تمهيد
عرضنا في الفصول السابقة لملامح الأصول الشرقية في العلم اليوناني،
وذلك من خلال علوم الطب والرياضيات والفلك، تلك العلوم التي تمثل أهم محاور
العلم اليوناني.
ونود في هذا الفصل أن نكمل المسيرة في دراسة الأثر الشرقي في العلم
اليوناني بصفة عامة؛ حيث نبين مدى استفادة معظم اليونانيين من الشرقيين في
مجال العلم، وذلك من خلال إجابتنا عن هذا السؤال الذي يطرح نفسه بشدة على
هؤلاء المنحازين إلى اليونان وهو: لماذا لم يتقدم اليونانيون في المجال
العلمي بأسرع مما تقدموا برغم ديْنِهم لأسلافهم الشرقيين؟
وللإجابة عن هذا السؤال نعتقد أنه ربما أن معظم اليونانيين لم يكونوا
متهيئين لتلقِّي التراث العلمي الشرقي الضخم دفعة واحدة، أو أنهم عجزوا عن
الإلمام بأحسن ما فيه، بحيث تلقَّوا مجرد شذرات منه، وبالتالي لم يحصلوا من
هذا التراث على الدفعة التي كانت من الممكن أن تنطلق بهم إلى آفاق أبعد
بكثير من تلك التي بلغوها.
وأعتقد أن هذا لا يقال على كل فترات العلم اليوناني، وإنما يقال على
الفترة التي بين ٤٠٠ و٣٣٠ق.م.، وهي التي تتضمن ما قام به فلاسفة اليونان
«سقراط وأفلاطون وأرسطو» من أعمال في مجال العلم، حيث تتميز هذه الفترة بأن
الأثر الشرقي في مجال العلم، كان ضعيفًا ومحدودًا في العلم اليوناني في تلك
الفترة، بسبب الاعتقاد السائد في أن العلم الشرقي كان يغلب عليه الاستخدام
العملي للمعارف الموروثة، ولكنه لم يكن يملك نفس القدر من البراعة في
التحليل العقلي النظري لهذه المعارف.
ومن هنا سعى معظم العلماء والفلاسفة اليونانيين في تلك الفترة إلى جعل
العلم نظريًّا لا تطبيقيًّا، وذلك حين أكدوا أن المعرفة العلمية لكي تكون
صحيحة، يجب أن تنصبَّ على الحقائق النظرية والعامة، كما يجب أن ترتكز على
براهين مقنعة، وأن هدف العلم هو معرفة النظرية التي تسير الظواهر وفقًا
لها، وليس القدرة على استغلال هذه الظواهر والانتفاع بها في المجال التطبيقي.
١
وعندما أكد اليونانيون ذلك، كانوا في الواقع يحاولون إبراز سمة أساسية
من سمات العلم، وهي أن العلم لا علاقة له بمجال التطبيق، ولا صلة له
بالعالم المادي بأكمله، وإنما الواجب على العلم أن يكون عقليًّا فحسب.
فالمثل الأعلى للعالِم في نظرهم هو المفكر النظري الذي يستخلص الحقائق كلها
بالتأمل النظري. أما محاولة تدعيم هذه الحقائق بمشاهدات أو ملاحظات أو
تجارِب نجريها على المحيط بنا، فكانت في نظرهم خارجة عن العلم، بل إنها تحط
من قدْر العلم وتجعله مجرد «ظن» أو «تخمين». بل إن «أفلاطون» الذي كان في
الوقت نفسه ذا إلمام واسع بالرياضيات، قد عاب على أحد علماء الهندسة
التجاءه إلى رسم أشكال هندسية لإيضاح حقائق هذا العلم، ورأى أن إعطاء علم
رفيع كالهندسة صورة محسوسة يمكن رؤيتها بحاسة العين، هو إنزال لهذا العلم
من مكانته العالية، فيصبح جزءًا من عالم الأشياء المرئية والمحسوسة، بينما
ينبغي لكي يظل محتفظًا بمكانته ألا نستخدم فيه إلا التفكير العقلي وحده،
فتظل حقائق الهندسة «عقلية» على الدوام.
٢
ولا شك في أن هناك أسبابًا سياسية واجتماعية دعت معظم اليونانيين في
تلك الفترة إلى صبغ هذا العلم بهذه الصبغة، وسوف نتحدث عنها خلال هذا
الفصل.
ومن ناحية أخرى نود أن نشير إلى أن تلك الفترة التي كان فيها العلم
اليوناني مُعرِضًا وعازفًا عن الأخذ بعلوم الشرق؛ كانت هناك فترات أخرى
تمسَّك فيها اليونانيون بالأخذ عن الشرقيين، وكان فيها العلم اليوناني يجمع
بين النظرية والتطبيق، وكان هذا العلم في أثنائها يمثل أزهى فتراته.
وتُعتبر فترة «العلم الأيوني»؛ تلك الفترة المحصورة ما بين ٦٠٠
و٤٠٠ق.م.، وقد أطلق العالم «هيدل»
Heidel
على هذه الفترة اسم: «عصر البطولة»، وفيها كان اليونانيون على اتصال دائم
بالشرقيين وعلومهم.
٣
على أن هناك فترة أخرى، وهي الفترة المحصورة ما بين ٣٣٠ و١٢٠ق.م.، وفي
تلك الفترة عاد العلم اليوناني ينهل من علوم الشرق، والتي فيها ضمت
إمبراطورية الإسكندر الأكبر العلم اليوناني مرة أخرى في اتصال مباشر مع
التراث العلمي في الشرق، حتى وصلت إلى الهند، وأصبحت «الإسكندرية» بيتًا
للعلم، حيث دُعمت ماليًّا لأول مرة في التاريخ من خلال إقامة المتحف
والمكتبة، وأدى ذلك إلى التطور العظيم للرياضيات والميكانيكا والفلك، والتي
ارتبطت ﺑ«أرشميدس»
Archimedes و«هيبارخوس»
Hipparchus وغيرهما.
٤
ولقد كانت تلك الفترة من أكثر المراحل أهمية في تاريخ العلم اليوناني،
إلا إنها — للأسف — لم تستمر طويلًا بسبب تدهور العلم اليوناني، وتمسك
العلماء بالعلم الأرسطي العقيم.
أولًا: الطابع النظري والعملي في مرحلة العلم اليوناني قبل
سقراط
يطلق مؤرخو العلم على العصر الأول من العلم اليوناني، العصر البطولي
الذي يبدأ «بطاليس» وينتهي «بديموقريطس» ويسميه الفلاسفة «العصر السابق على
سقراط»، ويتميز العلم عند اليونان في هذا العصر، بأنه كان يجمع بين الطابع
النظري والطابع العملي، وفي هذا يقول «بنيامين فارتن»: «إن القرنين الخامس
والسادس؛ أي الفترة المعروفة بفترة ما قبل سقراط أو العصر البطولي للعلم،
لم تكُن متميزة بنمو الفكر المجرد فحسب، وإنما كانت كذلك فترةَ تقدم فني
عظيم، والجديد المتميز في طريقة تفكيرهم مُشتق من أنواع الطرق الفنية، وكان
التقدم الفني هو العصا السحرية التي تغير الشكل القديم للمجتمع، المعتمد
أصلًا على الأرض، إلى شكل جديد من المجتمع يعتمد إلى حدٍّ كبير على
الصناعة، وكان التقدم الفني يبعث إلى الوجود طبقةً جديدةً من الصُّناع
اليدويين والتجار لم تلبث أن أمسكت سريعًا بزمام السلطة السياسية في المدن.
وفي العَقد الأول من القرن السادس حاول «سولون» — الذي كان يمثل الطبقة
الجديدة — أن يجدد أثينا التي مزَّقها الصراع بين مالك الأرض والفلاح.
يخبرنا «بلوتارخ» أن «سولون أضفى الشرف على الحِرف» لكي يصل إلى تحقيق هذا
الهدف. لقد حوَّل انتباه المواطنين إلى الفنون والحرف، ووضع قانونًا مؤداه
أن الابن لا يلتزم برعاية أبيه في الكبر ما لم يكن أبوه قد علمه إحدى
الحِرَف. ويقول «بلوتارخ»: في هذا الوقت لم يكن العمل عارًا، ولم تكن
مزاولة إحدى الحرف تدمغ المرء بالوضاعة الاجتماعية.»
٥
وقد كان من نتيجة ذلك، أن شهدت تلك الفترة صحوة تكنولوجية، فقد كانت
طرق الصناعة التي مارستها مصر في خلال تلك الفترة، عاملًا هامًّا في لفت
أنظار المستعمرين اليونانيين المستقرين في «نقراطيس» أو المتجولين في أنحاء
البلاد، ولا بد أنها انتقلت إلى الجزر اليونانية بالسهولة التي انتقلت بها
الأشياء التي أسهم اليونانيون في ابتكارها.
٦
ويذكر «سارتون» أن هناك شخصيات علمية برزت في تلك الفترة مثل
«أناكارسيس الاسكيذي»
Anacharsis of
Scythia الذي استحق المجد؛ لأنه أدخل تحسينًا على الهِلب
واخترع الكور وعجلة الفَخَّاري. أو مثل «جلوكس الكيوسي»
Glaucus of Chios الذي اخترع آلة للحام
الحديد. أو «تيودور الساموسي»
Theodorus of
Samos صاحب الفضل في اختراع قائمة طويلة من المخترعات
الفنية: الميزان المائي، والزاوية، والمنجلة، والمسطرة، والمفتاح، وطريقة
صب البرونز.
