لماذا أصبح اليورو منجم ذهب لصُنَّاع النقود؟
لا توجد منتجات صناعية كثيرة جدًّا في يومنا هذا ما زال بمقدور الأوروبيين أن يزعموا قيادة العالم فيها. وطباعة أوراق النقد في أوسع معانيها واحدة من صناعات القطاع الخاص التي ضَمِنت هذا النجاح. لذا ربما توقَّع المرء أن إنتاج عُملة أوروبا الموحَّدة الجديدة سيتمخض عن نموذج لورقة نقد يجمع بين الحداثة في التصميم، والكمال الفني في الأمن، والمعقولية في الثمن. وعلى الرغم مما بُذل من جهود جبارة، لم تُنجَز هذه المهمة الهائلة. صحيح أن تحويل العملة أُعِدَّ له حتى أدق التفاصيل؛ إذ تولَّى هذه المهمة — على طريقة هيئة الأركان العامة — الإسباني أوخينيو دومِنجو سولانس، العضو المُعيَّن بدائرة البنك المركزي الأوروبي، والفنلندي آنتي هاينونِن، مدير أوراق النقد، بالإضافة إلى البنوك المركزية الوطنية المعنية. مضى الأمر بسلاسة وﺑ «معنويات عالية» كالتي تُميِّز المحتفلين بالعام الجديد، حسبما ذكرت الصحف في عموم أوروبا في اليوم التالي. كان الثلاثمائة مليون أوروبي لا يعرفون إلا القليل عن الجهود والمتطلبات التي تضمَّنتها التحضيرات الفنية التي استمرت عشر سنوات لهذه التجربة النقدية الكبرى. لكن لم يَغِب الغرور والطموح الفردي من جانب كل دولة من دول الاتحاد عن هذا المشروع المليء بالتحديات الاقتصادية والنفسية؛ حيث انتزعت الأنانية، الحاضرة دائمًا والمفهومة جيدًا، تسويات تدعو إلى التزام الحد الأدنى من القاسم المشترك على طول الطريق. وبهذه الطريقة تحوَّل اليورو — السمة المميِّزة لأوروبا الموحدة — بنجاح إلى «ورقة نقد سياسية» أثَّرَتْ أحيانًا بالسلب على المعايير الصارمة عادةً في هذه الصناعة المُؤَمَّنة. لم يتسرَّب إلى الأحاديث العامة بالطبع إلا القليل عن هذه الأمور؛ نظرًا لصدور أمرٍ بحظر النشر تمامًا من قِبَل البنوك المركزية المشارِكة والمعهد النقدي الأوروبي — باعتباره النموذج الأوَّلي للبنك المركزي الأوروبي — بدايةً من مرحلة التخطيط المبكرة. اضطر أعضاء مجالس الإدارات بهذه الصناعة ذات التدابير الأمنية الصارمة، الذين كانوا معنيين بالتحضيرات، إلى الالتزام خطيًّا بالسرية المطلقة. حتى موظفوهم وعمَّالهم، وصولًا إلى التلامذة الصناعيين، أقسموا على الصمت. كان مفهومًا تمامًا أنَّ «مَن يتحدث عن هذا وهو يحتسي شرابًا بعد انتهاء ساعات العمل يُجازف بفقدان وظيفته.» إن تطوير منظومات تسليح جديدة ربما ما كان ليجري في ظروف أشد سرِّية من ذلك.
مجرد تحديد مختلف فئات اليورو ثم تقرير العدد الإجمالي من الأوراق الذي تحتاجه كل دولة عضو على انفراد من كل فئة فيما يخص الطرح النقدي الأوَّلي تسبَّب في مناقشات لا تنتهي، وتأجيل استمر لسنوات. كان هناك افتقار إلى تجربة سليمة يُلجأ إليها عند الضرورة. كانت أعرافُ تداول النقد في بلدان اليورو متباينة. قرَّر المعهد النقدي الأوروبي في تمحيصه أن نصيب الفرد من أوراق النقد في فنلندا في نهاية عام ١٩٩٦م هو ٢١ ورقة، فيما يبلغ متوسط نصيب الفرد في إيطاليا والنمسا ٥١ ورقة. وليست مصادفةً أن كلا هذين البلدين وجهة سياحية مفضَّلة. كان مثار الخلاف عدد الفئات المُصدَرة، وتوزيع النقد وبطاقات الائتمان، ونطاق تكدُّس النقدية الشائع تمامًا في المناطق الريفية، والنقد الشارد الذي يأخذه السُّيَّاح معهم إلى أوطانهم، ونطاق الاقتصاد غير الرسمي، وأشياء أخرى كثيرة. في فنلندا مثلًا، يستطيع المرء أن يدفع أُجرة التاكسي ببطاقة ائتمان حتى في الدائرة القطبية الشمالية، وأما في شبه جزيرة أيبيريا أو في شبه جزيرة بيلوبونيز، فيُنصح المرء بحمل نقد في جيبه، وبالأخصِّ من الفئات الصغيرة. كانت صعبة بالمثل تقديرات المعهد النقدي الأوروبي للعملات المحتفَظ بها في الخارج، وبالأخص المارك الألماني باعتباره ثاني أهم عملة احتياطي في العالم بعد الدولار.
