المنطاد
(١) الجهود الفرنسية
ذلك ملخص تقدُّم المنطاد في فرنسا، ومنه ترى أنها اهتمت بكل من النوعين غير المتماسك وشبه المتماسك فقط، وكان معظم نجاحِها في النوع الأول.
(٢) الجهود الألمانية
(٢-١) زبلن
من ذلك يرى القارئ أن الشدائد واجهت زبلن منذ بنائِه لأول منطاد، ومن الغريب أن الحوادث توالت تِباعًا على مُعظم ما بنى من مناطيد، فكان يبحثُ عن أسبابها ويتعلم من أغلاطه ويتعرف كيفيةَ تجنُّب تكرارها، ثم يعود إلى العمل بنفس الهمة الأصلية إن لم يكن بأضعافها.
جمع زبلن أموالًا أخرى بمشقَّة زائدة وأتمَّ منطاده الثاني سنة ١٩٠٥، وعندئذٍ كان المحرك ذو الاحتراق الداخلي قد شاعَ استعماله وتقدَّم تقدُّمًا محسوسًا، فركَّب زبلن محركين، قوة كلٍّ منهما ٨٥ حصانًا على منطاده الجديد الذي كان به ١٦ كيسًا، سعة ما بها من غاز نحو ١ / ٣ مليون قدم مكعب (نحو ٩٤٦٠ مترًا مكعبًا)، وبلغ وزن هذا المنطاد ٩ أطنان (هذا أقل من وزن السابق بطن واحد)، وركَّب له ثلاثة سطوح رأسية في الأمام والخلف تُعين على قيادته في المستوى الأفقي، أي على تعرُّجه، وسطوحًا أخرى أفقية لإحداث الحركة التموُّجيَّة. وهذا المنطاد أصابَتْه كارثة عطَّلته لم يكد يُفيق منها، حتى هبَّتْ عليه ريح وهو مربوط في العراء فهشَّمته، فلم يجد زبلن بعد ذلك فائدةً من إصلاحه فحطَّمه.
أثارت هذه الكارثة هِممَ الألمان، وأذْكَت نارَ الوطنية في صدورهم، فافتُتِحتْ في الحال اكتتابات وجُمع في زمنٍ يسير مبلغ عظيم من المال (نحو ٣ / ٤ مليون جنيه)، وأُلِّفَتْ جمعية لصرفه، فاشتُريتْ ببعضه أراض وأُقيمَتْ ببعضه وِرَش جديدة، وأُعلن أن زبلن سيُتم بناء ثمانية مناطيد في بحر سنة واحدة.
وكان مجموع ما بنَتْه ألمانيا من هذه المناطيد نحو ٣٠، تلف أكثر من نصفها، فما كان يزيدهم ذلك إلا خبرةً وإيمانًا بالمستقبل تجسَّم في شخص الكونت زبلن، فكانت حياته من أجل ذلك أكبر عبرة، فهو لم يجعل لليأس سبيلًا إلى قلبه، ولم يفت في عضده توالي الكوارث، ولم يزدْه الفشَل إلا رغبةً في التحسين. وهكذا خلق زبلن سمعته بنفسه واغتصب النجاح اغتصابًا، وبعد أن كان أُضحوكةَ إخوانه وذويه، وهدفًا لسخط المحافظين من بني وَطنه، صار موضع احترامهم وإعجابهم إلى حدٍّ وصَل قريبًا من العبادة.
(٣) الجهود الإنجليزية
أما المجهودات الإيطالية فقد أُفرغ معظمُها في تحسين النوع الذي سمَّيناه شبه المتماسك، والذي تفوَّق الإيطاليُّون في صُنعه على الممالك الأخرى، وسترِد الإشارة له ثانيةً فيما بعد.
هذا موجز لتاريخ المنطاد وتطوُّره، ننتقل بعده إلى الكلام عن نظامه وتسييره.
(٤) نظام المنطاد وتسييره
- (١)
الغلاف الذي يحوي غازًا أخف من الهواء.
- (٢)
العربات أو الجندولات التي تحمل الركاب والمحرِّكات.
- (٣)
السُّطوح الخلفيَّة الضابطة.
- (٤) أجهزة القيادة المتجمعة في غرفة القيادة أمام رئيس الروَّاد أو القبطان captain.
