تمهيد
عرضنا في الفصل السابق النزعة العلمية عند قدماء الشرقيين وأثرها على
العلم اليوناني، حيث بيَّنَّا أن أقدم الحضارات قد ظهرت في بلاد الشرق، وأن
هذه الحضارات كانت ناضجة بالقياس إلى عصرها، ومن ثم فقد كان من الضروري أن
ترتكز على أساس من العلم، كما بينا في هذا الفصل أيضًا أن هذه الحضارات قد
أسهمت في بناء الحضارة اليونانية.
وسبيلنا الآن في هذا الفصل هو أن نفنِّد فكرة المعجزة العلمية
اليونانية لإثبات أن فكرة المعجزة لا أساس لها من العلم؛ لأنها تمثل في حد
ذاتها ضربًا من المعجزات الإلهية التي تستعصي على قدرة الإنسان، وذلك على
النحو التالي:
أولًا: نقد بعض الغربيين لفكرة الأصول الشرقية للعلم اليوناني
شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين نزعات
فكرية تدعو الإنسان الأوروبي إلى التحرر من أية مفاهيم متجاوزة، مثل مفهوم
«الإنسان ككل» أو «الإنسانية جمعاء» أو «صالح الإنسانية» وكذلك التحرر من
كل القيم المطلقة، مثل «مستقبل البشرية» و«المساواة» و«العدل».
وقد كانت هذه النزعات تحاول جعل الإنسان الأوروبي المركز والمطلق
والمنفصل تمامًا عن كل القيم والغائيات الإنسانية العامة، وفي نفس الوقت
يصبح هو نفسه تجسيدًا لقانون الطبيعة ولحركة المادة، كما يصبح مرجعية ذاته
ومعيار ذاته وغائية ذاته.
وكان من آثار هذه النزعات أن أخذت تتحول الإنسانية الأوروبية إلى
إمبريالية وآداتية، ثم إلى عنصرية. وانقسم إلى
supermen إمبريالية يتحكمون في كل البشر
والطبيعة، وإلى
submen دون البشر آداتيين
يذعنون لإرادة السوبر ولقوانين الطبيعة والمادة، وهو ما يسميه البعض
«النفعية الدارونية»، وهي المنظومة التي تذهب إلى أن من يَمْلك القوة له
الحق في أن يوظف الآخرين لخدمة مصالحه، مستخدمًا في ذلك آخر المناهج
العلمية وأحدث الوسائل التكنولوجية، متجردًا من أية عواطف أو أخلاق أو
أحاسيس كلية أو إنسانية، باعتبار أن الإنسان ما هو إلا مادة في نهاية
الأمر. ومن ثَم، فمثل هذه الأحاسيس هي مجرد أحاسيس ميتافيزيقية أو قيم
نسبية مرتبطة بالزمان والمكان، وليس لها أي ثبات أو عالمية.»
١
وقد تحققت هذه النزعات أول ما تحققت بشكل جزئي وتدريجي في التجرِبة
الاستعمارية الغربية بشِقَّيها الاستيطاني والإمبريالي؛ فقد خرجت جيوش
الدول الغربية الإمبريالية تحمل أسلحة الدمار والفتك والإبادة، وحوَّل
الإنسان الغربي نفسَه إلى
supermen مطلق له
حقوق مطلقة تتجاوز الخير والشر، ومن أهمها حق الاستيلاء على العالم وتحويله
إلى مجال حيوي لحركته ونشاطه، وتحول العالم بأسره إلى مادة خام؛ طبيعية أو
بشرية، فاعتُبرت شعوب آسيا وإفريقيا مجرد
submen؛ أي مجرد مادة طبيعية توظَّف في
خدمة دول أوروبا وشعوبها البيضاء المتقدمة، واعتُبرت الكرة الأرضية مجرد
مجال حيوي يصدِّر له مشاكله.
٢
وقد كان من نتيجة ذلك:
٣
- (١)
نقل سكان إفريقيا إلى الأمريكتين لتحويلهم إلى مادة استعمالية
رخيصة.
- (٢)
نقل جيوش أوروبا إلى كل أنحاء العالم؛ وذلك للهيمنة عليها
وتحويلها إلى مادة بشرية وطبيعية توظَّف لصالح الغرب.
- (٣)
نقل الفائض البشري من أوروبا إلى جيوش استيطانية غربية في كل
أنحاء العالم لتكون ركائز للجيوش الغربية والحضارة الغربية.
- (٤)
نقل الكثير من أعضاء الأقليات إلى بلاد أخرى «الصينيين إلى
ماليزيا – الهنود إلى أماكن مختلفة – اليهود إلى الأرجنتين» كشكلٍ من
أشكال الاستعمار الاستيطاني، إذ إن هذه الأقليات تشكل جيوبًا
استيطانية داخل البلاد التي تستقر فيها.
- (٥)
نقل الكثير من العناصر المقاتلة من آسيا وإفريقيا، وتحويلهم إلى
جنود مرتزقة في الجيوش الغربية الاستعمارية؛ مثل الهنود (خصوصًا
السِّيخ) في الجيوش البريطانية، وفي الحرب العالمية الأولى تم تهجير
١٣٢ ألفًا من مختلف أقطار المغرب لسد الفراغ الناجم عن تجنيد
الفرنسيين، بالإضافة إلى تجنيد بعضهم مباشرة للقتال.
وما يهمنا من هذا كله، هو أن تلك الأحداث قد تمخَّض عنها شعور الإنسان
الأوروبي بعد ذلك بالهيمنة الثقافية؛ وخاصة بعد أن دأب المؤرخون الأوروبيون
— وخاصة في عصر اشتداد الروح القومية في القرن التاسع عشر — في تمجيد
الحضارة اليونانية — حضارة الأجداد — فتحدثوا طويلًا عن «المعجزة
اليونانية»؛ أي عن ذلك الإنجاز الهائل الذي حققه اليونانيون فجأة، دون أية
مقدمات تُذكر ودون أن يكونوا مدينين لأي شعب سابق، وعن ذلك الوليد الذي ظهر
إلى الوجود يافعًا هائل القوة، وكلها تعبيرات لا يمكن أن تخلو من عنصر
التحيز، لا سيما وأن أحفاد الحضارات الشرقية القديمة كانوا هم الشعوب
الواقعة تحت قبضة الاستعمار الأوروبي في ذلك الحين، وكانوا يعامَلون على
أنهم شعوب «من الدرجة الثانية»، ومن ثَم كان من الطبيعي أن تكون الحضارات
التي انحدروا منها حضارات من «الدرجة الثانية» أيضًا.
٤
وأصحاب هذا الرأي لا حصر لهم، نذكر منهم على سبيل المثال: برتراند راسل،
٥ ألبير ريفو،
٦ وسانت هلير
٧ … إلخ.
فأما «برتراند راسل» فيقول في كتابه «حكمة الغرب»: «تبدأ الفلسفة حين
يطرح المرء سؤالًا، وعلى هذا النحو ذاته يبدأ العلم، ولقد كان أول شعب أبدى
هذا النوع من حب الاستطلاع هم اليونانيون، فالفلسفة والعلم كما نعرفهما
اختراعان يونانيان. والواقع أن ظهور الحضارة اليونانية التي أنتجت هذا
النشاط العقلي العارم، إنما هو واحد من أروع أحداث التاريخ، وهو حدث لم
يظهر له نظير قبله ولا بعده؛ ففي فترة قصيرة فاضت العبقرية اليونانية في
ميادين الفن والأدب والفلسفة بسيل لا ينقطع من الروائع التي أصبحت منذ ذلك
الحين مقياسًا عامًّا للحضارة الغربية».
٨
وأما «ألبير ريفو» فيقول في كتابه «الفلسفة اليونانية»: «إن فنوننا
وعلومنا وفلسفتنا وجزءًا من نُظمنا ترجع أصولها إلى اليونان — وكثيرًا ما
نسينا ذلك — إذ لولا اليونان لكان من المحتمل ألا تكون لنا قواعد للغة ولا
رياضة ولا طب ولا فلك ولا فن مسرحي، وهم قد صاغوا أغلب الفروض الهامة التي
يعيش عليها تفكيرنا. أما المعتقدات التي تؤلِّف هياكل ديننا فلعلها لم تكن
تبرز يومًا إلى الوجود لو لم يمهد لها اليونان.»
٩
وأما «سانت هلير» فيتساءل: «هل استعارت اليونان شيئًا من الشرقيين أم
هل هي مستقلة تمام الاستقلال لم تتبع سواها؟ وهل لم تنهل شيئًا من غير
مناهلها الذاتية؟ أكانت مذاهب طاليس وفيثاغورس وإكسينوفان محض إبداع لها من
الأصلية؟ فالشعراء «هوميروس» و«سوفوكليس» و«أسخليوس»؟! وبعبارة أخرى: هل
الغرب الذي هو مخالط له والذي هو معتبر أنه متقدم عليه بكثير في هذا الطريق
الوعر الذي حده النهائي هو الفلسفة؟!»
ويجيب «هلير» من غير تردد بالسلب فيقول: «إن اليونان لم تَدِن لأحد
غيرها، وإن المساعدات التي وردتها تكاد تكون من خفَّة الوزن، بحيث يمكن
الجزم بأن اليونان في العلم أيضًا كانت ذات إحداث وإبداع، شأنها في بقية
الأشياء الأخرى، وإذا كانت تلقت شيئًا من جيرانها فما هو إلا أصول عديمة
الصور، فصوَّرتها هي وبلغت من تصويرها حدَّ التمام، بحيث يمكن القول بحق
إنها هي التي أوجدتها في الواقع.»
١٠
وإذا كان معظم المفكرين الغربيين قد أكدوا بأن كل إنجازات المجتمع
اليوناني وأوجه النشاط الثقافي والحضاري انبثقت من داخل بلاد اليونان
فحسب، دون أن تتأثر بمؤثرات ثقافية
وحضارية جاءت من مناطق أخرى خارج هذه البلاد. إلا إنهم لم يكتفوا بذلك، بل
أكدوا على أن الإنجازات الثقافية والحضارية للمجتمع اليوناني القديم تمثل
مرحلة من المراحل الثقافية والحضارية للقارة الأوروبية وحدها، وأنها لا
تنتسب إلى إطار آخر غير إطار القارة الأوروبية.
فمثلًا يقول «أرنولد توينبي»:
١١ «إن أَرُومَةَ الحياة الاجتماعية في الغرب الحديث تكوَّنت في
جسم الحياة الاجتماعية الإغريقية، كما تتكون الأجنة في الأرحام، فكانت
الإمبراطورية الرومانية — من ذلك المجاز — مدة الحمل، وفي غضون تلك المدة
كَمَنَت الحياة الجديدة، وتغذت بالروح القديمة، وكان العصر المظلم شديد
المخاض، وفيه بانَ الجنينُ عن أمه، وأصبح مخلوقًا، إلا إنه كان عاريًا ضيق
الحيلة، وكانت العصور المظلمة عهد الطفولة، وفيها عاش الجنين واستقام على
ما كان عليه من وهن، وكان القرن الرابع والخامس عشر من ذلك المخلوق زمنَ
البلوغ؛ وهما يمتازان بكثير من معالم التغير والانتعاش. أما القرون
المتوالية منذ بداية القرن السادس عشر إلى اليوم، فهي التي فيها اكتمل
الطفل، وبلغ غايته، وهذا المجاز يوضح ما نقصد إليه، وهو ما خلَّفه الإغريق
لغرب أوروبا الحديثة.»
