كذلك لم تكن هذه الحضارات في مستوًى علمي وحضاري واحد؛ بل كان بعضها
متقدمًا على الآخر في بعض النواحي، فمثلًا كان الطب متقدمًا في وادي النيل.
أما أهل وادي الرافدين فكانوا أكثر تقدمًا في الحساب؛ لأنهم كانوا أكثر
اعتمادًا على التجارة في حياتهم.
وفيما يلي يمكن لنا أن نعرض باختصارٍ لملامح ومظاهر النهضة العلمية في
حضارات الشرق القديم. وقبل أن نعرض لتلك الملامح والمظاهر نودُّ أن نعطي
نبذة تاريخية لكل حضارة من تلك الحضارات.
(أ) الحضارة المصرية
تتميز الحضارة المصرية بالسبق الزمني المبكر، حيث تعود إلى العصر
الحجري القديم الأعلى؛ أي منذ أكثر من ٤٠٠٠٠ سنة قبل الميلاد. وقد ساعدت
الظروف والأحوال الجغرافية على حماية واستمرار الحضارة المصرية؛ حيث تحيط
بها صحراء واسعة من الشرق والغرب، والبحر من الشمال، وكان من الصعب قبل
غزو الهكسوس (حوالي ١٦٥٠ق.م.) اجتياز هذه الموانع، غير أن هذه العربة
الحربية والحصان التي كانت لدى الهكسوس قد ساعدت على غزو مصر.
٥
وقد نشأت مجتمعات زراعية مستقرة على ضفاف النيل قبل عصر الأسرات
بآلاف السنين، وقد أدى الاستقرار والرخاء الاقتصادي المصاحب له إلى ظهور
قدرٍ كافٍ من المركزية السياسية. كل ذلك ساعد مع عوامل أخرى عديدة على
نشأة العلم وتطوره في وادي النيل، وإن كانت هذه الوحدة السياسية لم تكن
شملت بعدُ جميع أرض مصر؛ بل كانت هناك وحدات سياسية صغيرة متعددة انتهت
بعد معارك وحروب طويلة إلى تكوين مملكتين؛ إحداهما في الوجه البحري (شمال
منطقة الفيوم)، والأخرى في الوجه القبلي، والتي امتدت من منطقة الفيوم
حتى الشلال الأول (أسوان، وهي سيتي القديمة).
٦
وفي حوالَي سنة ٣٢٠٠ق.م. استطاع الملك «مينا» أو «نارمر» توحيد
المملكتين «القطرين» وهو مؤسس الأسرة الحاكمة الأولى، وأصبح أول فرعون في
مصر الموحدة، ولبس التاج المزدوج، وقد سمَّى نفسه سيد القطرين أو ملك
الوجهين القبلي والبحري.
٧
وقد مرَّت على مصر بعد ذلك عدة عصور من الاستقرار هي:
٨
- (١)
عصر الدولة القديمة:
وبدأت بعصر الأسرة الملكية الثالثة في حوالي عام ٢٧٨٠ق.م.،
وانتهت بأواخر عصر الأسرة الملكية السادسة في خواتيم القرن الثالث
والعشرين قبل الميلاد.
- (٢)
عصر الانتقال الأول:
وامتد من عصر الأسرة السابعة في أواخر القرن الثالث والعشرين
قبل الميلاد، حتى نهاية عصر الأسرة العاشرة في القرن الحادي
والعشرين قبل الميلاد.
- (٣)
عصر الدولة الوسطى:
ابتدأ من عصر الأسرة الحادية عشرة في أواسط القرن الحادي
والعشرين قبل الميلاد، حتى منتصف عصر الأسرة الثالثة عشرة، في
القرن الثامن عشر قبل الميلاد.
- (٤)
عصر الانتقال الثاني:
وامتد فيما بين أواخر عصر الأسرة الثالثة عشرة في القرن الثامن
عشر قبل الميلاد حتى نهاية عصر الأسرة السابعة عشرة إلى أوائل
القرن السادس عشر قبل الميلاد.
- (٥)
عصر الدولة الحديثة:
وبدأ بعصر الأسرة الثامنة عشرة في حوالي عام ١٥٧٥ق.م.، وامتد
إلى نهاية عصر الأسرة العشرين في عام ١٠٨٧ق.م.، أو الأصح إلى نهاية
عصر الأسرة الحادية والعشرين في منتصف القرن العاشر قبل
الميلاد.