- أولًا: الغلاف: يغلب أن يكون على طبقتين، غلافًا خارجيًّا وأكياسًا داخلية، ويُشترط في كلَيهما صعوبة إنفاذ الغاز impermeability، ولكن هذه الصعوبة يجب أن تكون كبيرةً في الأكياس الداخلية؛ ولذا تُصنع من الغشاء الداخلي لأمعاء الثَّور goldbeaters skin، وهو خير مادة لا تُنفذ الغاز وتمتاز كذلك بخفتها، ولعدم متانتها تغلَّف بطبقة أخرى من منسوج ممطَّط rubberised لتتلقى عنها الأحمال التي تقع عليها، سواء أكانت من أثَر ضغط الغاز الداخلي أو من عبث الأيدي العاملة. أما الغلاف الخارجي فيُصنع من مادة ثالثة مكوَّنة من منسوج fabrie أقوى من الفائت لتعرُّضه لأحمال أشدَّ من التي يتعرض إليها الداخلي، وهذا الغلاف ممطَّطٌ كذلك، ويُدهن بطلاء اسمه الدوب dope يشدُّه ويُصقله ويسدُّ مسامه، كما يُدهن بطبَقةٍ تحميه من حرارة الشمس وأشعَّتها التي لها أثر كيميائيٌّ سيئ، ولا يدخل غشاء أمعاء الثور في تركيب هذا الغلاف الخارجي. وبالأكياس الغازية فتحات تُستخدم وقت ملئها بالأيدروجين وتُقفل بعد ذلك، كما أن بها صمامات مُحكمة الصنع ينفتح بعضها من تلقاء نفسه إذا زاد الضغط داخل الأكياس عن الحد الذي يُعرِّضها للانفجار، كما أن هناك صمامات أخرى يُحركها رُبَّان السفينة وهو في غُرفة القِيادة ليستعين بذلك على عمَل المناورات.
- ثانيًا: العربات أو الجندولات التي تحمِل الرُّكاب والبَضائع: تكون عادةً على شكل جِسم الطيارة، أي مسحوبة؛ لتقلَّ مقاومة الهواء لسيرها فيه.
- ثالثًا: السطوح الضابطة: وهي الدفَّتان والزعنفتان، وتشبه نظيراتها في الطيارة، كما أن نظرية عملِها جميعًا واحدة، فالزعنفتان الأفقية والرأسية تحافظان على اتزان السفينة، ويُعينهما في ذلك كلٌّ من الدفة الأفقية والدفة الرأسية، وهاتان تقومان أيضًا بتوجيه المنطاد، فتساعد الدفة الأفقية في إحداث الحركة التموُّجية، والدفة الرأسية في إحداث الحركة التعرُّجية.
- رابعًا: غرفة القيادة control car: شكل ٦-٤ فسيحة وبها أجهزة أكثر من التي بمنعزل الطيار في الطيارة، ومنها يُحرِّك الرائد الدفتين، ويفتح الصمامات، ويقذف ببعض الصابورة إما قليلًا قليلًا، وإما كثيرًا يُلقيه دفعة واحدة للنجدة عندما يخشى على السفينة اصطدام عرباتها مع الأرض إذا وصلَتْ إلى سَطحها وهي ثقيلة. ومن تلك الغرفة يُسيطر الرُّبَّان على صمامات الخناق لوقود fuel المحركات، وعنده آلات تسجل له من غير عناء سرعة المنطاد، وارتفاعه، وعدد دورات كلٍّ من محرِّكاته، ومقدار ما تبقَّى في صهاريج tanks البترول والزيت، ودرجة نقاء الأيدروجين الذي بالأكياس (مقدار ما اختلط به من هواء) ومقدار ضغطه، كما أن عنده بتلك الغرفة الخرائط الضرورية والبوصلة، وغير ذلك من أدوات المِلاحة.
- أولًا: المنطاد الغير المتماسك: يعتمد هذا النوع في الاحتفاظ بشكله كما
قدَّمنا في الباب الأول على ضَغط الغاز داخله، بحيث لو قلَّ هذا
الضغط كثيرًا انثنى المنطاد كما ترى في شكل ٦-٣، فانخفض وسطه حيث تُعلَّق الأثقال وارتفع طرفاه.