١٢
وأما «ﻫ. أ. ل. فيشر»
١٣ فيقول: «إن أصول الحضارة الأوروبية ينبغي في الواقع أن نبحث
عنها في اليونان القديمة، وفي آثار المفكرين والفنانين اليونانيين الذين
كشفوا حقيقة الإنسان، وكانوا أول من حل ألغاز الطبيعة وعرضوا مفاتنها.»
١٤
وأما «د. ف. كيتو»
١٥ فيقول في كتابه «الإغريق»: «ونحن نعترف بما أسدى الإغريق إلى
الغرب، وبما امتازوا به من العناية بالتفكير المنطقي وقوانينه الصارمة.»
١٦
ما سبق كان اختصارًا لبعض مزاعم القائلين بالمعجزة اليونانية، وهذه
المزاعم إذا أخضعناها للبحث العلمي الدقيق يتضح لنا تفاهتها، فالزعم بأن
اليونانيين قد أبدعوا فجأة ودون سوابق أو مؤثرات خارجية حضارة عبقرية في
مختلف الميادين، ومنها الفلسفة والعلم هو — كما قال الدكتور «فؤاد زكريا» —
زعمٌ يتنافى مع المبادئ العلمية التي تؤكد اتصال الحضارات وتأثرها بعضها
ببعض. وعلى حين أن لفظ «المعجزة اليونانية» يبدو في ظاهره تفسيرًا لظاهرة
الانبثاق المفاجئ للحضارة اليونانية؛ فإنه في واقع الأمر ليس تفسيرًا لأي
شيء؛ بل إنه تعبير غير مباشر عن العجز عن التفسير، فحين نقول إن العلم
اليوناني كان جزءًا من المعجزة اليونانية يكون المعنى الحقيقي لقولنا هذا
هو أننا لا نعرف كيف نفسِّر ظهور العلم اليوناني.
١٧
ومن ناحية أخرى، نود أن نشير بأن المكان الذي ظهرت فيه أولى المدارس
الفلسفية اليونانية، هو ذاته دليل على الاتصال الوثيق بين الحضارة
اليونانية والحضارات الشرقية السابقة، فلم تظهر المدارس الفكرية الأولى في
أرض اليونان ذاتها، وإنما ظهرت في مستوطنة «أيونيا» التي أقامها اليونانيون
على ساحل آسيا الصغرى، أي في أقرب أرض ناطقة باليونانية إلى بلاد الشرق
ذوات الحضارات الأقدم عهدًا، وهذا أمر طبيعي؛ لأنه من المُحال أن تكون هذه
المجموعة من الشعوب الشرقية قريبة من اليونانيين إلى هذا الحد، وأن تتبادل
معها التجارة على نطاق واسع، وتدخل معها أحيانًا أخرى في حروب طويلة، دون
أن يحدث تفاعل بين الطرفين، كما أنه من المستحيل تجاهل شهادات المؤرخين
اليونانيين القدماء الذين أكَّدوا تلمذة معظم فلاسفة اليونان في بلاد الشرق.
١٨
لذلك لم تكن نشأة العلم يونانية خالصة، ولم يبدأ اليونانيون في اكتشاف
ميادين العلم من فراغ كامل؛ بل إن الأرض كانت ممهَّدة لهم في بلاد الشرق،
وبالتالي يتضح لنا أن الاعتقاد بضرورة أصل واحد للمعرفة العلمية، وتصور
واحد يرجع إليهما الفضل في ظهورها، ربما كان على حدِّ قول الدكتور «مصطفى
النشار»: «عادة أوروبية سيئة ينبغي التخلص منها، فإصرارنا على تأكيد الدور
الذي أسهمت به حضارات الشرق القديم، لا يعني أبدًا أننا من الذين ينكرون
على اليونانيين أصالتهم العلمية، ولا نشك لحظة في أنهم يمثلون مرحلة علمية
ناضجة ومتميزة؛ ولكننا لا نوافق على ادِّعاء أن تلك الأصالة، وهذا التمايز
قد أتيا من فراغٍ، فقد كانت عظمة اليونان أنهم استطاعوا أن ينقلوا بشغفٍ كل
ما وقعت عليه أعينهم وعقولهم من التراث السابق عليهم، وأن يهضموه هضمًا
يتلاءم مع بيئتهم الخاصة، وأن يحولوا هذه المؤثرات إلى شيء شبيه بتراثهم،
وأن ينتقدوا هذا وذاك شيئًا فشيئًا، حتى استطاعوا في النهاية أن يتجاوزوا
المرحلة الشرقية في الفكر، وأن يبدءوا مرحلة جديدة متميزة، إلا إن هذه
الجِدة، وهذا التميز قد بهَرهم لدرجة أن بعضهم، بل معظمهم قد تنكَّروا
لأجدادهم الذين علموهم ألف باء الحضارة بدءًا من الزراعة وانتهاءً بحروف
الكتابة التي كانت سببًا في تمكُّنهم من صياغة أفكارهم وتسجيلها، وتضخمت
إنجازاتهم أمام أنفسهم فظنوا خطأ أنهم أصل البشرية، وأنهم مبدعو العلم
والفلسفة، ولو أنهم تخلَّوا عن عُنصريتهم التي ورثوها عن أجدادهم الذين
اعتبروا كل من عَدَاهم «برابرة» لا يصلحون إلا للرِّق والعبودية، ونظروا
بموضوعية في فكر فيثاغورس وديموقريطس وأفلاطون لوجدوا أنهم قد استلهموا
معظم أفكارهم من الشرق، وليس من اليونان.»
١٩
وعلى ذلك فنحن ننكر ما يُسمى ﺑ «المعجزة اليونانية»، فالمجتمع اليوناني
قد استلهم التراث الشرقي السابق عليه، واستحوذ عليه بروحه الفتية، وحاول
تجاوزه حينما صبغه بصبغته النظرية النقدية، وقد فعل ذلك فلاسفة العرب
والمسلمين (أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد) حينما نقلوا التراث
اليوناني وحاولوا تطويعه مع مبادئ دينهم في شتى الميادين، ثم تجاوزوه بما
قدموا من جديد في مختلف العلوم، وكذلك فعل الغربيون المحدثون مع التراث
العربي والإسلامي، حينما نقلوا منجزاته، وأخذوا عنه مبادئ المنهج
الاستقرائي وتطبيقاتها في العلوم المختلفة، كما نقلوا المبادئ السامية
للتراث الأخلاقي والسياسي والقانوني الإسلامي، كما درسوا بأناةٍ منجزات
العرب في ميادين الطب والفلك والكيمياء والهندسة … إلخ؛ ليبدءوا نهضتهم
العلمية الحديثة.
٢٠
ثانيًا: الأدلة التي استند إليها بعض الغربيين لإنكار الأصول الشرقية
للعلم اليوناني
يزعم بعض الغربيين أن هناك أدلة واضحة تؤكد أن العلم اليوناني ليس له
أصول شرقية، وهذه الأدلة تتمثل في أن سمات العلم اليوناني تختلف كلًّا
وجزءًا عن سمات العلم الشرقي؛ فمثلًا يزعمون أن في حضارات الشرق القديم
تراكمت حصيلة ضخمة من المعارف ساعدت الإنسان في هذه الحضارات على تحقيق
إنجازات كبرى ما زالت آثارها تشهد بعظمتها حتى اليوم، ولكن هذه المعارف لم
تكن سوى خبرات موروثة، بل ربما كانت راجعة في أصلها إلى أقدم العصور
البدائية للإنسان، وقد ظلت تُورَّث جيلًا بعد جيل، وساعدت على إثراء حياته
العقلية؛ ذلك لأن هذه الشعوب التي عاشت في الشرق القديم كانت بارعة في
الاستخدام «العملي» للمعارف الموروثة، ولكنها لم تتوصل إلى النظريات
الكامنة وراء هذه الخبرات، ولم تخضعها للتحليل العلمي الدقيق. أما الحضارة
التي توصَّلت إلى هذه المعرفة «النظرية»، والتي توفرت للإنسان فيها القدرة
التحليلية التي تتيح له كشف «المبدأ العام» من وراء كل تطبيق عملي، فهي
الحضارة اليونانية.
٢١
فمثلًا قالوا: إن المصريين القدماء قد اهتدوا بالخبرة إلى أن مجموع
المربعين المُقامين على ضلعي المثلث القائم الزاوية يساوي المربع المُقام
على وتر هذا المثلث، وكانوا يستخدمون هذه الحقيقة بطريقة عملية في أعمال
البناء، فعندما كانوا يريدون التأكُّد من أن الجدار الذي يبنونه عموديٌّ
على سطح الأرض، كانوا يصنعون مثلثًا أبعاده «٣، ٤، ٥» أو مضاعفاتها، حتى
يضمنوا أن هذا المثلث سيكون قائم الزاوية، ومن ثم يكون الجدار عموديًّا
بحقٍّ؛ لأن «مربع ٣ هو ٩، ومربع ٤ هو ١٦، ومجموعهما هو مربع ٥؛ أي ٢٥»، وقد
ظلت هذه الحقيقة تُستخدم عندهم بطريقة عملية تطبيقية، دون أن يحاولوا
إثباتها بالدليل العقلي المقنع، بل إن الرغبة في إيجاد مثل هذا الدليل لم
تتملَّكْهم على الإطلاق، لأن كل ما يهدفون إليه هو الوصول إلى نتيجة عملية
ناجحة، وهذه النتيجة تتحقق بتطبيق القاعدة فحسب، ولن يزيدها الاهتداء إلى
الدليل العقلي نجاحًا.
٢٢
وفي مثل هذا الجو يستحيل أن يظهر العلم؛ لأن العلم هو في أساسه بحث عن
المبادئ العامة لا عن التطبيقات الجزئية، وهو سعي إلى القاعدة النظرية،
وليس اكتفاء بتحقيق أهداف عملية؛ ولذلك فإن العلم لم يظهر للمرة الأولى،
إلا عند اليونانيين القدماء الذين كان يتملكهم حافز آخر يضاف إلى الإنجاز
العملي، هو الرغبة في الاقتناع، ولم تكن عقولهم تهدأ إلا حين تهتدي إلى
الدليل القاطع والبرهان المقنع.
٢٣
وكذلك كان الحال في علم الميكانيكا النظري، كان اليونان — فيما يقول
جمهرة الغربيين من المؤرخين — أول من عالج دراساته بروح علمية؛ إذ كان
لأرسطو الفضل في إنشاء هذا العلم النظري، وإن جانَبه التوفيق في صياغة
عباراته، وأكمل الإسكندريون من أمثال «أرشميدس» ممن «قنَّنوا» المعلومات
الميكانيكية لأول مره في تاريخ العلم.
٢٤
وكان البابليون والكلدانيون قد سبقوا إلى مشاهدة الكواكب ورصدها،
فأنشئوا بهذا علم الفلك العملي، ولكنهم كانوا مَسُوقين بأغراض تنجيمية أو
عملية (كمعرفة فصول الزراعة ومواسم التجارة ونحوها). أما اليونان فهم الذين
أقاموا علم الفلك النظري ورصدوا الكواكب لمعرفة القوانين ووضع النظريات
التي تفسر سيرها وتعلل ظهورها واختفاءها. ويرجع الفضل الأكبر في هذا إلى
«بطليموس» الإسكندري في القرن الثاني بكتابه «المَجِسطي» الذي ظل المرجع
الرئيسي في علم الفلك حتى مطلع العصر الحديث.