وفي أواخر القرن الحادي عشر قبل الميلاد (زمن الأسرة ٢١ والتي حكمت
من ١٠٨٠ إلى ٩٤٦ق.م.) بدأ الضعف يدبُّ في أوصال الحضارة المصرية،
وتعرَّضت لغزوات الإثيوبيين والآشوريين والفرس، واستمرَّت بغزو «الإسكندر
المقدوني» سنة ٣٣٢ق.م.
٩
وبعد هذه النُّبذة لتاريخ مصر القديمة يمكن لنا أن نعرض لأهم ملامح
النهضة العلمية للحضارة المصرية، وذلك فيما يلي:
لقد كان لنهر النيل تأثير كبير في تاريخ العلوم المصرية، فضرورة
المحافظة على مجراه واستعمال مياهه علَّمَت المصريين هندسة الأنهار وما
يتبعها من مساحة الأراضي؛ ولما تفقَّدوا السماء وجدوا في حركات نجومها
واسطة للاستدلال بها على ميعاد فيضان ذلك النهر العظيم؛ ومن ثم بدأ
اهتمامهم بالفلك واتسعت دراستهم له. ولما كان الفيضان إذا طغى على
الأراضي مَحا معالم الحقول؛ لذلك تفنَّن القوم في إبداع المقاييس ومعرفة
المساحة، ولما زاد اهتمامهم بالفلاحة أقنع الفراعنةُ رعاياهم بأن
المحافظة على الحدود والأملاك الشخصية أمرٌ مقدَّس تجب مراعاته ويتحتم احترامه.
١٠
وبديهي أن كل زوال للفيضان كانت تعقبه مشاحنات ومضاربات، ومن هنا
نشأت ضرورة سَن القوانين وتوقيع العقوبات، وهكذا أُجبر سكان واديه على أن
يضعوا لأنفسهم أسس العلوم والقوانين والنظم السياسية.
١١
ثم بدأ القوم يشيدون العمارات الضخمة لدور الحكومة أو للتعبُّد،
فعمدوا إلى النيل بوصفه الشِّريان الرئيسي للتجارة الداخلية؛ لينقلوا
بواسطته تلك الكتل الضخمة التي شادوا
بها آثارهم الباذخة. وبهذه الطريقة وحدها تمكَّنوا من تشييد الأهرامات
ونقل الجرانيت من أسوان إلى أنحاء القُطر (مثل منف وتنيس الواقعة بالقرب
من البحر الأبيض المتوسط).
١٢
ومن ثَم برع قدماء المصريين منذ أقدم العصور في صناعة السفن،
فابتكروا المجاديف والقلاع والقمرات، وغير ذلك من وسائل الراحة في السفر،
ومساحة الأراضي وكيل المحاصيل وتوزيعها؛ مما دفعهم إلى معرفة أصول الحساب
من جمع وطرح وضرب وقسمة، وكذلك فن المعمار دعاهم إلى معرفة الهندسة
الفراغية. وإلى النيل أيضًا وتطوراته الطبيعية يرجع الفضل في معرفة
المصريين لطريقة قياس الزمن، فقد تنبَّهوا في القرن الثالث والأربعين قبل
الميلاد إلى أن السنة الشمسية تتكون من ٣٦٥ يومًا. ويُعتبر هذا الاكتشاف
الميقاتي واستعماله في الشئون الدنيوية (وأهمها الزراعة وقتئذ) خطوةً
كبيرة نحو الرقي وشرفًا عظيمًا للوطن الذي اكتُشف فيه. وقسَّم المصريون
سَنتهم إلى اثني عشر شهرًا، والشهر إلى ثلاثين يومًا؛ وذلك حفظًا للنظام
وتسهيلًا للمداولات. وهكذا أثبت سكان وادي النيل أن التوقيت شيء عُرفي
يصطلح عليه القوم.
١٣
ومن ناحية أخرى فقد برع المصريون القدماء في مجال الطب، حيث تقدَّموا
تقدمًا هائلًا في طب التشريح وطب العيون والطب الروحاني والطب البيطري
وطب الأسنان وطب العقاقير، واهتموا بعلاج الكسور والأورام … وهلم جرًّا.