على أنه يجب أن نذكر هنا أنَّ مقدمة هذا النوع من المناطيد تُركَّب لها أعضاء خاصة تُقوِّيها؛ حتى تتحمل ما تتعرض له من ضغطٍ شديد أثناء إسراع البالون (انظر شكل ٦-٥).
وهذا النوع رخيص في ثمنه ومحدود في كِبَر حجمه، ومن ثم فهو محدود أيضًا في ثقل حمولته.
- ثانيًا: المنطاد الشبه المتماسك: فيه — كما قدَّمنا — عمود فقري من
المعدن يمتد من مقدمته إلى مؤخرته اسمه: القرينة keel، ويُربط فيه الغلاف وتتصل به العربات أو
الجندولات وكذلك مقوِّيات المقدمة، وإليه تُربط أيضًا السطوح الخلفية
الضابطة. وهذا النوعُ من المناطيد أغلى في ثمنه من السابق، ولكنَّ
إنشاءَه يسمح بأحجام أكبر من الأحجام الممكنة في النوع
السابق.
وطريقة ربط العربات بالغلاف في المنطاد غير المتماسك وبالقرينة في شبه المتماسك من أصعب الأمور، وآراء المهندسين تختلف فيها كثيرًا، ولا يسمح المقام هنا بتناول دقائق لا يعبأ بها سوى الفنيِّين فقط؛ ولذا نكتفي بعرض صورة لواحدة من هذه الطرق المستخدمة في ربط العربات بالغلاف (شكل ٦-٥).كذلك يوجد في كلٍّ من هذين النوعين — كما ذكرنا في الباب الأول — أكياس يصح أن نسميها بالبُلينات تصغير بالون balloonets، ويبلغ حجمها نحو ربع حجم أكياس الغاز الخفيف، وهي تُملأ بالهواء إما بواسطة منافيخ blowers تُشغِّلها محركات ثانوية صغيرة، أو بواسطة أنابيب تتدلى فتميل فتتلقى تيار الهواء المندفع إلى الوراء من أثَر حركة المروحة التي يديرها المحرك، وهذه البُلينات مُعلَّمة بخطوط منقوطة في شكل ٦-٥، وفيه ترى تلك الأنبوبة المائلة تجاه المروحة، وقد يكون ملء البلينات بواسطة فتحات أو ثقوب في أقصى مقدمة البالون، يسيطر عليها الرائد فيسدها ويفتحها متى شاء، وهذه هي الطريقة المستخدمة في المناطيد الإيطالية.
- ثالثًا: المنطاد المتماسك: يحتفظ بشكله — كما قدمنا — بواسطة الهيكل المعدني الكامل الذي شرحناه، وهذه طريقة تستلزم نفقات كبيرة، فهو من أجل ذلك أكثر الأنواع نفقة، ولكن طريقة إنشائه هذه تُعين على تكبير حجمه لدرجة لم تعرف لها حدود بعد، وكلما ازداد حجم المنطاد زاد ثقله وثقل المحرك الأقوى اللازم لتسييره، ولكن الزيادة في الرفع المكتسبة من زيادة الحجم تعدل كل هذه المضار ويتغلب النفع؛ ولذلك لا مندوحة من اختيار هذا الجنس المتماسك إذا أريد بناء مناطيد كبيرة جدًّا لنقل الركاب أو البضائع أو الجنود وما يلزمها.