٧
ولا بد أن روح الابتكار الموجودة عند اليونانيين أو استعدادهم لاستغلال
الاختراعات الأجنبية، تحرَّكت تحركًا عظيمًا في القرن السادس لمواجهة
الحاجات البنائية والهندسية، والتي كان لا بد لهم من إتمامها، والحاجة أم
الاختراع. ومن أعظم الإنشاءات الدالة على الطموح في ذلك العصر، بناء — أو
إعادة بناء— معبد «أرطميس» في «إفسوس»؛ ذلك أن إفسوس هي إحدى المدن
البارزة، وكانت مركز عبادة آلهة الطبيعة التي سماها اليونان «أرطميس»،
وأصبحت هذه العبادة في القرن السادس شعبية، وأقيم لها معبد ضخم للاحتفال
بشعائرها، واقتضى بناء هذا المعبد حل كثير من الصعوبات المعمارية. ويُذكر
«تيودوروس الساموسي» في بعض الأحيان على أنه المهندس الرئيسي، ويقال إنه
اكتشف طريقةً لوضع أساسات صُلبة في أرض إفسوس التي غمرتها المستنقعات،
والواقع أن هذه المشكلة الأساسية تطلَّبت حلًّا بسبب مستنقعات إفسوس. ولا
ريب كذلك أنها حُلت، وإلا تهدم المعبد. والمعروف أنه ظل قائمًا لعدة قرون.
وحوالي منتصف القرن السادس كذلك، جاء من كريت «كرسيفرون الكنوسوسي» لمساعدة
«تيودوروس» على تحقيق ذلك المشروع الضخم، واخترع «كرسيفرون» طريقة لتحريك
الأعمدة الضخمة، وأعقبه ابنه «ميتاجينس» في أعماله وأدخل تحسينات في طرقه.
٨
وكانت جزيرة ساموس من أهم المستعمرات الأيونية، وهي تقع في الشمال
الغربي من مَلَطية، على مسافة غير بعيدة، واشتُهر أبناؤها أو مستوطنوها
بأنهم بناءون ومهندسون، وسبق أن ذكرنا منهم «تيودوروس»، لكن أعظم مهندسيها
هو «يوبالينوس»، وفي ذلك يذكر «سارتون» نقلًا عن هيرودوت قوله: «توسعت في
الكتابة عن الساموسيين؛ لأنهم أصحاب أعظم أعمال ثلاثة يمكن رؤيتها في أي
بلد يوناني؛ أول هذه الأعمال القناة ذات المصَبَّين؛ والمحفورة مقدار مائة
وخمسين قامة في قاعدة تلٍّ عالٍ، ويبلغ طول القناة سبعة مقاييس طولية
(١٥٤٠ياردة) وارتفاعها ثمانية أقدام وعرضها ثمانية، ويخرج من هذه القناة
وبطولها قناة أخرى عمقها عشرون ذراعًا وعرضها ثلاثة أقدام، ويتدفق إليها
الماء من نبع وافر، ثم يجري في أنابيب إلى مدينة ساموس، وصاحب تصميم هذه
القناة «يوبالينوس بن نوستروفوس الميجاري»، فهذا أحد الأعمال الثلاثة. أما
الثاني فهو رصيف في البحر ملاصق للميناء، يبلغ عمقه عشرين قامة، وأكثر من
مقياسين طولًا. والثالث معبد يُعَد أعظم ما رأيت، وأول من بناه هو «رويكوس
بن فيليس الساموسي»؛ ولهذا السبب أطنبت في الكتابة عن ساموس على غير العادة.»
٩
ومن ناحية أخرى، فقد كانت الكلمة الإغريقية للحكمة
Sophia ما زالت تعني في ذلك الوقت
المهارة الفنية لا التكهُّن المجرد. أو على الأصح لم يكن التمييز بينهما قد
برز؛ لأن أفضل التكهنات كانت تعتمد على المهارة الفنية.
١٠
فلقد كانت فترة ظهور أولى مدارس الفكر اليوناني — وهي المسماة بالمدرسة
الأيونية — تبشر بتضافر مثمرٍ بين النشاط الفكري النظري والنشاط العملي
الآلي؛ إذ كان كثير من فلاسفة هذه الفترة — أعني من يُسمَّون ﺑ«الطبيعيين
الأولين» — مهتمين بالمسائل العملية بقدر اهتمامهم بالمسائل النظرية، وكانت
جهودهم تنصب على الميدانين معًا دون تعارض في تلك الفترة، كان هناك اتصال
رائع بين حضارات الشرق الأوسط وبين الحضارة اليونانية الناشئة، وكانت
الخبرات والمعلومات والتجارِب تُتبادل إلى جانب المحصولات والمصنوعات،
وأثمر ذلك كله تفكيرًا يجمع إلى الممارسة التطبيقية القدرة على البرهان العقلي.
١١
ولقد كان طاليس الذي يقال عنه «أبو الفلسفة»، والذي عاش في القرن
السادس قبل الميلاد، كان مفكرًا نظريًّا ومخترعًا في الوقت ذاته، فلقد نسَب
إليه مؤرِّخو الفكر أول نظرية متكاملة حاول بها الذهن البشري تفسير الكون
كله، من خلال مبدأ واحد، وهو أن الماء قوام الموجودات بأسرها، فلا فرق بين
هذا الإنسان وتلك الشجرة وذلك الحجر إلا الاختلاف في كمية الماء الذي يتركب
منها هذا الشيء أو ذاك. أليس الماء يستحيل إلى صور متنوعة فيصعد في الفضاء
بخارًا، ثم يعود فيهبط فوق الأرض مطرًا، ثم يصيبه برد الشتاء فيكون ثلجًا؟
وإذن فهو غاز حينًا وسائل حينًا وصُلب حينًا، وكل ما يقع في الوجود لا يخرج
عن إحدى هذه الصور الثلاث.
١٢
كان الماء عند طاليس هو المادة الأولى التي صدرت عنها الكائنات، وإليها
تعود، وقد ملأ عليه الماء شعاب فكره، حتى خُيل إليه أن الأرض قرص متجمد
يسبح فوق لجج مادية ليس لأبعادها نهاية. ويرجِّح أرسطو أن يكون طاليس قد
خلَص إلى هذه النتيجة لمَّا رأى أن الحياة تدور مع الماء وجودًا وعدمًا،
فتكون الحياة حيث يوجد الماء وتنعدم حيث ينعدم.
١٣
وإذا كان طاليس يُعَد أول يوناني أدرك أن هذه الكائنات المتباينة لا بد
أن تكون قد صدرت عن أصل واحد، ثم أخذ يبحث عن ذلك الأصل، فشق بذلك الطريق،
وأخذت الفلسفة تدور حول هذه المشكلة وتجيب عن سؤاله: رأى طاليس أن الماء
أصل الوجود، وقال «أنكسمندر» بل هو مادة لا تحدها حدود، وأعلن «أنكسيمَنس»
إنه الهواء، وذهب «الفيثاغوريون» إلى أنه العدد، وأجاب «هرقليطس»: بل هو
النار، وذهب «أمبيذوقليس» إلى عناصر أربعة، وقال «ديموقريطس»: إنه ذرات …
وهكذا لبث الفلاسفة يقتفون أثر زعيمهم طاليس في جوهر البحث وأساسه، وإذن
فطاليس هو الذي صبغ الفلسفة فيما قبل سقراط بتلك الصبغة الفنية التي عُرفت بها.
١٤
وإذا كان طاليس قد حاول تفسير الكون كله من خلال مبدأ واحد مقنع
عقليًّا لا من خلال أسطورة أو خرافة، ولكنه كان في الوقت ذاته ذا عقلية
علمية وعملية من الطراز الأول، فرُوي عنه أنه حول مجرى نهر «هاليس» لكي
يتيح لجيوش «كروسيوس» أن تعبُرَه، ونُسبت إليه كشوف عديدة في الفلك
والملاحة، فعن طريق قاعدة المثلثات المتماثلة استطاع طاليس أن يبتدع وسيلة
لتحديد أبعاد السفن وهي في البحر. ويقال إنه أخذ عن الفينيقيين تحسين فن
الملاحة بالاستعانة بالنجوم، واستطاع أن يتنبأ بكسوف الشمس في عام ٥٨٥ق.م.
بمساعدة أَسطُرْلابات «جداول فلكية» مصرية وبابلية. ويقال إنه أحرز كذلك
تقدمًا على الهندسة المصرية في أمر كبير الأهمية، وهو زيادة فهم شروط
البرهان العام، فلم يعرف أن قطر الدائرة يقسمها إلى قسمين متساويين فحسب،
بل إنه فضلًا عن ذلك أثبته. وتبين شهرته المزدوجة كفيلسوف وكرجل أعمال في
القصة التي تُروى عنه، وهي أنه عندما رأى نقاده يتهكمون عليه، ويزعمون
انعدام القدرة العملية لديه، لم يلبث أن اشتغل بتجارة الزيتون، وحصل منها
على مال كثير، فسُقط في أيدي هؤلاء النقاد.
١٥
مما سبق يتضح لنا أن أول فيلسوف يوناني يذكره التاريخ، وهو «طاليس»،
كان شخصية نظرية وعملية في آنٍ واحد، ولم يكن ذلك الرجل المنعزل الذي يتأمل
السماء فيتعثر في مشيته ويقع في الوحل، كما تصوِّره القصة المشهورة.
وبعبارة أخرى فإن بداية ظهور الفلسفة كانت مرتبطة بالجمع بين الفكر
النظري والعلم التطبيقي معًا، بل ربما جاز القول إن الاهتمام بالأمور
العملية هو الذي أوحى إلى فلاسفة هذه الفترة آراءهم النظرية.