١٤
كما تقدموا في مجال الكيمياء، حيث كشفت معلوماتهم الكيميائية التي
خلَّفتها البرديات، بأن المصريين القدماء كانوا يصبغون أنسجة ملابسهم
وحوائط مبانيهم بألوان ما يزال بعضها زاهيًا حتى اليوم. كما مكَّنتهم
ثقافتهم الكيميائية من تحنيط جثث ظلت سليمة لمدة تقرب من الأربعة آلاف عام.
١٥
(ب) حضارة وادي الرافدين
يذكر المؤرخون أن أقدم الآثار التاريخية الخاصة بحضارة وادي الرافدين
«العراق» جاءت من بلاد سومر؛ وهي الأرض التي سكنها السومريون في النصف
الجنوبي من وادي الرافدين (وهي الآن المنطقة الواقعة بين الخليج العربي
وشمال بغداد) وقد دخل السومريون إلى وادي الرافدين في حوالي ٣٥٠٠ق.م.
نازحين من مرتفعات شرق دجلة، وهي المنطقة التي جاء منها أسلافهم قبل ذلك،
وقد حلَّت حضارة السومريين محل حضارة «تل العبيد»، وأصبحت اللغة السومرية
هي السائدة في المنطقة. واختلف السومريون عن الساميين الذين عاشوا في
منطقة أكَّاد في شمال وادي الرافدين، وقامت بينهم نزاعات وحروب طويلة،
وفي منتصف القرن الثالث قبل الميلاد أخضع الملك سرجون الأكَّادي
(شاروكين) ٣٦٣٧–٢٥٨٢ق.م. «بلادَ السومريين»، وأنشأ المملكة المتحدة بين
سومر وأكَّاد، وطغت على هذه المملكة عناصر الحضارة السومرية.
١٦
وقرب نهاية القرن الثالث قبل الميلاد اندحرت «مملكة سومر وأكَّاد»
تحت غزو العَمُوريين، الذين أتوا من شمال بلاد الشام وأسَّسوا عاصمتهم
«بابل». ويرجع تاريخ الإمبراطورية البابلية إلى حوالي ٢١٠٠ق.م.، وكان
سادس ملوك هذه الدولة هو «حمورابي» (١٧٢٨–١٦٨٦ق.م.) أشهر حُكامها — بل قد
يكون أعظم شخصيات التاريخ القديم — قد وضع قانون حمورابي الذي كفل بنظامه
درجة عالية من الحضارة البابلية.
١٧
والجدير بالذكر أن البابليين قد استعملوا اللغة الأكَّادية أو
البابلية، وهي لغة سامية، بالإضافة إلى اللغة السومرية، وخلال الألف
الأولى قبل الميلاد تغلَّبت أقوام قوية أتت من الشرق على دولة البابليين،
وأسسوا الدولة الآشورية في شمال العراق، وحل اسم آشور محل بابل، فقد
أصبحت آشور عاصمة الدولة الجديدة، ثم اتخذوا مدينة «نِينَوى» عاصمة لهم
بعد ذلك. وفي عام ٦١٢ق.م. سقطت الدولة الآشورية في يد «العموريين» الذين
اتخذوا بابلَ عاصمةً لهم وكوَّنوا «الدولة الكلدانية»، غير أن هذه الدولة
لم تعمر طويلًا؛ حيث احتلها الفرس بقيادة «قورش» في عام ٥٣٩ق.م. ثم تلاها
الفتح في عهد «الإسكندر الأكبر».
١٨
ومن أهم مظاهر النهضة العلمية في حضارة وادي الرافدين، نجد أنهم قد
تقدَّموا تقدمًا هائلًا في علم الفلك؛ حيث برع أهل وادي الرافدين في فن
الرصد، رغم بساطة الأدوات التي استخدموها لهذا الغرض مثل المزولة الشمسية
والساعات المائية. ويرجع اهتمام أهل وادي الرفدين بالأرصاد الفلكية إلى
اعتقادهم في تأثير الكواكب على الإنسان فيما يختص بحظه في الحياة، وقد
أمكنهم أن يضعوا تقويمًا قمريًّا.
