تمهيد
تحدثنا في الفصل السابق عن قصة الأصول الشرقية للرياضيات عند اليونان،
وقد بينا أن قدماء الشرقيين كانوا متقدمين تقدمًا رائعًا في العلوم
الرياضية، وقد كان لهذا التقدم أثره في نشأة علوم الرياضيات عند اليونان؛
فقد بينا كيف نهَل فلاسفة اليونان من أمثال طاليس وفيثاغورس وأفلاطون
وإقليدس من الرياضيات الشرقية في تكوين منهجهم الرياضي.
ولما كان قدماء الشرقيين متقدمين في العلوم الرياضية، فقد كان لهذا
التقدم أثره في نشأة علم الفلك، حيث ساعدهم على عمل التقويمات الفلكية،
والتي كان من جرَّائها أنهم عرَفوا طريقة رصد النجوم والكواكب واستخدام
أدوات رصد مناسبة، مثل المِزْولة والساعات المائية وغيرها. كما عرَفوا
أيضًا التقويم الشمسي والتقويم القمري، حيث قسموا السنة إلى اثني عشر شهرًا
والشهر إلى ثلاثين يومًا، فتكون السنة الشمسية ٣٦٥ يومًا، في حين تكون
السنة القمرية ٣٥٤ يومًا، كما رصدوا ظاهرتي الكسوف والخسوف. بالإضافة إلى
معلومات فلكية كثيرة سوف نوضِّحها بالتفصيل خلال هذا الفصل.
غير أن بعض الغربيين يرون أن الفلك الشرقي موجَّه لأغراض تتعلق بالسحر
والتنجيم، وبالتالي فهم يأبون أن يطلقوا اسم العلم على تلك المعلومات
الفلكية الرائعة التي توصل إليها قدماء الشرقيين؛ فمثلًا يقول «بيرنت» عن
الفلك البابلي: إنه «قائم على أغراض تتعلق بالتنجيم مثل قراءة الطالع وما أشبهه.»
١ في حين يقول «سانت هلير» عن الفلك المصري بأنه «يعتمد على
مشاهدات مضبوطة، ولكنها ليس لها علم فلكي.»
٢
وفي الوقت الذي يقف فيه هؤلاء الغربيون هذا الموقف من الفلك الشرقي،
نجدهم يعزون للفلك اليوناني كلَّ خير، حيث يصفونه بأنه فلك علمي منظم أفاد
البشرية إفادة كبيرة، فنجد «بيرنت» يقول: «إن أهم تطورات تنسب للفلك القديم
هي من إنتاج العبقرية اليونانية فقد توصَّلوا:
وهذه النظرة تنطوي على قدر كبير من التحيز والبعد عن الموضوعية، ولذلك
سوف نفنِّدها خلال هذا الفصل.
وسبيلنا الآن هو عرض إسهامات قدماء الشرقيين في علم الفلك.
أولًا: إسهامات قدماء الشرقيين في علم الفلك
كانت شعوب معظم الحضارات الشرقية القديمة شعوبًا زراعية؛ لأن هذه
الحضارات ظهرت على ضفاف أنهار كبرى، وكانت عملية الزراعة تتطلب من أجل
نجاحها، معلومات فلكية كثيرة؛ إذ إن من الضروري حساب المواسم الزراعية حتى
يمكن زرع المحصول في الوقت المناسب، ولا بد من توقيت دقيق لعمليات وضع
البذور وري الأرض وجني المحصول … إلخ، فضلًا عن ضرورة حساب مواعيد فيضان
النهر والتغير في حالة الطقس، وهكذا كان من الضروري أن تعرف هذه الحضارات
حساب الفصول والسنين، وكانت أدق التقويمات الفلكية هي التي عرَفتها حضارات
زراعية عريقة؛ كالحضارة المصرية القديمة، وحضارة وادي الرافدين، وغيرهما.
٤
وكان من العوامل الأخرى التي أدَّت إلى تقدم علم الفلك في هذه
الحضارات، أن كثيرًا من شعوبها كانت تمارس التجارة، وتحتاج إلى الملاحة
البحرية على نطاق واسع، ومن ثم كان الرصد الفلكي الدقيق ضروريًّا في عمليات
توجيه السفن في أعالي البحار.
٥
وأخيرًا، فقد كان للمعتقدات والأديان الشعبية تأثير هام في نمو معارف
فلكية عملية كثيرة، وحسبنا أن نذكر في هذا الصدد أهمية العقيدة الدينية عند
الفراعنة في عمليات البناء الهائلة، التي تحقَّقت تلبية لمطالب دينية،
كالأهرامات والمعابد الضخمة، وكذلك الحاجة إلى تخليد الإنسان، والرغبة في
قهر الإحساس بفنائه التي حفَّزتهم إلى اكتساب المقدرة الخارقة على التحنيط
والإيمان بالتنجيم، ومعرفة الطالع من التطلع إلى النجوم الذي أعطى الناس في
تلك العهود طاقة هائلة من الصبر أتاحت لهم أن يقوموا بملاحظات وعمليات رصد
مرهقة، أضافت إلى رصيد البشرية في ميدان الفلك معلومات لها قيمة لا تُقدَّر.
٦
ولنذكر في هذا الصدد أن الارتباط بين التنجيم وعلم الفلك، لم يكن فقط
قائمًا في حضارات الشرق القديم، بل كان موجودًا في كل العصور، حيث كانت
ممارسة التنجيم تتطلب معرفة واسعة بالحقائق الفلكية، والأبراج التي يقول
المنجمون إنهم يعرفون بها الطالع هي أشبه ما تكون بخريطة كبرى للسماء، تضم
كثيرًا من المعلومات الفلكية الصحيحة، واسم التنجيم ذاته يفترض معرفة
النجوم، ومن ثم كان تدخُّلهم مع علم الفلك، بل إن كبار الفلكيين كانوا في
الوقت ذاته منجِّمين؛ فمثلًا كان العالم الألماني العظيم «كِبلر» الذي حدد
المدارات البيضاوية للكواكب، واهتدى إلى مجموعة من أعظم القوانين الفلكية
الرياضية، كان يؤمن بالتنجيم ويمارسه، ولم يكن يعتقد أن ممارسته له تتعارض
— على أي نحو — مع عمله الدقيق، بل إن السعي إلى جَعْل التنجيم والتنبؤ
بالطالع، ربما كان واحدًا من أهم الأسباب التي حفَّزت العلماء على الاشتغال
بعلم الفلك، والتي جعلت هذا العلم الذي يتناول ظواهر تبدو بعيدة كل البعد
عن اهتمام الإنسان على وجه الأرض، يُصبح واحدًا من أقدم العلوم البشرية
عهدًا، ومن أدقها منهجًا، ولولا أن الحكام كانوا يحرصون على معرفة طالعهم،
ويستشيرون المنجمين في قراراتهم الهامة لما أوْلوا لعلم الفلك ذلك الاهتمام
وقدموا إليه ذلك التشجيع الذي أدى إلى نهوضه منذ وقت مبكر.
