد كما هو الحال في البريد.
٢٦٣
كلام الأنبياء نبأ عن حضور. وكلام الصديقين
إشارات من مشاهدات.
٢٦٤ وإذا كانت الإشارة قبل السماع كانت
من فوق. القليل منها يشفي. وإن كانت بعد السماع
كانت من تحت، والقليل منها يهلك.
٢٦٥ السماع بالتصريح جفاء. والسماع
بالإشارة تكلف. وألطف الأسماع ما يشكل إلا على
مستمعه. وهذا هو الاشتباه. العبارة يعرفها
العلماء، والإشارة يعرفها الحكماء، واللطائف
يقف عليها الشيوخ.
٢٦٦ الإشارة إبانة عما يتضمنه الوجد من
المشار إليه. وفي الحقيقة الإشارة تصحبها
العلل، والعلل بعيدة عن الحقائق.
٢٦٧ فالإشارة لغة الوجد وإن كانت قائمة
على العلل. والعلل نفسها بعيدة عن الحقائق.
العلل في الشريعة وليست في الحقيقة.
قد تكون الإشارة حروفًا أو عبارة تفهم بالأنس
ويكتب بها كتاب منه عنه إليه يترجم عن الأستار.
٢٦٨ والعلم الإشاري تعبير باللسان
مشيرًا إلى الحق. لا يخفي سرًا.
٢٦٩ استعمل الصوفية لغة الإشارة
للدلالة على الباطن من الظاهر.
٢٧٠ بل أصبحت الإشارات نوعًا أدبيًّا
عند أبي حيان في «الإشارات الإلهية» وعند
القشيري في «لطائف الإشارات». يستعمل الصوفية
بعض الإشارات الرمزية التي يفهمها المتحاوران.
التصوف إشارة فإذا صار عبارة اختفى. ويرد لفظ
«الرمز» مع «الإشارات» و«اللطائف». الإشارة رمز
بسيط. والرمز إشارة مركبة. الرمز أفضل من
التسمية للإجابة على سؤال لا إجابة عليه.
٢٧١ وهو أكثر قدرة على التعبير من الحد والرسم.
٢٧٢ والحديث عن علوم المكاشفة بالرمز
والإيماء على سبيل التمثل والإجمال لتصور أفهام
الخلق من الاحتمال. الرمز معنى باطن مخزون تحت
كلام ظاهر لا يظفر به إلا أهله. والرموز في
مكاتبات المشايخ لا في مؤلفاتهم.
٢٧٣
والشطح كلام بترجمة اللسان عن وجد فياض مما
يوحي بأن صاحبه مستلب مأخوذ. ويمنع الشطح من
التمييز بين الأشياء والمخاطر وبالتالي حدوث
الأمن التام. وقد تعوذ البعض من شطح اللسان.
٢٧٤ وتدخل في صياغة الشطحات خاصة
الحكايات الرمزية بعض الآيات القرآنية
المتشابهة الخاضعة للتأويل، والأحاديث القدسية
التي هي أقرب إلى الإشراقيات الصوفية والإيغال
في الغيبيات منها إلى الأحاديث النبوية الأقرب
إلى التفصيلات العملية والسلوك الإنساني.
٢٧٥
والصول هو الاستطالة باللسان من المريدين
والمتوسطين على أبناء جنسهم بأحوالهم. وهو
مذموم على عكس الشطح الذي لا يمس ولا يسيء إلى
أحد. أما الصادقون فإنهم يصولون بالله لقلة
المساكنة إلى ما سوى الله.
٢٧٦
(٦) العلم والعمل
العالم هو الذي يعمل بعلمه.
٢٧٧ ومن دلائل المعرفة العمل بالعلم
والخوف على العمل. فالعلم مؤشر على المعرفة
ويتحول إلى عمل. العمل هو المقصد النهائي
للعلم. وأول العمل العلم به فصار علم العمل
فرضًا من حيث تضمن العمل.
٢٧٨ العلم إمام العمل. والعناية إمام العلم.
٢٧٩ ولن يعمل بالعلم إلا ما شاء الله
مع أنه قرار فردي يقوم على مدى الالتزام. العلم
بدون عمل أسوأ حالًا إذ يصبح العلم «مأكله لحم
أو طلب رياسة أو متاع الدنيا أو رياء وسمعة».
٢٨٠ العلوم كلها دنيا وآخرة للعمل بها.
والعمل هباء بدون إخلاص.
٢٨١ وأنجى طريق للعبد العمل بالعلم.
٢٨٢ والحذر من التزين بالعلم أو العجب
بالعمل. العلم يزيد خشية، والعمل بصيرة. والعلم
يورث العمل. في الماضي كان من يترك عشر العلم
يهلك. واليوم من يعمل بعشر العلم ينجو. ليس
العمل هو المقصود بل الكشف. فمن نظر إلى العمل
حجب عمن يعمل له. ومن نظر إلى من يعمل له حجب
عن رؤية العمل.
٢٨٣ فالعمل له غاية، ولكن السؤال أين؟
في الرأسي أم في الأفقي؟ في الله أم في العالم؟
في الأعلى أم في الأمام؟
من عمل بما علم علمه الله بغير تعلم. فالعمل
يفيض على العلم وبالممارسة تعرف عيوب النظر.
فبين العلم والعمل تصحيح متبادل.
٢٨٤ وبإجابة العلم والعمل يزاد في
العقل. فالعقل نظري وعملي معًا.
٢٨٥ العالم يعمل بعلمه. والعاقل يفسر
العلم والعمل.
٢٨٦ وعمل النوافل أفضل من العلم بها
لأن العلم مقدمة للعمل.
٢٨٧ ومن لم يقدس فعله لم يقدس بدنه.
ومن لم يقدس بدنه لم يقدس قلبه ثم لم يقدس نيته
فالأمور كلها بالنية.
٢٨٨ فإذا تقدس ذلك كله اتصل بمولاه.
فالعلم والعمل قطبان للبدن ومركزه القلب. والكل
طريق إلى الله.
٢٨٩
والأعمال على قدر مقامات الأسرار
٢٩٠ واستمرار العلم هو سبب استمرار
الفعل. ومن لم يقف علمه لم يقف فعله
٢٩١ وشكر العلم العمل به. وشكر العمل
مزيد من العلم
٢٩٢ والعلم استثناء الدنيا من الجهل
والموات. وهو حجة على الخلق إلا العمل به فهو
حجة لهم. والأعمال كلها ضائعة دون الإخلاص،
والإخلاص لا يعرفه إلا الله. والأمور
بخواتيمها. ومن علامات آخر الزمان انفصام العمل
عن العلم، والصبر عن العمل، والتهافت على
الدنيا وادعاء العبادات. ولماذا لا يؤدي العمل
إلى الوصول إلى المأمول اعتمادًا على حديث واحد
«لن ينجو أحد منكم بعمله بل بفضل الله» ومئات
الآيات والأحاديث تشير إلى قانون
الاستحقاق؟
وأحيانًا يستبدل بالعلم النظر ويظل العمل.