١٩
كما برع أهل وادي الرافدين في مجال الطب، حيث احتوت بعض اللوحات
الطينية على وصف وتشخيص بعض أمراض الجمجمة والعين والجهاز التنفسي والكبد
والأذن والأعضاء التناسلية والأطراف وغيرها، ثم طريقة العلاج، ووصف
الدواء، وطريقة استعماله، وعدد مرات استعماله، وأي ساعة في النهار
يُتعاطى فيها الدواء.
٢٠
وأما في مجال علم الرياضيات، فقد عرَف سكان وادي الرافدين كثيرًا من
علوم الحساب والهندسة والجبر، ودوَّنوا الأرقام في خانات تحفظ ترتيب
الأعداد في الآحاد والعشرات والمئات، وأنشئوا جدولًا للضرب من «١ × ١ حتى
٦٠ × ٦٠». وقد كان للنشاط التجاري الذي اشتهر به سكان وادي الرافدين دورٌ
كبيرٌ في تطور العلوم الرياضية لديهم، وعرَفوا شيئًا عن المتواليات
العددية والهندسية، وعرَفوا النسبة والتناسب، وقوانين إيجاد مربعات
الأعداد ومكعَّباتها، وقسَّموا محيط الدائرة إلى ستة أقسام متساوية، وإلى
٣٦٠ قسمًا متساويًا، وعرَفوا أن الدائرة يتشكل فيها ستة مثلثات متساوية
الأضلاع، ومقدار كل زاوية فيها ٦٠ درجة، وكان لديهم طرق لإيجاد مساحات
المثلثات والأشكال الرباعية والمستطيلات والأجسام كثيرة السطوح
والأسطوانة والمثلثات القائمة الزاوية وأشباه المنحرف.
٢١
وفي مجال الصناعات الفنية عرَف أهل وادي الرافدين طريقة الشمع
المفقود في صب المعادن وصناعة التماثيل، وعرَفوا الأسقف الصنمية
(الجمالونات) واستخدموها في تشييد المساكن والمقابر الملكية في مدينة «أور».
٢٢
وقد تأثرت حضارة وادي الرافدين بعناصر الحضارة المصرية القديمة منذ
الألف الثاني قبل الميلاد، واشتد هذا التأثير خلال العهد الذي سيطرت فيه
مصر على الشرق الأدنى (منذ القرن السادس عشر حتى القرن الثاني عشر قبل
الميلاد)، ومعروف أن كل حضارات الشرق القديمة قد تأثَّرت ببعضها وتفاعلت
ثقافتها وتزاوجت أفكارها بدرجات متفاوتة خلال اتصال هذه الحضارات ببعضها
البعض؛ سواء عن طريق التجارة أو الغزوات، ونتج عن ذلك تطور العلوم
والفنون، ورقي الحضارة بصفة عامة. ورغم هذا التفاعل الثقافي، فإن كل
حضارة ظلت محتفظة بطابعها الخاص والمميز لها.
٢٣
(ﺟ) حضارة الهند القديمة
يطلق المؤرخون على حضارة الهند القديمة — والتي ازدهرت في وادي السند
— اسمَ حضارة هارابا
Harappa نسبةً إلى
مدينة هرابا؛ وذلك منذ حوالي «٣٥٠٠–٣٠٠٠ق.م.» وحتى «١٧٠٠–١٥٠٠ق.م.». وقد
ازدهرت هذه الحضارة أيضًا في مدينة موهنجو-دارو
Mohenjo-Daro. وقد تزامنت حضارة وادي
السند بعض الوقت مع الحضارة المصرية والسومرية. ولا يُعرف الكثير عن
حضارة وادي السند بالمقارنة مع حضارة مصر وحضارة وادي الرافدين؛ وذلك
بسبب نقص السِّجلات الخاصة بهذه الحضارة.
٢٤
ولم تقتصر حضارة الهند القديمة على ضفتي نهر السند؛ بل شملت منطقة
واسعة مساحتها حوالي ١.٤ مليون كيلو متر مربع، وامتدت من البحر العربي في
الجنوب حتى مدينة «جوجارات»، وامتدت إلى الشرق حتى «دلي»، وكانت مدينتا
هاربا وموهنجو-دارو أهم المدن، وتبلغ المسافة الفاصلة بينهما حوالي ٤٠٠٠كم.