البلد | كمية الطبع النهائية للإصدار الأولي (بالمليون ورقة) | الكمية الإجمالية | ||||||
---|---|---|---|---|---|---|---|---|
٥ يوروهات | ١٠ يوروهات | ٢٠ يورو | ٥٠ يورو | ١٠٠ يورو | ٢٠٠ يورو | ٥٠٠ يورو | ||
المجموع | ٣١٥٥٫١ | ٣٢٢٠٫٧ | ٣٤٠٦٫٣ | ٣٢٨٣ | ١٢٣٠٫٥ | ٢٢٣٫٦ | ٣٧٠٫٧ | ١٤٨٨٩٫٩ |
بلجيكا | ١٢٥ | ١١٠ | ١٤٠ | ١٠٠ | ٥٠ | ١٠ | ١٥ | ٥٥٠ |
ألمانيا | ١١٥٨٫٧ | ١٠٢٧٫٢ | ٧٧١٫٩ | ١١٤٤ | ٣٦٢٫٩ | ٩٩٫٦ | ٢١٨٫٦ | ٤٧٨٢٫٩ |
فنلندا | ٤٠ | ٦٠ | ٦٦ | ٣٠ | ٢٠ | ٧ | ٢ | ٢٢٥ |
فرنسا | ٣٥٠ | ٦٢٥ | ٧١٠ | ٣٦٠ | ١٥٠ | ٢٠ | ٥٠ | ٢٢٦٥ |
اليونان | ١٥٨ | ١٨٣ | ١٧٨ | ٦٧ | ٢٦ | ٤ | ١ | ٦١٧ |
أيرلندا | ٦٠ | ٤٥ | ١٣٠ | ٥٠ | ٨٫٣ | ٠٫٢ | ٠٫٢ | ٢٩٣٫٧ |
إيطاليا | ٥٤٠٫٥ | ٥١٦ | ٤٤١٫٢ | ٥٢٥ | ٣٦١ | ٣٢ | ٢٤ | ٢٤٣٩٫٧ |
لكسمبورج | ٦ | ٣ | ١٣ | ١١ | ٣ | ٢ | ٨ | ٤٦ |
هولندا | ١٣٥ | ١٣٠ | ١٠٥ | ٢٢٣ | ٣٥ | ١٥ | ١٦ | ٦٥٩ |
النمسا | ١٥٠ | ١٥٠ | ٤٥ | ٦٠ | ١٠٥ | ٢٠ | ٢٠ | ٥٥٠ |
البرتغال | ١٢٣ | ٩٠ | ٢٥٩ | ٥٨ | ٦ | ١ | ٠٫٥ | ٥٣٧٫٥ |
إسبانيا | ٣٠٨٫٩ | ٢٨١٫٥ | ٥٤٧٫٢ | ٦٥٥ | ١٠٣٫٣ | ١٢٫٨ | ١٥٫٤ | ١٩٢٤٫١ |
أصدقاء وأعداء
كان الوضع ملتبسًا ومفعمًا بالصراع؛ فالطاقة الطباعية في القارة العجوز، إذا قيست حسب عدد السكان، أعلى منها في أي مكان آخر على سطح الأرض. ثمانية من بلدان اتحاد العُملة الأحد عشر كانت لديها مطابعها الحكومية وقت تدشين اليورو عام ١٩٩٥م، لكن كانت هناك استثناءات. فمنذ زمن نابليون، وهولندا تستطبع حصريًّا أوراق الجلدر الممتازة فنيًّا بمعرفة شركة طباعة النقد الخاصة إنسخيده. وفي ألمانيا أيضًا، لم يسبق لبنك الرايخ ولا البنك الاتحادي امتلاك مطبعة، وكان البنك الاتحادي يحصل على نصف أوراق المارك من المطبعة الاتحادية المملوكة للحكومة والنصف الآخر من جيزيكه أوند ديفريَنت، وهو ما عاد بالنفع على جودة المارك الألماني وتكاليف صنعه. وأما شعب لكسمبورج، المعروف بحرصه في الإنفاق، فلم يكن يطبع نقوده بنفسه، مفضِّلًا استطباع كمياته المتواضعة من الفرنك اللكسمبورجي بمعرفة تشكيلة من شركات طباعة النقد العامة والخاصة في الخارج. وكانت البرتغال تفعل المثل، وإنْ لأسباب مختلفة، على نحو ما سنتناول بمزيد من العمق في موضع لاحق. وكما لو أن الوضع السوقي لم يكن معقدًا بما يكفي بالفعل، كان لدى أوروبا مع ذلك أكبر شركات خاصة مُؤَمَّنة لطباعة النقد في العالم: دي لا رو، وفرنسوا شارل أوبرتور فيدوسيير، وجيزيكه أوند ديفريَنت، لكن الشركتين الخاصتين البريطانية والفرنسية كان يتم استبعادهما عادةً من طبع عملتهما الوطنية.
ثمة كراهية حقيقية بين شركات طباعة النقد الحكومية والخاصة. فالتعليقات التي تتحدَّث عن «انعدام الكفاءة الصادم» بين شركات طباعة النقد الحكومية، والردود السريعة عليها التي تتحدَّث عن «أساليب الأعمال الوحشية» بين شركات طباعة النقد الخاصة، شيء اعتيادي. والواقع أن الطلب المتزايد على التكنولوجيا المُؤَمَّنة لأوراق النقد في إطار مكافحة التزييفات المتقدِّمة فنيًّا يجبر كلا المعسكرين على التعاون. إنهما يظلان «أصدقاء وأعداء في الوقت ذاته» كما قيل ذات مرة. كانت شركات طباعة النقد الحكومية لا ترغب كثيرًا في إشراك منافسيها من القطاع الخاص في إنتاج اليورو. في مرحلة مبكرة، فعَّل محافظو البنوك المركزية فرقة عملٍ خاصة باسم «الفريق العامل المعني بأوراق النقد»، وكان يُفترض أن يتعامل في لجانه الفرعية مع تطوير اليورو، وجودة ورقه وطبعه، وخصائصه الأمنية، ومكافحة المزيفين عمومًا. أُسندت رئاسة هذا الفريق إلى ألِكس جارفِس، مدير عام مطبعة دِبدِن التابعة لبنك إنجلترا آنذاك، وكانت مشاركة بريطانيا في اليورو لا تزال لم تُحسم بعد. كان مديرو خزائن البنوك المركزية كافة وممثلو المطابع الحكومية ينتمون إلى هذا الفريق ذي النفوذ، الذي يُعرف اليوم باسم «لجنة أوراق النقد». لكن الفريق لم يكن يضم أي شركة طباعة نقد خاصة كعضو كامل العضوية به. كان واضحًا أن جهود بعض البنوك المركزية ذات النفوذ لتقييد دور شركات طباعة النقد الخاصة في إنتاج اليورو قدر المستطاع تؤتي ثمارها. اقترح أعضاء ذوو نفوذ في الفريق العامل المعني بأوراق النقد أن تتخلى المطبعة الاتحادية عن عضويتها الكاملة في الفريق لذلك السبب، وكان التفسير الرسمي هو خصخصتها الوشيكة. أما على المستوى غير الرسمي، فكان السبب هو تجنُّب خَلْق سابقة لشركات طباعة النقد الخاصة الأخرى. كانوا يفكرون على الأرجح في جيزيكه أوند ديفريَنت.