٧
وإذا كان بعض الغربيين يفرقون بين الفلك الشرقي والفلك اليوناني، حيث
يرون أن الفلك عند الشرقيين قائم على السحر والتنجيم، في حين أن الفلك عند
اليونانيين قائم على التنظيم العلمي، فهذه التفرقة ليست موضوعية إذا
أخضعناها للبحث العلمي الدقيق. إن المنطق والتاريخ يشهدان على أن قدماء
الشرقيين قد وصلوا إلى مبتكرات فلكية أفادت اليونانيين الذين جاءوا بعد
ذلك. حيث استفادوا من الموروث الفلكي عند السابقين عليهم، ثم وظَّفوه
وبلْوَروه؛ فكانت أعمالهم الفلكية تعد ثمرة تأثير الشرقيين عليهم.
ولِزامًا علينا هنا أن نثبت ذلك، فنوضح مظاهر اهتمام الشرقيين القدماء
بعلم الفلك، حيث نتكلم عن إرهاصات علم الفلك عند قدماء المصريين ثم عند
البابليين ثم عند الهنود.
(١) إرهاصات علم الفلك عند قدماء المصريين
تشهد بعض كتابات الغربيين في تاريخ العلم نقدًا شديدًا للفلك عند
قدماء المصريين، فنجد «تاتون» يقول: «من العبث البحث في النصوص المصرية
عن إشارة واحدة إلى كسوفٍ، وهذا النقص في الملاحظة يتعارض مع النصوص
البابلية والكلدانية المعاصرة لهم، والتي تضمنت إشارات عديدة حول الوقائع
الملحوظة من قبل الفلكيين. والصحيح أن حالة معارفنا عن علم الفلك المصري
هي من الضآلة بحيث يصعب أن نرى في هذه الواقعة ظل جهلٍ أو لا مبالاة من
قِبل المصريين أكثر مما هي نقص في المصادر.»
٨
ويسايره «فوربس» و«ديكسترهوز»؛ حيث يقولان: «بالغ اليونانيون كثيرًا،
— كما بالغوا في حالة الرياضيات — في تقدير المصريين في علم الفلك،
والحقيقة أن علم الفلك المصري لم يتخطَّ مطلقًا المرحلة الابتدائية، إلا
حين اتصل بعلم الفلك البابلي في الفترة اليونانية (٣٠٠ق.م.)، فليس لدينا
سوى برديتين مصريتين ديموطيقيتين مبنيتين على أصول أخرى تتناول علم الفلك.»
٩
والحقيقة أن هذا النقد يُعتبر غير صحيح إلى حد ما، فلم يكن الفلك
المصري بُدائيًّا بسيطًا ساذجًا لمجرد أنه لم توجد برديات كثيرة لشرح
النظريات الفلكية، فقد كان الكهنة المصريون يعتبرونها «من أسرار المهنة»
التي لا يجوز الاطلاع عليها. ورغم انعدام الوثائق عن معرفة الفلك المصري
ظاهريًّا، إلا إنه كان يوجد في مصر كتب فلكية، أو على الأقل مجموعة تشبه
المجموعات المماثلة بالنسبة إلى الحساب والطب، وقد كُتبت في العصر
الهيلينستي مثل «بردية كارلسبرغ» التي دُوِّنت بعد الميلاد، هذا بالإضافة
إلى وجود معلومات فلكية كثيرة يمكن تلمُّسها في نقوش المقابر والمعابد،
مثل معبد «رمسيس الثالث» ومعبد «أبيدوس» ومعبد الإلهة «حتحور» بدندرة …
إلخ، وهي تبين أن قدماء المصريين قد بذلوا جهودًا مبتكرة في علم الفلك،
وأن علماء الفلك المصريين مشغولون بقضايا علمية مثل قضية التقويم،
وابتكار العام والشهر واليوم كوحدات فلكية لقياس الزمن، وتقسيم النهار
إلى ١٢ ساعة والليل إلى ١٢ ساعة، وكان اهتمامهم بالعالم غير المرئي قاصرًا
على الحياة بعد الموت؛ ولذلك لم يتحمسوا للتنجيم. في حين كان اهتمام
اليونانيين لهذا العلم قاصرًا على هذه الحياة المادية الملموسة، وظنوا أن
التنجيم يمكن أن يؤدي بهم إلى فض مغاليقه.
١٠
فقد اكتشف المصريون القدماء منذ عهد الأسرة الأولى فكرة التقويم
الشمسي، وقسموا السنة إلى اثني عشر شهرًا، وكل شهر إلى ثلاث عشرات، بحيث
تتكون السنة من ستة وثلاثين عشرة (٣٦٠ يومًا)، لكنهم سرعان ما أضافوا
موسمًا للأعياد مؤلفًا من خمسة أيام، فأصبحت سنتهم ٣٦٥ يومًا، وتبدأ
السنة العادية في أول يوم من الشهر «توت»، وتبدأ السنة الفلكية أو سنة
«الشِّعرَى اليمانية» يوم يطلع هذا النجم بعد أن رصدوه عدة سنين؛ وذلك
لأن مدة السنة العادية ٣٦٥ يومًا، ومدة سنة الشعرى ٣٦٥ يومًا وربع يوم،
وهذا الاختلاف يجعل توافق طلوع الشمس والشعرى بصفته رأس السنة الفلكية،
يتأخر يومًا كاملًا عن رأس السنة العادية كل أربع سنوات، ومعنى ذلك أنه
إذا وقعت السنة الفلكية في أول شهر «توت» فإنه بعد أربع سنوات يقع في
اليوم التالي له، وبعد أربعين سنة يتأخر رأس السنة الفلكية عن رأس السنة
العادية عشرة أيام، وهكذا، وبالتالي أدرك الفلكيون المصريون أن أول السنة
الفلكية لا يقع أول السنة العادية إلا مرة كل١٤٦٠عامًا،
١١ وهو ما يُعرف بدورة «الشِّعرَى اليمانية».