٢٥
وكما هو الحال في الحضارات المزدهرة القديمة، فقد تعرَّضت حضارة
السند لغزو خارجي في حوالي ١٧٠٠–١٥٠٠ق.م. قام به رعاة آريون جاءوا عَبْر
الممرات من الشمال الغربي واستولوا على مدن وادي السند المحصنة. وفي
القرن السادس قبل الميلاد تعرَّضت المناطق الشمالية لغزو فارس، ثم تلاه
الغزو اليوناني بقيادة «الإسكندر الأكبر» في القرن الرابع قبل الميلاد.
٢٦
وبالنسبة لملامح النهضة العلمية في المجتمع الهندي القديم؛ فقد تميز
هذا المجتمع بنسيج ثقافي وحضاري عجيب تعدَّدت فيه اللغات واللهجات مثل
تعدد الأديان والمعتقدات والمذاهب في جوٍّ لاهُوتيٍّ مُفعَم بالخوف
والألم، حتى أصبحت القرابين والتمائم وقراءة الكف والعِرافة وطائفة
الكُهان — التي بلغ تعدادها الملايين — ومروِّضو الثعابين بالسحر وممارسة
اليوجا … إلخ، كل ذلك في جوٍّ من البؤس والفقر الذي لا يُحتمل ولا يُطاق
إلا في المجتمع الهندي، وتشكَّلت صورة الهند القديمة وطبِّها مع ذلك كله؛
فظهر الفن الطبي في كتب التراث الهندية القديمة، وكأنه علم سحري يقوم على
نظرية التوافق بين الجسم الذي هو العالم الأصغر والطبيعة وهي العالم
الأكبر. وفي نفس الوقت عَزَوا الأمراض إلى عوامل خارجية مثل الشياطين
التي تتقمَّص الأبدان ومخالفة المقدسات والقيم والعادات … إلخ.
٢٧
وعلى الرغم من تحريم البراهمة لتشريح جثث الموتى، فإنَّ كثيرًا من
أطباء الهنود مارسوا التشريح؛ لأجل تدريب الجراحين، ومن ثم ارتقى علم
وظائف الأعضاء لدرجة أنه في القرن السادس قبل الميلاد كان الأطباء الهنود
على علم جيد بخصائص الأربطة العضلية، ورَتْق العظام والجهاز اللمفاوي
والأنسجة الدهنية والأوعية الدموية والأغشية المخاطية والمفصلية وكثير من
عضلات الجسم، وعرَفوا أن الغذاء الذي يتناوله الإنسان ويتم هضمه يتحول
إلى عدة صور آخرها الدم، وكانوا يحذرون من الزواج بين الأشخاص المصابين
بأمراض معينة مثل السل أو الصرع أو ضعف الإبصار وغيرها.
٢٨
واكتشفوا أن الحمل يستحيل خلال اثني عشر يومًا من موعد الحيض، ووصفوا
تطور الجنين وصفًا دقيقًا وجيدًا، وزعموا أن جنس الجنين يمكن التأثير فيه
— في بعض الحالات — بفعل الطعام أو العقاقير أو حتى السحر.
٢٩
وأجروا العديد من العمليات الجراحية تحت مخدِّر مثل عمليات الماء في
العين، والفتق، وإخراج الحصاة من المثانة، وترقيع الأذن الجريحة بقطع من
جلد المصاب نفسه، وتقويم الأنف، وبتر الأطراف (والتي كانوا يستخدمونها في
عقاب المجرمين، بالإضافة إلى جَدْع أنوفهم)، وأجروا الجراحات في البطن،
وجبروا كسور العظام، وأزالوا البواسير، وكانوا يعقمون الجروح بالتبخير.
٣٠
كما عرَفوا الطب البيطري وكان يُقسَّم إلى طب الخيول — وكانت الخيول
هي الأضاحي الرئيسية في الديانة الهندية القديمة — ثم طب الفِيَلة؛
والطبان يعالجان بطرق مختلفة. كما أنشأ الهنود المستشفيات في القرن
الخامس قبل الميلاد. وقد تأثر الطب الهندي في رحلته الطويلة بطب الحضارات
المجاورة وتأثرت به هذه الحضارات. وقد ترجم العرب التراث الطبي الهندي
منذ القرن الثاني للهجرة، واستدعى «هارون الرشيد» الأطباء الهنود للعمل
في المستشفيات ومدارس الطب في بغداد.