٢٥
ومثل هذا يقال في العلوم التي أدت إليها في الشرق القديم بواعث دينية
أو أغراض عملية، عالجها اليونان بروح علمية حتى نشأت علومًا نظرية تستند
إلى البرهان العقلي وتقوم على «تقنين» المعلومات بغير باعث ديني أو عملي،
٢٦ وفي هذا يقول «تشارلس سنجر»:
٢٧ «كان أهل المدنيات الشرقية السابقون للإغريق يُحصِّلون المعرفة
لأغراض عملية، ذلك أنهم كانوا محتاجين إلى مسح الأرض وتحديد مواسم البذر
والحصاد تحديدًا دقيقًا، وتقديم القرابين لآلهتهم، وتقسيم الوقت، ومعالجة
المرض، ورفع شر السحر، والتحايل على قضاء ما تتطلبه الحياة اليومية من
حاجات كثيرة، وقد تتقدم المعرفة تقدمًا كبيرًا إذ تسد هذه الحاجات، ولكنها
لا تصبح قطُّ علمًا بكل ما في الكلمة من معنى؛ لأن حقيقة العلم كما يدل
اسمه هي المعرفة الخالصة المجردة؛ المعرفة بلا وصف ولا تعريف؛ المعرفة التي
تُقصد لذاتها، فالعلم بلا جدال شيء آخر غير سد هذه الحاجات، ولكن المعرفة
بهذا التحديد هي العلم، ذلك أن من يُحصِّلون المعرفة على هذا النحو الذي
ذكرناه، ينبغي أن يكونوا مقتنعين بأن هذه المعرفة لها حقيقة في ذاتها خارجة
عن عقولنا، وهذا هو ما آمن به الإغريق وما أنكروه على أهل الإمبراطوريات
الشرقية الكبرى.»
٢٨
ويذكر الدكتور «فؤاد ذكريا» أن هناك مبررات جعلت بعض الغربيين يقولون
بذلك، منها:
٢٩
-
(١)
أن ما أنجزته الحضارات الشرقية في باب العلم النظري أو الأساسي
لا يكاد يُعرف عنه شيء بطريق مباشر، ومعظم ما نعرفه عنه غير مباشر،
أي من خلال التطبيقات العملية لهذا، كما هو متمثل في الآثار الباقية
من هذه الحضارات.
-
(٢)
أن الفئة التي كانت تعرف العلم النظري كانت فئة الكهنة التي حرصت
على أن تحتفظ بمعلوماتها العلمية سرًّا دفينًا تتناقله جيلًا بعد جيل
دونَ أن تبوح به إلى غيرها حتى تظل محتفظة لنفسها بالقوة والنفوذ
والمهابة التي تولِّدها المعرفة العلمية، وحتى تضفي على نفسها وعلى
الآلهة التي تخدمها هالةً من القداسة أمام عامة الناس الذين لا
يعرفون من العلم إلا قليله.
-
(٣)
وفضلًا عن ذلك فهناك كوارث طبيعية وحروب كثيرة وحرائق متعمَّدة
أو غير متعمدة، أدت بدورها إلى ضياع ما يمكن أن يكون قد دُوِّن من
هذا العلم في كتب. ونتيجة هذا كله هي أن المعلومات عن الأصول النظرية
للعلم الشرقي تكاد تكون محدودة للغاية.
تلك هي أهم المبررات التي يسوقها بعض الغربيين في افتقار الأدلة
الواضحة على عدم وجود علم نظري عند الشرقيين. ولا شك في أنها مبررات تفتقر
إلى الدقة، بل ربما كانت مرتكزة على أسس غير علمية، ولكن الصعوبة الكبرى
التي تجعل من العسير رفضها كلية، هو فعلًا النقص الشديد في المعلومات عن
الأصول النظرية للعلوم التي توصل إليها الشرقيون، ويعترف بهذا بعض مؤرخي
الغرب المنصفين؛ ولذا لا يجدون في هذا الموضوع مفرًّا من الاحتفاظ بقدر من
هذه الصورة على اقتناعهم في قرارة أنفسهم بافتقارها إلى الدقة.
فمثلًا يقول «جوستاف لوبون»: «لم يُؤلَّف كتاب عن مصر إلا وفيه إطراء
عظيم لمعارف المصريين. ولكن إذا أُريد تحديد مدى هذه المعارف بالدقة أعوزت
المصادر والمستندات.» ويعطينا أمثلة على ذلك فيقول: «لا نكاد نعرف شيئًا
مثلًا عن الهندسة عند المصريين، ولكننا نستطيع الحكم إذا التفتنا إلى
تطبيقاتها بأنها كانت راقية، فقد كان المصريون يعرفون تقدير سطح الأرض
تقديرًا ألمحوا إليه كثيرًا في ورق البردي، وكانوا يعرفون الأقْنِية
والبحيرات الصناعية، وعرَفوا أيضًا نظرية قطع الأحجار كما تدل على ذلك
الآثار العجيبة، وخصوصًا في ممرات الأهرام الكبيرة.» ويقول أيضًا: «ونجهل
مثلًا طرق الرقابة عند المصريين في علم الهيئة، ولكننا نعرف أنهم مهَروا كل
المهارة في توجيه آثارهم، وكانوا على علم بمدار السنة، وهذا العلم يقتضي
عدة معلومات لم تصل إليها الشعوب الراقية إلا أخيرًا.»
ويستطرد «لوبون» فيقول أيضًا: «ولا نعرف تفصيلات الإجراءات الكيماوية
الصناعية، ولكننا ندرك أنها كانت عديدة معقدة، لأنهم استخرجوا بها المعادن
وصنعوا الزجاج والميناء والبردي والعطور، حتى الجواهر الصناعية والأواني
والأصباغ التي لم يذهب بهاؤها آلاف السنين.»
٣٠
ولما كانت الوثائق والمستندات عن الأصول النظرية للعلم الشرقي غير
كافية، فقد جاهر معظم العلماء الغربيين إلى القول بأن الفلسفة والعلم
يرجعان إلى الإغريق وبخاصة طاليس. فمثلًا يقول «إميل برييه»
E. Briehie في كتابه «تاريخ الفلسفة»:
«إذا كنا نبدأ تاريخنا بطاليس فليس معنى ذلك أننا نتجاهل التاريخ القديم
الذي تم فيه تكوين الفكر الفلسفي، وإنما لسبب عملي صِرْف، هو أن الوثائق
المكتوبة عن حضارات ما بين النهرين ليست كافية وينقصها الوضوح، كما أن
الوثائق المتعلقة بالمجتمعات البدائية لا تكفي بدورها في إرشادنا عن
اليونان في طورها البدائي.»
٣١
ولقد كان لنقص الوثائق وقلة المستندات عن الأصول النظرية للعلم عند
الشرقيين، أثره السيئ في عقول وقلوب كثير من علماء الغرب؛ حيث أضحى العلم
الشرقي يمثل عندهم موضع شك، وبالتالي فلم يُدرس بعد الدرس اللائق به، لا من
ناحية تاريخه ولا نظرياته ولا رجاله، ولا يزال يمثل الحلقة المفقودة في
تاريخ العلم، فحتى اليوم لم تُعرف نشأته بدقه، ولم يُبيَّن في وضوح كيفية
تكوينه، ولا العوامل التي ساعدت على نهوضه، ولا الأسباب التي أدت إلى
انحطاطه والقضاء عليه، ولم تُناقَش نظرياته نظريةً نظريةً لتوضيح ما اشتملت
عليه أفكار العلماء الشرقيين الأقدمين، وما جاءوا به من ثروة جديدة أضافت
إلى رصيد الإنسانية قيمةً لا تقدر. ونتيجة هذا كله أخذ بعض الغربيين يُلقون
على مسامعنا بأن الباحث إذا أراد أن يخوض في الكشف عن الأبعاد الحقيقية
لنشأة العلم اليوناني سيجد نماذج ناقصة ومبتورة ومشوَّهة، وكلمات غامضة
الدلالة، وأساليب تدل على معانٍ قد اندثرت مع عادات للقوم لا نعرف عنها
شيئًا. وهذا «جون برنال»
Jhon Bernal يعلن
هذا بصريح العبارة إذ يقول: «إن دراسة أصول العلم تمثل مشكلة مزدوجة؛ فهناك
أولًا تلك الصعوبة التي تعترض كل دراسات الأصول؛ ونعني بها أن الدارس كلما
تعمق في الماضي البعيد، والتقى بالفترات الحرجة، فإنه في حالة العلم يواجه
صعوبة إضافية ناشئة عن أن العلم لا يتبدى في الوهلة الأولى في مظهر معروف.»
٣٢
لذلك يتضح لنا مما سبق أن بعض الغربيين ينكرون فكرة أن الأبعاد
الحقيقية لنشأة العلم اليوناني، قد ظهرت في حضارات الشرق القديم، وإنما كل
ما ظهر في تلك كان مجرد بوادر أولى لا تستحق أن تُعد بداية حقيقية للعلم
الذي لم تتضح معالمه الحقيقية إلا فيما بعدُ عند قدماء الإغريق.
وفي الوقت الذي أخذ فيه هؤلاء الغربيون يؤكدون هذا، كان فريق منهم يصول
ويجول لإثبات أن العلم بمعناه الحقيقي لم تظهر معالمه الحقيقية عند
اليونانيين، وإنما ظهر في عصر النهضة.
وهذا الفريق ينطلق من مقولة أن التنقيب في أطلال الماضي للتوصل إلى
حضارات مزدهرة قبل اليونان أو بعد اليونان ليس سوى مضيعة للوقت؛ وذلك إزاء
الطابع الملح للقضايا والمشكلات العلمية القائمة الآن، وهو موقف عفا عليه
الزمن، وعلينا أن نقطع صلتنا بكل هذا الماضي المشوش والهمجي، واللَّحاق
بالعالم الحديث الذي تندفع تقنياته بسرعة الإلكترونات، والعالم في طريقه
إلى التوحُّد، وعلينا أن نكون في طليعة التقدم. وسيحل العلم في القريب
العاجل كافة المشاكل الكبرى؛ بحيث تصبح تلك المشاغل المحلية والثانوية غير
ذات موضوع، ولا مجال لأن تكون هناك لغات تعبر عن ثقافة ما سوى لغات أوروبا
التي أثبتت أصلًا قدرتها على ذلك، مما يعني أنها قادرة على نقل الفكر
العلمي الحديث وأنها عالمية فعلًا.
٣٣
وأصحاب هذا الرأي كثيرون، ونكتفي بذكر واحد منهم على سبيل المثال لا
الحصر، هو «برتراند راسل»؛ حيث يرى أن العلم التجريبي لم يصبح عنصرًا
أساسيًّا من عناصر الحياة الإنسانية إلا منذ عهد قريب نسبيًّا، إذا قيس
بالفن الذي سار خطوات نحو التقدم قبل العصر الجليدي الأخير — ذلك إن صح أن
يقال عن الفنون إنها تتقدم — إذ تدل الرسوم التي نراها على جدران الكهوف
القديمة، على أن الإنسان القديم ساكن تلك الكهوف، قد عرَف التعبير عن نفسه
تعبيرًا فنيًّا حتى في ذلك العهد البالغ في القدم.
٣٤
وكذلك يتصف العلم التجريبي بالحداثة إذا قيس بالدين؛ لأن الإنسان قد
اعتقد وعبَد منذ فجر التاريخ، فلست تجد بين المدنيات القديمة، مهما رسخت في
القدم، مدنية خلت من الدين عنصرًا أساسيًّا جوهريًّا يصبغ كل آثارها بصبغته.