فالنظر دون العمل يقضي على الدين. ومن ينظر دون
أن يعمل فلا دين له
٢٩٣ والعمل خير من النظر، وفعل الشيء
خير من النظر، وفعل الشيء خير من تأمله.
والاتفاق مع الصفة خير من وصفها
٢٩٤ والعمل خير من الجدل. والتصوف أفضل
من الكلام
٢٩٥ العمل يفتح باب الخير ويغلق باب
الكسل والتقصير هو فوت العمل
٢٩٦ والعمل وكأن لا يوجد في الأرض غير
العامل ولا في السماء أحد إلا الله فالعمل دليل
الوحدانية.
وأحيانًا أخرى يستبدل بالعلم المعرفة. العلم
دليل على الله والمعرفة دالة عليه. والحكمة
رحمة منه. بالعلم تنال المعلومات، وبالمعرفة
المعروفات. العلم بالتعلم، والمعرفة بالتعرف.
المعرفة بتعريف الحق والعلم بتعريف الخلق. ثم
تنشأ الفوائد بعد ذلك. فالعلم في الحالتين هو
العلم النافع. للعارفين خزائن أودعوها علوما
غريبة، وأنباء عجيبة. يتكلمون فيها بلسان
الأبدية، ويخبرون عنها بعبارة الأزلية.
والمعرفة ليست فقط نظرية بل هي أيضًا عملية، لا
فرق بين العقل النظري والعقل العملي.
٢٩٧
وأحيانًا يستبدل بالعلم الإيمان في الثنائية
التقليدية بين الإيمان والعمل كما هو الحال في
علم أصول الدين
٢٩٨ وللمؤمن أربع علامات: كلامه ذكر،
وسمته تفكر، ونظره عبرة، وعمله بر
٢٩٩ وهل المؤمن لا يعمل شيئًا فإذا دخل
عليه شيء طيب آثر به غيره؟ وهل إيثار الآخر
بعمل خارجي أفضل من العمل الذاتي؟
٣٠٠ والإيمان فطنات، يسكن ولا يخرج.
واليقين خطرات
٣٠١ فالإيمان عالم داخلي.
والعمل في الإيمان على درجات من الداخل إلى
الخارج، من الشعور إلى العالم. أولاها اليقظة.
فالمؤمن لا يسهو حتى يغفل. فإذا تفكر حسن واستغفر
٣٠٢ فالمؤمن هو الشعور اليقظ وليس
النائم، المنتبه وليس الغافل. وثانيا التصديق
بالقلب بما أعلمه الحق من الغيوب. ومطالبة
الإيمان ما حدا عليه من صحة التصديق بالوعد والوعيد
٣٠٣ وثالثها العزة. فما استقام إيمان
حتى يصبر على الذل مثل ما يصبر على العز.
٣٠٤ الصبر على العز سعي له. وتصبر على
الذل تخلص منه. فمقياس الإيمان استحقاقه.
ورابعها العلم. فالإيمان مقرون بالقرآن وهو علم.
٣٠٥ الإيمان أحد أنماط العلم. وعلم
الإيمان والتوحيد وعلم المعرفة واليقين مع كل
مؤمن حسن الإسلام. وهو مقامه من الله. فالعلم
بالله والإيمان قرينان. الإيمان مدد العلم
وبصره. والعلم قوة الإيمان ولسانه. وخامسها
الأخلاق. فليس الغش في الإيمان ولا من خصال المؤمنين
٣٠٦ لا يوزن الخلق بميزان النفس بل
بميزان المؤمنين لمعرفة فضلهم وإفلاس الذات.
ولماذا يكون القياس على الذات إفلاس؟ شرح صدور
المتقين وكشف بصائر المهتدين بنور حقائق الإيمان
٣٠٧ إذا كان السلم محبوبًا إلى الخلق
فإن المؤمن غني عن الخلق.
٣٠٨ البر الإيمان، والتقوى الإخلاص،
والإثم الكفر، والعدوان المعاصي
٣٠٩ وما يذهب الإيمان والعمل من القلب
القصائد أي الشعر، والشراب أي الخمر، والغناء
أي الموسيقى والطرب مع أنها أقرب الأشياء
إلى التصوف
٣١٠
وأحيانًا يضاف إلى ثنائية الإيمان والعمل
القول في ثلاثية الإيمان والقول والعمل.
فالإيمان قول وعمل. الإيمان طاقة داخلية تتخارج
في القول والعمل، في اللسان وفي اليد
٣١١ مطابقة الظاهر والفعل ضرورة. وهي
مطابقة الداخل والخارج، القول والفعل، النظر والعمل
٣١٢ ويسلم اللسان من الكذب إذا كان
أصله صحيحًا
٣١٣ الكذب هو القول الفارغ من أي
مضمون، قول اللسان ولا يقابله تصديق بالفكر أو
بالوجدان أو بالعمل
٣١٤ والقول والعمل واجهتان لشيء واحد
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ
* كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ
أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ.
٣١٥
فضل القول على العمل منقصة، وفضل العقل على
القول مكرمة.
٣١٦ فالعمل له الأولوية على القول.
وصدق القول وصدق العمل ضمن أربعة خلال ومعها
صدق المودة وصدق الأمانة.
٣١٧ وكلها فضيلة الصدق. يتوقف القول
الخالص على العمل، والعمل على الآجل، والآجل
على الطمأنينة، والطمأنينة على الدوام.
٣١٨ العلم ينزل والعمل يصعد.
٣١٩ والعمل سابق على القول، والسلوك
شرط المعرفة.
والتوفيق البداية بالعمل.
٣٢٠ أخسر الخاسرين من أبدى للناس صالح
أعماله، والأعمال تعبير عن المقاصد وليست رياء
للناس كما حذر المسيح. فالرياء في الأعمال بصرف
النظر عن مبارزة لمن هو أقرب إلى حبل الوريد.
٣٢١ الأعمال بالنيات. والبداية بفحص
النية وهي الإرادة الخيرة.
٣٢٢ والنية أفضل من العمل، والعمل أفضل
من القول.
٣٢٣ واستقامة الطاعة للنية.
٣٢٤ ومن سعادة المرء حسن النية.
٣٢٥ والحذر من الرياء ومدح الجاهل أو
قبل مدح النفس. الناس نوعان عالم بعمل يعلمه،
وساذج بنية.
٣٢٦ فالعلم أساس العمل والنية وسط
بينهما، علم شعوري وعمل في حالة الإمكان.
والإخلاص أربعين يومًا بالنية وحفظ الجوارح ولا
يطعم إلا الحلال. ويكون الطعام واللباس لله
بالنية. والنية هي التفكر.
٣٢٧ وهي النية العقلية أو القيد.
والنية هي الإخلاص. وهو معنى حديث «إنما
الأعمال بالنيات».