٣١
وفي مجال الرياضيات، فقد عرَف الهنود المتواليات العددية والهندسية،
والجذور التربيعية والتكعيبية، وتفنَّنوا في المربعات السحرية التي إذا
جُمعت في خاناتها طولًا أو عرضًا كان لها مجموع ثابت، وتقدموا ببحوث
الحساب شوطًا. وجاء في تراثهم الرياضي العديد من المسائل الحسابية وطرق حلها.
٣٢
أما في الجبر فقد عرَفوا الأعمال الأربعة، وكانوا يضعون لكل مجهول
رمزًا خاصًّا به يميزه عن المجهول الآخر، وعرَفوا الكميات السالبة وميزوا
بينها وبين الكميات الموجبة، وحلوا معادلات من الدرجة الثانية، وجمعوا
بين المعادلات الثلاث وهي:
٣٣
أ س٢ + ب س = ﺟ
ب س + ﺟ = أ س٢
أ س٢ + ﺟ = ب س
وكوَّنوا معادلة عامة هي: «ل س
٢ + ع س +
ن = صفر» وحلوها بطريقة تقترب من التي نعرفها الآن، وكان ذلك في القرن
السابع الميلادي، وعرَفوا أن هناك جذرين للمعادلات ذات الدرجة الثانية،
والمعادلات السيالة أو غير المعينة، وابتكروا طرقًا لحلها. وفي الهندسة
عرَف الهنود المربعات والمستطيلات والعلاقات بين الأقطار والأضلاع،
وعرَفوا نظرية فيثاغورس، وحسبوا للنسبة التقريبية «ط» قيمة قريبة جدًّا
من القيمة الحقيقية وهي ٣٫١٤١٦ وقد عبَّروا عنها بالرقم «٢٢ ÷ ٧».
٣٤
وفي مجال الفلك عرَف الهنود السنة القمرية والسنة الشمسية، كما
عرَفوا الكسوف والخسوف واستخدموا أدوات للرصد مثل المِزولة والساعات
المائية، واعتبارًا من القرن السادس قبل الميلاد، كان الاتصال بين
الحضارة الهندية والحضارات البابلية والفارسية والإغريقية، وخاصة في
«العصر الهيلينستي»، وأدى ذلك إلى زيادة اختلاط وتزاوج أفكار هذه
الحضارات. وبعد حقبة طويلة من هذا التزاوج ظهرت مؤلفات فلكية هندية أهمها
«السيدهانتا»
Siddhanta «الحلول»، وعددها
خمسة حلول أهمها كتاب «سوريا سيدهانتا»
Suryasiddhanta بمعنى الحل الذي قدمته
الشمس، وجاءت الكتب الأربعة الباقية في كتاب الفلكي الهندي
«فاراهاميهيرا»
Varahamihira في القرن
السادس الميلادي، وعنوان هذا الكتاب «بانكاسيدهانتا»
Pancasiddhanta بمعنى حول الحلول
الخمسة، وقد كتب كتاب «سوريا سيدهانتا» في القرن الرابع الميلادي، وتم
تعديله بعد ذلك. وذكر «البيروني» أن هذا الكتاب للفلكي الهندي «لاتا»
Latta ويتضمن جداول فلكية، وحركات
الكواكب، وخسوفات الشمس والقمر، ونظام الكون وأعمال أخرى خاصة بالتنجيم،
بالإضافة إلى وصف بعض أدوات الرصد كالمِزولة الشمسية وجهاز الكرة ذات
الحلقات «الكرة المحلَّقة» … إلخ.
٣٥
واشتُهر من فَلَكِيِّي الهنود — من القرون الأولى الميلادية — الفلكي
«أربابهاته» الذي قسَّم السنة الكونية الكبرى في كتاب «سورياسيدهانتا»
(٤٣٢٠٠٠٠ سنة) إلى أربع أحقاب متساوية
كل منها ١٠٨٠٠٠٠ سنة. ثم الفلكي «فارهاميهيرا» وهو الذي لخَّص كتب
السيدهانتا الخمسة في القرن السادس في كتابه المسمَّى «بانكاسيدهانتا»،
بالإضافة إلى أعمال أخرى. أما أشهر فلكيي الهنود، والذي عرَفه العرب في
العصر العباسي، فهو الفلكي «براهماجوبتا» الذي وُلد في البنجاب سنة ٥٩٨م،
وفي سنة ٦٢٨م ألَّف كتاب «براهما سفو سيدهانتا» الذي ترجمه العرب باسم
«السند هند».