١٢
ولما كان من غير المقبول أن يبدأ في مستهل السنة بعد مضي جزء منه
(ربعه)، وحتى لا يتسبب كسر اليوم في تغيير مبدأ السنة على مر الأيام فقد
تغلب المصريون القدماء على هذه المشكلة باستنباط السنة (العادية) ذات
الأيام الكاملة بدون كسور فيما يختص بِعَدِّ السنين؛ فجعلوا في كل دورة
من أربع سنين، ثلاثةً كلٌّ منها ٣٦٥ يومًا، والسنة الرابعة ٣٦٦ يومًا،
مما جعل متوسط السنة ٣٦٥ يومًا. والطريف أن كلمة «دورة» ما زالت تعني
الرقم «أربعة» عند المصريين، ويستخدمونها في الريف المصري في إحصاء وعدِّ
بعض المنتجات الزراعية وغيرها. وتروي الأساطير المصرية القديمة أن إله
الحكمة المصري «تحوت» قد اخترع العلوم كلها من ١٨٠٠٠ سنة قبل الميلاد،
وذلك خلال حُكمه على ظهر الأرض البالغ ثلاثة آلاف من الأعوام، وأن أقدم
الكتب في كل علم من العلوم كانت من بين الستة والثلاثين ألف كتاب من
الكتب التي وضعها «توت»، كما يروي المؤرخ المصري السمنودي «ماينتون» الذي
عاش حوالي سنة ٣٠٠ قبل الميلاد. ومن بين هذه العلوم علم الفلك والتقويم،
وأنه قسم اليوم إلى عشر ساعات، وكل ساعة مائة دقيقة، وكل دقيقة مائة ثانية.
١٣
ولم تقف جهود قدماء المصريين عند حد ابتكارهم للتقويم الشمسي، بل
كانوا أول الشعوب معرفة بالنجوم؛ معرفة ترجع إلى أبعد عصر من عصور ما قبل
التاريخ؛ لأن جو مصر الصافي ولطافة طقسها المنعش أثناء الليل حدا بالناس
إلى التأمل في حركات الأجرام السماوية، ولا بد أنهم لاحظوا أن النجوم
موزعة توزيعًا غير متساوٍ، وأنها مجموعات أو أبراج لها أشكال معينة يسهل
التعرف عليها. ومن أساطيرهم الموغلة في القدم أنهم تصوروا السماء كلها
محاطة بجسم إلهة السماء «نوت» التي تحمل جسمها على يديها وقدميها. وهذه
النظرة الشاملة إلى السماء مكَّنت المصريين من التعرف على مجموعات سماوية
شاسعة بالقياس إلى المجموعات الفلكية الحديثة التي توصل إليها الإنسان
المعاصر بأحدث الأجهزة التكنولوجية وأكثرها تعقيدًا. بل إنهم قاموا
بدراسة منهجية لهذا المجموعات من خلال تقسيم منطقة واسعة على طول خط
الاستواء إلى ستة وثلاثين قسمًا، يشمل كل منها أسطع النجوم والمجموعات أو
أجزائها مما يمكن رصد ظهوره كل عشرة أيام متعاقبة، كما اكتشفوا العلاقة
بين شروق الشعرى اليمانية والفيضان السنوي للنيل باعتباره أهم حدث في
الحياة المصرية وقوة الدفع المتجددة لحضارتها، ومصدر الرخاء لكل الشعب،
أو السبب في ضنكه إذا جاء منخفضًا، فعلى الرغم من أن فيضان النيل لم يكن
منتظمًا دائمًا، إلا أنهم اكتشفوا اتفاق هذا الحدث تمامًا أو تقريبًا مع
شروق الشعرى اليمانية بصفتها أكثر النجوم تألقًا في السماء.
١٤
كذلك تتجلى ريادة علماء الفلك المصريين في استخدام أدوات فلكية بارعة
مكنتهم من إجراء الرصد بدقة، ومن هذه الآلات: المِزولة الشمسية (وهي عصا
مستقيمة تُنصب على سطح أفقي، ويكون لها ظل يتغير بتغير مسار الشمس،
وتتجدد الساعة من طول ظل العصا، الذي يكون أقصر ما يمكن عند الظهيرة)،
والساعة المائية التي تُستخدم لتحديد الوقت في الليل بصفة خاصة، وهي آلة
ذات شكل أسطواني بها ثقب من أسفل يسمح بمرور الماء بصورة تدريجية، وعلى
الآلة خطوط تدل على الساعة بصورة تدريجية كلما انخفض مستوى الماء فيها.
وهناك نوع آخر من هذه الساعات يعتمد على الامتلاء، حيث يسقط الماء فيه
تدريجيًّا من إناء آخر.
١٥
ولا شك في أن هذه الآلات قد ساعدت المصريين في معرفة الكسوف والخسوف.
يقول «بلوتارخوس» اليوناني في كتابه «إيزيس وأوزيريس»: «إن المصريين
اكتشفوا ظاهرتي كسوف الشمس وخسوف القمر، وعللوا هاتين الظاهرتين مثلما
نعللهما نحن الآن، وكانوا يعتقدون أن الشمس والقمر أبديان، ومثَّلوهما
بثعبان يلتف على شكل دائرة، كما أنهم رمزوا للبروج التي نعرفها بأسماء
بعض البلاد؛ مثل برج الدلو الذي رمزوا له بجزيرة «فيلة» (أمام أسوان)،
وللمريخ برمز «أبوللونوبوليس» (إدفو)، وللمشتري برمز «أَرْمَنت»، وللحمل
برمز «طِيبة»، وللزهرة برمز «دندرة» …» وهكذا.
١٦
مما تقدم يتضح لنا أن الفلك المصري ليس فلكًا بُدائيًّا بسيطًا كما
يزعم بعض الغربيين، وإنما هو فلك علمي منظم.
(٢) الفلك عند البابليين
اهتم البابليون بعلم الفلك اهتمامًا كبيرًا، لدرجة أن قدماء
اليونانيين كانوا يَعْزُون إليهم نشأة علم الفلك.
١٧ ويكفينا في هذا الصدد أن البابليين كانوا في علم الفلك شأنهم
شأن قدماء المصريين؛ حيث سجلوا مشاهدات دقيقة عن مواقع الأجرام السماوية
لمدة تَرْبُو على ألفي سنة، وعرَفوا الكواكب السيارة، واكتشفوا الكسوف
والخسوف، ووصفوا المِزولة والساعات المائية.
غير أنه كعاده دعاة المعجزة اليونانية التنكُّر للشرقيين القدماء،
فلقد انتقد «دي بورج» الفلك البابلي، حيث ذهب إلى أنه فلك قائم على نزعة
عملية بحتة خالية من أي نظرية، وفي هذا يقول: «إن الفلك البابلي قائم على
الملاحظة، غير أن مجرد الملاحظة ليس بعِلم. ويتضح هذا عندما نبحث عن
النفع الذي حققه الفلكيون البابليون من هذه السجلات، وبينما كشف الإغريق
في قرن واحد من الزمان السبب الحقيقي للكسوف والخسوف، فإن البابليين لم
يواتهم أبدًا حتى أن يصلوا إلى التفسير المعقول لهما، لقد استخدموا
معطياتهم لأغراض فلكية خالصة، فإذا حدث أن كسوفًا أعقبة مرةً حربٌ مع
عيلام، فإن حربًا مع عيلام كان قد تُنُبِّئ بها من حدوث الكسوف،
والملاحظة، مهما كانت دقتها، التي يُنتفع بها لمجرد أن تكون أساسًا
لاستنتاجات يجمح فيها الخيال، لا يأتي من ورائها معرفة علمية.»