وإذن فقد كان كل شيء يوحي بأن التقدم الفكري والتقدم التكنولوجي
سيسيران جنبًا إلى جنبٍ في العصر اليوناني الكلاسيكي، وخاصة في «فترة ما
قبل سقراط» وكانت الوسائل كلها ميسرة لذلك؛ فالعلم اليوناني قد أخذ يزدهر،
وأسرار الرياضيات بدأت تتكشف للعقل اليوناني، والاتصالات بالحضارات القديمة
قائمة لا تنقطع، والمناخ السياسي والاجتماعي يساعد على ذلك دون شك، وفضلًا
عن ذلك ففي تلك الفترة بعينها، وُضعت أسس النظرية الذرية من جهة، وظهر مذهب
«أبقراط» العلمي التجريبي في الطب من جهة أخرى، وهما كشفان يساعدان على
تمهيد الطريق للكشف والاختراع الآلي؛ الأول إذ يصور الكون كله على أنه آلة
ضخمة، والثاني إذ ينظر إلى جسم الإنسان نفسه على أنه آلة معقدة.
١٦
ثانيًا: مولد العلم النظري في عصر أفلاطون وأرسطو
في الوقت الذي أخذت فيه عملية الجمع بين النشاط الفكري النظري والنشاط
العملي الآلي تتطور شيئًا فشيئًا في العلم اليوناني منذ طاليس حتى
ديموقريطس، إلا إن هذا التطور المتوقع لم يحدث، وظل العلم اليوناني نظريًّا
لا تطبيقيًّا.
فلقد ظهر في الفترة منذ «٤٧٠ إلى ٣٣٠ق.م.» بعض الفلاسفة من أمثال
«سقراط» يدعون إلى تثبيط العزائم، والعزوف عن البحث عن أسرار الطبيعة،
واستبدال العلم التطبيقي بالعلم النظري، وفي هذا يقول «بنيامين فارتن»: «إن
سقراط نبذ النظرة العلمية عن الطبيعة وعن الإنسان التي أنماها مفكرو
المدرسة الأيونية من طاليس إلى ديموقريطس، واستبدل بها صورة متطورة عن
النظرة الدينية التي انحدرت من فيثاغورس وبارمنيدس. إنه لم ينزل الفلسفة من
السماء إلى الأرض بقدر ما كرس نفسه لإقناع الناس بأن عليهم أن يحيوا فوق
الأرض، بحيث تعود أرواحهم إلى السماء فور موتهم.»
١٧
ويقترن اسم سقراط بالانتقال من الاهتمام بالفلسفة الطبيعية إلى
الاهتمام بالسياسة والأخلاق، وكان هذا الانتقال يمثل تغيرًا في ظروف
المجتمع. إن الصورة القوية للإنسان وهو منهمك في هجومه على بيئته الطبيعية
وصلت إلى نهايتها نتيجة لأزمة اجتماعية، وكان سبب هذه الأزمة هو نمو نظام
العبودية، إذ بلغت السيطرة الفنية على الطبيعة — إذ ذاك — حدًّا جعل أقلية
من الإغريق تجد فراغًا تكرسه للدراسة، وفي نفس الوقت هيأ لهم توسعهم
الجغرافي فرصة استعباد الشعوب الضعيفة والأكثر تأخرًا. وتحولت العبودية من
نظام منزلي لا ضرر منه إلى محاولة منظمة لإلقاء عبء الأعمال الشاقة، مثل
حمل الأثقال والتعدين، وكثير من العمليات الزراعية والصناعية، على أكتاف
العبيد الأجانب الذين كان الإغريق ينظرون إليهم نظرتهم إلى مِلكيات منقولة،
وأصبح المثل الأعلى للمواطن اليوناني أن ينفصل عن العمل اليدوي كلية،
وانتشرت النظرية التي تقول بأن الطبيعة قد خصت — عن عمدٍ — أجناسًا من
الإنسان بالعمل اليدوي بالذات، وهي أجناس غير جديرة بأن تنخرط في سلك المواطنين.
١٨
وكانت أهم النتائج السيئة لهذا التغير أن انصرف معظم اليونانيين عن
الكشوف العلمية التطبيقية، فقد ترتب على نطاق الرق (الذي أخذت دعائمه تتوطد
في تلك الفترة) ظهور قيم معينة معادية للكشف والاختراع التكنولوجي، وكان
ارتباط العبيد بالعمل اليدوي مؤديًا إلى نفور الأحرار منه وابتعادهم عن كل
ما له صله بالسيطرة على الطبيعة المادية.
وقد عمل كبار فلاسفة اليونان في تلك الفترة على تبرير نظام الرِّق، ولو
تأملنا كتابات فيلسوفي اليونان الكبيرين وهما «أفلاطون» و«أرسطو»، لوجدناها
تتضمن دفاعًا حارًّا عن نظام الرق، وهو دفاع إن دل على شيء فإنما يدل على
مدى تأصل هذا النظام في حياة اليونانيين في ذلك العصر، ففي محاورة
«الجمهورية» يعدد أفلاطون مساوئ الديمقراطية — وهي نظام الحكم الذي كان
بغيضًا لديه — ويرى أن أبرز هذه المساوئ هو التطرف في الحرية التي تصل إلى
حد الفوضى، ثم يقول: «على أن أقصى ما تصل إليه الحرية في مثل هذه الدولة هو
أن يغدو الأرقاء من الرجال والنساء الذين يُشترون بالمال متساوين في حريتهم
مع أسيادهم الذين اشتروهم.»
١٩
فالمساواة بين العبد وسيده في النظام الديمقراطي هي، في رأي أفلاطون،
من أكبر عيوب هذا النظام.
ويساير «أرسطو» أستاذه «أفلاطون»؛ حيث يناقش في كتابه «السياسة» آراء
المؤيدين والمخالفين لنظام الرق، وينتهي من خلال هذه المناقشة إلى القول:
«ويمكن بالبديهة إذن أن نسمو بهذه المناقشة، ونقرر أنه يوجد بفعل الطبع
عبيد وأناس أحرار. ويمكن أن يؤيد أن هذا التمييز يبقى قائمًا كلما كان
نافعًا لأحدهما أن يخدم باعتباره عبدًا وللآخر أن يحكم باعتباره سيدًا، بل
يمكن أن يؤيد آخر الأمر أنه عادل، وأن كلًّا يجب عليه — تبعا لمشيئة
الطبيعة — أن يقوم بالسلطة أو أن يحتملها. وعلى هذا فسلطة السيد على العبد
هي كذلك عادلة ونافعة.»
٢٠
يتضح لنا مما سبق أن «أرسطو» ومن قبله «أفلاطون» كانا متحمسين لنظام
الرق، وكلاهما حاول أن يقدم له أقوى أساس ممكن من الميزات العقلية، وتلك في
واقع الأمر — كما يقول الدكتور «فؤاد زكريا» — ظاهرة غريبة حقًّا عند هذين
الفيلسوفين الكبيرين؛ ذلك لأنهما لم يتركا صغيرة ولا كبيرة، إلا وقاما
بتحليل وتشريح دقيق لها، وقد بلغ تفكيرهما درجة من التجريد والقدرة على
التحليل لم يبلغها الفكر طوال تاريخ البشرية إلا في حالات نادرة، وكان كل
منهما ناقدًا لعصره، ولكل منهما أبحاثة العميقة في الأخلاق والسياسة وأمور
المجتمع. وكم تحدَّثا عن الفضيلة والعدالة وكرامة الإنسان وبلوغه كماله
وتحقيقه الغاية المقصودة منه، فكيف بعد هذا كله تغيب عن نظرهما ظاهرة واضحة
الظلم كالرق؟! وكيف يتحدث أرسطو عن الرقيق بوصفه «ذلك الذي هو بالطبيعة شخص
لا يملك ذاته، بل يملكه شخص آخر»؟! كيف يتحدث على هذا النحو دون أن تدفعه
حاسته الأخلاقية «المرهفة» إلى الوقوف عند هذا الوضع الشائن للإنسان؟! وكيف
يمضي بعدها مباشرة إلى تبرير نظام الرق وإثبات أنه متفق مع الطبيعة؟! لا شك
أننا نرى هنا تناقضًا أساسيًّا بين القدرة التحليلية الدقيقة التي لم يُفلت
من قبضتها شيء، وبين التغاضي العجيب عن نظام مضاد تمامًا لكل نزعة إنسانية
في الأخلاق.
٢١
وعلى أية حال، إذا كان «أفلاطون» و«أرسطو» قد عملا على تبرير نظام
الرق، فقد عملا أيضًا على تأكيد مجموعة القيم التي ترتبت عليه، وهي أن
العمل اليدوي لا يليق بالأحرار، وإنما ينبغي أن ينصرف هؤلاء إلى التأمل
العقلي المحض؛ أي إلى نشاط روحي صرف لا تربطه بالمادة أدنى صلة، وهكذا وضع
اليونانيون الفنون الميكانيكية في مقابل الفنون الحرة، وأكدوا أن الرجل
الحر لا يليق به ممارسة الأولى. وكان أرسطو حاسمًا في تعبيره عن هذه القيم
حيث قال: «إن المدينة المُثلى ينبغي ألا تجعل من الصُّناع مواطنين فيها.»
وحين أكد أن «المرء لا يستطيع أن يمارس الفضيلة إذا كان يحيا حياة صانع.»