استخدمت البنوك المركزية اتصالاتها الوثيقة بالحكومة لمحاولة التأثير بشدة على الوزارات والبرلمانات واللجان بحجة ضرورة حماية الوظائف والمعرفة الفنية ورأس المال المستثمَر في المطابع الحكومية. كانت النية واضحة، أما تنفيذها فكان أصعب؛ لأنه كان جليًّا أنه لا توجد شركة طباعة نقد خاصة في أوروبا قادرة فنيًّا ولوجستيًّا على تولي هذه المهمة الضخمة وحدها. فبالإضافة إلى أوراق اليورو الجديدة، كانت الحاجة إلى أوراق نقد وطنية ما زال يجب أخذها في الاعتبار؛ لأن هذه الأوراق ستظل ضرورية إلى أن يحين وقت تحويل العملة. بالنسبة إلى بلدان العملة الموحدة، كان هذا المتطلَّب في النهاية يعادل نحو ٣ مليارات ورقة نقد سنويًّا. كان يلزم إنتاج مخزون من هذه العُملات يغطي الفترة بين نهاية طبع العملات الوطنية وإصدار اليورو.
لأسباب سياسية، استُبعد إنشاء مطبعة نقد مركزية أوروبية على غرار الولايات المتحدة. وحتى تجميع طلبيات الطباعة بحيث تُكلَّف شركة طباعة نقد معينة بطبع فئة نقد ما لبلد أو أكثر تبيَّن في البداية أنه صعب جدًّا بالنسبة إلى بلدان العملة الموحدة. كان من شأن هذا أن يسهِّل التنسيق ويوفر المال. قيل إن العدد الهائل من المتقدمين للعطاء سوف يعني تفاوتًا هائلًا في التكاليف. وهكذا تقرَّر أن يتولى كل بنك وطني مسئولية الكمية الأولية من أوراق اليورو اللازمة لبلده. تم التخلي عن استدراج العروض على الرغم من وجود تصور لإجراء مناقصات فيما يخص متطلبات إحلال اليورو. كنتيجة حتمية، قَبِل البنك المركزي الأوروبي، الذي كان في طور التكوين، على مضضٍ القيام بدور المنسِّق والمشرف على رقابة الجودة، وهو دور بالغ الصعوبة في ظل تلك الظروف.
كقاعدة، لم تكن المؤهلات الفنية للعاملين في المطابع الحكومية موضع شك. كانت جودة أوراق النقد لها الأولوية، وكان بعض هذه المطابع ينتج أعلى جودة في العالم. لكن إدراك حقيقة أن للتكلفة أيضًا دور في طبع أوراق النقد لم يكن له تأثير ملموس بسبب كبرياء شركات طباعة النقد الحكومية. كان بعض هذه الشركات تعمل حتى دون حسابات تكلفة. كانت هذه الشركات — باستثناءات تُثبت القاعدة لا تنفيها — عبارة عن مؤسسات خرقاء تضم أعدادًا ضخمة من موظفين يتقاضَوْن أجورًا مبالغًا فيها، وفي أغلب الأحوال كان هؤلاء الموظفون محصَّنين ضد الإقالة. كذلك كانت هناك آلات باهظة التكلفة تعمل مناوبة واحدة، بينما يقف عمال كثيرون بلا عمل يؤدونه في أرجاء المطابع التي حُوِّلت منذ زمن طويل إلى التحكُّم الإلكتروني الكامل. لم تكن شركات طباعة النقد الحكومي تجسيدًا للكفاءة الصناعية بأي حال من الأحوال.
نشوة اليورو الاستثمارية
كانت تدابير رفع كفاءة المطابع الحكومية حتمية في التمهيد لطبع اليورو، لكن لم يكن أحد متحمسًا للدخول في صراع مع العمال، الذين يمكنهم ضرب العصب الاقتصادي لأي بلد باحتجاجاتهم؛ مما يضع الحكومة في موقف صعب. ولتشجيع الحوار بين النقابات والبنوك المركزية وشركات طباعة النقد الحكومية، عُقد اجتماع طاولة مستديرة، لكن تدابير تقليص الأيدي العاملة أو تحسين معدلات تشغيل الآلات كان يصعب تنفيذها. دافعت النقابات العمالية الوطنية واتحاد النقابات الأوروبي الكائن في بروكسل بشدة عن الامتيازات التي حقَّقها العمال. على هذا النحو سارت البنوك المركزية في المسار السياسي الأسلم لها، دافعة في اتجاه التحديث من خلال توسيع الطاقة الإنتاجية بالدرجة الأولى. مسألة ما إذا كانت هذه الطاقة ستُحتاج فيما بعد أم لا، لم يُلتفت إليها كثيرًا. كانت الحاجة الهائلة إلى أوراق اليورو على المدى القصير هي الحُجَّة. وفي خضم استعراض العضلات بين شركات طباعة النقد الحكومية، لم يكن المال عائقًا. فالشركات التي تستطيع عمليًّا طبع رأسمالها ليست مضطرة للانشغال بأمر المال. كان المبدأ السائد هو: الطباعة وحدها هي كل شيء.