١٨
والحقيقة أن هذه النظرة فيها تحيز واضح وبُعد عن الحقيقة والصواب،
فلم تكن المعارف الفلكية عند البابليين كلها قائمة على الخيال والتنجيم،
ويكفينا دليلًا لإثبات تهافت هذه النظرة أن البابليين استطاعوا أن يضعوا
تقويمًا فلكيًّا يستند أساسًا على حركة القمر (تقويم قمري)، حيث جعلوا
طول الشهر القمري يتراوح ما بين ٢٩ و٣٠ يومًا بالتتابع؛ بمعنى أن الشهر
ذا التسعة والعشرين يومًا يعقبه شهر ذو ثلاثين يومًا، وهكذا، حتى ينقضي
العام؛ ولذا جاء معدل اثني عشر شهرًا قمريًّا (٣٨٤ يومًا) جاء بعام أطول
من السنة الشمسية، ولكي يوفقوا بين الدورتين القمرية والشمسية استخدم
البابليون اثني عشر شهرًا قمريًّا، مع إضافة شهر ثالث عشر عند الضرورة،
وصار هذا التقويم نموذجًا للتقاويم اليهودية والإغريقية والرومانية بعد
ذلك، حتى منتصف القرن الأول قبل الميلاد.
١٩
ولما كانت طبيعة الشهر القمري تدعو إلى تقسيمه فترات متميزة بأوجه
القمر، فقد قسم البابليون الشهر إلى فترات كل منها سبعة أيام، غير أن
الأسابيع البابلية لم تكن مستمرة في نظام تتابعها مثل أسابيعنا الآن،
بحيث لا يتقيد أول الأسبوع بأول الشهر، بل كان نظام الأسبوع البابلي هو
ضرورة أن يكون اليوم الأول من كل شهر هو اليوم من الأسبوع الذي يقع فيه.
وقسم البابليون اليوم إلى ٢٤ساعة، والساعة إلى ٦٠ دقيقة، والدقيقة ٦٠
ثانية، حسب النظام الستيني.
٢٠
كما توصَّل البابليون إلى كشف ظاهرتي الكسوف والخسوف، كما عرَفوا
المِزولة الشمسية، والساعة المائية، والبولو
Polos؛ وهي أداة كان يستعملها
البابليون، وكانت مؤلفة من نصف كرة جوفاء، قطرها كبير وحدبتها نحو
السماء، وعُلق فوق هذه الكرة بشكل مثبت مع مركزها جُلة صغيرة تعترض نور
الشمس، أما ظلها فينفذ على السطح الداخلي للكرة، وهكذا تُرسم حركة الشمس
في باطن البولو. أما انحناء دائرة البروج فيُقرأ مباشرة في الآلة، وكذلك
تاريخ تساوي الفصول وتاريخ انقلاب الشمس الصيفي والشتوي.
٢١
وعن طريق استخدام تلك الأدوات استطاع البابليون رصد مجموعات نجمية
كثيرة، وأهم أرصاد البابليين لتلك المجموعات أرصادهم الخاصة بالزُّهْرة؛
حيث عرَفوا أول ظهور الزهرة وآخر ظهورها، أي عند غروب الشمس وشروقها، كما
عرَفوا طول مدة اختفائها، كما عرَفوا مدة اقترانها (٥٨٤ يومًا)، وأدركوا
مدة الثماني السنوات التي تعود فيها الزهرة إلى الظهور، فتظهر خمس مرات
في نفس المواضع كما تُشاهَد من الأرض.
٢٢
كما عرَف البابليون أن القمر والكواكب السيارة لا تبتعد في حركتها
مسافة بعيدة في خط العرض عن مدار الشمس في منطقة البروج، كما رصدوا
المواضع النسبية للكواكب والنجوم في تلك المنطقة الضيقة من السماء، ثم
إنهم حسَبوا مدة قران عُطارد بخطأ لا يتجاوز الخمسة الأيام، على أن
الكبير في ميدان المعرفة الفلكية هو المعرفة العامة، إذ الواقع — كما
يقول «جورج سارتون» — أنهم المؤسسون للفلك العلمي، وأن النتائج المدهشة
التي حصل عليها الفلكيون الكِلدانيون، والإغريق من بعدهم، أمكن تحقيقها
بفضل استنادها إلى الأساس البابلي،
٢٣ وسوف نكشف عن هذا في هذا الفصل.
ومن ناحية أخرى لا ننكر أن الفلك البابلي كان مرتبطًا بالتنجيم إلى
حدٍّ ما فمثلًا:
- (١)
ربط البابليون بين الظواهر الفلكية والأحداث التي تقع على
الأرض، فإذا أحاطت بالقمر هالة مُعتمة دلَّ ذلك على أن الشهر ماطر،
وإذا أحاطت هالة وكانت فتحتها نحو الجنوب، هبت الرياح من الجنوب،
وإذا كان المريخ مرئيًّا في شهر يوليو (تموز) كان ذلك إنذارًا
بوقوع هجوم عسكري، وإذا شوهد عُطارد في الشمال، وقعت حرب في ذات
الجهة، وإن دنا المريخ من الجوزاء كان ذلك إنذارًا بموت الملك
ووقوع الفتن والفوضى التي تعم البلاد … وغير ذلك من التنبؤات
الغريبة في التراث البابلي.
٢٤
- (٢)
حين رصد البابليون ظاهرة خسوف القمر، اعتبروا هذا الخسوف فألًا
حسنًا، وعَزَوه إلى عمل الشياطين التي تحاربه وتمنع ظهوره، وكان
على الكهنة أن يشعلوا نارًا على مذابح الدقورات، ويُنشدون الأناشيد
الدينية. وخلال خسوف القمر يتخلى الناس عن غطاء رءوسهم المعتاد
ويغطونها بثيابهم؛ ولكي لا تصيب المدينة الكوارث، كان على الناس أن
يعلو صراخهم ويشتد عويلهم وينوحوا حتى ينتهي الخسوف، ويظهر القمر
من جديد، وعندئذ يتوقف الناس عن الصراخ ويطفئ الكهنة النار التي
أشعلوها في مذابح الدقورات.
٢٥
- (٣)
حين رصد البابليون المجموعة النجمية، قسموها إلى اثنتي عشرة
مجموعة أو بُرجًا، وتصوروا أن لكل برج رئيسًا من الآلهة
المستشارين، وكانوا يعتقدون أن الشمس تقوم بزيارة هذه الأبراج
وتبقى شهرًا في ضيافة كل واحد منها على التوالي، وهكذا حتى ينتهي
العام، تكون الشمس قد زارت الاثني عشر برجًا، ومكثت ثلاثين يومًا
عند كل برج، ما عدا الأخير، فإنها تظل في زيارته لمدة خمسة وثلاثين
يومًا، وبذلك تكون الشمس قد أتمت ٣٦٥ يومًا في زيارة المجموعات
النجمية (أي سنة شمسية). ويقال إن هذه المجموعات النجمية الاثنتي
عشرة أصبحت الآن تشكِّل دائرة البروج (زودياك)، وكما أن هناك
أجرامًا سماوية في السماء العليا تؤثر على الأحياء وتحدد مصائرهم،
اعتقد البابليون أيضًا أن هناك أجرامًا سماوية غير مرئية في السماء
السفلى وتؤثر على الأصوات في العالم الآخر.