٢٢
وبالمثل كان «أفلاطون» من قبله من أقوى أنصار القيم التقليدية التي
تؤكد الفوارق الحاسمة بين أعلى الطبقات وأدناها، وتتخذ من التفلسف النظري
أشرف مهنة تليق بالأحرار، بينما تترك كل عمل له صلة بالطبيعة المادية
للعبد. وعلى عكس ما كان سائدًا عند اليونانيين الأوائل من تكريم الصُّناع
والمخترعين، فقد رأى أفلاطون أن الحرفي أو الصانع لا يستطيع اختراع شيء إلا
بعد أن يتأمل صورته أو مثاله كما صنعته الآلهة، وبذلك انتزع أفلاطون الفضل
من كل مكتشف ومخترع، ونسبه إلى الآلهة فحسب، ولم يقتصر على إنكار مكانة
الصانع، إذ برهن — بمنطق خدَّاع — على أن من لديه معرفة حقيقية بأي شيء ليس
هو من يصنعه، وإنما هو من يستخدمه، وأن الثاني هو الذي يصحح معلومات الأول،
ويضفي عليه علمه، ولقد كانت لهذه الفكرة دلالة واضحة في مجتمع قائم على
نظام الرق، إذ لم يكن من الممكن أن يُعزَى إلى العبد الذي يصنع الأشياء
علمُ السيد الذي يستخدمها.
٢٣
وكانت نتيجة هذه النظرة الخاصة إلى القيم، أن أصبحت كلمة الصانع
والعامل اليدوي مرادفة عند اليونانيين القدماء لمعاني الانحطاط والتدهور
الأخلاقي، وأصبح كل حِرفي محتقَرًا بحكم مهنته ذاتها لا بحكم شخصه، وأصبح
اليونانيون ينفرون من كل ما له صلة بالعمل المادي؛ لأنه كما يقول أفلاطون
لا يشوه البدن فحسب، بل يشوه الروح أيضا، وأقصى ما يصل إليه من يمارسون هذا
النوع من الأعمال هو أن يشبعوا الحاجات المنحطة لدى الإنسان.
٢٤
ومن ناحية أخرى فقد بلغ من تأصيل هذه القيم في نفوس هؤلاء الفلاسفة
أنهم كانوا يزدرون العلوم العقلية ذاتها إذا كانت تستهدف في أبحاثها أي نفع
عملي، فقد رُوي عن أفلاطون أنه غضب من العالم الرياضي «أرخوطاس» لأنه عمل
على حل مسائل هندسية معينة مستعينًا بأجهزة ميكانيكية، واتهمه بأنه يحط من
مكانة علم الهندسة ويشوِّه جلاله؛ إذ يهبط به من الأمور العقلية إلى الأمور
الحسية المادية، ويستخدم فيه موادَّ جسمية ينبغي أن يلجأ الإنسان من أجل
معالجتها إلى العمل اليدوي الذليل.
٢٥
ومعنى ذلك أن علم الهندسة — كما يراه «أفلاطون» — كان ينبغي أن يظل
منفصلًا تمامًا عن الميكانيكا والعمارة، وأي فن آخر من الفنون الهندسية
بمعناه التطبيقي الحديث، وأن عالم الهندسة النظرية يسمو على المهندس أو
المخترع التطبيقي بقدر ما يسمو الفيلسوف على الصانع اليدوي. فالعلم بمعناه
الصحيح يستهدف إرضاء العقل، لا تحقيق منافع أو ضرورات، وأفضل ما يسعى إليه
هو تحقيق التناسق والجمال، لا تلبية الحاجات الفعلية، والقوة الدافعة إلى
العلم الحقيقي هي الرغبة الحرة في التفكير والتأمل، لا الضرورة الملحة أو
السعي إلى حل مشكلة عملية.
٢٦
وإذا كان هؤلاء الفلاسفة اليونانيون، قد ازدروا الغاية التي يسعى إليها
كل كشف أو اختراع تطبيقي، فقد احتقروا أيضًا المنهج التجريبي المتبع في هذا
النوع من الكشف؛ ذلك لأن المخترع يحتاج إلى تطبيق منهج المحاولة والخطأ،
وإلى السير ببطء وتجرِبة طريقة بعد الأخرى، غير أن مثل هذا المنهج في نظر
الفلاسفة العقليين لا يؤدي إلى معرفة حقة، وإنما إلى معرفة وسط بين العلم
والجهل، أو ما يُسمى بالمعرفة الظنية. والمنهج الذي يفضلونه هو منهج التبصر
المباشر الذي يحتاج المرء للوصول إلى نتائجه إلى استنارة وكشف خاطف، ولا
يتردد في استخلاص هذه النتائج أو يجرب طريقةً بعد الأخرى. وبعبارة أخرى
ففلاسفة ذلك العهد لم يكونوا يطيقون صبرًا على الملاحظة الدقيقة التي
يحتاجها علم الفلك مثلًا، أو على التجارِب البطيئة التي تقتضيها أية نظرية
علمية من أجل حل مشكلة عملية أو التغلب على عقبة مادية.
٢٧
والنتيجة الحتمية لهذا الازدراء للمنهج التجريبي، وللانفصال القاطع بين
النظرية والتطبيق، هي:
ثالثًا: عودة الأصول الشرقية في العلم اليوناني في العصر
الهيلينستي
إذا كان «أفلاطون» و«أرسطو» قد استطاعا أن يصبغا العلم اليوناني في
عصرهما بالصبغة النظرية الخالصة، إلا إن الأقدار لم تشأ أن يستمر هذا الوضع
طويلًا، وذلك بسبب التغيرات الشاملة والحاسمة التي مرت بها البلاد
اليونانية خلال بدايات القرن الثالث قبل الميلاد.
وترتبط هذه التغيرات باسم «الإسكندر الأكبر» (٣٥٦–٣٢٣ق.م.)، والذي أخضع
لسلطانه بلاد اليونان، وأعلن نفسه زعيمًا لها ضد الفرس، واستطاع في خلال
عشر سنوات «٣٣٦–٣٢٣ق.م.» أن يفتح آسيا الصغرى وسوريا ومصر وبابل وفارس،
ووصلت جيوشه حتى بلاد الهند وجبال أفغانستان، واستطاع أن يدك قوائم
الإمبراطورية الفارسية أعظم إمبراطورية عرَفها التاريخ حتى ذلك الوقت.
٢٩
وكانت نتيجة لهذه الفتوحات أن حدثت تغيرات هامة في عادات ومعتقدات
اليونانيين أنفسهم، نظرًا لاختلاطهم بشعوب وحضارات الشرق القديم، فقد كان
اليونانيون على عقيدة راسخة بأنهم سادة الشعوب البربرية في كل شيء، وأن
اليوناني قد وُلد ليكون سيدًا على الدوام، ولقد عبَّر لنا أرسطو عن هذا
المعتقد الخاطئ حينما قال: «إن أجناس الشمال مليئة بشعلة الحياة، وأجناس
الجنوب متحضرة، واليونانيون وحدهم هم الذين يجمعون الطرفين؛ فشعلة الحياة
تملؤهم، وهم في الوقت نفسه متحضرون.»
٣٠
كما أن «أفلاطون» و«أرسطو» قد ذهبا إلى القول بأنه من الخطأ أن يُتخذ
من اليونانيين عبيد، لكن ذلك جائز عندهما بالنسبة للشعوب البربرية. وبالرغم
من أن الإسكندر الأكبر كان تلميذًا لأرسطو؛ إلا إنه رفض التأثر بأستاذه في
هذا؛ حيث عمل على تحجيم هذا الشعور عند اليونانيين، فتزوَّج هو نفسه من
أميرتين من الشعوب المتبربرة، وقلَّده في ذلك قادة جيوشه في البلاد التي
فتحوها، ونتج عن هذه السياسة أن الجنس البشري وحْدَة لا تتجزأ، وأن الولاء
القديم للدولة ذات المدينة الواحدة أو للجنس اليوناني، لم يعد صالحًا للعصر
الجديد الذي تطلب نوعًا من الولاء العالمي يتناسب مع تلك الإمبراطورية
الواسعة الأطراف.
٣١
ولقد انعكس هذا المبدأ السياسي على الفلسفات اليونانية في العصر
الهيلينستي، وخاصة في الفترة منذ القرن الثالث وحتى أواخر القرن الأول قبل
الميلاد؛ فمثلًا نجد أن «الفلسفة الرواقية» قد أخذت تدعو إلى القول بوحدة
الجنس البشري وأخوة الناس، وضرورة التعاطف بينهم، حتى إنهم قالوا: «إن أعين
النجوم تتلألأ بالدموع مشاركة منها لإحساسات البشر.» وباختصار فإنهم نادوا
بنوع من الأخوة العالمية، وهي أن الصلة بين أفراد الإنسان لا يجوز أن تقتصر
على أبناء الوطن الواحد، فالعالم كله أمة واحدة، لا فرق بين رجل يوناني
ورجل شرقي.
٣٢
ومن ناحية أخرى فلم ير «الرواقيون» مبررًا للتفريق بين الناس في
المعاملة ما داموا ينتمون جميعًا إلى أصل واحد، ويسيرون إلى غاية واحدة
ويخضعون لقانون واحد، وهم أعضاء جسم واحد، فيجب وجوبًا لا مفرَّ منه أن
نعامل كل إنسان — كائنًا من كان — معاملة حسنة طيبة، لا نستثني من ذلك
العبيد، فهم كذلك جديرون منا بكل عناية وتقدير.
٣٣
وكان من نتيجة هذا المبدأ أن تفاعل كل اليونانيين بغيرهم من الشعوب
الأخرى، فأخذت الشعوب المفتوحة كثيرًا من علم اليونان، وأخذ اليونان الكثير
من ثقافات تلك البلاد على نحو لم يسبق له مثيل.