٣٢٨ نية الإرادة غير نية الفعل.
الإرادة عام والفعل خاص. وكما يثبت حكم الظاهر
بالفعل يثبت حكم السر بالنية
٣٢٩ وإن لم يصل العلماء بعلمهم وصلوا بنياتهم
٣٣٠ ولكل عمل نية ومن ثم لا يحجب صاحبه
عن الله. ودون نية لا يُعرف الحكم. وضياع النية
يؤدي إلى الحيرة
٣٣١ فالنية قصد، والقصد اتجاه.
والنية هي إرادة الإنسان أن يعمل بمعنى من
المعاني فالإرادة نية والنية إرادة وتطلق على
الأشياء أيضًا تشخيصًا مثل
جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ٣٣٢ فإن لم تحضر النية فإن ذلك يعني
إما عدم توافر الباعث على الفعل أو أن يكون
الفعل قد تم عن طبيعية لا إرادة
٣٣٣ فإذا ما قام الإنسان بعمل لغير وجه
الله ثم يندم فإن العمل يستمر بالنية الجديدة
٣٣٤ وتجزئ النية عند بدء العمل أثناءه
٣٣٥ وأثناء العمل قد يزيد النشاط ويتسع
الأفق، وتظهر أبعاد جديدة غير النية الأولى
٣٣٦ ويجب على المريد أن يلزم حين العمل
سرًّا وعلانيةً لوجه الله وحده
٣٣٧ ويسر العبد عندما يظهر عليه من
عمله قبل فراغه منه وبعد قراءته.
٣٣٨
وقد يؤتى العمل سرًّا خوفًا من العدو أو من
الشهرة. أو استعينوا على قضاء حاجاتكم
بالكتمان». والإنفاق بحيث لا تعلم اليد اليسرى
ما تنفقه اليد اليمنى. وقد يتساوى السر
والعلانية مع أفضلية السر
٣٣٩ ويجوز ترك العمل خوفًا من الرياء
قبل العمل وأثناء العمل.
٣٤٠
ويمكن ترك بعض النوافل إشفاقًا على الناس من
تكليف ما لا يطاق.
٣٤١ وقد يظهر العمل للاقتداء به.
فالعمل مستمر في التاريخ. «من سن سنة حسنة فعمل
بها كان له أجرها وأجر من اتبعه فيها».
٣٤٢ وقد يحث الإنسان الآخرين على عمله
للاقتداء به. فالمبادرة قد تأتي من العامل أو
من المقلد.
٣٤٣وَاجْعَلْنَا
لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا.
والدعاء أقرب إلى القول والإيمان منه إلى
العمل والفعل وطاعة الرب ودعاؤه مستجاب
للاضطرار عن طريق فعل خارجي.
٣٤٤ الدعاء ترك فعلي للذنوب وليس مجرد
التمني بالقول.
٣٤٥ والاستعاذة بالله منه من النبي أو
من اقتفى أثره. دون فعل مجرد خوف وتمن للنجاة.
٣٤٦ الدعاء هو فعل سلبي، استجداء
وتحقق. لا يرد الله الدعاء من الصديقين، مؤمنين
أو كافرين. فالدعاء من الكافر ضرورة. والمؤمن
يدعو بحكم الإيمان. الدعاء فعل قلبي، بداية
تحقق الفعل بالنية. وبهذا المعنى الدعاء مستجاب
فهو قضاء للحاجات دون أن يدري الإنسان حسنة
كتبت له أم عقوبة صرفت عنه.
٣٤٧ وهو ما سماه إقبال «فلسفة السؤال»
أي الشحاذة من الله. ليس الدعاء بالقول بل
بالفعل. ونتائج الأفعال مقصودة وعن روية.
الدعاء بهذا المعنى مستجاب في أربعة أوقات
نهارًا وليلًا، حين الضرورة، وبالاسم الأعظم
وساعة الظلم، وفي سبيل الإخوة والأبوة.
٣٤٨ فالدعاء أول درجه من درجات تحقق
الفعل. إن الدعاء بالمعنى الشعبي مجرد قول دون
فعل، يطعن في قانون الاستحقاق، الدعاء بدخول
الجنة، والخروج من النار. والنصيب يرجع إلى
الفضل. والدعاء بلا فعل واستحقاق تخل عن الحرية
والمسئولية. وكيف يحب الله الإقرار بالذنب وهو
الفاعل لكل شيء؟
٣٤٩ وكيف يعرف اتفاق الدعاء «الكد» كي
تسرع الإجابة حتى إذا كانت اللغة والوجود متوازيين؟
٣٥٠ وأفضل دعاء وأسرعه للإجابة وجدان
قلوب الصديقين. الدعاء أفضل من العلم لأنه مع
الفقر والفاقة يجمع بين القول والعمل. والدعاء
المستجاب لا حيلة للعقل ولا للعلم فيه. يكفيه
الإيمان والعمل. هو هبة من الله. وما دام
الدعاء كوسيلة لجلب المنافع غير مضمون فالأولى
الأخذ بالأسباب.
٣٥١ وإذا كانت المقدمة التوحيد فإن
الدعاء هو التبري من كل ما سوى الله أي
الاستسلام كلية للغير.
٣٥٢ الدعاء إذن دعوة للتخلي عن
الأسباب. والفعل في العالم يقتضي الأخذ
بالأسباب. والأمر بالدعاء والتضرع حتى لا يسأل
إلا الله. والأفضل الأمر بالفعل والكد والسعي
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ
إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ
الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي
مَنَاكِبِهَا فالدعاء جامع بين الإيمان
والعمل. ولا ينجع السهم من الرامي كما ينجع
الدعاء
أَمَّنْ يُجِيبُ
الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ.
٣٥٣ والاضطرار يؤدي إلى الفرج القريب
بطبيعة الأشياء. فلا يوجد اضطرار دائم ولا فرج
دائم. الدعاء التصديق بالقلب الذي يخلق موضوعه.
وما من أحد كانت له حاجة إلى الله أعيى أهل
السموات والأرض قضاؤها فدعا الله إلى الليل إلا
قضيت. وهو إحساس بالأمل بعد اليأس وبالوجود بعد
العدم، وبالحياة بعد الموت.
٣٥٤
وإذا كانت الأعمال بالتوفيق، والتوفيق من
الله، ومفتاحها الدعاء والتضرع فلم يبق للعامل شيء.
٣٥٥ العمل الذي يبلغ الغايات هو رؤية
التقصير والعجز والضعف. فالعمل يبدأ بالسلب.
والعمل لا يحتاج إلى عصمة. وهو أشرف عمل لأنه
ممارسة للحرية. ولا علم أشرف من علم آدم إلى
تعلم الأسماء ولم يمنعه ذلك من العصيان وجريان
القضاء والقدر عليه. ولا عبادة أفضل من عبادة
إبليس لأنه لم ينج من المسبوق عليه.