٢٦
ولا شك أن السعي إلى التنجيم والتنبؤ بالطالع كان من أهم الأسباب
التي حفَّزت البابليين على الاهتمام بعلم الفلك.
(٣) الفلك عند الصينيين والهنود
تأثرت شعوب الشرق الأقصى بالفلك عند المصريين والبابليين؛ فنجد أن
الصينيين قد عرَفوا السنة الشمسية المكونة من ٣٦٥ يومًا وربع اليوم، ثم
السنة القمرية وتتكون من١٢أو١٣ شهرًا قمريًّا. وعرَفوا الدورات الفلكية
التي تتراوح مدتها من١٩ إلى ٧٦ سنة وحتى ٣١٤٢٠ سنة.
كما عرَف الصينيون المجموعات النجمية وحصروا منها ٢٨ مجموعة نجمية أو
برجًا، وعرَفوا كسوف الشمس وخسوف القمر. كما وصفوا الجداول الفلكية
واستخدموا أدوات رصد أهمها: المزولة الشمسية والساعة المائية … وغيرها.
٢٧
وأما الهنود فقد كان شأنهم شأن الصينيين، فقد اهتموا بعلم الفلك؛ حيث
رصدوا مجموعتين من النجوم تضم إحداهما ٢٧ نجمًا، والأخرى ٢٨ نجمًا،
واعتبروا هذه المجموعة بمثابة بيوت القمر التي ينزل فيها تباعًا في
دورانه الشهري الذي يستغرق ٢٧ أو ٢٨ يومًا. واستخدم الهنود تقويمًا
شمسيًّا وآخر قمريًّا، وقسموا السنة إلى٣٦٠ يومًا موزعة على اثني عشر
شهرًا، وجاء ذكرٌ لاسم شهرٍ ثالث عشر إضافي من ٢٥ أو ٢٦ يومًا، وأحيانًا
٣٠ يومًا، وذلك لسد الفرق بين السنة القمرية والسنة الشمسية، وكانت تضاف
هذه الأشهر الإضافية كل خمس سنوات، وبعدها يُعتبر كل من الشمس والقمر قد
أكمل عددًا من الدورات الكاملة، وطول دورة الخمس سنوات هذه ١٨٣٠ يومًا
(٦٠ شهرًا كل منها ٣٠ يومًا، بالإضافة إلى شهر آخر)، وقسموا السنة إلى
ثلاثة فصول متساوية طول كل منها أربعة أشهر، وعرَفوا الأسبوع الذي يتألف
من سبعة أيام تُسمى بأسماء الكواكب.
٢٨
ومن ناحية أخرى اعتقد الهنود القدماء في وجود دورات فلكية معينة تتم
في الكون وتُكمِل فيها بعض الأجرام السماوية دورة خاصة، إحداها في سنة
«الإلهية» طولها ٣٦٠ يومًا إلهيًّا، وهي تعادل٣٦٠ سنة شمسية. وكان لدى
فلكيي الهنود سنة كونية كبرى، وهي حقبة زمنية تتواجد فيها مجموعة من
الأجرام السماوية في موقع معين بعد أن يكون كل منها قد أتم عددًا كاملًا
من الدورات الكاملة، وكان طول هذه السنة الكونية ٤٣٢٠٠٠٠ سنة شمسية وهي
تساوي ١٢٠٠٠ سنة إلهية (١٢٠٠٠ × ٣٦٠ = ٤٣٢٠٠٠).
٢٩
والجدير بالذكر أن المؤرخ العربي أحمد بن أبي يعقوب ذكر في كتابه
«تاريخ اليعقوبي» هذا النص: «وقالت الهند إن الله عز وجل خلق الكواكب في
أول دقيقة من الحَمَل، وهو أول يوم في الدنيا، ثم سيَّرها في ذلك الموضع
في أسرع من طَرْفة العين، فجعل لكل كوكب منها سيرًا معلومًا حتى يوافي
جميعها في عدة أيام السند هند إلى ذلك الموضع الذي خُلقت فيه كما كانت
كهيئتها الأولى، ثم يقضي الله تبارك وتعالى ما أحب، فقالوا إن جميع أيام
الدنيا من السند هند منذ أول ما دارت الكواكب إلى أن تجتمع جميعًا في
دقيقة الحمل كما كانت يوم خُلقت (دورة كاملة) ٤٣٢٠٠٠٠٠٠٠ سنة شمسية.»
٣٠
ومن ناحية أخرى يذكر «البيروني» أن للهنود اهتمامات فلكية، منها أنهم
أحصوا جداول فلكية ورصدوا حركات الكواكب، وخسوفات الشمس والقمر، ونظام
الكون، وأعمالًا أخرى خاصة بالتنجيم. بالإضافة إلى وصف بعض أدوات الرصد
كالمزولة الشمسية وجهاز الكرة ذات الحلقات (الكرة المحلقة) … إلخ.
٣١
ثانيًا: ما أخذه الفلكيون اليونانيون من علم الفلك عند قدماء
الشرقيين
أخذ اليونانيون جُل معارفهم الفلكية من المصريين والبابليين، وهناك
دلائل كثيرة على هذا، منها أن طاليس أخذ دورة الكسوف المتعاقبة عن قدماء
المصريين والبابليين، وهو الأمر الذي حدا به لأن يتنبأ للأيونيين باحتجاب
ضوء النهار، وحدد في أثنائه العام الذي وقع فيه هذا الاحتجاب بالفعل.
٣٢ كما أخذ «أنَكسِمَندر المَلَطي» (٦١٠–٥٤٥ق.م.) عن المصريين
والبابليين «آلة المِزولة»، واسمها في اليونانية
Gnomon. ويقول سارتون: «وكان اختراع هذه
الآلة في بابل ومصر، ولكنها من البساطة بحيث يمكن أن يكون طاليس أو
أنكسمندر أو بعض اليونانيين الأوائل أعاد اختراعها.»
٣٣
ويعلل «سارتون» سبب اهتمام طاليس وأنكسمندر وغيرهما بعلم الفلك إلى أنه
من المحتمل جدًّا أن تكون المنابع الشرقية زادت في تحريك فضولهم. ذلك أن
البحارة والتجار الذين وفدوا إلى مَلَطية كانوا يجلبون معهم أفكارًا بابلية ومصرية.