افتَتحت المطبعة الاتحادية هذا التنافس المحموم بمركزها الجديد للطباعة المُؤَمَّنة الملاصق لجدار برلين السابق. تكلَّفت هذه الجوهرة الصناعية المنشأةُ من الفولاذ والزجاج ما لا يقل عن ١٠٠ مليون يورو دون العقار، ومُوِّلت من أرباح المطبعة الاتحادية المحتجَزة، التي كانت لجنة الموازنة بالبرلمان الألماني (بوندستاج) قد أتاحتْها بسخاء على مر السنوات. بزيادة الطاقة الإنتاجية بإضافة خط جديد إلى الطابعات القديمة، لم تكن المطبعة الاتحادية الجديدة متواضعةً في حجمها بأي حال من الأحوال. كان المرجو الحصول على طلبيات إضافية من بلدان أخرى لطبع اليورو. كانت إيطاليا، التي يُفترض أن تطبع أكبر عدد من أوراق اليورو بعد ألمانيا، لديها خُطط تكاد لا تقل بذخًا؛ فمطبعة النقد التابعة لبنك إيطاليا كانت تضم خطين حديثين كان ينبغي أن يكفيا لتغطية الاحتياج الإيطالي الحالي وأي احتياج مستقبلي من أوراق اليورو، إذا استُغلت الطاقة الإنتاجية بعقلانية. غير أن نقابات المطبعة الحكومية، التي كانت معروفة بشراستها، نجحت في الحيلولة دون زيادة مرونة توزيع العمال على المناوبات واستغلال طاقة الآلات، فاضطر البنك المركزي إلى تركيب خط ثالث كامل من الآلات هناك. بطبيعة الحال لم تشأ البلدان الأعضاء الصغيرة أن تتخلَّف عن الركب، فأقدمت أيرلندا — التي لا تحتاج سنويًّا من أوراق النقد إلا ما يكفي ٤ ملايين نسمة هم تعداد شعبها، وهي كمية لا يصْغرها إلا احتياج فنلندا ولكسمبورج — على ترقية مطبعتها فنيًّا إلى أحدث مستوًى (سوبر)، وبمساعدة سخية من بروكسل خُلقت طاقة إنتاجية تتجاوز بكثير احتياجات البلد الذاتية. صارت هذه المطبعة تُعرف في الدوائر المهنية بأنها أجمل مطبعة نقد في العالم. كذلك كانت اليونان والبرتغال، وهما بلدان آخران متطلباتهما من أوراق النقد متواضعة واقتصاداهما ضعيفان هيكليًّا، تلتهمان من قصعة الاتحاد الأوروبي لتهيئة مطبعتَي نقدهما بما يناسب إنتاج اليورو. وما كان ذلك ضروريًّا أيضًا.
لكن جائزة الأداء الأسوأ كانت من نصيب البنك الوطني النمساوي. ففي وسط فيينا حيث ارتفاع التكلفة — وهو منطقة ضيقة محمية عمرانيًّا — أُقيمت مطبعة فخمة بحقٍّ، استُوفيت فيها كل شروط رفع التكاليف. ابتلع هذا المركز النقدي، الذي افتُتح بعد ثماني سنوات من التخطيط والبناء، نحو ٣٣٠ مليون يورو (المبنى وحده تكلَّف ٢٢٥ مليون يورو قبل حساب الضرائب) بحسب البيانات الرسمية؛ مما جعله أغلى ثلاث مرات من مقر مطبعة برلين الجديد الذي هو مرتفع التكلفة فعلًا؛ وذلك حتى دون حساب التجديدات التي تلت ذلك. حصل سكان فيينا في المقابل — على نحو يُعيد إلى الأذهان ظلال فيلم «الرجل الثالث» للمخرج أورسون وِلز — على نفق طوله ١٠٠ متر يصل المطبعة بالمقر الرئيسي للبنك الوطني. من جديد، كان الدافع هنا اعتبارات أمنية مبالغًا فيها فيما يخص مرونة الإنتاج، وآمال لا تقل عظمةً في الحصول على طلبيات تصدير. تجاوز الاستثمار الحاجة بكثير. في زمن الشِّلن، كان متطلب البلد السنوي لأوراق الإحلال يزيد نوعًا ما عن ١٥٠ مليون ورقة؛ بسبب الحاجة الكبيرة إلى إحلال الأوراق الصغيرة فئة ٢٠ شلنًا، التي تساوي اليوم أقل من ١٫٥ يورو. تحظى أوراق النقد المنتَجة في النمسا باحترام كبير في العالم المهني بفضل جودة تصميماتها وطبعها وخصائصها الأمنية. لكن يُخشى الآن ألا تؤخذ أوسترايشِشه بنكنوتِن أوند زِشرهايتسدروكراي (مطبعة النقد والسندات المالية النمساوية) — بافتراض اتِّباعها التسعير الواقعي — في الاعتبار في أي استدراج دولي لعروض طبع النقد، لا لشيء إلا بسبب تكاليفها الثابتة. كما تسبِّب أيضًا بذخ البنك الوطني النمساوي في إنفاق موارده في ضجة سياسية محلية. امتنع فكتور كليما، المستشار الاتحادي آنذاك وعضو الحزب الديمقراطي الاجتماعي النمساوي، عن القيام بجولة في المطبعة متعلِّلًا ﺑ «ضيق الوقت» أثناء مراسم افتتاح المشروع المهيب. كان منزعجًا بسبب مقدار ما استُثمر من أموال في المطبعة الجديدة. بعد طبع إصدار اليورو الأوَّلي، أنتجت القوة العاملة المؤلَّفة من ٣٤٠ فردًا في المتوسط نحو ٢٠٠ مليون ورقة نقد سنويًّا. في بعض الأحيان تجاوزت الخسائر السنوية لشركة طباعة النقد هذه حجم أعمالها السنوية. وقد سعى البنك الوطني النمساوي مرارًا إلى مشاركة رأس المال الأجنبي في مركزه النقدي، فلم يقبل أحد.
فيما بعد لم يَعُدِ البريطانيون يتذكَّرون الاتفاق على الاستفادة من الطاقة غير المستغلة في المطبعة البرتغالية، لكن العقد أكسب دي لا رو حصة أقلية بنسبة ٢٥ في المائة في مطبعة البنك الوطني البرتغالي الجديدة فالورا سيرفيسوس جي أبويو إميسو مونيتاريا إس إيه في كاريجادو. كان الأصدقاء في لوزان قد نبَّهوا البرتغاليين لئلا يتيحوا أكثر من هذا. ومن خلال هذا التعاون، ضَمِنت شركة طباعة النقد البريطانية الخاصة مدخلًا إلى إنتاج اليورو. بل تمكَّنت دي لا رو من ضمان عدم استقلال البرتغاليين أكثر مما ينبغي على الرغم من مطبعتهم الجديدة؛ حيث أقنعت البنك الوطني البرتغالي بعدم ضرورة شراء البرتغال آلات خاصة باهظة التكلفة لأداء العمل المعقَّد فنيًّا، وهو إضافة الخصائص الأمنية المختارة إلى أوراق اليورو الجديدة، وتكرَّم البريطانيون بعرضِ تولِّي هذا الأمر بأنفسهم، فقبلت لشبونة. منذ ذلك الحين لم يعد نقد البرتغال يؤخذ من جيتسهيد، حيث مطبعة دي لا رو، إلى لشبونة، بل من لشبونة إلى جيتسهيد. كانت شركة فرنسوا شارل أوبرتور فيدوسيير هي الأقل حظًّا؛ فبعد انهيار اندماجها مع الشركة الهولندية إنسخيده، كان هناك احتمال لأنْ تكون الشركة الفرنسية هي شركة طباعة النقد الخاصة الوحيدة في منطقة اليورو المستبعدة من طبع اليورو، لكن بفضل الصعوبات المستمرة أمام طبع أوراق النقد في بنك فرنسا، أُتيحت للشركة الفرنسية فرصة في النهاية.