٣٥٦
واللعن دعاء سلبي، تمني الضر للآخرين، وليس
تمني الخير للنفس. إلا أن لعن الرسول إبليس إلى
الأبد كما لعنه الله، وعلى الكفار إلى التوبة
فتتحول إلى رحمة، وعلى المسلمين رحمة إذا تابوا.
٣٥٧ وليس من شيمة الرسول اللعنة على
أحد بل الرحمة بالناس. وبسبب إبليس أتت النبوة
وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا
شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ.
وإذا كان العلم ثلاثة: علم بالله وعلم من
الله وعلم مع الله فهو علم التوحيد وعلم
الشريعة وعلم التصوف. العلم بالله معرفة صفاته
وأحواله، قوانين الطبيعة وأحواله ظواهرها.
والعلم من الله علم الظاهر والباطن، والحلال
والحرام والأمر والنهي في الأحكام. وهو علم
الوحي، التنزيل والتأويل، الشريعة والحقيقة.
والعلم مع الله علم الخوف والرجاء والمحبة
والشوق وهي علوم التصوف.
٣٥٨
وعلم العقائد نفسه علم عملي سواء في
العقليات، الذات والصفات والأفعال أو في
السمعيات: النبوة والمعاد والإيمان والعمل والإمامة.
٣٥٩ لذلك يتم التصديق من خمسة أمور:
إعلام الحال، وحفظ الإيمان، وحذر العدو، وإيثار
الرب، والإخلاص. باب العلم المشيئة، وباب
القدرة الإرادة. فالعلم النظري علم عملي.
٣٦٠ لذلك ارتبط العلم والقدرة ليس فقط
في صفات الله بل أيضًا في سلوك الإنسان. فالعلم
سر، والقدرة علانية. العلم باطن، والقدرة ظاهر.
العلم نظر، والقدرة عمل. والعلم بلا عمل مثل
العملة الورقية بلا قيمة في ذاتها، ومثل
الدراهم والدنانير يتركها وراءه العالم فيعذب
بها يوم القيامة. والعلم من أثر بعد موت صاحبه
وليس من ترك وراءه المال في الخزائن. العلم
والقدرة والنجوم ليس لها إقرار أي نهاية.
فالعلم لا نهاية له. والقدرة غير محدودة.
والنجوم سائر تأثيرها في الكون. وعبادة الله
تظهر القدرة في أقل من أربعين يومًا.
٣٦١
وأنفع العلم الأمر والنهي، والوعد والوعيد،
والثواب والعقاب. وهو علم الشريعة بعد العلم
بالذات والصفات والأفعال والأسماء، عودًا
بالتصوف إلى علم الأصول.
٣٦٢ العلم هو العلم الفقهي. فالعقيدة
والشريعة هما النظر والعمل، التصور والنظام،
الأصول والفروع. وقد بنى أهل المعرفة بالله
أصول الأحوال على شاهد العلم، وتفقهوا في
الفروع. إذا كان العمل فضيلة فيما لا يهم فضيلة
لأن الدخول فيما لا يهم، فإن ترك العمل فيما
يعني يؤدي إلى النسيان. والحد الأدنى له
الندامة يوم القيامة والجهل بالحال.
٣٦٣ والكلام فيما يعني رذيلة تجب عتق
مائة رقبة والتصدق بمائة درهم، وتقضي على
الشكر. وهو الدخول فيما لا قصد فيه.
٣٦٤ والوصول بالعلم وبالنية وبالإرادة.
القيام بآداب العلم وشرائعه يبلغ بصاحبه إلى
مقام الزيادة والقبول. فالعلم آداب. وأهم من
العلم سلوك العلماء.
٣٦٥ ولا ينقص ظاهر الأدب ظاهر العلم.
٣٦٦ يؤخذ الأدب من العلم، والأنس من
الخلوة، والحياء من شعاب النفس، والاعتبار من
التفكر، والحكمة من الخوف.
٣٦٧ العلم هو الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر أي العلم الفقهي، العمل. وهو متصل
بالعرش. ومن صحب العلم يشاهد الأمر والنهي ضرورة.
٣٦٨ فالعلم هو التكليف أي الأمر
الشرعي. ومطالبة العلم ما تبين به أحكامه فظهرت
دلائله. وطالب الحق باستعماله.
٣٦٩ حقيقة الإرادة استدامة الكد وترك الراحة.
٣٧٠ والدنيا عمل جاد تتطلب الإقلال من
الضحك وتجنب المزاح.
٣٧١ وهناك عبارات توحي بالتوجهات
الإيجابية وإن لم تصبح مصطلحات مثل «الفناء في العمل».
٣٧٢ وهناك موقف خاص للأعمال.
٣٧٣ فصفة الله العمل في «كن» وكذلك صفة
الإنسان. والعمل دون النظر إليه. وعمل الليل
عماد عمل النهار. والوقوف بين يدي الله ليس
طلبًا منه أو هربًا إليه بل لرفع الحجاب.
والعمل عملان راتب وزائر، الأول لا يتسع العلم
والعمل إلا به. والثاني لا يتسع العلم إلا به.
ميزان العلم النية، وميزان العمل
الإخلاص.
ويعلم الإنسان أنه على السنة والجماعة إن عرف
من نفسه عشر خصال: التمسك بالجماعة، واحترام
الصحابة، وعدم الخروج على الأمة بالسيف، وعدم
التكذيب بالقدر، وعدم الشك في الإيمان أو
المماراة في الدين، وعدم ترك الصلاة على أهل
القبلة، وعدم ترك المسح على الخفين، والتمسك
بالجماعة خلف الوالي وإن جار وإن عدل.
٣٧٤ وتتفاوت الخصال في الأهمية مثل
مساواة مسح الخفين بالعلاقة مع الحاكم الظالم.
بعضها تقليدي مثل التمسك بالجماعة واحترام
الصحابة. وبعضها مذهبي مثل الإيمان بالقدر وعدم
الشك في الإيمان، والمماراة في الدين وهو
الأشعرية. والبعض الآخر استسلام للأمر الواقع،
وهو التمسك بالجماعة خلف الوالي وإن جار، مع أن
التصوف مقاومة سلبية، وتغيير المنكر بالقلب وهو
أضعف الإيمان. «ولا دليل إلا النبي» تجاوز
للقرآن كهداية وتجاهل للإجماع كمرشد وإلى
الاجتهاد كدليل. الاشتغال بطلب العلم وقراءة
القرآن ينتهي إلى المسرة وهو لفظ الإنجيل.
٣٧٥ وأصول ذلك كله وفروعه في السنة.
ومن ثم لزم الاقتداء بها.
٣٧٦ وقد يمتد الاقتداء بالرسول إلى
الصديق والفاروق.
٣٧٧ والاقتداء بالسنة قبل أن يأتي وقت
يلوم الناس الرسول وينفرون منه ويهينونه
ويذلونه أي نهاية الاقتداء بالنموذج والتأسي
بالمثل الأعلى.