٣٤
ومن ناحية أخرى نجد «كليوستراتوس التنيدي»،
٣٥ واحد من اليونانيين المهتمين بعلم الفلك، ويَعزُو الباحثون
إليه أنه استطاع بفضل مشاهداته الفلكية في «تنيدوس» تحديد زمن الانقلابين
بالضبط، وأن يدرك صور البروج، وبخاصة الحمل والقوس، والبروج منطقة وهمية في
السماء على جانبي فلك البروج. والحقيقة أن كليوستراتوس أخذ هذه الفكرة عن
الفلكيين في بابل، حيث كانوا يدركون أنه من المستحيل رؤية مسارات القمر
والكواكب أثناء أي مدة من الزمن دون أن يدرك الرائي أن هذه الأجرام
السماوية تسير في منطقة ضيقة نسبيًّا، وأنها ليست بعيدة، من جهة خط العرض،
عن الشمس (أو كما يقول: عن فلك البروج).
٣٦
كما يُنسب إلى كليوستراتوس التنيدي كشفٌ آخر، وهو دورة فلكية في ثمانية
أعوام، وهي مدة تشتمل على عدد من الأيام والشهور القمرية والسنوات ٣٦٥
يومًا وربع يوم × ٨ = ٢٩٢٢ يومًا = ٩٩ شهرًا، وكانت هذه الدورة معروفة كذلك
للبابليين، ولعل كليوستراتوس أخذها عنهم، أو أن تحديدهم للشهور والسنين يسر
له إعادة كشفها، ولم تكن هذه الدورة إلا أولى دورات أخرى متعددة اكتشفها
الفلكيون اليونانيون بين فَيْنةٍ وأخرى لخدمة أغراض التقويم.
٣٧
وإذا انتقلنا إلى فيثاغورس (٨٥٠–٤٩٧ق.م.) نجد أنه أول من نادى هو
وأتباعه بكروية الأرض، ولا يُعرف كيف تم لهم ذلك. ومن المحتمل أنهم
استعاروا هذه الفكرة من المصريين والبابليين، وقد أمكن بهذه الفرضية تفسير
ظاهرة الكسوف والخسوف.
٣٨
وهناك فلكيون يونانيون استفادوا استفادة كبيرة من الفلك المصري
والبابلي، نذكر منهم على سبيل المثال: «إيودوكسوس الكنيدي»
٣٩ الذي يروي عنه المؤرخون أنه رحل إلى مصر للتعلُّم، حيث لبث ستة
عشر شهرًا في مصر (فيما بين سنة ٣٧٨ وسنة ٣٦٤ق.م.) خالط في أثنائها الكهنة
العلماء، وكان قد درس قبل ذلك في الأكاديمية، وألمَّ بالفلك الفيثاغوري،
فلم يُرضه كل ذلك، ولما كان في تفكيره دقَّة، فقد أسخطه نقص الأرصاد في هذا
الفلك، ولم يكتف بما حصل عليه من أرصاد مصرية، بل عمل بأرصاد جديدة، وأقام
لذلك مرصدًا بين «هليوبوليس» و«كركيسورا» ظل معروفًا حتى زمن الإمبراطور
«أغسطس» (٢٧ق.م.–١٤م)، ثم بنى بعد ذلك مرصدًا آخر في بلدة «تينودوس» ولم
يكن رصدًا سهلًا، وكان آنذاك لا يرى من خطوط العرض العُليا، ويرجع علم
«إيودوكسوس» بالفلك المصري إلى المدة التي قضاها في مصر، فهل كان ملمًّا
أيضًا بالفلك البابلي وهو أغزر مادة من الفلك المصري؟ ليس لدينا ما يدل على
أنه رحل إلى ما بين النهرين أو إلى فارس، ولكنه كان يعرف العلم القديم حق المعرفة.
٤٠
وهذه المعرفة الواسعة التي اكتسبها «إيودوكسوس» أتاحت له أن يبتكر
نظريات فلكية كثيرة، ومن أشهرها اختراعه نظرية الكرات المتحدة المركز
والتوسع فيها، وبهذا يُعَد مؤسس الفلك العلمي وأحد عظماء الفلكيين في جميع العصور.
٤١
ونفس الشيء يقال عن أفلاطون، فقد تعلَّم من الشرقيين أمورًا فلكية
كثيرة، فمثلًا يُعزى إليه أنه عرَف زمن دورة كلٍّ من القمر والشمس والزهرة،
واعتقد أن أزمنة دورات كل من الثلاثة الأخيرة متساوية، وأنها سنة واحدة،
ولكنه لم يعرف أزمنة دورات الكواكب الأخرى، وهو مع ذلك يتكلم عن السنة
الكبيرة عندما تعود الدورات الثمانِ إلى نقطة ابتدائها (دورات الأجرام
السبعة مضافًا إليها دورة الكرة الخارجية)، وتساوي هذه السنة الكبيرة ٣٦٠٠٠
سنة، فكيف قدَّرها؟ إنه لم يقس شيئًا، بل أخذها عما تواتر عن البابليين من
فكرة النظام الستيني،
٤٢ فمن بين أسس العدد ٦٠ يوجد أُس خاص يكثر وروده في الألواح
القديمة وهو ٤٦٠ = ١٢٩٦٠٠٠٠، وهذا هو الرقم الهندسي عند أفلاطون، وأن
١٢٩٦٠٠٠٠ يوم = ٣٦٠٠٠ سنة، لكل منها ٣٦٠ يومًا، وهي «السنة الأفلاطونية
العظمى» (مقدار مدة الدورة البابلية). وأن حياة الإنسان التي تمتد إلى مائة
عام تحتوي على ٣٦٠٠٠ يوم؛ أي على عدد من الأيام بقدر ما تحتوي السنة العظمى
من السنين، وهكذا فإن «العدد الهندسي» أي العدد الذي يحكم الأرض ويضبط
الحياة على الأرض من أصل بابلي ولا ريب.
٤٣
وإذا انتقلنا إلى «أرسطو» نجد أنه كان على دراية بالفلك المصري
والبابلي، حيث يقول «تاتون»: «أورد «سيمبليكوس»
Simplicius أنه خلال فتوحات الإسكندر،
أرسل كاليستان
Callisthene إلى خاله أرسطو
كشفًا بملاحظات الكشوف الفلكية الجارية منذ ١٩٠٠ سنة قبل تلك الحقبة.»