ومن ناحية أخرى فقد كان لانفتاح اليونانيين على حضارات الشرق في تلك
الفترة أثره في عودة اليونانيين إلى الاهتمام بالجانب التجريبي الذي حاولوا
أن يزدروه قبل ذلك، وقد تمَّ ذلك خلال فترة تقلص دور أثينا الخلَّاق في
العلم والفلسفة، ذلك الدور الذي ساهمت به في المراحل السابقة، ثم انتقال
مركز النشاط العلمي والثقافي إلى الإسكندرية، وكان «الإسكندر الأكبر» قد
أسس هذه المدينة عام ٣٣٢ق.م.، وقد أصبحت بسرعة من أهم المراكز التجارية
والثقافية في البحر الأبيض المتوسط. ونظرًا إلى أنها تقف على بوابة أقاليم
الشرق على حد تعبير «برتراند راسل» فإنها تشكل نقطة اتصال بين الغرب وبين
المؤثرات الثقافية الآتية من بابل وبلاد الفرس.
٣٤
ولقد كان لانتقال العلم اليوناني إلى الإسكندرية خلال العصر الهيلينستي
أثره في عودة الروح التجريبية التي حاول اليونانيون خلال القرن الرابع قبل
الميلاد أن يزدروها.
وسبيلنا الآن هو عرْض مظاهر الروح التجريبية في مدرسة الإسكندرية خلال
القرن الثالث والثاني والأول قبل الميلاد.
ففي القرن الثالث قبل الميلاد وفد إلى الإسكندرية كثير من العلماء
اليونانيين نذكر منهم «ستراتون اللامبساكي» الذي استدعاه بطليموس الأول إلى
مصر حوالي عام ٣٠٠ق.م. ليقوم بمهمة تعليم ابنه وولي عهده. وقد توفي ستراتون
حوالي ٢٧٠–٢٦٨ق.م. ويذكر «جورج سارتون» أن «ديوجين الأيرتي» قال عنه إنه
أشهر عالم طبيعي شهدته مدرسة الإسكندرية خلال تلك الفترة، وقد حاول
«ستراتون» أن يقيم الطبيعيات على أُسس تجريبية، وأن يُحررها من البحث الذي
لا طائل وراءه عن العلل الغائية، كما استطاع أن يؤلف بين المثالية
والتجريبية في أفضل الأساليب الأرسطوطاليسية، وأن يشجع الاستقراء القائم
على التجرِبة دون الاستنباط من المسلمات الميتافيزيقية؛ ولذا كانت طبيعيات
ستراتون محاولة للتوفيق بين الطبيعيات والأرسطوطاليسية والمعارف التفصيلية
والاحتياجات العملية.
٣٥
كما برز في هذا العصر أيضًا كل من «إقليدس» و«أرشميدس»، فأما «إقليدس»
فقد اشتُهر بعلوِّ كَعْبه في الرياضيات، وأنه مؤلف كتاب «الأصول» ولكنه كان
أيضًا «فيزيقيًّا» ومؤسسًا لعلم البصريات الهندسية، كما نُسب إليه مؤلفان
في الموسيقى والميكانيكا.
ومن هذين المؤلَّفين واحد بعنوان «مدخل في التوافقيات»
Eisagogi Harmonica كتبه في الغالب
كليونيدس
Cleoneides. والثاني بعنوان
«المقطع القانوني»
Catatome Canonos، وفيه
شُرحت نظرية فيثاغورس في الموسيقى، ويذهب «أبرقليس» إلى أن إقليدس قد وضع
كتابًا في أصول الموسيقى، كما يقال أيضًا إن إقليدس قد كتب موسوعتين في
البصريات وهما
The Optica, The Catoptrica
ويقول عنهما سارتون بأن أولهما أصلية. أما الثانية فمنحولة، ولدينا أصل
البصريات
Optica كما أن لدينا طبعة جديدة
لكلتا الموسوعتين في النصف الثاني من القرن الرابع أخرجها «فيلون السكندري»
ويبدأ كتاب
Catoptrica بتعاريف اشْتُقت من
النظرية الفيثاغورية، بأن أشعةَ الضوء هي خطوط مستقيمة تخرج من العين إلى
الجسم المرئي (وليس في الاتجاه المقابل)، ثم يوالي إقليدس بعد ذلك شرح
مسائل المنظور، ويتناول كتاب
Catoptrica
المرايا ويضع لها قوانين، وهو فصل قيِّمٌ في الفيزيقا الرياضية يكاد يكون
فريدًا في نوعه لفترة طويلة.
٣٦
وأما «أرشميدس» فقد كانت أعماله العلمية تدعو إلى الجمع بين النظرية
والتطبيق؛ فمثلًا في مجال الرياضيات كانت له جهود عظيمة، منها أنه افترض أن
الخط المستقيم هو أقصر الخطوط التي تصل بين نقطتين، وأنه إذا رُسِم منحنيان
ليصلا بين نقطتين فإن أقربهما إلى الخط المستقيم أقصرهما، وكان لا يعرف
حساب المثلثات أو الهندسة الجبرية، ولكنه استنتج طريقة قريبة لحساب التكامل
من طريقة النهايات، واستنتج مساحة وحجم الكرة، ومساحة القِطع المكافئ
والقِطع الناقص، والمنحنى الحلزوني الذي يسمَّى بحلزوني أرشميدس، وعلماء
الرياضة متفقون على أنه لم يظهر ما يفوق هذه الأعمال الماهرة.
٣٧
ومن ناحية أخرى فقد كانت لأرشميدس مؤلفات في علمي الميكانيكا وتوازي
السوائل، وهي لا تحتوي إلا على النتيجتين الهامتين العامتين اللتين أمكن
الحصول عليهما في الزمن القديم بواسطة الطبيعة الرياضية. وذكر النظرية
المضبوطة للرافعة «الأجسام تتوازن إذا ما عُلِّقت على مسافات تتناسب
عكسيًّا مع وزنها»، لقد استنتج هذا القانون من البديهيات التي تنص على أن
الأجسام المتساوية الوزن والموضوعة على أبعاد متساوية من محور الارتكاز
تتوازن، وأن الأجسام المتساوية الوزن الموضوعية على أبعاد غير متساوية من
محور الارتكاز لا تتوازن. ولقد ازداد اهتمام أرشميدس بعلم توازن السوائل
لمَّا أراد معرفة ما إذا كان الذهب في تاج ملك «سيراقوس» خالصًا، وقصة ذلك
أن الملك أعطى صائغًا مقدارًا معينًا من الذهب ليعمل منه تاجًا له، ولما
تسلَّم الملك التاج وجد أن وزنه نفس وزن الذهب، ولكن الشك تسرب إليه في أن
بعض الذهب قد اسْتُبدل بما يساويه من الفضة وزنًا، ولقد لاحظ أرشميدس وهو
في الحمام أن الضغط على جسمه يزداد كلما ازداد انغماره في الماء؛ ولذلك فلا
بد أن يكون لوزنه الظاهري في الماء علاقة بحجمه، فأتى بقطع من الذهب والفضة
متساوية في الوزن في الهواء، فلما وزنها في الماء وجد أن وزن الفضة الظاهري
أقل من وزن الذهب، فاتضح من ذلك أنه يمكن اختبار نقاء التاج في الحال
بمقارنة وزنه في الماء بقطع من الذهب الخالص لها نفس وزنه في الهواء، ويقال
إن التجرِبة أثبتت خيانة الصائغ.
٣٨
مما سبق يتضح لنا أن أرشميدس يُمثِّل أعظم عقلية علمية في القرن الثالث
قبل الميلاد، تدعو إلى المنهج التجريبي.
ولقد أخذ المنهج التجريبي في ذلك العصر يغزو كافة العلوم، ففي علم
الجغرافية برز «إراتوسينز»
Eratosthenes
وكان أصغر من «أرشميدس» باثني عشر عامًا، وأحد أصدقائه المقربين، وكان
أمينًا لمكتبة الإسكندرية وممتازًا في علم الفلك، وفي الألعاب الرياضية
والكتابة الأدبية، واقترح العمل بتقويم «جاليان»، الذي يحتوي على زيادة يوم
واحد كل أربع سنوات، وقاس قُطر الأرض، وربما يكون قد حصل على نتيجة صحيحة
في حدود خمسين ميلًا، وكان قد شاهد الشمس فوق الرأس مباشرة؛ لأنها كانت
تُرى من قرار بئر عميق، وفي نفس اللحظة لما شُوهِدت الشمس من الإسكندرية
كانت زاويتها من الخط العمودي، من محيط الدائرة، ومن السهل معرفة نصف قُطر
الأرض من مسافة بين سيناء والإسكندرية، وهذه الزاوية.
٣٩
واستعمل «إراتوسينز» مقدرته في الفلك في زيادة الدقة في رسم الخرائط،
فجمع كل المعلومات المعروفة في خريطة للعالم، وكانت تشمل الممالك بين جبل
طارق ونهر الجانج، وقسَّم الخريطة بخطوط يرجع إليها، وكان ذلك مقدمة لخطوط
الطول والعرض، ولقد كان لعمله قيمة عظيمة لإمبراطورية الإسكندرية البحرية،
وكانت للجغرافيا مكانة محترمة لأنها كانت ضرورية لمديري العمليات الحربية
والاقتصادية، وهيأت الوسيلة التي بها تستطيع الشئون العملية والفلك البحت
أن يقوي بعضها البعض.