٣٧٨ والعلم هو العلم الأخلاقي. يتضمن
الورع والنصيحة والحلم. والورع ترك الحلال
مخافة أن يجر إلى حرام. وهو نوع الحساسية
الزائدة والتوجس خيفة من النفس ومن العالم.
والناس على البراءة الأصلية. والفطرة خيرة،
والطبيعة تميل نحو الخير. والأخلاق عمل
بالشرائع ما يوافق السنة، يزيد وينقص.
٣٧٩ أول الإيمان منوط بآخره. عقد
الإيمان «لا إله إلا الله» الإسلام منوط بأداء
الشريعة بالإخلاص.
٣٨٠ والإيمان بالفرائض، وفرض علمها
فرض، والعمل بها فرض والإخلاص فيها فرض. فالفعل
من أول صور وجوده وهي النية حتى آخر صور تحققه
في العالم فرض.
٣٨١ والعلم الأكبر الهيبة والحياة.
وهما شرط الخيرات. فالعلم هو العلم الأخلاقي.
٣٨٢ وإذا كانت الأخلاق حدًّا لا يمكن
عبوره تصبح غاية ذاتها. ومع ذلك يعبرها الصوفي
لأن من تزين بعمله كانت حسناته سيئات.
٣٨٣ وإذا ترك الصوفي العمل رجع إليه.
فإذا تركه العمل فلا يرجع إليه. الحالة الأولى
أخلاق، والحالة الثانية نفس. فالعمل وسيلة
للمعرفة وأعمال الجوارح مقدمة لأعمال القلوب.
٣٨٤ وأنفع الأعمال ما سلم من آفاتها،
وكانت مقبولة من صاحبها أي الصدق مع النفس وحسن
النية والرضا عن الذات.
٣٨٥ والإخلاص في العمل أشد في العمل
لأنه عمل مزدوج يعجز عنه الرجال.
٣٨٦
لا يضيء بنور العلم إلا الأتقياء، ومن ذاق
حلاوة العلم لا يعبر عنه.
٣٨٧ ولا تثبت الحكمة بقلب يحب الدنيا.
٣٨٨ ولا يعطى العلم من كان للدنيا لديه
قدر وقيمة.
٣٨٩ والعمل بالحق يزيد نور البصيرة.
٣٩٠ والحذر من الدين لله بالعقل،
والعمل بالهوى، وترك الحق، وتبوأ الباطل، وتمني
المغفرة مع نسيان التوبة. ولا علم وعمل إلا إذا
ثبتا باليقين والصدق والورع والإشفاق والخشية.
٣٩١ وحماية القلب من سوء الظن بحسن التأويل.
٣٩٢ ويحذر من التوسع في المنطق حتى ولو
كان الإنسان بليغًا.
تم تأتي علوم التصوف. فبين الإنسان والله سر.
يفزع الإنسان، ويلجأ إليه، ويطلب العفو منه،
وهو أسير بين يدي العدو، مفتون بالدنيا.
والاشتغال عن الله طرفة عين يذهب العلم. فالعلم
مرتبط بيقظة الوعي بالداخل أكثر من الخارج،
بالوعي أكثر من الإحساس.
٣٩٣ الأعمال هي: الاستغناء بالله،
والإخلاص، والرجوع إلى طاعة الله. العلم إما
يدل على الهداية وهو اليقين أو على التوكل أو
على الإخلاص. فالعلم نظري وعملي.
٣٩٤ ولا يصح الحال إلا في أصل الدخول
على الله واتباع السنة. الصلاح للخلق. والظاهر
الاقتداء بالسنة والباطن النية والإخلاص. العلم
هو علم الحال في الحركة والسكون بين العالم
والله. العلم شعوري، علاقة الشعور بالآخر المطلق.
٣٩٥ وأقرب حالات أصل المعرفة ذكر قيام
الله. العلم قطع عن الجهل وليس قطعا عن الله.
والله في العلم يعني البحث المستمر أي تقدم العلم.
٣٩٦ الصوفية وحدهم من بين البرية هم
السابقون السابقون، المقربون بالعطيات،
والمرتفعون في المقامات. عرفوا الله حق معرفته.
وعبدوه أخلص عبادة. وآووا إليه بالشوق والمحبة.
٣٩٧ والاقتداء بالنبي يجعل الصوفي
إماما لمن بعده.
٣٩٨ والأنبياء معصومون، وطاعتهم بعون الله.
٣٩٩ العلم إذن علمان: قيام العبد
بقيامه مع الله، وعلم الله في العبد وهو مغيب
عن العباد إلا أصحاب الكشف كالنبي أو الولي.
٤٠٠ العلماء بالله هم الواقفون معه على
حدود الآداب، لا يتجاوزون بها إلا بإذن.
٤٠١ ومن تولاه رعاية الحق أحل ممن
تؤديه سياسة العلم فلماذا تكون رعاية الحق
مضادة لسياسة العلم؟ لا يعرف الإنسان إلا
العلم. وهو القاسم المشترك بين الناس.
٤٠٢
والتصوف أعلى مراتب العلم وهي سبعة: المخالفة
للنفس، والمكابدة، والطهارة، والسهولة
والمسارعة، ودرجة الحلول ثم مرتبة المذاق.
وكلها نوع من الرياضة والمجاهدة. فحكم العلم
سماعه من الله وهم العلماء الأقوياء أي العلم
المباشر من الله بالسماع والمشافهة أو النظر أو
الصحبة. العلم هو الفهم. فلا يخرج علم من الله
إلا وهو مفهوم. والعالم عالم لأن أفعاله ترد
إلى الحول والقوة لا إلى التدبير. فالعلم لدني.
والقوة ثلاثة أنواع. الأولى يثبت بها العمل
والروح، وتؤدى بها الفرائض. والثانية تقع بها
المعصية أو الطاعة والأفعال المكتسبة. والثالثة
تقع بها المعاصي فقط واكتساب الأفعال بالأهواء
والشهوات فتستحق العقوبات. والعلماء هم الذين
فتحت قلوبهم. وهم على درجات في الغرف منه.
٤٠٣
وتقيد الجوارح بأحكام العلم، ومراعاة الهم
بمعرفة قرب الله وخشيته.
٤٠٤ العلم ورع وأمر ونهي وسنة وآداب
وترغيب وترهيب ونية.
٤٠٥ يمنع العلم الدخول في الدنيا
بالجهل، ونسيان المعاد.
٤٠٦ والعمل بالحق، وبالله الثقة،
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
٤٠٧ ونصيحة الصوفي الالتزام بمواهب
العلم واحترام جميع المسلمين، وعدم تضييع
الأيام. أما النصيحة بعدم التصدر والخمول بين
الناس فكلما زاد الاشتغال بهم قل حظ اتباع
أوامر الله. مطالبة العلم ما تبين به أحكامه
فظهرت دلائله وطالب الحق باستعماله.