٤٤
ومن خلال اطلاع أرسطو على تلك الكشوف استطاع التوصل لإثبات أن الأرض
كروية لا محالة لكي يتحقق التماثل والتوازن، ثم إن العناصر التي تتراكم
عليها تأتيها من جميع نواحيها، فلا بد لهذه المتراكمات من أن تكون على شكل
كرة. زد على ذلك أن حافة الظل أثناء خسوف القمر مستديرة دائمًا، وإذا سار
الإنسان شمالًا أو جنوبًا تغير وضع نجوم السماء؛ فتظهر نجوم لم يكن يراها
من قبل، وتختفي نجوم كان يراها، وكَونُ تغيُّرٍ ضئيل في موضعنا «على خط
الزوال» يؤدي إلى مثل هذا الاختلاف الكبير برهان على أن الأرض صغيرة
بالإضافة إلى غيرها. وإليك ما يقوله أرسطو في ذلك: «هناك تغير كبير؛ أعني
في النجوم التي فوق رءوسنا، وإن سار الإنسان شمالًا أو جنوبًا، فإن النجوم
التي تظهر له هي غير النجوم التي كان يراها من قبل، والواقع أن بعض النجوم
التي تُرى في مصر وعلى مقربة من قبرص لا يمكن رؤيتها في الأقاليم الشمالية.
والنجوم التي لا تغيب أبدًا في الشمال تطلع وتغرب في البقاع الجنوبية. كل
هذا دليل على أن الأرض مستديرة، وعلى أنها ليست كبيرة المقدار، ولولا أنها
كذلك لما كان لهذا التغير الطفيف في المكان هذا الأثر العاجل، ومن ثم لا
ينبغي أن نجاوز الحد في رد رأي القائلين بأن هناك اتصالًا بين الجهات
المحيطة بعمودي هرقل
The Pillar of
hercules (جبل طارق) والجهات التي حول الهند، وبما يترتب
على ذلك من أن المحيط واحد. ولهؤلاء دليل آخر هو وجود الفيلة في هذين
الإقليمين مع بعد الشقة بينهما، فكأنهم يرون في اشتراك الإقليمين في هذه
الخاصية دليلًا على اتصالهما.»
٤٥
ولا شك في أن هذا النص يدل دلالة واضحة على مدى تأثر أرسطو بالفلك عند
المصريين والبابليين، وأن وفرة الأرصاد الشمسية والقمرية والكوكبية لدى
اليونانيين في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد، تدل على أنها قد جاءت
من مصر ومن بابل؛ حيث ذكر سيمبليكوس، في شرحه لكتاب
Decaelo لأرسطو، أن لدى المصريين كنزًا
من الأرصاد عن ٦٣٠٠٠ وأن البابليين جمعوا أرصاد ١٤٤٠٠٠٠ سنة. ونقل
سيمبليكوس عن بورفيروس تقديرًا متواضعًا؛ حيث ذكر أن الأرصاد التي جمعها
كالليستنيس من بابل بناء على طلب أرسطو كانت من ٣١٠٠٠ سنة، وكل هذا إلى
الخيال أقرب، وإن كان من الثابت أنه كان في متناول الباحثين اليونانيين
أرصاد شرقية لقرون عدة، وأنها كانت كافية لأغراضهم، وقد حصلوا عليها من مصر
ومن بابل، ولا يمكن أن يكونوا قد حصلوا عليها في بلادهم، ففي بلادهم آثر
رجال العلم أن ينقطعوا للبحث الفلسفي كل على طريقته، ولم توجد — قط — على
مر العصور هيئة ترى الدأب على جمع الأرصاد الفلكية، وما مبالغات سيمبليكوس
إلا إشادة بقدم علم الفلك عند المشارقة، وباتصاله اتصالًا يدعو إلى الإعجاب.
٤٦
ولم تنقطع آثار المعارف الفلكية المصرية والبابلية عن اليونانيين في
القرنين الخامس والرابع، بل اشتدت وزادت بكثرة خلال القرون اللاحقة، وخاصة
في القرنين الثاني والأول قبل الميلاد.
وكتاب «المجسطي» خير دليل على ذلك؛ حيث يعرض فيه بطليموس نصوصًا كثيرة
تبين ما عسى أن يكون للمصريين والبابليين من أثر في تقدم الفلك اليوناني،
فمثلًا يقول بطليموس إن نظريات «هيبارخوس» عن حركة القمر وحركات الكواكب
السيارة مستمدة لدرجة ما من الأرصاد البابلية.
٤٧
كما برهن الأب «كوجلر» على أن التعيينات التي أوجدها هيبارخوس لطول
الشهر (الوسطي، والقمري، والنجمي، والفلكي، والعقدي) تنطبق تمامًا على
التعيينات التي وُجدت في الألواح الكلدانية المعاصرة.
٤٨
ومن ناحية أخرى فإن بعض مؤرخي العلم المنصفين قد حاولوا أن يبينوا أثر
الفلك الشرقي في تقدم الفلك اليوناني؛ فمثلًا يذكر سارتون أن الأفكار
التنجيمية التي انبعثت من فارس وبابل، قد دُمجت في عهد باكر بتصورات
الفيثاغوريين والأفلاطونيين.
٤٩ كما يذكر أيضًا أن التقويم اليوناني الذي أُسس سنة ٤٥ق.م.، قام
على أساس التقويم المصري القديم.
٥٠ كما يذكر أيضًا أن البابليين كانوا أول من فكَّروا في أسبوع
يتألف من سبعة أيام، فعند البابليين نشأت فكرة الأيام السبعة من أصل كواكبي
(ذلك أنهم عرَفوا سبعة كواكب سيارة تشمل الشمس والقمر). وقد شاع استعمال
فكرة هذه الأيام في الأزمنة الهيلينستية، فكانت أسماء الكواكب تُترجَم إلى
اليونانية أو تُعطَى ما يقابلها من أسماء مصرية في مصر في عهد البطالمة.
٥١
مما سبق يتضح لنا أن علم الفلك عند اليونان لم يأت على غير مثال، بل
كان نتيجة جهود الشرقيين السابقين في مصر وبابل وفارس والهند ثم حاول
فلكِيُّو اليونان أن ينظموا ما أخذوه عن الشرقيين، فكان ذلك الفلك
اليوناني.
ثالثًا: جهود اليونانيين في علم الفلك
هناك حقيقة يجب ألَّا نغفلها، وهي أننا في أي جيل من الأجيال السابقة
لا نجد مفكرًا ما ممَّن يُنسب إليهم إبداع أو ابتكار أو أصالة أو تجديد في
عصره، إلا ونجده قد تأثر بصورة أو بأخرى وبدرجة أو بأخرى، بمفكر آخر أو
أكثر من المفكرين السابقين عليه، أو المعاصرين له ممن يشاركونه أو يماثلونه
في الاهتمام بهذا المجال الفكري أو ذاك. ذلك لأن المفكر لا يبدأ من فراغ
ولا ينطلق من نقطة الصفر، وإنما ينشأ ويتربَّى فكريًّا أولًا وأخيرًا على
تراث السابقين.
وإذا كان اليونانيون قد أخذوا كثيرًا عن المصريين والبابليين أصول علم
الفلك، فإن هذا لا يفضي إلى إلغاء شخصياتهم العلمية ومعطياتهم الإبداعية في
مجال علم الفلك، بل بالعكس إن لديهم طاقات متجددة ومبادرات خلَّاقة أضافت
إلى رصيد الإنسانية قيمة لا تقدر.