٣٥
وأما العلم فيمكن القول بأنه لم يبدأ شوطه في حياتنا الإنسانية بصفة
جدية إلا منذ النهضة الأوروبية، وعلى ذلك فعمره لا يزيد على ثلاثة قرون أو
نحو ذلك. وحتى في هذه الفترة القصيرة تراه قد اقتصر في نصفها الأول على
العلماء وحدهم؛ بحيث لم يكد يتغلغل بتأثيره إلى عامة الناس في حياتهم
اليومية، فلم يكن له هذا الأثر العميق في حياة الناس اليومية إلا في المائة
والخمسين عامًا الأخيرة. واستطاع في هذا العمر البالغ في القصر أن يغير من
وجهة الحياة الإنسانية بما لم تغيره القرون منذ عدة آلاف من السنين قبل
ذلك، فمائة وخمسون عامًا من حياة العلم، هي في حياتنا أعمق أثرًا من خمسة
آلاف عام مضت؛ كادت ألا تعرف العلم في ثقافتها.
٣٦
ولم يكن ظهور الروح العلمية الصحيحة أيام النهضة الأوروبية، ثم تطورها
تطورًا سريعًا على مدى ثلاثة قرون، مصادفةً عمياء جاءت عرَضًا في سير
التاريخ؛ بل جاء ذلك نتيجة مباشرة لبَذْر بذور المنهج العلمي على يد
«جاليليو» في القرن السابع عشر الميلادي، وفي هذا يقول «راسل» في كتابه
«النظرة العلمية»: «إذا قلنا إننا نعيش في عصر علمي، كنا نردد قولًا
معروفًا، غير أنه كمعظم الأقوال الشائعة، غير كامل الصحة، فلو قد أُتيحَ
لأسلافنا أن يروا مجتمعنا، لبدا لهم — بلا مِراءٍ — أننا قوم علميون جدًّا،
ولكننا في أغلب الظن سنبدو عكس ذلك تمامًا في نظر أخلافِنا، ولم يصبح العلم
عنصرًا من عناصر الحياة اليومية، إلا منذ وقت قريب أبلغ القرب. أما الفن
فقد كان متقدمًا قبل العصر الجليدي، وآية ذلك الصور البديعة التي وُجدت في
الكهوف، ولا يسعنا أن نتحدث عن قِدم الدين بنفس الثقة، ولكنه في أغلب الظن
مقترن بقدم الفن، ويمكننا أن نَحزُر أن كليهما قد وُجد منذ ثمانين ألف سنة
تقريبًا. أما العلم فلم يبدأ بوصفه قوة هامة إلا بجاليليو؛ أي أنه لم يوجد
إلا منذ ثلاثمائة سنة تقريبًا، وفي النصف الأول من هذه الفترة القصيرة لم
يكن يشغل غير العلماء، فلم يكن يؤثر في أفكار الأشخاص العاديين وعاداتهم،
ولم يصبح العلم عنصرًا هامًّا في تحديد شكل الحياة اليومية للناس عامة إلا
في أثناء المائة والخمسين سنة الأخيرة، وقد أخذت من التغيرات العظمى في هذه
الفترة القصيرة، ما لم يحدث مثله منذ أيام المصريين القدماء، فقد كان لمائة
سنة من العلم تأثير ضخم عجَز عن إحداث مثله خمسة آلاف سنة من ثقافة ما قبل العلم.»
٣٧
ولقد ساير المفكر المغربي الدكتور «محمد عابد الجابري» راسل فيما ذهب
إليه هنا، حيث يذكر «الجابري» أكثر من سببٍ لبداية العلم الحديث مع جاليليو
وبداية القرن السابع عشر الميلادي، من هذه الأسباب ما يلي:
٣٨
- (١)
إذا رجعنا القهقرى — كما فعلنا من العصر الحاضر — نجد أن خيط
التطور مستمرٌّ متواصل — على الرغم من منعطف القرن العشرين — إلى
جاليليو. أما قبل هذا الأخير فشعاب الطريق متقطعة، وسهام التوجيه
تتجه إلى الماضي لا إلى المستقبل.
- (٢)
إن الفكر العلمي في القرون الوسطى الأوروبية كان يخضع للمفاهيم
الأرسطية والتطورات اللاهوتية المسيحية؛ فكان قديمًا في روحه، قديمًا
في إطاره ومناخه، قديمًا في مناهجه وأدواته.
- (٣)
إن العلم الحديث وليد الحضارة الحديثة وعنصرٌ فاعل فيها،
والحضارة الأوروبية الحديثة لم تستكمل مقومات انطلاقتها إلا في القرن
السابع عشر.
- (٤)
إن تاريخ العلوم السائد الآن تاريخ أوروبي النزعة تتجه أنظاره من
«أينشتاين» و«ماكس بلانك» إلى «نيوتن» و«جاليليو»، ومنها إلى
«إقليدس» و«أرسطو». أما العلم العربي فهو لا يحظى، في أحسن الأحوال،
إلا بإشارات عامة عابرة. أما المسار العام فلا يتخذ منه سوى قنطرة مر
عليها التراث الإغريقي إلى العالم الغربي. ومن هنا كان القديم — في
هذا المنظور التاريخي الأوروبي — يعني «العلم الأرسطي». وكان الحديث
يعني «العلم الجاليلي».
وهذه الصورة التي يصور بها راسل نشأة العلم الحديث يمكن لنا أن نبدي
عليها بضع ملاحظات نعتقد أنها على جانب كبير من الأهمية:
- (أ)
إننا لا ننكر أن العلم قد خطا خطوات واسعة وجبارة على يد
«جاليليو»، إلا إن «جاليليو» لم يبدأ من فراغ، بل إنه استوعب جهود
العلماء السابقين عليه، ثم انطلق هو وغيره من العلماء الأوروبيين من
هذه الأعمال وغيرها محققين تطورًا مذهلًا في العلوم، ومقدِّمين
للبشرية منجزات هائلة طوال القرون الثلاثة الماضية.
- (ب)
ليس من اليسير أن نحدد نقطة الصفر التي انطلق منها العلم؛ لأن
العلم شأنه شأن صور الفاعليات الإنسانية الأخرى كائن متطور نامٍ، لم
يُولَد كاملًا راشدًا، بل لا بد أن يكون قد مر بمراحل طويلة من الصقل
والتهذيب؛ لكي يبلغ مرتبته الراهنة من النضج، وبالتالي يجب أن نقتفي
أثره حتى أدنى مستوياته في الحياة
البدائية للإنسانية.
- (جـ)
إن برتراند راسل وأمثاله حين شرعوا في ثورة التحديث في مجال
العلم، لم ينكروا ماضيهم وتراثهم اليوناني ولم يستنكروه، بل إن
التحديث لديهم اعتمد على الولاء الإبداعي للماضي وليس قطع الصلة به.
ألم يقل «راسل» في مطلع كتابه الضخم المسمى «تاريخ الفلسفة الغربية»:
«إن اليونان هم الذين أنشئوا الرياضة وابتدعوا العلم الطبيعي
وابتكروا الفلسفة.»
٣٩
ثالثًا: الأسباب التي جعلت معظم
الغربيين يتشدقون بفكرة المعجزة العلمية
اليونانية
حين دأب المؤرخون الأوروبيون، وخاصة في عصر اشتداد الروح القومية خلال
القرن التاسع عشر، على تمجيد الحضارة اليونانية — حضارة الأجداد — وتحدثوا
طويلًا عن المعجزة اليونانية؛ أي عن ذلك الإنجاز الهائل الذي حققه
اليونانيون فجأة في مجال العلم، دون أية مقدمات تُذكر، ودون أن يكونوا
مدينين لأي شعب سابق. كانت هناك عوامل جعلت بعض الغربيين يتشدَّقون ﺑ «فكرة
المعجزة العلمية اليونانية» وهذه العوامل يمكن أن نستنتجها على النحو
التالي:
- (١)
العامل الجغرافي.
- (٢)
العامل التاريخي.
- (٣)
العامل السياسي.
- (٤)
العامل الشخصي.
(١) أما بالنسبة للعامل الجغرافي
يرى بعض «دعاة المادية التاريخية» أن الشروط الطبيعية على الأرض هي
الأساس الجغرافي للإنتاج؛ ولهذا فهي تؤثر في تطور قوى الإنتاج وفي توزعها
وفي تقسيم العمل، ومن خلال الإنتاج يؤثر الوسط الجغرافي على وتيرات
التطور التاريخي للشعوب.
٤٠ وقد حاول بعض الغربيين المناصرين لفكرة المعجزة اليونانية أن
يتخذوا من هذه المقولة سندًا يبررون به فكرة المعتقد الزائف القائل بأن
عظمة اليونانيين في مجال الفلسفة والعلم ترجع إلى هذا العامل الجغرافي.
ويمكن توضيح ذلك بشيء من التفصيل فيما يلي:
لقد كانت أرض اليونان — كما يؤكد علماء الجغرافيا — ذات طبيعة وعرة
في عمومها، فالجبال تشغل الجزء الأكبر من سطحها «أي ما يعادل أربعة أخماس
هذا السطح» على هيئة سلاسل جبلية تخترقها في كل الاتجاهات تقريبًا بشكل
يجعلها تنقسم انقسامًا طبيعيًّا إلى مناطق صغيرة تكاد تكون منعزلة عن
بعضها البعض. هذا عن المناطق الجبلية التي تشكِّل الجزء الأكبر من سطح
البلاد اليونانية، ولكن الجزء السهلي الصغير الباقي من السطح لم يكن
خيرًا كله، فهو لم يكن يشكل امتدادًا متصلًا بين الأرض السهلة الخصبة،
وإنما كان من جهة يشكل مناطق متفرقة من السهول الصغيرة التي كان بعضها
تصل مساحته إلى عدد قليل من الكيلومترات المربعة، ومن جهة أخرى فقد كانت
تربة هذه السهول من النوع الرقيق الفقير الذي ليس له من العمق أو من
الخصوبة ما نعرفه، على سبيل المثال، في مصر وفي سهول وادي الرافدين. ومن
ثَم فإن سهول اليونان البسيطة لم تكن تصلح لإنتاج كل أنواع المحاصيل التي
عرَفتها المناطق السهلية الخصبة الممتدة في مصر ووادي الرافدين، وإنما
شاعت في بلاد اليونان (في المناطق السهلية) محاصيل الزيتون والكروم، وهي
محاصيل لا تحتاج إلى خصوبة كبيرة في المناطق التي تُزرع بها. وقد كان من
نتيجة ذلك كله فقر ظاهر اتصفت به تربة بلاد اليونان، مما أدى إلى ضعف
محصولها من الحبوب.
٤١
ويؤكد بعض الغربيين أن هذه الطبيعة الجغرافية لبلاد اليونان، هي التي
أنجبت أفضل الشعوب وأكثرها تميزًا، فنجد مثلًا «س. م. بورا»
٤٢ يقول في كتابه «التجرِبة اليونانية»: «إن أرضًا كهذه (يقصد
أرض بلاد اليونان) حالها تتطلب من ساكنيها أن يكونوا أُولي بأسٍ، وعلى
قدرٍ كبير من النشاط والإقدام … عندما كان اليونانيون يُعرِّضون أطفالهم
الزاهدين فيهم حين ميلادهم للعراء، كانوا يكشفون — وبشكل جدي — عن كيفية
تفسيرهم لمقتضيات ظروف حياتهم الشاقة، وقد اقتفوا بذلك أثر الطبيعة التي
تباشر انتقاءها وهيمنتها، بحيث لا تتيح البقاء إلا لمن هو أقوى.»