(٥) المناورات Manævres
بقى علينا أن نقول كلمة عن الكيفية التي يرتفع بها المنطاد وينخفِض، وكيف يعمل مناوراته في الهواء:
خذ الآن مثلًا خاصًّا: بالونًا سعته ٢٠٠٠٠ قدم مكعب ممتلئ بالغاز في ارتفاع يكون عنده الرفع الواقع على كل ١٠٠٠ قدم مكعب يساوي ٦٨ رطلًا، فيكون الرفع الواقع على البالون كله يساوي ١٣٦٠ رطلًا، فإذا كان وزن البالون وما علق به من أثقال يساوي ٦٢٠ رطلًا، فيكون رفع الهواء له يزيد على هذا البالون بمقدار ٧٤٠ رطلًا، فإذا أُريد بقاء البالون مُتَّزنًا فلا بدَّ من أن يوضع فيه شيء وزنه ٧٤٠ رطلًا، ويكون ذلك عادةً ماءً يُطلق عليه اسم: صابورة، فكلما رميت من هذا الماء شيئًا خفَّ البالون بمقدار ما رميت، فإذا أردت الوصول مثلًا إلى علو يبلغ نحو ٨٠٠٠ قدم، فمن السهل أن نحسب القدر الذي يتحتم عليك رميُه من هذا الماء: فإذا كان الرفع الواقع على ١٠٠٠ قدم مكعب في هذا العلو يساوي ٣ / ٤ مقداره عند الارتفاع الأصلي، فيكون الرفع الواقع على البالون في علو ٨٠٠٠ قدم هو ١٠٢٠ رطلًا، ومن ذلك ثقل ثابت يساوي ٦٢٠، فكأن المقدار اللازم استبقاؤه من الصابورة هو ٤٠٠ رطل، ولمَّا كان أصل وزنها ٧٤٠، فلا بد لنا أن نرمي منها ٣٤٠ رطلًا قبل الوصول إلى هذا الارتفاع. فإذا وصل البالون إليه وأُريد حمله على الهبوط فيكفي أن يفتح أحد صمامات الغاز لإخراج قدر يسير منه (نحو ١٠٠٠ قدم مكعب فقط) ثم يُقفل الصمام، فيثقل المنطاد بمقدار وزن هذه الألف قدم ويهبط. وبالتأمُّل قليلًا نرى أنه يصل إلى الأرض وهو أثقل بقليل منه عندما كان في ارتفاع يساوي نحو ٨٠٠٠ قدم.
نرى مما سبق أنه إذا كان البالون عند بَدئه في الصعود ممتلئًا بالغاز فلا بد من خروج بعض غازه كلما ارتفع، وهذا أمر يجر لنفَقات كبيرة بسبب غُلُوِّ الأيدروجين (غلوًّا نسبيًّا)، فتفاديًا من ذلك تُستخدم في المناطيد الغير المتماسكة والشبه المتماسكة البُلينات التي أشرنا إليها سابقًا، والتي تُملأ بالهواء حتى إذا صعِد المنطاد وتمدد أيدروجينه ضغط على أكياس الهواء التي لها صمامات معدَّلة بحيث تنفتح عند ضغوط أقل من اللازمة لفتح نظيراتها في أكياس الأيدروجين، وبذلك يتسرَّب الهواء إلى الجو بقدر تمدُّد الأيدروجين، وهذا يكفينا مئُونة حمل صابورات كثيرة.
فإذا كان البالون الذي سبق أن تكلمنا عنه لم تُملأ أكياسه بالأيدروجين إلا بقدر ٤ / ٥ سعتها الغازية وشغل هواء البلينات الخمس الباقي، فإن الرفع الكلي الواقع على البالون عند بدء صعوده يساوي ١٦ × ٦٨، أي: ١٠٨٨ رطلًا، وإذا كان وزن الأثقال والبالون لا زال ٦٢٠ فإن وزن الصابورات التي يجب حملها في هذه الحالة = ٤٦٨ رطلًا، فكأننا وفرنا ٤٠٠٠ قدم مكعب من الأيدروجين وكفينا أنفسنا مئونة حمل صابورات وزنها ٢٧٢ رطلًا، وهذا البالون حين يصل إلى علوٍّ يبلغ نحو ٨٠٠٠ قدم يكون كل هواء أكياسه قد تسرَّب إلى الجو، وتبعه من الغاز مقدار أصل حجمه ١٠٠٠ قدم مكعب، ويكون وزن ما رمى من صابورته إذًا نحو ٦٨ رطلًا.
هذا هو ملخص كيفية عمل المناورات بتأثير تغيير حجم الغاز ومقداره، أما بقية المناورات فتتمُّ بواسطة السطوح الخلفية الضابطة، كما هو الشأن في الطيارة.
بقيَتْ لنا كلمة عن إيواء المناطيد ومحطاتها وعن المقارنة بينها وبين الطيارات، أرجأناها إلى ما بعد دراسة الأخيرة وذيَّلنا بها الباب الرابع، فليرجع إليها من شاء في [الباب الرابع: التقدم الحديث للطيارة – الفصل الرابع عشر: ذيل للباب الرابع – محطات المناطيد أو السفن الهوائية] والصفحات التي تليها.