ولكي نبين جهود وإبداعات اليونانيين في علم الفلك، لا نجد بدًّا من أن
نغض النظر بعض الشيء عن الترتيب الزمني؛ ذلك لأن جهودهم وإبداعاتهم في مجال
علم الفلك لا حصر لها، ونكتفي ببعض الأمثلة، وذلك فيما يلي:
- (١)
افترض الفيثاغوريون أن الأجرام السماوية ذات شكل كروي، وأنها
تتحرك في مدارات دائرية، وأنكروا أن تكون الأرض ثابتة في مركز الكون،
وجعلوا بدلًا منها نارًا مركزية، وأحدثوا بذلك ثورةً على التصور
القديم بهيئة الفلك، وقد شاعت فكرة كروية الأرض، وأخذ بها أغلب
فلاسفة الإغريق. غير أنهم اعتقدوا أنها ثابتة في مركز الكون، وكان
الفيثاغوريون يقدسون الأرقام ويرون أن لها صفات خاصة، وتصوروا السماء
ذاتها على أنها توافُق أرقام، وأن المسافات بين الأجرام السماوية
إنما تخضع هي الأخرى لنسب رقمية معينة، وكانوا يرون في الرقم عشرة
صفات عجيبة، واعتبروه عددًا تامًّا كاملًا؛ حيث يضم خصائص الأعداد،
وعليه فإن الأجرام السماوية لا بد أن تكون عشرة، ولما كانت الأجرام
المعروفة وقتذاك تسعة فقط (الشمس، الأرض، القمر، عطارد، الزهرة،
المريخ، المشتري، زحل، النجوم الثوابت) فقد أضافوا جرمًا عاشرًا،
جعلوه أرضا مقابلة. واعتقد الفيثاغوريون أن الشمس والقمر والكواكب،
كأنها مرتكزة على كرات مجسمة وتدور حول النارية المركزية، ويتولد عن
دورانها الموسيقى السماوية، وأن الأرض تدور حول نفسها من الغرب إلى
الشرق (ولا يُعرف كيف تم لهم معرفة ذلك) مرة كل يوم (نهاره وليله).
أما الشمس فإنها تدور حول النار المركزية مرة كل عام، وعللوا عدم
رؤية النار المركزية بأن وجه الأرض المقابل لنا يتحرك دائمًا بعيدًا
عن هذه النار المركزية. كذلك عللوا عدم رؤية الأرض المقابلة بوجود
النار المركزية دائما بين الأرضين.
٥٢
- (٢)
يحظى الفكر اليوناني في العصر الهيليني بعلماء وفلاسفة اهتموا
اهتمامًا كبيرًا بعلم الفلك من أهمهم «إيودوكسوس»، الذي اشتُهر في
علم الفلك بنظرية الكرة المتمركزة؛ تلك النظرية الجميلة التي ابتدعها
ليفسر الحركة الظاهرية للسيارات، وبصفة خاصة النقط التي تبدو ثابتة
فيها، وما يظهر عليها من التراجع، والنظرية تصدق أيضًا على الشمس
والقمر، وقد استخدم إيودوكسوس لكل منها ثلاث كرات، وقد مثَّل حركة كل
سيارة كأنها ناشئة من دوران أربع كرات متداخلة متحدة المركز مع الأرض
وتتصل على الوجه التالي: كل كرة من الكرات المتداخلة تدور حول قطر
ثُبت طرفاه (القطبان) في الكرة التالية التي تحيط بها. فأما الكرة
الخارجية فتمثل الدورة اليومية، والثانية تمثل حركة على محيط الدائرة
البروجية، وقُطْبا الكرة الثالثة مثبَّتان في الكرة السابقة، وقطبا
الكرة الرابعة — ويحملان السيارة مثبتةً على خط استوائها — قد ثُبتا
على الكرة الثالثة، ورُتِّب فرع الدوران واتجاهاته بحيث ترسم السيارة
على الكرة الثابتة منحنيات تسمَّى حدوة الحصان أو شكل حرف ثمانية
باللغة الإفرنجية، وهو يقع على طول الدائرة (البروجية) ويتناصف بها،
والترتيب بأجمعه يدل على ذكاء هندسي خارق.
٥٣
- (٣)
في القرن الثاني بعد الميلاد جمع كلوديوس بطليموس (٩٠–١٦٧م) —
الذي أسماه العرب بطليموس القلوزي أو القلوذي — كلَّ المعارف المتاحة
في الفلك ونسَّق بينها، وشرحها وهذَّبها، وأزال غموض بعضها، وأضاف
إليها، وضمَّها في كتابه المشهور «التصنيف الرياضي» ويقع في ١٣
مجلدًا، وترجمه العرب باسم «المجسطي»، وشرح فيه بطليموس الظواهر
الفلكية، وحركات الشمس والكواكب، وطول اليوم، وأوقات الشروق والغروب
للنجوم في مختلف المناطق على سطح الأرض، وأتى بالبراهين الصحيحة على
كروية الأرض، وذكر شيئًا عن المثلثات الكروية، وطول السنة والشهر
القمري، وشرح أدوات الرصد وأهمها الأَسْطُرلاب، وظاهرتي الكسوف
والخسوف، وقد ظل هذا الكتاب المرجع الأساسي لعلم الفلك في الشرق
والغرب بعد ذلك.
٥٤
وقبل بطليموس كانت لعلماء الإسكندرية في الفلك آراء مبتكرة في علم
الفلك، من أهمهم «أريستارخوس» «ت. ٢٣ق.م.» وقد أحدث أريستارخوس ثورة في
التصور الفلكي القديم للكون (هيئة الفلك) بأن جعل النجوم الثوابت والشمس
ساكنة لا تتحرك، وجعل الأرض والكواكب السيارة هي التي تتحرك حول الشمس في
محيط دائرة الشمس مركزها، وهو بذلك قد أحل الشمس محل النار المركزية في
نظام الفيثاغوريين، وافترض أريستارخوس أن الأرض تدور في فلك مائل، وفي نفس
الوقت تدور حول محورها الذي تدور عليه، واعترض معاصرو أريستارخوس (من أمثال
بطليموس) على هذه النظرية ولم يقبلوها، والتي تُعتبر أعظم اكتشاف فلكي في
العصور القديمة، ولكنه لم يُكتب له الذيوع والشهرة، وتمسك الفلكيون بالتصور
الأفلاطوني القديم لهيئة الفلك الذي شرحه إيودوكسوس، ومن ثم ظلت نظرية
أريستارخوس في الخفاء — أو تكاد — إلى أن أحياها الفلكي البولندي
«كوبرنيكوس» في القرن السادس عشر الميلادي.
٥٥