ويستطرد «بورا» فيقول: «إن القدرة الطبيعية لليونانيين تتجلى بصورة
كافية في تماثيل رجالهم الكثيرة، بما لها من هياكل وأطراف صُلبة تفيض
رجولة، معززة بخصور نحيلة وأيادٍ قادرة. إن قومًا يعيشون مثل هذه الظروف
يحتاجون إلى صفات غير عادية يتميز بها عمالهم في الحقل، إذ إن كثيرًا من
كدحهم يتركز في سفوح الجبال في يسر وحمل أثقال صعودًا وهبوطًا عبر
التلال، وأن يكونوا على استعداد لنقل وتشكيل الأحجار، وقطع المسافات
الطويلة سيرًا على الأقدام، وأن يقودوا المحاريث عبر تربة صخرية عنيدة،
ويروِّضوا الخيل والبغال، وأن يردوا عنهم هجمات الحيوانات البرية، وأن
يتحملوا كذلك قيظ الشمس وتقلبات العواصف. إن هذا الإعداد الطبيعي لا بد
أن يعززه اجتهاد لا يَنِي ولا يَكِل، وتحميه بصيرة حذرة واعية، ومهارة في
مجال الحرف الأساسية، وكل المزايا العريقة التي يتسم بها فلاح يعمل فوق
أرض عسيرة شحيحة. وإذا ما كان العمل في الحقول يقتضي احتمالًا أكبر وقوة
جسدية أكبر، فإن تسيير السفن يستوجب هو الآخر سرعة النظر واليدِ، ورشاقةَ
الحركة وخفتَها، ويقظةً لا يَقَرُّ لها قرار، وإسراعًا في بث الأمور
وحسمها. لقد شكَّلت الظروف الجغرافية الشخصية اليونانية، وذلك بحملها على
استغلال أقصى طاقاتها الطبيعية في مجال صراعها العنيف مع الأرض وعناصر الطبيعة.
٤٣
ولم يكتف «بورا» بذلك، بل يجمح به الخيال فيقول: «إن المسافر القادم
إلى اليونان من جهة الغرب، أومن جهة الشمال، قد يشعر — لأول وهلة — بشيء
طفيف من خيبة الأمل عند رؤيته لطبيعتها العارية وانعدام الألوان الثرية،
إلا إنه سرعان ما يكتشف أنه بمواجهة جمالٍ آسرٍ لا ينحني، جاهزٍ ميسورٍ
أمام تقييمه، وإنما يبسط سلطانه عليه رويدًا رويدًا، وبشكل يَعِز على
النسيان. إن نوعية الضوء في بلاد اليونان لأمر يفوق في أهميته كل
الأشياء، إذ إنه يختلف عما يكون من ضوء للبلاد الأوروبية الأخرى، وليس
ذلك في أيام الصيف الصافية، وإنما هو كذلك، في أيام الشتاء، أكثر إشراقًا
وصفاءً وقوةً، إنه يشحذ قمم الجبال الرابضة في مواجهة السماء، وبينما
ترتفع هذه الجبال عن البحر والوديان، يُضفي الضوء شكلًا هندسيًّا دائم
التنوع على المنعطفات والشعاب، حين تتحرك الظلال فوق الجبال وفيما
وراءها. وعند الفجر يتحول البحر إلى لون الأُوبال (حجر كريم يتميز لونه
بلون اللبن المخلوط)، وعند الظهيرة يصير أزرق بلون الياقوت، ثم يتدرج
ذهبيًّا فِضيًّا، ثم يتحول إلى لون الرَّصاص قُبيل هبوط الليل، والضوء
يتكسر خيوطًا حول الخضرة الداكنة لأشجار الزيتون في مقابلة للتربة
الطينية الحمراء، وهو يشيع تنويعات لا تُحصى من اللون والشكل تتراءى على
سطح الصخر الأملس خالي الشقوق، وفي الأبنية الحجرية المتشققة. إن الجمال
اليوناني يعتمد أساسًا على الضوء، مما كان له سلطانه القوي على الرؤية
للعالم، ويَحُول ما للضوء من قوةٍ وحِدَّة دون الانتشار والذوبان محققًا
مؤثراتٍ شفافة، وهي التي تضفي سحرًا رقيقًا على الطبيعة الفرنسية أو
الإيطالية، ويبتعث الضوء رؤيا تتراءى للنحات أكثر مما تتراءى للمصور؛
رؤيا ترتكز على التلاحم المعقد أو تباين الألوان يتخلل بعضها بعضًا، بقدر
ما يعتمد على جلاء تفاصيل الطبيعة والإحساس بالكتلة والأجسام التي تفرض
نفسها بكل قوة على مساحة الطبيعية، بل والإحساس بالقوة والصلابة الكامنة
خلف منحنيات الطبيعة ونتوءاتها. إن مثل هذا الضوء ومثل هذه الطبيعة
يفرضان على العين تدريبًا خفيًّا منضبطًا، ويجعلان العين ترى الأشياء في
مجال المحيط والتضاريس أكثر مما تراها في إطار المنظور الغامض أو في إطار بناء.»
٤٤
وبعد هذه المبالغة المفرطة في تقدير العامل الجغرافي ينتهي «بورا»
إلى أن العامل الجغرافي كان سببًا هامًّا في تشكيل العلم الإغريقي، وفي
هذا يقول: «وقد لَعب الضوء في اليونان دورًا في تشكيل الفكر الإغريقي،
ومثلما غذَّت السماء الغائمة في أوروبا الشمالية نتاجًا ضخمًا مهوشًا من
أساطير الشمال أو ميتافيزيقيا الألمان؛ كذلك فعل الضوء اليوناني، إذ إنه
أثَّر — بكل تأكيد — على المفهوم القاطع للعلم والفلسفة اليونانية، فإذا
كان اليونانيون أول فلاسفة العالم الحقيقيين، من حيث تكوينهم لمفردات
مباشرة ثابتة للأفكار المجردة؛ فذلك مرجعه — إلى حد كبير — إلى أن
عقولهم، وكذلك عيونهم، كانت تروم بشكل طبيعي على كل ما هو جَليٌّ رائق
محدد المعالم، وبفضل قوة الضوء ظلت حواسهم متوثبة.»
٤٥
تلك هي بعض الأمثلة التي برر بها بعض الغربيين فكرة المعجزة العلمية
اليونانية عن طريق العامل الجغرافي، ونحن لا نوافق على هذا الادعاء؛ حيث
إنه من الصعب أن نعزو الصفات العقلية الخاصة باليونانيين وحبهم للاستطلاع
والبحث إلى عامل البيئة الجغرافية.
إن تأثير البيئة الجغرافية ليس سببًا كافيًا في تشكيل العقلية
اليونانية، والدليل على ذلك أن التغييرات في المجتمع تتم بصورة أسرع من
التغييرات في البيئة الجغرافية، فمثلًا عرَفت أوروبا خلال ثلاثة آلاف سنة
أربعة أو خمسة نظم اجتماعية مختلفة: نظام الكومون البدائي، ونظام الرِّق،
والنظام الإقطاعي، وأخيرًا النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي، ولم
تتغير ظروف أوروبا الجغرافية تقريبًا خلال هذه الفترة من الزمن
٤٦
إن الوسط الجغرافي لن يلعب — ولا يمكن أن يلعب — الدور المحدد في
تطوير المجتمع وثقافته، وبالتالي يجب على دُعاة «المعجزة العلمية
اليونانية» أن يفهموا دور العامل الجغرافي ضمن حدود محددة، ومن خلال
مرحلة تاريخية، وبالاشتراك مع عوامل أخرى، وأن هذه العوامل جميعًا يجب أن
تؤخذ ككل وليست مجزأة.
(٢) العامل التاريخي
أعتقد أن هناك عاملًا تاريخيًّا جعل بعض الغربيين يحبذون فكرة
المعجزة العلمية اليونانية، ويمكن توضيح هذا العامل من خلال الرجوع إلى
رأي أرسطو في مسألة نشأة الفلسفة، حيث يقول في كتابه «ما بعد الطبيعة»
إن: «طاليس هو مؤسس ذلك الضرب من التفلسف»
٤٧ — يقصد الفلسفة الطبيعية — وهكذا جعل الفلسفة تبدأ بالمدرسة
المطلية؛ طاليس ومدرسته في القرن السادس قبل الميلاد.
ولقد انعقدت السيادة لهذا الرأي طوال العصور الوسطى الإسلامية
والمسيحية، واستمر حتى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن
العشرين.
ففي العصور الوسطى الإسلامية يعترف مؤرخو الإسلام بامتياز اليونان
على غيرهم بالفلسفة. فنجد «الشهرستاني» يقول: «فنحن نذكر مذاهب الحكماء
من الروم واليونانيين على الترتيب الذي نُقِلَ من كتبهم، ونعقب على ذلك
بذكر سائر الحكماء — إن شاء الله تعالى، فإن الأصل في الفلسفة والمبدأ في
الحكمة للروم، وغيرُهم كالعيال عليهم.»
٤٨
ويؤكد «البيروني» ما ذهب إليه «الشهرستاني»، وذلك بعد أن قدم مناقشة
طويلة تتلخص في أن الهنود القدامى فيهم الخاص والعام، واليونانيون مثلهم
في هذا، ولكن الأخيرين امتازوا عن الهنود بالفلاسفة.»
٤٩ كما يؤكد «الشهرزوري» أن أول من ظهر منه الفلسفة وعُرف
بالحكمة — على اختلاف بينهم في ذلك — طاليس المَلَطي من حكماء مَلَطية.
٥٠
وإذا كان بعض المؤرخين المسلمين يؤكدون تمايز اليونان بالفلسفة، إلا
أنهم يختلفون حول أول من بدأ الفلسفة، أهو «طاليس» أم «فيثاغورس»؟
فنجد «ابن النديم» يقول في كتابه «الفهرست»: «قال لي أبو الخير بن
الخمار بحضرة أبي القاسم عيسى بن يحيى، وقد سأله عن أول من تكلم في
الفلسفة فقال: زعم فورفوريوس في كتابه «التاريخ» — وهو سرياني — أن أول
الفلاسفة السبعة «ثاليس بن ماليس الأمليس» (يعني طاليس الملَطي)، وقد نقل
من هذا الكتاب مقالتين إلى العربية، فقال أبو القاسم: كذا هو، وما أنكره.
وقال آخرون إن أول من تكلم في الفلسفة بوثاغورس (يعني فيثاغورس).»
٥١
ويساير «المقدسي» ابن النديم، فيذكر نقلًا عن «فلوطرخس» في كتابه «ما
يرضاه الفلاسفة من الآراء الطبيعية» قوله: «وحكى عن فيثاغورس من أهل
شاميا، وهو أول من سمى الفلسفة بهذا الاسم، وثاليس أول من ابتدأ الفلسفة
٥٢ … ويقول الشهرستاني عنه: «وهو أول من تفلسف في مَلَطية.»
٥٣ ومن الغريب في هذه الكتب أنها تعزو للفلاسفة الطبيعيين آراء
ناضجة وموحدة في اللاهوت، وأقوالًا في صفات الله وتنزيه.»
٥٤
وهكذا يتضح لنا أن معظم مؤرخي الإسلام يسايرون أرسطو في أن الفلسفة
نشأت في بلاد اليونان، وإن اختلفوا في كون طاليس أو فيثاغورس صاحب الفضل
في نشأة الفلسفة.
وإذا انتقلنا إلى الفكر المسيحي نجد أن رجال هذا الفكر قد عملوا بكل
ما أوتوا من قوة نحو تأكيد أن العلم والفلسفة يونانيَّا المنشأ والمسار؛
حيث بذل معظم الفلاسفة المسيحيين (وخاصة المدرسيين) جهودًا عظيمة في تفهم
التراث اليوناني والإشادة به والتعصب له، مع الأخذ في التعليق عليه وشرحه
واختصاره وتهذيبه، وكان من نتيجة ذلك أن أخذوا يوفقون بين هذا التراث
اليوناني واللاهوت المسيحي.