البلد | الطبَّاع | الوضع | الآلات | الطاقة الطباعية | كمية طبع اليورو المعدَّلة | |
---|---|---|---|---|---|---|
بلجيكا | البنك الوطني البلجيكي | مطبعة حكومية | ١ | ٢٠٠ | ٥٥٠ | (٤٦٠) |
ألمانيا | المطبعة الاتحادية | مطبعة تجارية | ١ | ٣٠٠ | ٤٧٨٣ | (٤٠٠٠) |
جيزيكه أوند ديفريَنت ميونخ | مطبعة تجارية | ١ | ٣٠٠ | |||
جيزيكه أوند ديفريَنت ليبزيج | مطبعة تجارية | ٣٠٠ | ||||
فنلندا | سِتِك أُوي | مطبعة حكومية | ١ | ٢٠٠ | ٢٢٥ | (١٢٤) |
فرنسا | بنك فرنسا | مطبعة حكومية | ٢† | ٧٠٠ | ٢٥٤٠ | (٢٢٦٥) |
بنك فرنسا | مطبعة حكومية | ١ | ٢٠٠ | |||
فرنسوا شارل أوبرتور فيدوسيير | مطبعة تجارية | ٢ | ٦٠٠ | |||
اليونان | البنك الوطني اليوناني | مطبعة حكومية | ١ | ٢٠٠ | ٦١٧ | (…) |
أيرلندا | البنك الوطني الأيرلندي | مطبعة حكومية | ١ | ٢٠٠ | ٢٩٤ | (١٥٠) |
إيطاليا | بنك إيطاليا | مطبعة حكومية | ٣ | ٦٠٠ | ٢٤٤٠ | (٢٢٠٠) |
لكسمبورج | بنك لكسمبورج الوطني | لا شيء | لا شيء | لا شيء | ٤٨ | (…) |
هولندا | إنسخيده | مطبعة تجارية | ٢ | ٦٠٠ | ٦٥٩ | (٦٠٠) |
النمسا | البنك الوطني النمساوي | مطبعة حكومية | ٢ | ٤٠٠ | ٥٥٠ | (٤٦٠) |
البرتغال | مشروع البنك الوطني البرتغالي/دي لا رو المشترك | مطبعة حكومية/مطبعة تجارية | ١ | ٢٠٠ | ٥٣٨ | (٤٠٠) |
إسبانيا | البنك الوطني الإسباني | مطبعة حكومية | ٤ | ٨٠٠ | ١٩٢٤ | (١٩٠٠) |
بريطانيا (خارج منطقة اليورو) | دي لا رو-جيتسهيد | مطبعة تجارية | ١ | ٣٠٠ | (٥٠٠)‡ | |
بنك إنجلترا/دي لا رو دبدن | مطبعة تجارية | ٢ | ٥٠٠ | لا شيء |
تتضمَّن حسابات الطاقة الطباعية معايير كثيرة تشمل: معدل تكرار تغيير نوع الورقة المراد طبعها (إعادة تهيئة الآلات)، ومساحة الورقة الجاري طبعها (عدد الأوراق في كل صفحة)، ومقدار استخدام طباعة الإنتاليو، إلخ. إنتاج ٢٠٠ مليون ورقة نقد لكل خط سوبر في مناوبة تشغيل واحدة لا يُعتبَر رقمًا طموحًا جدًّا، ولا سيما باعتبار أن شركات طباعة النقد الحكومية تنتج إصدارات تستمر لفترة طويلة وما يقابل ذلك من انخفاض في الوقت المهدر في إعادة التهيئة. بالنسبة إلى شركات طباعة النقد الخاصة، يصل الإنتاج إلى ٣٠٠ مليون ورقة على الأقل على الخط في السنة، وهم في أحوال كثيرة يعملون على مناوبتين. بل إن مكتب سكِّ وطباعة العملة الحكومي الأمريكي يشغِّل آلاته على مدار الساعة ويحقِّق وُفورات في المقابل. الأرقام الخاصة بإنتاج الطباعة الشبكية من جانب بنك فرنسا تُعَدُّ تقديرات في أعلى نطاق لها.