٤٠
وفي مجال علم التشريح برز في ذلك القرن «هيروفيلوس»
Herophilus بوضع خطط للتشريح وعمل
مقارنات مبنية على التشريح بين جسم الإنسان وجسم الحيوان، وكان أول من
فرَّق بين الشرايين والأوردة، وقال إن المخ مركز الجهاز العصبي ومستقر
العقل، وسمَّى بعض أجزاء المخ بأسماء لا تزال تطلق عليها حتى الآن. ودرس
معاصره «إراسيستراتوس»
Erasistratus المخ
كذلك، وميز بين المخ والمخيخ، وربط تعقيد تلافيف المخ بدرجة الذكاء، وفرق
بين الأعصاب الحسية والأعصاب المحركة.
٤١
وإذا انتقلنا إلى القرن الثاني والأول قبل الميلاد، نجد أن المنهج
التجريبي قد بلغ درجة عالية في كافة العلوم والفنون، وقد كان لهذا المنهج
أثره في التقدم العلمي في مجالي الفيزياء والتكنولوجي في هذين القرنين؛ ففي
هذين المجالين برز ثلاثة أعلام خلال القرنين الثاني والأول، وهم:
«كيتسيبيوس الإسكندري»
Ctesibius of
Alexandria و«فيلو البيزنطي»
Philo of
Byzantium و«هيرون الإسكندري»
Hero of
Alexandria.
٤٢
أما «كيتسيبيوس» فيُروى عنه أنه كان مهندسًا ومخترعًا، وقد اخترع مضخة
ضاغطة وأُرغُنًا مائيًّا وساعات مائية، وقد كان كيتسيبيوس يستهدف من تلك
الاختراعات ضبط سرعة التفريغ، والتمكين من متابعة انقضاء الزمن، وقد أدرك
بالبداهة أن سرعة التفريغ ثابتة شريطة أن يبقى ارتفاع الماء فوق فوهة
التفريغ ثابتًا، وأن تكون مقاسات فتحة التفريغ ثابتة هي الأخرى، إذ إنها
تتعرض للانسداد إذا كان الماء قذرًا، كما أنها تتعرض للتآكل بمرور الزمن،
ويمكن تجنب الحالة الأولى باستعمال مياه نظيفة، والحالة الثانية بصُنع فوهة
التفريغ من الذهب أو الصخور الصُّلبة، ويُشار إلى تثبيت ارتفاع الماء في
الساعة المائية بالتجديد المستمر، وعندها يمكن جمع الماء المفرغ في وعاء
آخر، وقياس الزمن عندئذ على أساس كمية الماء المتجمعة في هذا الوعاء.
٤٣
وأما «فيلو البيزنطي» فيذكر سارتون أنه آخر من وصل اسمه إلينا من
الميكانيكيين الهيلينستيين خلال النصف الثاني من القرن الثاني قبل الميلاد،
فقد اشتُهر بعد كيتسيبيوس، بأنه أول من حاول الإحاطة التامة بالفنون
الهندسية الحربية أي الهجوم والدفاع، وألَّف رسالة ميكانيكية مقسمة إلى
ثمانية أقسام، وهي على النحو التالي: مقدمة وتمهيد – تحضيرات رياضية كنسخ
المربعات – استعمال الرافعات في الآلات – بناء المرافئ – بناء آلات القذف –
كتاب فيلو في الحيل الروحانية وميخانيقا الماء – بناء الأسوار والاستحكامات
– تجهيز المعدات والموارد، والدفاع عن الاستحكامات – أساليب الحصار.
٤٤
وأما «هيرون السكندري» فقد كانت له جهود عظيمة في الميكانيكا والطبيعة،
ومن أعماله أنه برهن (والبرهان عرض لطريقة التفكير عند الأرسططاليين) على
قانون اتزان الميزان الذي يتوقف على خواص البكرة، واستخدم ضمنًا — ولو أنه
لم يكن بصراحة — فكرة عزم القوى في علم الاستاتيكا، إذ إنه يستخدم خواص آلة
عُرفت عن طريق التجرِبة، وكان بفضل نشأته أكثر اتصالًا بأعمال المهندسين،
وزادهم معرفة بفوائد الآلات الميكانيكية وبكيفية زيادتها. ولم يحدث بعد هذا
أي تحسين يستحق الذكر في الميكانيكا النظرية لمدة تزيد على ألف سنة.
٤٥
ومن أعمال «هيرون» التي لا تقل أهمية عن ذلك، ما قام به من بحوث في
نظرية الفراغ، وكان الأرسططاليون القدماء يعتقدون أن الفراغ لا يوجد،
وكانوا قد لاحظوا أن القوة اللازمة لجر عربة أو سفينة تساوي حاصل ضرب
السرعة في المقاومة للحركة، واستنبطوا أنه إذا سُلطت قوة على جسم في فراغ
فإنها تغير مكانه في الحال؛ نظرًا لانعدام المقاومة، ولما كان هذا غير
معقول فإن الفراغ لا يوجد. لقد ساعد مؤلَّفه عن الفراغ طلاب الميكانيكا على
اختراع أجهزة تحوي حركة الموانع.
٤٦
كما شهدت الفترة في القرنين الثاني والأول قبل الميلاد تقدمًا رائعًا
في علم الفلك؛ حيث برز في تلك الفترة «هيبارخوس»
Hipparchus، وقد كان دقيق الملاحظة إلى
حد كبير، واكتشف تقهقر الاعتدالين (نظرًا لميل المحور الأرضي كمحور النحلة)
ونتج عن ذلك تغيير في تسع وخمسين ثانية كل سنة، وقُدِّر الاختلاف الظاهري —
أي الزاوية التي يقابلها نصف قطر الأرض عند مركز القمر — بسبع وخمسين
ثانية، وهو صحيح حقًّا. وقاس الاختلاف المركزي لفلك الشمس الظاهري — وهو
مقدار انحرافه عن دائرة كاملة — وحصل على نتيجة تحتمل الخطأ خمسة في المائة
فقط، وحدد مدة السنة بخطأ لا يتجاوز ست دقائق، وأجرى عدة قياسات فلكية
أساسية أخرى، واخترع أو وطَّد أركان نظرية الدائرة الكسوفية لتعليل ما
يشاهد من عدم انتظام حركات الكواكب، ثم وصف بدقة كل المشاهدات الفلكية
المعروفة في ذلك الوقت، وزاد التنبؤ بالكسوف والخسوف دقة، ولقد أوحى إليه
ظهورُ نجم جديد بعمل كشف بمواقع ١٠٨٠ نجمًا ثابتًا، وقد فُقد هذا الكشف.
٤٧
ويطول بنا السرد لو تتبعنا كل النشاطات العلمية في تلك الفترة، وكل ما
يمكن أن نقوله بأنه لا شك في أن اليونانيين كانوا مَدِينين إلى حدٍّ كبير
للشرقيين في مجال العلم.
رابعًا: نقد فكرة أن اليونانيين تميزوا بالعلم النظري
اعتاد مؤرخو العلم من الغربيين أن يميزوا بين طابع العلم لدى الشرقيين
القدامى والعلم اليوناني؛ حيث أكدوا أن العلم عند الشرقيين من بابليين
ومصريين، كان تجريبيًّا يركز على النتائج دون معرفة الأساس النظري.
فالاختلاف الهائل بين الرياضيات عند المصريين، وعند الشرقيين بوجه عام،
وبينها عند اليونانيين يقوم على أساس أن اليونانيين قد اكتشفوا النظرية،
بينما المصريون لم يستطيعوا أن يعرفوا إلا النتيجة فقط.
٤٨
ونؤيد الدكتور مصطفى النشار حين قال: «ولكم يدهشني دائمًا أمثال هذه
الحجج التي تحاول التمييز بين طابع العلم عند المصريين والشرقيين القدامى
عمومًا واليونانيين، على أساس أن العلم عند الشرقيين عملي، بينما عند
اليونانيين نظري، وأن الشرقيين لم يعرفوا إلا النتائج، بينما اليونانيون
عرَفوا النظريات، فكيف بالله عليكم يعرف المصري القديم نتيجة المسألة
الرياضية دون أن يعرف مقدماتها؟! … أي مسألة رياضية تلك التي يمكن للإنسان
أن يعرف نتيجتها دون أن يعرف المقدمات التي استخرج منها هذه النتيجة.»
٤٩
إن مثل هذا الاعتقاد ينطوي على مبالغة في الفصل بين الجوانب العملية
والجوانب النظرية للمعرفة، وهو فصل لا تبرره التجرِبة البشرية ذاتها في
مختلف العصور، فعندما تتراكم لدى مجتمع معين خبرات عملية طويلة، يكون من
الطبيعي أن تقود هذه الخبرات ذاتها إلى بعض النظريات العلمية على الأقل،
وليست النظرية ذاتها إلا حصيلة لتطبيقات عديدة، فالعلاقة بين النظرية
والتطبيق علاقة متبادلة، بحيث إن الممارسة العملية تمهِّد الطريق إلى كشف
النظرية العلمية، كما أن الوصول إلى النظرية يفتح الباب أمام كشف تطبيقات
جديدة مثمرة. أما القول بأن هناك شعبًا لم يعرف طوال تاريخه إلا تطبيقات
وخبرات عملية، وشعبًا آخر توصل لأول وهلة — ومن تلقاء ذاته — إلى الأسس
النظرية للعلم فإنه زعمٌ يتنافى مع التجارِب الفعلية للبشرية، فضلًا عن
تناقضه مع المنطق السليم.