٤٠٨
العلم أفضل مجاهدة. ولولا اختلاف العلماء
لبقي العلم نهاية المطاف. واختلاف العلماء رحمة
إلا في تجريد التوحيد بشرط أن يكون صوفيًّا.
والتصوف نفسه عليه خلاف. هو أحد المقاربات
للتوحيد ولكنه ليس الوحيد. فهناك التوحيد كما
يتصوره المتكلمون (الذات والصفات والأفعال)
والفلاسفة (واجب الوجود) والأصوليون (الشارع).
والعبرة بالأوتار، والمعتبر بالأثقال. الوتر
سماع، والمثقال رؤية. الأول تجربة شخصية،
والثاني مقياس موضوعي. والعلماء يصحب بعضهم
بعضا بعيدا عن الجهال.
٤٠٩ وهي نخبوية وعزلة يستحق عليها أهل
الملامة واللوم.
العلم كلمتان عدم التكلف بما كفي، وعدم ضياع
ما استكفي.
٤١٠ فالتكلف تعالم والبعد عن التكلف في
الدين حتى ولو كان الإنسان عالما. ومنها عدم
الإكثار من الأيمان في الصدق. العلم حياة القلب
من الجهل، ونور العين من الظلمة.
٤١١ هو العلم الشعوري المباشر. العلم
يغفر العيوب. وإذا احتاج أحد إلى علم فلا ينظر
إلى عيوب. حتى لا يحرم من علمه.
٤١٢ العلم لآداب الظاهر، والورع لآداب
الباطن. والأهم عدم الانشغال عن الله أو
الإعراض عنه.
٤١٣ والأقوال الأفعال قرينان.
٤١٤ تمثلها الرسول بدلا من الجدل
والبلبلة عند المتكلمين. وحجة الأقوال لا تقرب،
وحجة الأفعال تأتى بالحب.
٤١٥
ويقل التركيز على العمل في «الولاية» على عكس
الشطحات. ومن يرد عليه عمله له لباس السواد.
فالعمل المردود أسود، والعمل المقبول أبيض.
٤١٦ العمل مجرد وسيلة للقرب وليس غاية
في ذاته.
٤١٧ وأحيانًا تكون المبادرة من
الإنسان.
يدل على الحجاب ويمد الله له نار الوصول، إذا
صحب الله وصل. وإذا سأل أجيب، وإذا اختار سقطت
المؤاخذة. وإذا كفي عينيه كفاه الله قلبه. وإذا
كفاه النوم كفاه الله اليقظة. وإذا كفي شهوته
كفاه الله حاجته.
٤١٨
وأهل المعرفة لا يتركون العبادات أي الحركات
من باب البر والتقوى. ولا يسقطون الأعمال. فقد
أخذوا الأعمال عن الله ورجعوا إليه فيها. ولو
بقيت المعارف ألف عام لا تنقص أعمال البر ذرة
إلا إذا حيل بينهم وبينها. بل إن المعرفة تجعل
العبادة أوكد، والحال أقوى. ومع ذلك لم يسلم
الجنيد من اتهامه بالكفر. أما ابن سينا فإنه
يعتبر العبادة وسيلة إلى الوصول والمعرفة. فبعد
تحقيق الغاية ينتهي دور الوسيلة.
العارف لم يأسره لحظه ولا لفظه. في حين أن
الجنيد أسره لفظه في الشطحات، ولحظه في الوجد.
٤١٩ والغفلة عن الله أشد من دخول النار.
٤٢٠ شكر العلم العمل، وشكر العمل زيادة العلم.
٤٢١ العلم بالله أهم من عبادته.
٤٢٢ فالعلم عبادة. المعاملة استعمال
الأولى فالأولى من العلم.
٤٢٣
أيام العمر معدودة كما تردد الأغاني الشعبية.
إذا ذهب يوم ذهب بعض العمر أي الوجود الإنساني.
من هنا أتت ضرورة العمل.
٤٢٤ والصوفي قطعة شمع وإبرة وشعرة.
يشتعل كالشمعة ليضيء للناس. ويتجرد ثم يعمل.
فيصير نحيلًا كالشعرة.
٤٢٥ والعمل هو ما لا يظهر، ولو ظهر لا
يعد عملًا.
٤٢٦ والفعل ممتد في الزمان، إصلاح ما
بقي في المستقبل لمحو ما مضى. فإيجاب المستقبل
يمحو سلب الماضي.
٤٢٧ ولا يغتم الإنسان إلا من شيء يضر
في الغد.
٤٢٨ ولا يفرح إلا من شيء يسره في الغد.
وكيف يحدث ذلك وأفعال الغد ممكنة وليست ضرورية؟
وأفضل الأعمال عمارة الأوقات بالموافقات.
والموافقات مع من، الله أم البشر؟ وماذا عن
المخالفات؟ مع الله عتابًا ومع البشر معارضة؟
٤٢٩ أفضل أعمال العبيد حفظ الأوقات،
وعدم التقصير في أمر أو التجاوز عن حد.
٤٣٠ والعمل هو الذي يجازى بالإحسان.
٤٣١ والمطلوب هو النجاة من العالم ومخاطره.
٤٣٢ وعدم الاغترار بالدنيا وبريقها.
٤٣٣ والتأني أفضل من العجلة، والتعجل
في فعل الخير، وترك مواطن الاشتباه.
٤٣٤
(٨) هل للصوفية أخطاء؟
وفي نفس الوقت الذي يدافع فيه الصوفية
المؤرخون عن التصوف، وانتسابهم إلى القرآن
والحديث واقتداؤهم بالرسول والصحابة والتابعين
وأهل الصفة والمصطفين إلا أنهم يذكرون أيضًا
أغلاطهم التي حملت الفقهاء إلى العداء لهم.
٤٤٩ وهم على أية حال مكفرون سواء شطحوا
أم لم يشطحوا.
ويجمع الصوفية على ثلاثة أشياء هي مقياس
الصوفي الحقيقي الصادق من الصوفي المدعي
المتظاهر: اجتناب جميع المحارم كبيرها وصغيرها،
أداء جميع الفرائض، عسيرها ويسيرها، وترك
الدنيا على أهل الدنيا قليلها وكثيرها إلا ما
أقام أود المؤمن.
٤٥٠
إذن يمكن إصلاح التصوف وإعادة بنائه لإزالة
الأخطاء المتراكمة عليهم من الطرق الصوفية وسوء
الفهم، والمغالاة، وأحادية الطرف، والهروب من
الواقع والاتجاه إلى أعلى دون الأمام، وإنقاذ
النفس دون العالم. وهي أخطاء عديدة يكفي البعض منها.
٤٥١
وفرق الصوفية الذين غلطوا ثلاث طبقات لثلاثة أسباب:
٤٥٢
- (أ)
الغلط في الأصول بسبب قلة الإحكام
لأصول الشريعة، وضعف الصدق والإخلاص
وقلة المعرفة. فقد حرموا الوصول لتضييع
الأصول.