وهكذا اعتد الفلاسفة المسيحيون بالثقافة اليونانية اعتدادًا كبيرًا
وبنَوا عليها معظم أبحاثهم العقلية، ولم يكتفوا بذلك، بل تعبدوا بأقوال
الفلاسفة اليونان، وساروا وراءها سيرًا أعمى، وخضعوا لها خضوعًا تامًّا،
فأصبحت الثقافة اليونانية في نظرتهم فوق النقد، وبمنأًى عن الاعتراض،
وكان لأرسطو — بوجه خاص — سلطان عظيم في الغرب منذ أقبلت الكنيسة على
آرائه واعتنقتها، فكانت تَعُد كل مخالفٍ لها عاصيًا أو كافرًا، وفي هذا
يقول الدكتور «فواد زكريا»: «لقد ساد الاعتقاد (في العصور الوسطى
المسيحية) بأن العلم بلغ قمته العليا عند أرسطو، وبأن ما قاله هو الكلمة
الأخيرة في أي ميدان من ميادين العلم، وحدث تحالف وثيق بين معتقدات
الكنيسة المسيحية وتعاليم أرسطو الفلسفية، بالرغم من أن هذه التعاليم
الأخيرة قد ظهرت في إطار وثني، فكان من نتيجة هذا التحالف أن اكتسبت آراء
أرسطو ما يشبه القداسة الدينية، وأصبح الاعتراض عليها نوعًا من التجديف
والضلال، ولم يكن العلم في صميمه إلا ترديدًا لهذه الآراء، أما النقد
والتجريح فكان يعرِّض صاحبه لأشد الأخطار.»
٥٥
وهكذا يتضح لنا أن العقل الأوروبي في العصور الوسطى يصر على فكرة
«المعجزة اليونانية».
وفي عصر النهضة زاد عدد القائلين بالمعجزة اليونانية، خاصة بعد حركة
إحياء العلوم والآداب اليونانية، الأمر الذي أدى إلى بعث المدارس
اليونانية والتعصب لها، وقد أخذت الدعوة إلى المعجزة اليونانية تزداد قوة
وصولجانًا بعد ذلك، وخاصة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وخاصة
في فترة اشتداد الروح القومية، إذ أخذ كثير من المؤرخين خلال تلك الفترة
في تمجيد الحضارة اليونانية على أنها حضارة الأجداد، حيث — كما يقول
الدكتور «فؤاد زكريا» — تحدثوا عن ذلك الإنجاز الهائل الذي حققه
اليونانيون فجأة ودون أن يكونوا مدينين لأي حضارة من حضارات الشرق القديم
السابقة عليهم.
٥٦
إذن فكرة المعجزة ليست وليدة القرن التاسع عشر، وإنما هي قديمة قِدم
التاريخ اليوناني (وبخاصة منذ أرسطو)، ولكن ليس معنى هذا أن قدم الرأي
يجب أن يُعَد دليلًا على صحته، فقد عاشت البشرية ألوف السنين على أخطاء
لم تكن تجرؤ على مناقشتها؛ لأنها ترجع إلى عهود الأجداد الأوائل، ومع ذلك
تبين لها خطؤها عندما ظهر مفكر قادر على تحدي سلطة القديم، فمثلًا منذ
أقدم العصور والناس تعتقد أن الأرض ثابتة والكواكب والنجوم تدور حولها،
أي إن الأرض مركز الكون، وكانت شهادة الحواس — التي ترى الأجرام السماوية
تغير موقعها من الأرض باستمرار — دليلًا حاسمًا على أن هذا الرأي القديم
يعبر عن حقيقة ثابتة، ومع ذلك فقد أتى «كوبرنيقوس» في القرن الخامس عشر،
ليتحدى هذه السلطة الراسخة منذ القدم وليقول بالفرض العكسي، ولم يمض جيل
أو اثنان، وكان هذا الفرض مؤيدًا بشواهد علمية قاطعة تثبت صحته، وتثبت
أيضًا أن قِدم الرأي ليس دليلًا على صوابه. ونفس الشيء يقال على نظرية
العناصر الأربعة (الماء – الهواء – النار – التراب) التي قال بها القدماء
وأيدتها العصور الوسطى والفكر الإسلامي، وظلت تُعَد من حقائق العلم
الثابتة، حتى أتى «لا فوازييه» في القرن الثامن عشر، فأثبت بطلانها،
وتبين للجميع بالدليل العلمي القاطع أن الهواء ليس عنصرًا، بل مجموعة من
العناصر، وكذلك الحال في الماء تبين أنه مؤلف من عنصرين … إلخ.
٥٧
(٣) العامل السياسي
يرى بعض الغربيين الذين تمسكوا بفكرة «المعجزة العلمية اليونانية» أن
النظام الديمقراطي الذي أوجدته دولة المدينة في أثينا كان عاملًا هامًّا
في تقدم اليونان في مجالات الفلسفة والعلم، فمثلًا يقول «دي بورج»: «لقد
أوجدت «دولة المدينة» قاعدة المدنية
الهيلينية والمثل الأعلى لها في نفس الوقت، وهذا النظام الديمقراطي الذي
أوجدته دولة المدينة، قد خلق جوًّا من حرية الفكر أتاح للفلاسفة
اليونانيين أن يبدعوا ويتقدموا في كافة العلوم والثقافة.»
٥٨ ويقول أيضًا «إيفار ليسنر»: «لقد كانت للإغريق حاسة لا تخطئ
في تمييز الهام من الأمور، كما كانت الحرية في نظرهم أسمى غاية، وكان كل
ما اضطلعوا به وكابدوه من الآلام إنما حدث في جو من الحرية، وتلك من
الظواهر التي ميزتهم عما عداهم من سائر الشعوب المعاصرة، وكانت الحرية
الشخصية بالنسبة لهم النعمة الكبرى على الأرض.»
٥٩
ولقد بالغ دعاة المعجزة العلمية اليونانية في تقدير هذه الحرية، فنجد
«بيوري» يقول في كتابه «حرية الفكر»: «لو سُئلنا أن نعدد أفضال الإغريق
على الحضارة «العالمية» لقفزت آثارهم في الأدب والفنون الجميلة قبل كل
شيء، ولكن النظرة العميقة الفاحصة، تبين لنا أن فضلهم السابغ علينا هو
ابتداعهم حرية الفكر وحرية المناقشة، لقد كانت طلاقة الروح هي طابع
عبقريتهم في الآداب والفنون، تلك الآداب التي لم تكن لتبلغ مداها الرفيع
لو أن أصحابها صُدُّوا عن النقد الحر، إننا لو تجاوزنا عما أنجزوه في
أكثر نواحي النشاط البشري، ولم يبق إلا إصرارهم على اتخاذ الحرية مبدأ
وشعارًا، فإن هذا وحده يُعَد سببًا كافيًا لأن يسمو بهم إلى أرفع مراتب
المصلحين من بني الإنسان. إننا لا نعلم منذ فجر التاريخ اليوناني ما يوضح
لنا كيف توصل الإغريق إلى مرتبة النظر إلى الحياة نظرةً حرةً ناقدة، وكيف
صارت لديهم الشجاعة والإرادة التي تمكَّنوا بها من رفع كل قيد يحول دون
المعرفة والاستطلاع، فليس أمامنا إلا أن نقبل طابع تفكيرهم هذا على أنه
حقيقة واقعة كاملة. ولكننا لا بد أن نذكر أن الأمة الإغريقية كانت تشمل
مجموعة كبيرة من الشعوب المتباينة التي كانت تختلف اختلافًا شاسعًا في
العادات والتقاليد والمزاج رغم اتحادهم في أكثر المميزات الهامة.»
٦٠
ويستطرد «بيوري» فيقول: «لقد كانت
شعوب الإغريق يتميز بعضهم عن بعض؛ فمنهم المحافظ، ومنهم المجدد، ومنهم
المتأخر، ومنهم المتحضر، ومنهم الخرافي، ومنهم المفكر. والإغريق الذين
نعنيهم ليسوا شعوب الإغريق كلهم، ولكنهم هؤلاء الذين يُحسب حسابهم في
تاريخ الحضارة «العالمية»، هم «الأيونيون» وخاصة الأثينيين. لقد كانت أرض
أيونيا في آسيا الصغرى معهد التفكير الحر، ولا ريب في أن تاريخ العلوم
والفلسفة الغربيين يبدأ من «أيونيا»، فهناك، في القرنين السادس والخامس
قبل الميلاد، حاول الفلاسفة الأوائل أن ينفذوا بعقولهم إلى أصل هذا العلم
وتكوينه، ولا شك في أنهم لم يستطيعوا التخلص تخلصًا تامًّا من الآراء
القديمة، ولكنهم هم الذين بدءوا مهمة تحطيم الآراء السائدة والعقائد الدينية.»
٦١
ثم يذكر «بيوري» مظهرًا يدل على التحرر، وهو نقد الفلاسفة اليونانيين
للعقائد الموروثة، فيقول: «فهذا مثلًا «إكسينوفان» يهاجم العقائد
الموروثة دون أن يهاجمه أحد، وهذا يدل على أن اليونانيين لم يتحولوا في
يوم ما قط إلى طبقة قادرة على إخراس الأصوات التي تعارض العقائد الدينية.»
٦٢
وينتهي «بيوري» إلى أن «هذه الحرية التي نالتها العقلية الإغريقية في
كافة فروع المعرفة الإنسانية، كانت نتيجة دولة الديمقراطية التي أطلقت
حرية المناقشة إطلاقًا.»
٦٣
ولا شك في أن هذه المبالغة في تقدير الحرية التي تميز بها اليونانيون
في ظل النظام الديمقراطي الذي أوجدته دولة المدينة، تنطوي على ادعاء لا
أساس له من الحقيقة، لا سيما وأن التاريخ يؤكد لنا، كما يذكر «جورج
جيمس»، أن فلاسفة اليونان قديمًا كانوا مواطنين غير مرغوب فيهم، وأنهم
طوال فترة بحوثهم ضحايا اضطهاد شرس على أيدي السلطة الحاكمة في أثينا.
فها هو «أناكساجورس» أودعته السلطات السجن ثم نفته، وأُعدِم «سقراط»،
وبِيعَ «أفلاطون» في سوق النخاسة، وقُدِّم «أرسطو» للمحاكمة ثم نُفي. أما
أسبقهم جميعًا وهو «فيثاغورس» فقد طردته السلطات وأبعدته من كروتون إلى إيطاليا.
٦٤
ومن ناحية أخرى فقد شهدت حقبة الفلسفة اليونانية (٦٤٠–٣٢٢ق.م.)
حروبًا داخلية وخارجية، ومن ثم لم تكن ملائمة لظهور فلاسفة. والتاريخ خير
شاهد على هذا؛ حيث يؤكد، كما يقول «جورج جيمس»، أن اليونانيين منذ أيام
طاليس وحتى أيام أرسطو، كانوا، من ناحية، ضحايا حالة من التفكك الداخلي،
وعاشوا، من ناحية أخرى، في توجُّس دائم خوفًا من غزو قد يأتيهم على أيدي
الفرس العدو المشترك للدول-المدن. ونتيجة لذلك فإنهم حين تتوقف الحروب
المشتعلة فيما بينهم يجدون أنفسهم غارقين في حروب ضد الفرس الذين هيمنوا
وأصبحوا سادة عليهم. وكان الإقليم الممتد من آسيا الوسطى حتى وادي
الإندوس قد اتحد ابتداءً من القرن السادس قبل الميلاد تحت سلطة فارس،
ولقد كان التوسع الفارسي أشبه بكابوس جاثم على صدر اليونانيين الذين
كانوا يفزعون من الأسطول الفارسي الذي لا يقهر، ونظموا أنفسهم في جماعات
واتحاداتٍ بُغية مقاومة عدوهم.