المريض الفرنسي
تُعتبر طباعة أوراق النقد، بما تتطلَّبه من تصميمات ورسوم جرافيكية وجودة في الطبع والحبر والورق، جوهرةَ تاج الفن التخطيطي؛ لما تتطلَّبه من دقة متناهية. فيتم التحكم في تنسيق الألوان، ولا سيما عندما يتدرَّج لونٌ ما بسلاسة في اللون التالي، بدقة وجهد بالغَيْن. وتُقاس الانحرافات في عمق حفر الألواح الفولاذية بدقة تصل إلى جزء من ألف جزء من الملِّيمتر. وشركة الطباعة التي تجرِّب حظَّها في هذا القطاع السوقي الشاقِّ لا تحتاج إلى التقدم بطلب إلى هيئة ما، ولا إلى اجتياز اختبارٍ تُجريه هيئة ما من الخبراء، ولا إلى الانضمام إلى طائفة حرفية ما. كل ما عليها أن تُقنِع البنك المركزي الذي تختاره بأنها تملك الأدوات والتقنيات المطلوبة لتطوير الأصول اللازمة لصنع اللوح الطباعي. وعندئذٍ عليها أن تُثبت أنها تستطيع إنتاج أوراق نقد هذا البنك مع التزامها بأعلى معايير الجودة في الإنتاج، والأمن في تخزين الأوراق المنجزة في سردابها. وفيما يخص اليورو أيضًا، ما كان يلزم على شركات الطباعة الراغبة، التي كانت مؤهلة تمامًا، سوى تسجيل نفسِها لدى البنك المركزي الأوروبي، وما كان عليها لهذا التسجيل إلا تحديد ما لديها حاليًّا، أو ما تخطِّط لاقتنائه من معدات فنية، والتعهد خطيًّا بقدرتها على تنفيذ طلبية الطبع في الزمن المحدَّد ووفقًا للمواصفات الفنية المطلوبة. وعندئذٍ كانت هذه الإقرارات تُمحَّص. كان يلزم كل شركة طباعة نقد أن تُنتِج «ورقة نقد اختبارية» تتضمَّن كل المطالب التي يمكن أن تؤخذ في الاعتبار فيما يخص اليورو. كشفت هذه الورقة الاختبارية للخبراء كل نقاط الضعف الفنية في الطباعة. ثمة واقعة هنا سَلَّطت الضوء على الموقف المتناقض لبيروقراطيي الاتحاد الأوروبي، الذين في إطار بحثهم عن القاسم المشترك الأدنى، سينبذون فورًا ما هو مجرَّب وموثوق، وفي الوقت نفسه يشغلون بالَهم بالتفاهات بشكل بيروقراطي. الورقة الاختبارية التي استُخدمت للتحضير لطبع اليورو كانت ورقة صورية ذات ظلال مصفرَّة، وُضِع في منتصفها تمامًا، عند تقاطع خطين سميكين، رقمُ الفئة واسم شركة الطباعة. لم تكن تربطها مطلقًا أيُّ علاقة بالمظهر الحقيقي لأوراق اليورو التي جاءت فيما بعد. وعلى الرغم من ذلك، اقتُرحت فئة شاذة لهذه الورقة هي فئة «سبعة يوروهات» للحيلولة دون إساءة استعمالها، ثم أُلغيت هذه الفكرة. لكن ناتج اختبار الطبع كشف، كما كان يجب أن يُتوقع، عن اختلافات هائلة بين المطابع، وتطلَّبت النتائج شهورًا عديدة من التنسيق الشاقِّ. إن جودة أوراق النقد لا تعتمد ببساطة على الآلات وحدها.
لم تَسْلَم شركة طباعة من الانتقاد، لكنْ في حالة فرنسا كانت نتيجة الاختبار مدمِّرة، مع أنَّ بنك فرنسا كان قد انتزع سابقًا تنازلات من البنك المركزي الأوروبي بشأن مواصفات الجودة. يقتضي الأمر استطرادًا فنيًّا لاستيعاب لماذا سيكون لهذا تبعات بعيدة المدى بالنسبة إلى اليورو. كان بنك فرنسا قد نقل إنتاجه للنقد بأكمله إلى منطقة كليرمون-فيران في وسط فرنسا بعد الحرب العالمية الأولى؛ خشية غزو ألماني آخر. لم يكن البنك يستخدم مُشاطة القطن — منتج ثانوي لإنتاج الغزل — في مصنعه في بلدية «فِك لو كُمت» لصنع الورق المُؤَمَّن، بل كان يستخدم بدلًا من ذلك نوعًا من قنب سيام (الرامي)، يُعرف أيضًا باسم عشبة الصين، كان يُؤتى به من المستعمرات الآسيوية السابقة. هذا اللُّباب الورقي يصعب جدًّا تصفيته وتجفيفه، لدرجة أنه لا يمكن إلا صنع ورق رقيق نسبيًّا منه. لهذا السبب كانت أوراق الفرنك المصنوعة من ورق الرامي دائمًا ما تذكِّر المرء نوعًا ما بورق الأرز.
المطابقة التامة للصورة المطبوعة على كلا جانبي ورقة النقد التي تُتِيحها طباعة التغذية بالصفحة لا يمكن تحقيقها إلا بصعوبة في الطريقة الشبكية. والحفر على اللوح الفولاذي يكون أيضًا أقل عمقًا؛ مما يفقد الورقة بروزَها الملموس، وعلى هذا النحو تضيع خصائص أمنية مهمة. عندما صار تراجع الجودة من خلال الطباعة الشبكية واضحًا جدًّا، ركَّبت شماليير ببساطة طابعة إنتاليو بلوح فولاذي من إنتاج دي لا رو جوري بجانب الآلات الأخرى، حتى في زمن الفرنك. لا تتوافق الطابعات الشبكية وطباعة التغذية بالصفحة على الإطلاق، لكن فيما يبدو أن التكلفة لم تكن تمثِّل أي شاغل. رفض بنك فرنسا بعنادٍ أن يستعيض عن طابعاته كلها بطابعات تُغذَّى بالصفحة لأجْل طبع اليورو. كان هذا يعني أن بصمة الإنتاليو ستكون شديدة التسطُّح؛ مما يُقلِّص بشدة قيمتها كخاصية أمنية. لكن تحت ضغط من البنوك الوطنية الأخرى، حوَّل الفرنسيون مصنع الورق في «فِك لو كُمت» إلى استعمال القطن كمادة خام. كان هذا المصنع قد تقرَّر إغلاقه منذ سنوات، وجنَّبته هذا المصير مقاومةُ النقابات العمالية؛ ولهذا السبب لم يكن هناك اهتمام بالاستثمار فيه. ومن ثم فمن أجل تحقيق التجانس، كان على كل المشاركين الآخرين أن يَرضَوا باستخدام ورق أخفَّ؛ ومن ثم أرقَّ؛ مما كان مقبولًا عمومًا. لم يكن هذا يخلو من التداعيات فيما يخص جودة أوراق اليورو وأمنها. وللورق الرقيق أثر مزعج بخاصة على الورقة فئة ٥ يوروهات؛ مما تسبَّب في شكاوى من المواطنين فيما بعد.