- (ب)
الغلط في الفروع وهي الآداب والأخلاق
والمقامات والأحوال والأفعال والأقوال
لقلة المعرفة بالأصول، واتباع حظوظ
النفس وأمزجة الطباع.
- (جـ)
الزلة والهفوة دون العلة والجفوة.
فإذا تبين لهم ذلك عادوا إلى مكارم
الأخلاق ومعالي الأمور.
هناك أغلاط في الأصول مثل الغلط في الحرية
والعبودية. فالعبد يطلب أجر خدمته، والحر لا
يطلب. وغلط من ظن أن الحرية أفضل من العبودية
طبقًا للمعنى التداولي في أفضلية الحرية على
العبودية. فالإنسان عبد أمام الله. فإذا وصل
إليه صار حرًّا فسقطت عنه العبودية.
٤٥٣ وعبودية العبد هي حرية القلب. وقد
أطلق الله على خلقه عباده وملائكته ورسله عباده.
٤٥٤ وأطلق الرسول على نفسه اسم العبد.
٤٥٥ ومع ذلك فالمعنى التداولي للعبد
الآن معنى سلبي. وتقوم الثورات من أجل الحرية.
وتندلع المظاهرات منادية بالحرية بصرف النظر
عمن هو السيد، العبد عبد لمن؟ وفي الثقافة
الشعبية لا فرق بين صورة الله وصورة «سي
السيد».
والغلط في التوسع والتضييق في الدنيا وترك الاكتساب.
٤٥٦ لا تكون السعة إلا للأنبياء
والصديقين لأنهم ينفقون على الأغيار. ويأخذون
الأسباب بالحقوق لا بالحظوظ أو من توهم أنه في
حال فهو خاطئ. وغلط من ظن التقلل بالتقشف وليس
الدون وأكل القليل وحرم المباحات.
٤٥٧ وطبقة أخرى تأخذ القوت بالكسب.
٤٥٨ وهذا ليس غلطًا. والتوكل هو
العزيمة، والكسب رخصة. وليس للإنسان إلا كسبه.
ولا يشغله عن الصلاة. إنما الخطأ فيمن طعن على
المكتسبين وقعدوا معتمدين على الأحوال.
٤٥٩ وقوة الإيمان هي قوة
الإرادة.
وغلطت فرقة في الإباحة والحظر، وجعلوا
الأشياء في الأصل على الإباحة. وقد وقع الحظر
للتعدي. وهو مبدأ أصولي، وأقرب إلى الطبيعة والفطرة.
٤٦٠ أما جعل الأشياء في الأصل على
الحظر حتى تتم إباحتها بالأمر فهو أقرب إلى
النظرة المسيحية بسبب الخطيئة الداخلة في نسيج
الكون. وليس أحد ملزما بالشرائع السابقة.
٤٦١ ولا يتساوى الأصلان. والخير أرجح
من الشر، والحلال أرجح من الحرام.
ومن الخطأ ترك الطعام وإيثار العزلة والانفراد.
٤٦٢ فإذلال النفس ضد إثباتها دخول كهوف
الجبال واعتزال الناس ليس طريقا لإصلاح العالم.
وفعل ذلك اختيار شخصي وليس سلوكًا للناس
جميعًا. وتكلف آخرون لبس الصوف والمرقعات
المعمولة والمصبوغات وتعلموا الإشارات وظنوا
أنهم من الواصلين. وهذه حالات خاصة طبقًا لقوة
الدافع على العلم دون تكلف. وقوم جبوا أنفسهم
لقطع الشهوات. وهو غلط لأن قطع الآلة لا يقضي
على الشهوة. وقوم هاموا على وجوههم في البراري
والبوادي بلا زاد ولا ماء متوهمين أن ذلك حقيقة
التوكل. وهو خطأ لأنه ضد آداب السلوك. وقوم
تكلفوا الإشارات وحفظوا الحكايات وظنوا أنهم
أصحاب الأحوال. وقوم عمدوا إلى الأوراد والبكاء
والخشية وظنوا أن هذا هو الحال المقصود. وهي
أشياء لا تأتي في البداية بل وفي النهاية.
والبدعة انحراف عن الحق. ومن طبع على البدعة
متى يشيع فيه الحق؟
٤٦٣ وظن قوم أن التصوف هو السماع
والرقص والدعوات والإرفاق وأشعار الغزل. وهو
خطأ لأن كل قلب ملوث بحب الدنيا فكل ما يأتي به
من مظاهر الوجد تكلف. ومنهم من غلط في الفقر
والغنى وتفضيل الغنى، الغنى بالله نعم وليس
الغنى بأعراض الدنيا.
٤٦٤ والفقر إلى الله مقرون به الصبر
والشكر والرضا والتفويض والسكون والطمأنينة.
وتوهمت فرقة وجعلت الفرقة غير المقرون بهذه
المقامات والأحوال أفضل من الغنى. والنفس
محتاجة، وليس من صفات البشر الطمأنينة والسكون.
والفقر مكروه ولا يلائم الطبع. والغنى من الحقوق.
٤٦٥ الفقر في ذاته محمود ولكن صحبته
علة، والعلة مذمومة. والغنى بالدنيا في ذاته
مذموم إلا إذا صاحبه البر. والفقر والغنى حالان
للصبور. ومع ذلك فالطبيعة تكره الفقر أكثر مما
تكره الغنى. فهما لا يستويان. وليس المقصود
الفقر وحده بل آداب الفقر. وغلط قوم في الفقر.
لم يكن لهم زهد. وكانت لهم رغبة وهمم وزينة.
فقبلوا العطاء لنفوسهم. وزعموا أنه اختبار
فخالفوا السلف في التمييز بين الابتلاء والاختبار.
٤٦٦
وظن قوم في الصفاء والطهارة دائمتان وتامتان.
وهو خطأ لأن الإنسان لا يصفو تمامًا على
الدوام. هو حال يأتي ويذهب. والطهارة لقلب
العبد من الحسد والشرك. أما الطهارة من جميع
صفات الخلق على الدوام فخارج عن نطاق البشرية.
٤٦٧ وغلط آخرون في عين الجمع لأنهم لم
يضيفوا إلى الخلق ما أضاف الله إليهم. ولم
يصفوا أنفسهم بالحركة احترازًا ألا يكون شيء مع
الله. ففرضوا الجبر على حركاتهم، وأسقطوا
الملامة عن أنفسهم عند مجاوزة الحدود. والبعض
جعل معذورًا. وهو خطأ ناشئ عن إضافة الفرع إلى
الأصل أو إضافة الأصل إلى الفرع. هو خطأ بين
الحقوق والحظوظ، وبين الحق والباطل، وبين الأمر والنهي.