٦٥ ويستطرد «جورج جيمس» فيقول: «وما إن تم لهم ذلك على يد
«فيليب المقدوني» ومن بعده ابنه «الإسكندر الأكبر» حتى أخذت الفلسفة
والعلوم تضمحل بسبب موت أرسطو الذي أعقب تدهور الفلسفة والعلوم في بلاد اليونان.»
٦٦
إذن فمن أين تلك الحرية التي يزعمها دعاة «المعجزة العلمية
اليونانية»؟ إنها محض هراء وافتراء!
(٤) العامل الشخصي
يزعم بعض المفكرين الغربيين أن الشعب اليوناني يمتاز بأمور شخصية
معينة هي من قبيل التفوق القائم على الجنس، وأصحاب هذا الرأي هم دعاة
النزعة العرقية السافرة التي شاعت في أواخر القرن الثامن عشر وبداية
القرن التاسع عشر الميلاديين، والتي تزعم أو تقضي بتقسيم الجنس البشري
إلى نوعين من الأجناس: الجنس السامي والجنس الآري. أما الجنس السامي
فيشمل كل الشعوب الشرقية، وبخاصة الفينيقيون واليهود وشعوب القارة
السوداء «أفريقيا». في حين أن الجنس الآري يشمل كل شعوب القارة
الأوروبية. وهذا التقسيم ينطوي على أن السلالات أو الأجناس ليست كلها
متكافئة فيزيقيًّا وعقليًّا وتاريخيًّا، وأن من الخطأ امتزج الأجناس،
٦٧ وأن المدنية المبدعة الخلاقة بحاجة إلى جنس نقي، والحفاظ على
نقاء الجنس هو دعامة الحفاظ على الحضارة الأوروبية؛ ولهذا في رأيهم ليس
مقبولًا القول إن الإغريق نتاج مزج بين ما هو أوروبي، وما هو سامي
وأفريقي، فاليونان أمة أوروبية آرية خالصة، والجنس الآري هو الجنس الأرقى.
٦٨
ويُعتبر الرائد الأكبر لهذه النظرية العنصرية، هو «آرثر دي جوبينو»
١٨١٦–١٨٨٢م، وقد وُلِد هذا الرجل في أسرة فرنسية، وعمل في السلك
الدبلوماسي، ووضع العديد من المؤلفات، أهمها كتاب بعنوان «بحث في عدم
التساوي بين الأجناس البشرية» صدر سنة ١٨٥٣م، وخلاصة نظريته أن الاختلاط
بين الأجناس الراقية والأجناس السفلى، هو السبب الرئيسي لتدهور حضارات
أوروبا السابقة. وقد انتشرت المدرسة العنصرية في معظم الدول الغربية،
وكان أهم تلاميذ «جوبينو» هو «هيوستون ستيوارت تشامبرلين»، وهو بريطاني
عاش معظم حياته في ألمانيا، وكتب باللغة الألمانية أهم كتبه وهو «أسس
القرن التاسع عشر». وكان فكر «جوبينو» و«تشامبرلين» الأرضية الأساسية
التي قامت عليها النظرية العنصرية للفكر النازي في ألمانيا. وقد اعترف
«هتلر» بفضل الرجلين في إلهامه الأسس العلمية التي بُنيت عليها السياسة
النازية، والتي ترى الألمان فوق جميع البشر.
٦٩
وبطبيعة الحال فإن من يحمل هذه النظرية، لا بد له أن ينظر إلى سائر
البشر من ذوي السحن أو البشَرة الداكنة أو المخلَّطة أو السوداء على أنهم
ينتمون إلى سُلَّم أدنى منه ذكاء بكثير، فهم يكادون — في نظره — أن
يكونوا أمثلة حية على صدق نظرية «داروين» في نشوء الأنواع، ومن ثَم
فالتعامل مع هؤلاء من ذلك السلم يتراوح بين الاستخفاف والتجنب
والاستعلاء، وهو في حالة التوتر الاجتماعي يتحول إلى عدوان مباشر يوجَّه
إليهم بهدف تطفيشهم من ألمانيا.
٧٠
ويذكر العالم البريطاني «مارتن برنال» في كتابه «أثينا السوداء» أن
هذه النظرية العنصرية، أو كما يسميها «النموذج الآري»
The
Aryan Model، قد استشرَى واستفحل في النصف الثاني من
القرن التاسع عشر الميلادي، وهو يقسمه إلى قسمين:
- القسم الأول: النموذج الآري العام أو الرحب: وهو ينكر التراث القديم الذي
يعترف بأثر المصريين على الإغريق، وإن قَبِل القول ببعض الأثر
للفينيقيين، وقيل آنذاك بوجود عِرقين رئيسيين أو سَيِّدَين
Superior Races هما الآري
والسامي، وأنهما في تفاعل مستمر، وأعطى الساميون (وهم هنا
الفينيقيون) للعالم الدين والشعر، وأعطى الآريون للعالم الشجاعة
والديمقراطية والفلسفة والعلم … إلخ.
- القسم الثاني: النموذج الآري المتطرف: هو ينكر أي تأثير للساميين وللمصريين
على السواء، ويقضي بأن هناك جنسًا متفوقًا Master
Race، وقد أقامت أوروبا رفضها لفكرة الأثر
الشرقي؛ وبخاصة الحضارة المصرية في الفكر اليوناني، وزعمها
بنموذجٍ واحدٍ أسمى؛ وهو النموذج الآري، على أساس من عقيدة
إثنية؛ أي عرقية، وتراتب هرمي بلا قياس؛ حيث يحتل الجنس الآري
موقع القمة والصدارة والرفعة والأصالة الحضارية.٧١
ثم يؤكد «برنال» أن النموذج الآري قد كان السبب في تلفيق تلك الصورة
المتداولة عن «المعجزة الإغريقية»؛ وفحواها أن الإغريق هم صانعو الحضارة
الإنسانية، ووصلوا إلى ما لم يصل إليه شعب من الشعوب القديمة،
٧٢ ومن ثم فليس لحضارتهم أصول شرقية قط. وبذلك أصبح النموذج
الآري المتطرف هو الذي يؤمن بتفوق سلالة بشرية على أخرى بيولوجيًّا
وذهنيًّا وفكريًّا. ومن ثم ينبغي الحفاظ على سلالة الإغريق أصل الحضارة
الأوروبية — خالية من شوائب أية سلالة مصرية أو غير مصرية.
٧٣
ولا شك في أن الزعم بالمعجزة اليونانية المتمثلة في أن الشعب
اليوناني يمتاز بأمور شخصية هي من قبيل تفوق الجنس الآري على كافة أبناء
البشرية هو زعم خاطئ؛ فلقد أثبت العلماء أن قضية وجود أجناس متمايزة
ومستقلة هي مجرد خرافة. فالإنسان في كل مكان على ظهر كوكبنا هو هذا
الإنسان، ولا يحق لجماعة من البشر أن تستمتع بمركز اجتماعي أو علمي
متميز، بسبب لون بشرتها، عن بقية أفراد الجماعات الأخرى في ذات الكيان،
إلا إذا كانت هذه الجماعة تعي أن سياسة التمييز العنصري هي الوسيلة التي
تدفع بها الأقليات إلى الحضيض ومهاوي الفقر، وتحاصرهم في ركن صغير، من
دون قوة أو سلطة، وتحبسهم في قفص.
ونحمد الله أن دعوى التفرقة بين جنس آري وجنس سامي، لم يعد لها مكان
في القرن العشرين بعد النفوذ الواسع الذي كان لها في القرن التاسع عشر،
فها هو «بول ماسون أورسيل» يقول: «لقد ساد القرنَ التاسع عشر اعتقادٌ
بوجود عناصر وأجناس مختلفة ينقسم إليها الناس، ولكن العنصرية مهما اشتدت
الآن، أصبحت مقصورة على مجرد وضع سياسي … ولا نريد معارضة ما جاء به علم
الأجناس البشرية من الأسانيد المدعمة فيما يتعلق بتعيين الأشكال
المتميزة، إلا إننا نعلم علم اليقين أنه لا وجود للعناصر النقية إلا في
بعض حالات التحديد … وعلى ذلك فالأمر خارج عن طور التجارِب.»
٧٤
ومعنى هذا أن الفروق بين الأجناس لا وجود لها — فيما يقول «أورسيل» —
إلا في الميدان اللغوي بحيث تستند العنصرية إلى مقياس لغوي لا مقياس عقلي
ونفسي وجنسي.
وقد شهد النصف الثاني من القرن العشرين تقدمًا مذهلًا في العلوم
والتقنيات، ومنها علوم النفس والاجتماع والأنثروبولوجيا والهندسة
الوراثية والعلوم اللغوية، كما شهد تطورًا في المناهج وطرائق البحث
العلمي والأجهزة والمختبرات، مما أفرز اكتشافات فاقت ما كان يمكن توقعه
أو التنبؤ به فيما قبل. هذا فضلًا عما واكب هذا العصر من ثورة هائلة في
الاتصالات والمعلومات أحالت العالم إلى قرية صغيرة لا يخفى على سكان
أولها ما يجري لدى سكان آخرها بفضل الوسائط الخارقة لنقل المعلومات على
اختلاف ميادينها وكيفياتها وكَمِّها وتنوعاتها.
٧٥
فلو أن دعوى التمييز العنصري هذه قُدِّر لها أن تتضمن أي بُعد أو
محتوًى أو سندٍ علمي حقيقي؛ لسارع علماء الغرب وأمريكا إلى توظيف بعض هذه
المنجزات العلمية العنصرية المتنوعة لاكتشاف هذا البعد أو المحتوى أو
السند وتقييمه. والتنظير العلمي أثبت أحقيته ومصداقيته؛ خصوصًا وأن
أوروبا وأمريكا اليوم يتبنيان ما يُسمى بالنظام العالمي الجديد،
ويتنازعان مكان الصدارة فيه، وهو ذلك النظام الذي يستهدف إحكام السيطرة
والهيمنة الغربية على شعوب الشرق والجنوب من أقصاها إلى أدناها، بغض
النظر عن الصور المستحدثة لهذه السيطرة؛ بحيث تلائم روح العصر ومقتضياته،
ولا شكَّ في أن إضفاء الطابع العلمي على دعوى كهذه يخدم بدرجات كبيرة هذا
النظام وتوجُّهاته وأهدافه، من حيث تسهم في استكانة الشرق علميًّا
ونفسيًّا لما يريد له أن يكون، فتلك طبيعته المتدنية كما أثبتها العلم،
وهذا قدره ومصيره.
٧٦
على أننا حتى اليوم، لم نسمع أو نقرأ، ولم نعلم بطريق مباشر أو غير
مباشر من وسائل الاتصال والنشر والإعلام العلمي والثقافي، ما يشير إلى
ظهور أسانيد علمية أو تبريرات لدعوى التمييز العنصري هذه، بحيث تحيل
هرطقات القرن التاسع عشر فيها إلى حقائق علمية.