كان لوجهة نظر خبراء البنك الاتحادي الكائن في فرانكفورت تأثيرٌ كبير في هذه المناقشات، وأيضًا في تجهيز أوراق النقد بالخصائص الأمنية، لكن في أغلب الأحيان كان البنك يلتزم الصمت. كانت هذه أوقاتًا عصيبة لممثلي البنك الاتحادي. كان الصراع الذي دار على مقر البنك المركزي الأوروبي على أشُدِّه؛ إذ أراده البنك الاتحادي أن يكون في فرانكفورت، دون شروط، وكان على الطاولة طلب الفرنسي جان-كلود تريشيه ليكون أول رئيس للبنك المركزي الأوروبي. كان البنك الاتحادي متحفِّظًا نوعًا ما بشأن ترشحه. لم يكن ممثلو هذه الصناعة الألمان وحدهم هم الذين راودهم من حين لآخر شعور بأن البنك الاتحادي الألماني يُمارس «تسامُحًا سياسيًّا» في مناقشته التجهيزات اللازمة لعُملة اليورو.
ورقة النقد السياسية
كان هذا يعني تعقيدًا إضافيًّا قلما يُعترَف به بالنسبة إلى البنوك الوطنية في تخطيطها لليورو؛ إذ كان هناك عدد كبير على غير العادة من المورِّدين المحتملين لمشروع العملة المتعددة الجنسيات هذا، وكلهم يجب أخذهم في الاعتبار. كان الحصول على أسعار مواتية وإمداد لا ينقطع يستدعي تجنُّب الاعتماد على مورِّدين معيَّنين. من ناحية أخرى، كان هدف حماية أوراق اليورو من التزييف يتطلَّب تقنين المواد المسانِدة والمواد الخام. كان هناك اتفاق على ضرورة أن يكون هناك مصدران على الأقل للتوريد، على ألا يؤخذ في الاعتبار إلا مورِّدون داخل الاتحاد الأوروبي، ولا تُدفع رسوم ترخيص. كان يلزم تسجيل تركيبات المواد، حتى بالغة السرية منها، لدى البنك المركزي الأوروبي. لم يكن هذا برهانًا بمعنى الكلمة على المنافسة المفتوحة. ومع ذلك فإن الاقتصار على إقليم الاتحاد الأوروبي لم يكن على الإطلاق مزعجًا لموردي القطاع الخاص أيضًا. كان البعض سيفضِّل قصر المنافسة على منطقة اليورو، مجادلين بوجود قَدْر كبير من التدخل لإبعاد المنافسة عن حياديَّتها في سوق أوراق النقد العالمية على أيِّ حال. لكن طبَّاعي ومورِّدي القطاع الخاص، الذين عملوا جاهدين لتحقيق تفوقهم التكنولوجي، اكتشفوا أيضًا في المواصفات محاولةً من قِبَل بعض البنوك الوطنية للحصول على التكنولوجيا التي يوفِّرها هؤلاء الطبَّاعون والمورِّدون بالمجان. جيزيكه أوند ديفريَنت بالأخص رفعت صوتها بالشكوى.
تحطيم المنافسين بالإسراف في المعدات
تلا ذلك صراع شديد على الخصائص الأمنية لليورو انطوى على مسألتَيْ ما إذا كانت الطباعة من لوح فولاذي محفور ستُستخدم على جانب واحد أم على كلا الجانبين، وما إذا كانت الخيوط الأمنية ستكون ميكانيكية أم إلكترونية. كان هناك أيضًا احتراب على الصورة المستترة والحبر المتبدِّل الألوان والهولوجرام وأشياء أخرى. وبينما كان أحد اللاعبين يستشعر أن خصائصه الأمنية تُرفَض عمدًا، كان آخَر يشكو لئلا تكون أوراق النقد الجديدة مزيَّنة كشجرة عيد الميلاد. كان الخبراء المهنيون يشكون مِن تدخل الساسة في أغلب الأحيان في آرائهم فيما يتعلَّق بهذه الاختيارات. لكن حتى آراء ونصائح هؤلاء الخبراء لم تكن دائمًا مجرَّدة من الانحياز، وأبرز مثال على هذا الورقُ والخيوطُ الأمنية. فداخل منطقة اليورو في ذلك الوقت، لم يكن يتمتع برفاهية امتلاك مصنع ورق حكومي سوى فرنسا وإيطاليا وإسبانيا. كان المصنع الإسباني هو الأكثر كفاءةً، فيما خُصخص المصنع الإيطالي منذ ذلك الحين. كانت البلدان الأخرى تشتري ورقها اللازم لإنتاج النقد من السوق، في الأغلب من بورتالز ولويزنتال وأرجو وِجنز. فيما يخص اﻟ ١٥ مليار ورقة التي يتضمَّنها طرح اليورو الأوَّلي وحده — تحديدًا ثلثي الاحتياج الإجمالي — كانت هناك حاجة إلى ما يزيد بكثير عن ١٢٠٠٠ طن متري من الورق المُؤَمَّن، دون حساب الفواقد نتيجة القص والأخطاء المطبعية. لم يكن بوسع مصانع الورق الحكومية الأوروبية ببساطة توريد كل هذا. كان على المرء أن يلجأ إلى مصنِّعي القطاع الخاص.
منجم ذهب اليورو
يومًا بعد يوم، تولَّدت رغبة لدى كثير من البنوك الوطنية في تولي عملية الطباعة على الأخص بمفردها، إن أمكن، وألا يُسنَد إلى القطاع الخاص إلا دور صغير في إنتاج اليورو، إذا لزم الأمر. بدت هذه الرغبة منفصلة عن الواقع خلال أعمال التخطيط لليورو. لم يكن ثمة سبيل للالتفاف حول لاعبي القطاع الخاص، سواء كطبَّاعين أو صنَّاع ورق مُؤَمَّن أو مورِّدي مواد مساندة، وأحيانًا يلعب الواحد منهم دور الاثنين معًا. بطبيعة الحال، سمح مورِّدو القطاع الخاص لأنفسِهم بالحصول على تعويض سخي نظير هذا، كما في حالة مورِّد ورق إنتاج النقد. فعلى الرغم من عدم وجود أرقام رسمية فيما يخص الورق، يمكن أن يَفترض المرء للمخصَّص الألماني سعرًا في حدود ١٢٥٠٠ يورو للطن المتري، متضمنًا الخاصية إم والخيوط الأمنية. بل وإذا وُرِّد هذا الورق مشتملًا على أشرطة كاينجرام — كما هو مستخدم في أوراق اليورو فئات ٥ و١٠ و٢٠ يورو — فسيتضاعف السعر مرتين. وإذا قسنا هذا على الأسعار التي تقاضتها في الوقت نفسه الشركة السويسرية لاندآرت بصفتها مورِّد الورق لكلٍّ من الفرنك السويسري — الذي لا يكاد يقل عن اليورو تحديًا في الأمن الفني — والشلن النمساوي، نجد علاوة سعرية كبيرة. بل إن مكتب سكِّ وطباعة العملة الأمريكي لا يدفع إلا ١٠٥٠٠ دولار (٨٧٥٠ يورو) ثمنًا للطن من ورق إنتاج الدولار، وإن كان هذا الورق يفتقر إلى الخاصية إم الباهظة التكلفة.