٣٦
(د) الحضارة الصينية القديمة
تُعتبر الحضارة الصينية من أقدم الحضارات التي ازدهرت في أقصى الشرق
من العالم القديم، حيث قدَّمت هذه الحضارة اختراعين عظيمين: أحدهما صيني
خالص هو فن الطباعة، والآخر لفن قديم وهو صناعة الورق، الذي بدأه
المصريون القدماء قبلهم بسبعة وعشرين قرنًا من الزمان، حيث يرجع اختراع
الورق في الصين إلى القرن الثاني بعد الميلاد.
وتمتاز الحضارة الصينية دونًا عن سائر حضارات الشرق القديم — فيما
يذكر مؤرخ العلم العظيم «جوزيف نيدهام» — بوفرة ما لديها من المعلومات
الخاصة بماهيتها المستفادة من مصادرها الأصلية، فهي ليست كالحضارة
الهندية مثلًا حيث الجدولة الزمنية للأحداث التاريخية ما زالت مشكوكًا
فيها بدرجة كبيرة. ففي الصين يمكن في أغلب الأحوال تحديد ليس العام فقط،
بل الشهر، وجميعها مكتوبة بقدر من الحَيدة وشدة الانتباه؛ إلا إنه —
ولسوء الحظ — لم يُترجم منها إلى اللغات الأوروبية سوى النَّزر اليسير للغاية.
٣٧
ولو ألقينا نظرة موجزة لتاريخ الصين، نجد أن أوائل السكان الذين
عاشوا في أرض الصين هم ذلك الجنس الذي ينتمي إلى «إنسان بكين» الذي عاش
في بداية أواسط عصر «البلستومين» (حوالي ٤٠٠٠٠٠ق.م.) أي في زمن أسبق من
زمن إنسان «نياندرتال»
Neanderthal man
الذي عاش في أوروبا وحوض البحر المتوسط، وهناك شواهد معينة على وجود سكان
عاشوا في الصين في العصر الحجري
المتأخر
Neolithic (حوالي ١٢٠٠٠ق.م.)،
أما بعد ذلك فهناك فجوة واسعة التواصل؛ حيث لا توجد سائر المراحل التالية
من عصور ما قبل التاريخ إلا في منشوريا.
٣٨
وفجأة، وبعد حوالي ٢٥٠٠ق.م.، تبدأ الأرض الشاغرة في استضافة عدد كبير
من السكان النشطين وتظهر مئات — بل آلاف — القرى يسكنها أناس يرعون قطعان
الحيوان في إطار اقتصادي زراعي، وعلى دراية بالمنسوجات والنجارة وصناعة
الخزف. وتبدو الحاجة واضحة إلى العمل الأثري المكثَّف من أجل إلقاء الضوء
على هذه الفجوة الغريبة بين سكان العصر الحجري ومن أعقبوهم في العصر
الحجري المتأخر.
٣٩
وأول حضارة صينية هامة تكشف عنها الحفائر هي حضارة «يانجشاو»
Yangshao التي كانت توجد في حزام من
الأرض الممتدة من الغرب للشرق يشمل المحافظات الحالية التالية: كانسو،
سنسي، شانسي، هوانان، شانتونج. وكان محصول الحبوب الرئيسي غالبًا هو
الدخن ثم صار الأرز في حقبة تالية، وحيث إن أيًّا من هذين النباتين ليس
صيني المنشأ فمن المحتمل أنهما جُلبا من جنوب شرق آسيا، وقد عُثر على
عظام الكلاب والخنازير وعظام للغنم وعظام للماشية تنتمي لحقبة زمنية
تالية، كما تأكد وجود عظام الخيل أيضًا، لكنها قد تكون عظام خيل برية من
النوع الذي ظل يعيش في منغوليا إلى عهد قريب. ولعل أبرز سمات حضارة
«يانجشاو» هي خزفها المطلي الذي كان يُصنع حوالي ٢٥٠٠ق.م. بطريقة اللف
الحلزوني لأسطوانات رفيعة من الطين لا باستخدام «عجلة الفَخَراني».