٥٠
ولا شك في أن الشرقيين القدماء قد توصلوا إلى التعاليم النظرية، وإذا
كانت معلوماتنا عن تلك التعاليم تكاد تكون ناقصة، فإن كل ما في الأمر أن
هؤلاء قد أخفوا العلم بالمقدمات، ولم يُظهروا إلا النتائج مطبقة في الواقع
العملي، وذلك لسبب واضح لديهم، غامض علينا، وهو أن هذه التعاليم النظرية
كانت في الشرق القديم سريةً مقصورة على أصحابها من الكهنة الذين كانوا هم
كبار العلماء أيضًا.
ولقد نقلت هذه السرية للتعاليم النظرية معظمُ المدارس الفلسفية
اليونانية الأولى؛ فجعلت الفيثاغورية — وهي أشهر المدارس الرياضية عند
اليونان — التعاليم سرية، وكان يعاقَب مَن يفشي سرًّا من الأسرار العلمية
عقابًا شديدًا يصل إلى الموت، فقد ألقى الفيثاغوريون بهيباسوس، أحدهم، في
البحر؛ لأنه أفشى سر الجذر التربيعي للعدد ٢.
٥١
وعلى أية حال فإننا نخالف ادعاءات ابتداء التنظير والعلوم النظرية مع
اليونان، وعلى العكس فإن ما قدَّمه الشرقيون القدامى قبل اليونان هو
كالمحيط بالنسبة لما قدمه اليونان، فخلال مئات الألوف من السنين، ومن خلال
العمل والممارسة العملية والمتكررة، وصل الإنسان إلى مجمل إنسانيته؛ إلى
اللغة والآلة، وإلى المجتمع، وإلى معظم الصناعات والحرف والممارسات
الحياتية كالصيد والتجارة والزراعة، وألوان أخرى كالحياكة والخياطة
والحدادة، وبناء المساكن، وأعمال الري، والتعدين، وشتى أمور المجتمع ونظمه
وعاداته وقوانينه وأعرافه وقيَمِه، وسائر العلوم والفنون، وسائر قابلياته
الفكرية العُليا كالأحكام العقلية والمبادئ المنطقية والرياضية وسواها.
٥٢
ويكفينا في هذ الصدد أن «جورج سارتون» قدَّم الشواهد الكافية في كتابه
«تاريخ العلم» على نشوء معظم العلوم، بل وتقدمها إلى حد أنها أصبحت تجريدية
نظرية، عند البابليين والسومريين والمصريين وسواهم.
ففي الرياضيات يفصل «سارتون» القول في هندسة المسلات التي تبلغ مئات
الأطنان كقطعة واحدة، ويستنتج قائلًا: «ويدل قطع الأحجار التي تطلب تركيبها
بعضها إلى بعض معرفة بالهندسة وقياس الأحجام، كما يمكن للباحث أن يقول بحق
إنها تدل كذلك على إحاطة بالهندسة الوضعية
Stereotomy وقياس الأحجام؛ وذلك أنه لم
يكن كافيًا أن تُحَل مثل هذه المشاكل بطريقة عامة؛ لأنه يجب إرشاد قاطع
الحجر إلى الطريقة التي يجب اتباعها في قطع كتل الحجر الجيري. وربما ظلت
تلك المعرفة التجريبية غير مرتبة ترتيبًا ثابتًا، ومع أنه من المستطاع أن
نقول في اطمئنان بوجود أجهزة رياضية كافية نوعًا ما لدى بناة الأهرام، وأنه
لم يكن في الإمكان أن ينهضوا بالجانب العلمي في عملهم.»
٥٣
كما يقدم سارتون معلومات عن طب متقدم عند المصريين، ويذكر أنصار
الثقافة اليونانية فيقول: «ينبغي أن يذكر أولئك الذين يقولون بأن هيبوكراتس
(أبقراط) أبو الطب أنه يجيء في منتصف المسافة الزمنية بين «إمحوتب» وبيننا،
وفي ذلك ما يكفي لتعديل منظورهم إلى العلم القديم.» بقي أن نعرف أن
«إمحوتب» هذا هو أقدم طبيب مصري معروف باسمه، وهو وزير الملك زوسر مؤسس
الأسرة الثالثة في القرن الثلاثين قبل الميلاد. وبقي كذلك أن نعرف أن بردية
إدوين سميث وبردية إبيرس (القرن السابع عشر والسادس عشر قبل الميلاد) فيهما
كل ما في الطب الهيبوقراطي العلمي، مثل وصف الأمراض كلٍّ على حدة على أساس
ظواهر كل مرض وطرق علاجه، وكذلك التشخيص السريري، ومعرفة المرض من خلال
الفحص العام والخاص للجسم، ثم الملاحظة اليومية المستمرة. ثم العلاج
والتعليقات عن تقدم المريض، وفي التعليقات معجم للمصطلحات الغامضة.
٥٤
ويتساءل سارتون بعد ذلك: «هل نستطيع أن نتكلم عن علم مصري؟ أم هل كان
ذلك تطبيقًا عابرًا وأساطير موروثة؟ ما هو العلم؟ أليس من حقنا أن نقول —
كلما حاول الإنسان حل معضلة بطريقة منهجية وفقًا لترتيب سابق أو خطة — إننا
أمام منهج علمي، أي إننا نشهد نشأة العلم على حقيقته، والمصريون لم يبدءوا
العلم فحسب، بل قطعوا شوطًا بعيدًا في الطريق الذي ما زلنا نسير فيه. فهذه
جداول بردية ريند، ألا تدل هذه الجداول مثلًا على محاولة جدية لحل مسائل
رياضية بناء على قواعد عامة وحسب خطة استنتاجية، ثم انظر أيها القارئ في
تبويب الحالات الطبية في بردية سميث، وفي الطريقة التي اتُّبعت في بحث كل
حالة، أليس ذلك علمًا؟»
ويستطرد سارتون فيقول: «وبعد، فإن بعض القراء الذين لا يتحولون عن فكرة
ثبتت في رءوسهم، وهي أن العلم اختراع إغريقي، لا يزالون يقولون في شيء من
الإصرار: ربما كانت معارف المصريين علمًا، غير أنه ليس علمًا صرفًا.» ولكن
لِمَ لا وها هو ذا «برستيد» يجيب عن هذا في ختام بحثه الرائع في بردية سميث
بقوله: «الواقع أن الرجلين — أي الجراح الأصلي ومؤلف هذا الكتاب (البردية)،
وخليفته الذي كتب التعليقات الجامعة للشرح القديم، وكلاهما عاش في النصف
الأول من الألف الثالثة قبل الميلاد — هما أول المعروفين من العلماء
الطبيعيين، وهما أيضًا أول رجلين نستطيع أن نراهما وجهًا لوجه أمام كثير من
الظواهر التي أمكن ملاحظتها في ميدان التطور البشري المديد، فقاما بجمعها
وتسجيلها على أنها نتائج استقرائية استخلصاها من حقائق ملحوظة في سبيل
إنقاذ المريض في بعض الأحيان، وفي سبيل الفائدة العلمية الخالصة أحيانًا أخرى.»
٥٥
ولم يكتف سارتون بأن العلم النظري يحظى بنصيب وافر لدى قدامى الشرقيين،
بل يرى أنه منذ أن اخترع أول إنسان أو أناس العددَ كان هناك علم نظري، وفي
هذا يقول: «إن ظهور العدد منذ كان الإنسان، أو على الأقل منذ آلاف السنين
قبل ظهور حضارة العراق ومصر والصين … إلخ، يعني نوعًا من التجريد، هو
التجريد كله؛ لأن الخطوة الأولى هي أهم الخطوات في كل شيء في حقل الحساب
والهندسة.» استطاع الإنسان نوعًا متواضعًا من النظر العقلي والتجريد في
مرحلة زمنية مبكرة، ومن التصورات الرئيسية في الرياضيات فكرة العدد، وهي في
أشكالها البسيطة خطرت للأقوام الأولين … كيف حدث ذلك؟ نحن لا نستطيع أكثر
من أن نَحدس، ولكن حدسًا لن يكون تحكُّميًّا ولا عبثًا؛ فإن اللاهوتي الأول
هو الذي أخرج فكرة الوحدانية أو الكلية أو وحدانية العلة، ووحدانية العالم
ووحدانية النفس، ووحدانية الرب؛ على حين أن فكرة الاثنينية أو الازدواج لا
بد أنها خطرت للإنسان فيما يقرب من ذلك الزمن المبكر؛ لأن الازدواج ظاهرة
واضحة في الطبيعة: فلنا عينان، ومنخران، وأذنان، وللنساء ثديان، واليدان
على الخصوص باعثتان على التفكير، فلا بد أن الإنسان استعملهما استعمالًا
غير متساوٍ منذ البداية، وأبسط الأعمال كالأكل والشرب واستعمال الأدوات،
والمعاشرة والقتال تستلزم أعمالا مختلفة لكل يدٍ، وبذلك كشفت اليدان يمين
الأشياء ويسارها، وهو ليس عملية ثنائية بسيطة، بل توجيه ضديٌّ يختلف كل
جانب فيه عن الآخر ويَفْضله، يدل على ذلك قبل كل شيء الضِّدية الجنسية،
فجميع البشر، بل جميع أنواع الحيوان الواقع تحت الأنظار، ينقسم إلى ذكر
وأنثى، ثم إن كل صفة بدت بالضرورة في ظاهرة ثنائية؛ فالأشياء حارة أو
باردة، جافة أو رطبة، كبيرة أو صغيرة، سارة أو محزنة، طيبة أو خبيثة …
والأب والأم وطفلهما الأول يؤلفون ثالوثًا، وللنهر جهتان: مُصعدة ومنحدرة،
ولكن للشخص الواقف في السهل تبدو جهات أكثر، فإذا وقف باسطًا ذراعيه انكشف
لعقله أربع جهات متميزة … ولا يلبث أن تعبِّر لغته عن هذا بكلماتٍ أربعٍ؛
وهي: أمام ووراء ويمين وشمال … ويمكن أن يضاف جهة خامسة هي المركز؛ أي
المكان الذي يقف فيه. فضلًا عن جهتين أخريين، وهما السماء من فوقه والأرض
من تحته، ومن هنا تنشأ تصورات الخمسية والستية والسبعية، واكتسب التصور
الأول من هذه التصورات قوة بوجود الأصابع الخمس، وبذا كان من الطبيعي عند
عد الأشياء على يدٍ أو قدم واحدة أن تقسم تقسيمًا خمسيًّا، وأن توصف بأنها
«كذا» و«كذا» من الأيدي والمجموعات الأكبر من هذه — كالعشرة أو العشرين —
جاءت طبيعية كذلك، ولكنها كانت أكثر صعوبة في إدراكها. وأخذ معظم الناس —
أو إن شئت فقل كلهم — هذه المجموعات العددية قضية مسلَّمة.