٤٦٨
وقد غلط أهل العراق في الإخلاص. فأخطاء
الصوفية تتعدد بتعدد الأقطار. فقد زعم بعضهم أن
الإخلاص لا يتم إلا إذا خرج عن رؤية الخلق، ولا
يوافقهم في جميع أعمالهم حقًّا أو باطلًا. وقد
ضل هؤلاء لأن جماعة من أهل الفهم والمعرفة رأوا
أن الإخلاص لا يصفو لهم حتى لا يبقى عند العبد
بقية من رؤية الخلق. وظنوا أنه يصح لهم الدعوى
والتقليد والتكلف قبل السلوك في الطريق والتأدب
بآدابه فجاوزوا الحدود وغلبتهم النفس والأهواء.
٤٦٩
ومن الخطأ فتور الإرادة والنكوص عن المجاهدة
والسكون إلى الراحة.
٤٧٠ وهذا خطأ في العبادات ورياضات
النفوس والمكابدات، ورجوع إلى القهقرى. والفتور
مؤقت وليس دائمًا. وما وقع فيه البعض هو الكسل
والتواني والأماني الكاذبة. السفر مصدر للعلم
ولقاء المشايخ تعليم. ومن الخطأ إنفاق الأموال
والأملاك وكأن المراد هو الإنفاق في حد ذاته.
وهو خطأ لأن المقصود ليس السخاوة أو السماحة.
وانبسط آخرون في المباحات ولم يراعوا الأوقات.
وهو خطأ لضياع الوقت. وما فات لا يدرك. وغلط
قوم في الأنس والبسط وترك الخشية.
٤٧١ فقد توهموا أن بينهم وبين الله حال
من القرب والدنو. فلم يلتفتوا إلى الآداب
المرعية بدعوى دفع الكلفة بين المحبين.
وغلط من ظن أن الرؤية بالقلوب.
٤٧٢ فقد ادعى بعض أهل الشام ذلك في
الدنيا. الرؤية بالعيان في الآخرة. ولا تعني
رؤية القلب أكثر من التصديق والمشاهدة بالإيمان
وحقيقة اليقين.
٤٧٣ والرؤية لا تتطلب موضوعًا مرئيًّا.
الرؤية لصورة خيالية.
وغلط
قوم في تصور الروح على أنه نور من نور الله،
حياة من حياة الله مخلوقة، وأن روح القدس من
ذات الله، وأرواح العامة مخلوقة وأرواح الخاصة
ليست مخلوقة، وأن الأرواح قدسية لا تموت ولا
تعذب ولا تبلى، وأنها تتناسخ من جسم إلى جسم،
وأن للكافر روحًا واحدًا، وللمؤمن ثلاثة أرواح،
وللأنبياء والصديقين خمسة أرواح، وأنها خلقت من
النور، وأنها روحانية خلقت من الملكوت. وهي
روحان: روح لاهوتي، وروح ناسوتي.
٤٧٤ والروح من أمر الله.
٤٧٥ والحقيقة أن الأرواح كلها مخلوقة.
وهي أمر من أمر الله. ليس بينها وبين الله سبب
ولا نسبة، غير أنها من ملكه وطوعه وفي قبضته،
غير متناسخة. كما يموت البدن، وتنعم كما ينعم،
وتعذب كما يعذب. وتحشر في البدن الذي تخرج منه.
خلق الله روح آدم من الملكوت وجسمه من التراب.
وكلها ظنون.
وزعمت طائفة أنها ترى أنوارًا. ويصف قلبه
بأنه به أنوار. وهي الأنوار التي وصف الله بها
نفسه، أنوار المعرفة والتوحيد والعظمة. وهي غير
مخلوقة،
والحقيقة أن الأنوار كلها مخلوقة، نور العرش،
ونور الشمس، ونور القمر والكواكب. ونور الله لا
يدرك وغير محدود ولا يحيط به علم الخلق.
٤٧٦
وغلط آخرون عندما فضلوا الولاية على النبوة
في قصة موسى والخضر. كان الخضر أعمق فهما من
موسى. وقد خص الله كل نبي بميزة، آدم بسجود
الملائكة ونوح بالسفينة، وصالح بالناقة،
وإبراهيم بالنار التي لا تحرق، وموسى بالعصا،
وعيسى بإحياء الموتى، ومحمد بانشقاق القمر ونبع
الماء بين أصابعه. وخص غير الأنبياء بكرامات،
مريم بهز جدع النخل ليسقط عليها الرطب الجني،
وآصف بن برخيا كان عنده علم الكتاب حتى أتى
بعرش بلقيس قبل أن يرتد إلى سليمان طرفه. كما
خص الهدهد بمعرفة المياه.
٤٧٧ وقد خص البشر أيضًا بصفات مميزة.
زيد بالفرض، وأبي بالقراءة، ومعاذ بمعرفة
الحلال والحرام.
٤٧٨ فالكرامة جزء من أربعين جزءًا من
النبوة. وللأنبياء معرفة بواسطة، وللأولياء بلا
واسطة. وللأنبياء الرسالة والنبوة وليس
للأولياء. الولاية جزء من النبوة ولا يكون
الجزء أفضل من الكل.
والحلولية خطأ. ومع ذلك فهو خطأ في الفهم قبل
الخطأ في الاتهام. ويكون الحلول في المستحسنات
أو في المستحسنات وغير المستحسنات أو على
الدوام أو وقتًا دون وقت. الحلول نتيجة للقرب،
وإحساس بالشعور.
٤٧٩
وغلط قوم في فناء البشرية بناء على سماع قول
المتحققين بالفناء. فظنوا أنه فناء البشرية.
فتركوا الطعام والشراب وظنوا أنهم تحققوا
بالإلهية. وهناك فرق بين البشرية وأخلاق
البشرية. فالبشرية لا تزول عن البشر. في حين
تتبدل أخلاق البشرية. يعني الفناء عند أصحابه
رؤيا الأعمال والطاعات ببقاء رؤيا العبد لقيام
الحق للعبد مثل فناء الجهل بالعلم، وفناء
الغفلة بالذكر.
٤٨٠ ويمكن نفي فناء البشرية بتحليل
وجودي واجتماعي وسياسي وتاريخي أعمق. وغلط قوم
من البغداديين عندما أعلنوا أنهم فنوا عن
أوصافهم، ودخلوا في أوصاف الحق كما تقول
النصارى في المسيح. في حين أن
أحد معاني
التصوف إسقاط الصفات الإنسانية والتحلي بالصفات الإلهية.
٤٨١ وغلط قوم من أهل العراق في ادعاء
فقد الحس في حالة الوجد. فلا يحسون بشيء.
٤٨٢ مع أن فقد الحس لا يعلم إلا بالحس.
فالكائن الحي لا يفقد حواسه بل يغيب منها في
المواجيد الحادة والأفكار القوية. وما دام
الإنسان روحا كائنا حيا فإنه لا يزول عنه الحس
إنه الحس مقرون بالحياة والروح.