٤٠
ولقد أعقبت حضارةَ «يانجشاو» في هونان وشانس حضارةٌ أخرى تنتمي للعصر
الحجري المتأخر أطلق عليها «جهينج-تسو-ياي
Chheng-Tsu-Yai» أو «لونج-شان
Long-shan» وهما اسمان لموقعي حفائر
أثريين، ومع أن أصحاب هذه الحضارة لم يعرفوا المعادن؛ فقد استخدموا أواني
خزفية سوداء ناعمة الملمس ومتقنة التركيب، وجيدة اللمسات النهائية، كما
أن أُناس «لونج-شان» اسْتأنسوا كل الحيوانات التي عرفتها حضارة يانجشاو،
والتي من المحتمل أن من بينها الحصان، كما أن أُناس «لونج-شان» قد عرفوا
المركبات ذات العجلات، وإن كان الدليل على ذلك غير مؤكد، وكان هذا أيضًا
هو الوقت الذي ظهرت فيه ابتكارات شتَّى مثل «عجلة الفخراني»، واستخدام
التراب المدكوك في أعمال البناء، وهما ابتكاران كانا معروفين منذ أمد
طويل في الشرق الأوسط، ولكنهما كانا قاصرين على الصين.
٤١
تصل بنا حضارة لونج-شان إلى عام ١٦٠٠ق.م.، وبعد ذلك — وخلال قرنٍ
واحد — إذا بنا نقع فجأة على حضارة ناضجة تنتمي لعصر البرونز
Bronze age هي حضارة أسرة «شانج»، وقد
استمرت هذه الأسرة في الصين إلى أن غزا الإسكندر الأكبر الحضارة الصينية
(حوالي ٣٢٧ق.م.).
٤٢
وبالنسبة لملامح النهضة العلمية في الحضارة الصينية؛ ففي ظل عهد أسرة
شانج تميزت حضارة الصين بكل سمات الحضارات القديمة، مثل: حياة المدن،
واختراع الكتابة، واستخدام المعادن، والفن الزخرفي في العمارة، وانقسام
المجتمع إلى طبقات، وظهور التخصص المهني، وتقسيم العمل، وازدهار التجارة،
وظهور النزعة العسكرية، ونمو الصناعات المتعلقة بها، وتطور العلوم
الفلكية والرياضيات والطب والدواء والتقويم … إلى آخره. ومن المرجح أن
عناصر حضارة الصين قد نمت وتطورت بانتشار عناصر حضارية من الغرب وتفاعلها
مع عناصر حضارة العصر الحجري الحديث في المنطقة. ويختلف نظام وأسلوب
الكتابة في الصين عن مثيلاتها في مصر ووادي الرافدين، على الرغم من أنها
اتبعت مبادئ متشابهة، وربما كان ذلك من خلال انتشار فكرة الكتابة من
الحضارات المجاورة الأقدم.
٤٣
ومن ناحية أخرى فقد تميزت حضارة الصين بنمط فني معين في صنع القوارير
والمَزهريات البرونزية والأدوات المعدنية الأخرى، واستخدم الصينيون
القدماء الرصاص لتزييف العملات المصنوعة من الفضة منذ الألف الثاني قبل
الميلاد، مما يُعد دليلًا على معرفتهم الفائقة بخواص المعادن في ذلك الوقت.
٤٤
تلك هي أهم ملامح النهضة العلمية في حضارات الشرق القديم، وهي إن
دلَّت على شيء فإنما تدل على أن تلك الحضارات سبقت اليونان بأجيال عديدة
من الزمن، وأن اليونانيين مدينون لتلك الحضارات، وإن كانت الأقدار لم تشأ
أن يُكمل أبناء حضارات الشرق القديم مشوار العلم الذي بدءوه في شتَّى
مجالات العلم والمعرفة، حيث خَبَتْ ثم انطفأت الروح العلمية لدى أبناء
تلك الحضارات، فإن اليونانيين قد أكملوا المسيرة وساروا بالعالم خطوات
هائلة، وذلك بعد أن تعلموا هذا الدرس من الحضارات السابقة عليهم.