٥٦
ويؤكد سارتون أن كل هذه المعارف التي أدركها الإنسان البُدائي هي علم
بمعنى العلم البحت، إذ لا حدود لمعنى التجريد، وإذا كان المقصود بالعلم
البحت المعرفة لأجل المعرفة؛ فهذا غير صادق بإطلاق، إذ لكل معرفة محتواها
الاجتماعي وجانبها العملي. وإذا كان الأمر نسبيًّا ومقصودًا به الإقرار
بهذا مع القول بأن الدافع أيضًا حب المعرفة والاستطلاع، فهذا أمر ليس من
سبب لئلَّا يكون موجودًا عند الإنسان الأول، فإن الرغبة في الاستطلاع من
أعمق الخصائص البشرية، وإذا قيل إن الحاجة أم الاختراع وأم التقدم الصناعي؛
فإن الرغبة في الاستطلاع أم العلم، ولاريب أن العلم في العصر الحاضر أعمق
وأغنى، ولكنه ينطبق عليه ما يصف به علوم المراحل البشرية الأولى، أي إنه
كذلك غير كامل وقابل للكمال. وأكثر من هذا فإن بواعث العلماء واحدة في كل
مكان، مع التسليم بالاختلاف من زمن إلى زمن ومن رجل إلى آخر، أعني الإنكار
الذاتي، والاستطلاع الجريء، والطموح الشخصي، والزهو وحب التقدير.
مما سبق يتضح لنا أن من الخطأ الشنيع — بعد هذا — أن يدعي مدعٍ أن
العلوم بدأت — وكذلك سائر الفنون … إلخ — مع اليونان، أو أن ما قدمه هؤلاء
معجزة تستعصي على التفسير. إن هذه النظرة المستعلية الخاطئة تمامًا متأتية
بالدرجة الأولى من اعتبار أن العلم والفكر والحضارة الجديدة بهذه الأسماء
لا تتمثل إلا في بناء الفلسفات المثالية الطوباوية، واحتقار الواقع
والاستعلاء على العمل، وتقسيم ما ينتجه الإنسان إلى عمل يدوي حقير، وآخر
نظري جليل مقطوع الصلة بالأول، إنها نظرة متأتية —وبالتأكيد— من جهل
أصحابها بالتسلسل التاريخي لبناء المعرفة والعلم من خلال العمل وحياة الناس
الاجتماعية بواسطة النطق. إنها نظرة متأتية من بناءات خاطئة لتفسير المعرفة
البشرية تقوم على الثنائية الحادة بين العقل والجسم، والعقل والعالم
الخارجي، واعتبار العقل فطريًّا ثابتًا مطلقًا، ومستعليًا عن التجرِبة
والعمل والعالم الخارجي.
٥٧
وبالتالي يجب أن نسلِّم بأن أي تنظير أو تجريد ذهني أو بناء عقلي،
يتقوم ويتعدَّل من خلال التجرِبة والممارسة الحياتية، كما أنه ينبع أساسًا
من هذا الأساس، وإن أي عمل يتضمن جملة معقدة من المفاهيم والأحكام
والعلاقات العقلية العالية، كما أن أي معرفة لشيء لا تتم إلا من خلال
العمل، ومن خلال ممارسته واختباره مباشرة عن طريق ممارسته.
ولقد أخذ العلم العربي بهذا المبدأ بعدما أضاف بالتدريج إلى مفهوم
العلم معنًى جديدًا لم يكن يلقى اهتمامًا من اليونانيين، وهو استخدام العلم
من أجل كشف أسرار العالم الطبيعي وتمكين الإنسان من السيطرة عليه، وإذا كان
اليونانيون قد عرَفوا الرياضيات وتفوقوا فيها، لكنهم لم يعرفوا كيف
يستخدمونها لحل المشكلات الواقعية التي تواجه الإنسان، وفي مقابل ذلك كان
العرب بارعين في استخدام الأرقام ووضع أسس علم الحساب، الذي يمكن تطبيقه في
حياة الناس اليومية، وكان اختراعهم للجبر، وتفوقهم في الهندسة التحليلية
وابتكارهم لحساب المثلثات، إيذانًا بعصر جديد تُستخدم فيه الرياضة للتعبير
عن قوانين العالم الطبيعي، وتُطبق فيه مبادئها من أجل حل مشكلات المساحة
الأرضية وحساب المواقيت وصناعة الأجهزة الآلية، وكذلك كانت كشوفهم الفلكية
مرشدًا هامًّا للملاحين والجغرافيين، وساعدت على فهم أفضل للعالم الذي نعيش
فيه. أما بحوثهم الطبية والصيدلانية فكانت ذات دلالة تطبيقية لا تخطئها العين.
٥٨
ولقد كان هذا الاتجاه الذي يجمع بين النظرية والتطبيق أمرًا طبيعيًّا
في حضارة قامت على أساس الجمع بين الدنيا والدين، وارتكزت على شعار: «اعمل
لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا.»
٥٩
وإذا انتقلنا إلى العصر الحديث، نجد أن «فرنسيس بيكون»
Francis Bacon أخذ يسعى بكل ما أوتي من
قوة ليؤكد أن العلم الذي يقبل التطبيق كان ضروريًّا لمواجهة التطرف المضاد
في العلم النظري البحت، كما عرَفه الفلاسفة اليونانيون الذين كانوا يزدرون
أية معرفة تقترب من مجال الواقع المادي وتدخل نطاق التطبيق.
٦٠
ولقد نجح بيكون في هذا نجاحًا باهرًا، وذلك من خلال الجانب التجريبي
المبني على مشاهدة الظواهر وتسجيلها واستخلاص أسبابها عن طريق الملاحظة
الدقيقة والتجرِبة.
٦١
كما كانت لدعوة بيكون إلى بروز الجانب التطبيقي في العلم أثرها في ظهور
الثورة الصناعية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، والتي أخذت مبدأ
ردِّ اعتبار العمل بوصفه نشاطًا مميزًا للإنسان، وأخذ الأدباء والكُتَّاب
يمجدون العلم؛ حتى أصبحت هناك مدارس فكرية كاملة تعده القيمة العليا في
حياة الإنسان وترى أنه خالق كل ما أنتجته البشرية من أعمال تستحق التمجيد.
٦٢
بل إن الحضارة الحديثة ذاتها أصبحت تُسمَّى «حضارة العمل»، وأصبح
الإنسان نفسه يُعرَّف بأنه «صانع»
Faber،
بعد أن كان يُعرف بأنه عاقل أو ناطق، ووصل الأمر إلى حد ظهور «عبادة أو
عقيدة العمل» تُعزى فيها إلى العمل صفات القداسة، ويوصف بأسمى العبارات
الصوفية، وفي ظل هذه النظرة الحديثة إلى العمل أصبح يُنظر إلى الإنسان على
أنه — قبل كل شيء — كائن يقهر الطبيعة ويشكِّلها، كما يشكل ذاته ويمنحها
قدرات جديدة بإخضاع الطبيعة لسلطانه.
٦٣
وهذا ما عبَّر عنه «برودون»
Proudhon
حين عرَّف العلم بأنه «امتداد الكائن بنفسه وتوسيعه لها بفضل ممارسة عمله
على الطبيعة» وعبَّر عن تفضيل العمل المادي على العمل العقلي بقوله: «من
كانت فكرته في راحة يده كان على الأرجح إنسانًا أعقل، وهو على أية حال
إنسان أكمل، ممن يحمل فكرته في رأسه، ولا يستطيع التعبير عنها، إلا على شكل
صيغة نظرية.»
٦٤
وفي عصرنا الحاضر اسْتَشرت الدعوة إلى ضرورة التطبيق العلمي، وذلك بسبب
التغلغل المتزايد للتطبيقات العلمية والتكنولوجية في حياتنا، مما أدى إلى
جعل العلم يتصل اتصالًا مباشرًا بمشكلات حيوية، بل ومصيرية، مثل مشكلة
البقاء أو الفناء، ومشكلة التلوث والتزايد السكاني والأزمات الغذائية.
٦٥
مما سبق يتضح لنا تهافت فكرة تميُّز اليونان بالعلم النظري، وأنها كانت
نتيجة ثمار أنتجتها الحضارات السابقة على اليونان، وحين تطرف اليونان في
الجانب النظري للعلم وجدنا أن الأوروبيين أنفسهم، والذين تعاطفوا مع
اليونان، والذين أكدوا فضل اليونان على الغرب الحديث، هم أنفسهم أخذوا
يتنصَّلون من فكرة العلم المجرد ويدعون إلى ضرورة الجمع بين العلم النظري
والعلم التطبيقي.