٧٧
رابعًا: نكوص المعجزة العلمية اليونانية
منذ الأربعينيات والعقل الأوروبي يراجع ناقدًا نفسه وقد انحسرت هيمنته،
وأخذ يتساءل: هل استقال العقل الأوروبي عن دوره الحضاري؟! … ومنذ الستينيات
تفجَّر بركان الغضب، وشملت الأزمة العقل الغربي بعامة، واهتزت مقولات رسخت
على الساحة الفكرية زمانًا تجاوز القرنين. وبدا أن التاريخ الذي رسم مساره
الفيلسوف الألماني «هيجل» ليس هو الخطاب الصحيح، وظهرت اليابان وبلدان
العالم الثالث على السطح بثقافاتها وتطلعاتها وجهودها باحثة عن هويتها
وتاريخها، ناقدة وناقضة مقولات الغرب، وبدت حضارات هذه الشعوب بتعددها
الخصيب المتكامل وبعمقها التاريخي العريق خطابًا إنسانيًّا جديدًا في
المعرفة.
وتعددت البحوث والدراسات الفكرية والفلسفية والعلمية في محاولات نقدية
وتصويبية للعقل الغربي، وعقل عصر التنوير الأوروبي بالذات، ولمعت أسماء،
وسطعت تيارات فكرية، وسادت نظريات ومناهج بحث كاشفة عن دور الأيديولوجيات
في العلوم الإنسانية والطبيعية معًا، وانحيازها الخفي أو الساخر دفاعًا عن
ثقافة الغرب. وتجسد هذا الانحياز في نظرياتٍ وُصفَت بالأكاديمية، حدثتنا عن
العِرق الأسمى والعقل الأرقى، وأن لهما الحق، بالوراثة والطبيعة، في
السيادة على من هم دونهما، وهذا ما يعني في النهاية سيادة الغرب عقلًا
وعِرقًا على العالم أجمع لأنه الأدنى.
وارتدينا جميعًا قناع الأيديولوجيا الغربية زمنًا، وكأن فروضها — من
حيث لا نَعِي — مسلماتٌ تصوغ رؤيتنا للحياة والتاريخ.
٧٨
إلا إن الأقدار لم تشأ أن تستمر تلك الأيديولوجيات كثيرًا، فقد ظهر
علماء ومفكرون وفلاسفة كانوا موضوعيين مع أنفسهم ومع الحقيقة ومع التاريخ،
فقالوا بما أملته عليهم ضمائرهم الحية وروحهم العلمية الموضوعية، ومن ثم
قرروا أن الكلام عن معجزة يونانية ليس من العلم في شيء.
وهؤلاء كثيرون نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: «وِل ديورانت»
و«إيفار ليسنر» و«جورج سارتون» و«مارتن برنال».
فأما «ول ديورانت» فيقول في مقدمة كتابه الضخم «قصة الحضارة»: «إن
قصتنا تبدأ بالشرق، لا لأن آسيا كانت مسرحًا لأقدم مدنية معروفة لنا فحسب؛
بل كذلك لأن تلك المدنيات كونت البطانة والأساس للثقافة اليونانية
والرومانية، التي ظن «بعض الغربيين» خطأً أنها المصدر الوحيد الذي استقى
منه العقل الحديث، فسيدهشنا أن نعلم كم مما اكتشفناه ضروبًا لحياتنا
اليومية، وكم من نظامنا الاقتصادي والسياسي، وما لدينا من علوم وآداب، وما
لنا من فلسفة ودين، مردُّه إلى مصر والشرق. وفي هذه اللحظة التاريخية، حيث
الاتجاه كله في القرن العشرين يبدو وكأنما هو صراع شامل بين الشرق والغرب،
وفي هذه اللحظة نرى أن التعصب الإقليمي الذي ساد كُتابنا التقليديين
للتاريخ، والذي يبدأ رواية التاريخ من اليونان ويلخص آسيا كلها في سطر
واحد، لم يَعُد مجرد غلطة علمية، بل ربما كان إخفاقًا ذريعًا في تصوير
الواقع ونقصًا فاضحًا في ذكائنا، وإن كان المستقبل يولِّي وجهه شطر المحيط
الهادي، فلا بد للعقل أن يتابع خُطاه هناك.»
٧٩
وأما «إيفار ليسنر» فيقول في كتابه «الماضي الحي»: «لولا الشرق القديم
لما أصبحنا على ما نحن عليه، وبدون فهمه لن ينبني لنا قط معرفة أنفسنا، لقد
نُقلت إلينا من السومريين مظاهر حضارية كثيرة عن طريق الآشوريين والبابليين
والمصريين، وكَشفت لنا الحفريات في بلاد ما بين النهرين عن جذور تطورنا
الفكري والروحي. إن الأبجدية التي نعرفها وعقيدتنا الدينية ونظامنا
القانوني وفنوننا، إنما رسمَتْها جميعًا من قبلُ علمية تطور طويلة، فمن
بلاد ما بين النهرين ونظامنا القانوني وفنوننا، إنما رسمتها جميعا من قبل
عملية تطور طويلة، فمن بلاد ما بين النهرين، ومن السومريين جاء ما يمكن أن
نعتبره نقطة انطلاق حاسمة في تاريخ الحضارات، ألا وهو فن الكتابة.»
٨٠
أما «جورج سارتون» فيعيب في كتابه «تاريخ العلم» على بعض العلماء
الغربيين أنهم أهملوا في دراستهم للعلم اليوناني في ظاهرتين: ظاهرة الأثر
الشرقي، وظاهرة الخرافة التي نشأ فيها العلم اليوناني، وفي هذا يقول: «ومما
أفسد فهم العلم القديم كثيرًا من الأحيان ظاهرتان من الإهمال الذي لا يمكن
التسامح فيه: الظاهرة الأولى تتعلق بإهمال العلم الشرقي، فمن سذاجة الأطفال
أن نفترض أن العلم بدأ في بلاد الإغريق، فإن المعجزة اليونانية سبقتها آلاف
الجهود العلمية في مصر وبلاد ما بين النهرين وغيرهما من الأقاليم، والعلم
اليوناني كان إحياءً أكثر منه اختراعًا. والظاهرة الثانية إهمال الإطار
الخرافي الذي نشأ فيه العلم، لا الشرقي فحسب، بل اليوناني ذاته كذلك.
وكفانا سوءًا أننا أخفينا الأصول الشرقية التي لم يكن التقدم العلمي
الهيليني مستطاعًا بدونها، ولكن بعض المؤرخين أضافوا إلى هذا السوء سوءًا
بما أخفَوا مما لا حصر له من خرافاتٍ يونانية عاقت هذا التقدم، وكان من
الجائز أن تقضي عليه، والواقع أن العلم اليوناني انتصار للمذهب العقلي، وهو
انتصار يبدو أكبر — لا أصغر — حين ينكشف لنا أنه تم برغم ما اعتقده الإغريق
من معتقدات غير عقلية، بل هو انتصار لقوة العقل ضد قوة غير العقل، وإذن
فنحن في حاجة إلى بعض المعرفة بالخرافات الإغريقية، لا من أجل الفهم الصحيح
لذلك الانتصار فحسب، بل لتبرير ما وقع أحيانًا من ألوان الإخفاق، ومنها
الشطحات الأفلاطونية على سبيل المثال، والخلاصة أنه إذا كُتب تاريخ العلم
القديم فإنه يُعتبر إمدادًا للقارئ بمعرفةٍ كافة بهاتين الطائفتين من
الحقائق؛ أي العلم الشرقي من جهة، والخرافة اليونانية من جهة أخرى، جاء هذا
التاريخ لا ناقصًا فحسب، بل مزيفًا مدخولًا كذلك.»
٨١
ولا يعني هذا أن «سارتون» ينتقص الثقافة اليونانية، فهو يمتدح بساطتها
وخلوها من الحذلقات، واحتواءها على ظلال أولية من أفكارنا الحاضرة، وبدون
إدراك جانبها العلمي لا تُفهم أبدًا، بل إن «سارتون» يطلق على تقدم اليونان
الرائع في ثلاثة قرون معجزة تثير الإعجاب والحيرة، ولو أنه يؤكد مرارًا أنه
(أي التقدم) بما قبله، وحتى الفلسفة فيه زهرةٌ لسلسة طويلة من جهود ليست
يونانية فحسب، فهي، وكذلك الشعر الهُومِيري، نهايةٌ لا بدايةٌ له (أي
للتقدم).
وأما «مارتن برنال» فيكشف في كتابه «أثينا السوداء»
Black Athena على نحو مباشر، وبأسلوب
علمي دقيق، وبتحليل تاريخي مفصل، تهافت أسطورة المعجزة اليونانية التي تجعل
اليونان بداية الفكر والعلم والأخلاق والاجتماع والسياسة والفن والرياضيات
والمنطق والفلسفة، وكأن الحضارة اليونانية خلق عبقري أصيل جاء على غير
منوال، ولم تسبقها حضارات أخرى، ولم تتصل بها مصر القديمة ولا كنعان ولا
بابل ولا آشور ولا فارس ولا الهند ولا الصين، هي أوروبية النشأة والتطور،
نشأت نتيجة غزو شعب محلي متميز آري من الشمال أو هندي أوروبي من الشمال
الشرقي، وهذا هو «النموذج الآري»
Aryian Model
الذي يرد الحضارة اليونانية إلى أصل آري؛ أي أوروبي غربي،
كراهيةً للشرق وإنكارًا لحضارته ودراساته التاريخية، في حين اعترف المؤرخون
اليونانيون أنفسهم، مثل هيرودوت، بفضل الشرقيين عامة، ومصر خاصة، على
اليونان، وتتلمُذ اليونانيين أنفسهم؛ مثل فيثاغورس وطاليس وأفلاطون،
وهيرودوت نفسه، على أيدي المصريين في جامعات مصر، وخاصة في منف. وقد استمر
هذا النموذج القديم
Ancient Model حتى
اشتدت العنصرية، وبدأ الاستعمار في القرن التاسع عشر، فتم التحول من
النموذج القديم إلى النموذج الآري.
٨٢
ثم يناقش «برنال» النموذج الآري والمبررات التي وضعها دعاته، فينتهي
إلى أن بها بعض الصواب، ولكنها ليست صوابًا كاملًا، ومن ثم يحاول تفكيك تلك
المبررات وتحليلها في ضوء معطيات علمية جديدة عن واقعات مادية في تاريخ
اليونان وشهادات مفكري وفلاسفة الإغريق وكتاباتهم، وكذلك واقعات تاريخ مصر
وشرق المتوسط، ويدعم آراءه بمظاهر التطابق والتماثل والتوازي من خلال
عمليات تحليل للغات وللآثار الفنية والدينية، ويتجاوز مظاهر التماثل إلى
مظاهر التباين والتناقض، ويفسر أسباب هذا وذاك على النحو الذي يدعم نظرته
وتفكيره، وما هنالك من مساحات غير محسومة في الرأي النقيض.
٨٣
ثم يعقد «برنال» مقارنة بين النموذجين القديم والآري على أساس من أسباب
جوهرية تتعلق بأصل الزعم ومصداقية أصحابه وأسانيدهم في ضوء الوثائق
والأركيولوجيا واللغة وأسماء البلدان والمواقع الجغرافية والأسماء والشعائر
والآلهة وأبطال وأحداث الأساطير.
٨٤
ويؤكد «برنال» أنه إذا ما صح الغرض الذي انطلق منه، والذي تدعمه دراسات
أخرى عزفت أجهزة الإعلام الأوروبية عن تسليط الأضواء عليها، فعلينا أن
نعيدَ التفكير في أسس الحضارة الغربية وفي التسليم بدور النزعة العِرقية
الأوروبية في كتابة التاريخ وفلسفة التاريخ.
٨٥