طُوِّرت مجموعة الخصائص الأمنية الجديدةُ التي تضم الكاينجرام والهولوجرام، اللذين يبدوان وكأنهما يتحرَّكان عند النظر إليهما من زوايا مختلفة، في أواخر ثمانينيات القرن العشرين على يد شركة طباعة النقد السويسرية أورِل فوسلي واختصاصي البصريات لاندِس آند جاير، وليونهارد كورتس آند كومباني الكائنة في فورت بألمانيا، بدعم مالي للبحوث من البنك الوطني السويسري. هذه الخصائص الثابتة والمتحركة من كاينجرام وهولوجرام هي أغشية معدنية رقيقة للغاية تُنقش عليها — على التوالي — صورٌ ثنائية وثلاثية الأبعاد بأدوات يتحكَّم فيها الكمبيوتر، بحيث تغيِّر الصور منظرها ولونها مع تغيُّر زاوية الضوء الساقط عليها أو زاوية النظر إليها. حتى قبل السويسريين، صار النمساويون أول مَن استخدم هذه الخاصية الجديدة في طباعة ورقتهم فئة ٥٠٠٠ شلن (ورقة «موتسارت»). كما زوَّد البنك الاتحادي الألماني ورقته فئة ٥٠ ماركًا (ورقة «بَلتزار نويمان») والورقة فئة ١٠٠ مارك (ورقة «كلارا شومان») والورقة فئة ٢٠٠ مارك (ورقة «بول إرلِخ») بصور كاينجرام ثنائية الأبعاد.
تقاسم ليونهارد كورتس وجيزيكه أوند ديفريَنت تصنيع هذا «الشيء الغالي غلاءً فاحشًا»، كما وصف أحد الخبراء صور الكاينجرام. استولت شركة فورت، بصفتها مورِّد الرُّقَع، على شركة أو في دي كاينجرام كورب السويسرية الكائنة في زيورخ صاحبة براءة الاختراع التي كانت سابقًا شركة تابعة لشركة لاندِس آند جاير، وبدأت الإنتاج على نطاق هائل في منطقة بالاتينات العليا. دخلت جيزيكه أوند ديفريَنت وهوك فولين الكائنة في فيدن في مشروع مشترك باسم هاي سِكيوريتي فِلمز، وبدأتا إنتاج أشرطة غشائية في بلدية باومجارتنبرج النمساوية القريبة. آتت هذه الجهود ثمارها بغزارة؛ حيث تُستخدم الأشرطة في فئات اليورو الصغرى التي تخضع للإحلال بمعدل كبير. الجانب المميز في هذا النشاط التجاري هو أن الأشرطة الغشائية تُدمج عادةً في إنتاج الورق؛ مما يضاعف ثمن الورق المُؤَمَّن المستخدَم لإنتاج اليورو، الذي هو بالفعل غالي الثمن كما سبق أن ذكرنا. وأما تركيب الرُّقَع الذي يتم بعملية دمغ صعبة على الساخن، فيمكن أن تصاحبه خسائر كبيرة. كانت هناك حاجة إلى أكثر من ٥ مليارات منها للفئات بدءًا من ٥٠ يورو، وكان ثمنها على الأرجح نحو ٧ يوروهات للألف وحدة. فجأةً فقد مصنع لويزنتال اهتمامه بالمشروع المشترك مع هوك فولين لمَّا أدرك مقدار ما يمكن ربحه من وراء الكاينجرام والهولوجرام، فأقام وحدةً خاصة به لإنتاج الأشرطة الغشائية في مجمع مصانع الورق التابع له في جموند، وقد برَّر هذا بضرورة الحصول على جودة متسقة باستمرار. هناك مورِّدون آخرون بدءوا بشِقِّ الأنفس نشاطهم في مجال الأغشية المعدنية اللازمة للطرح الأوَّلي لليورو، وكان ذلك بسبب مشكلات فنية في بعض الأحيان.
هفوات وحوادث وأخطاء مطبعية
أفسح الاتفاق على تفاصيل خصائص اليورو الأمنية الطريق إلى صنع الألواح الطباعية. ولتحقيق التجانس المنشود، تقرَّر أن تُطبع كل أوراق اليورو من فئة معينة من لوح طباعي أصلي واحد يُستنسخ وتستخدمه كل شركات طباعة النقد. كان يُفترض أن تشارك شركات طباعة اليورو الحكومية والخاصة في إنتاج الألواح، كلٌّ قدْرَ استطاعته الفنية. قُدِّر لهذا التقسيم للعمل أن يتسبَّب في متاعب؛ فإنتاج ما تُسمَّى النُّسخ الأصلية معقَّد، وزادت مواصفات البنك المركزي الأوروبي العملية تعقيدًا. فيما يخص طبع خلفية ورقة النقد، الذي يتم بنظام الطباعة غير المباشرة من سطح بارز، تُنسخ الصورة المطبوعة من طبقة رقيقة إلى لوح طباعي حساس للضوء. لكن اللوح الأصلي يُحفر يدويًّا، بإزميل أو بالحامض، لأغراض طباعة الإنتاليو باللوح الفولاذي بما تتسم به من بروز ملموس. في هذه العملية، يجب النقش في صورة مقلوبة. إنتاج الألواح الطباعية عمل شديد التعقيد يستدعي كثيرًا من الخبرة، وكان هذا يفوق طاقة كثير من المطابع، التي اضطر كثير منها إلى الاستعانة بغيره، بل وفي أحيان كثيرة اضطرت إلى إيكال إنتاج لوحها الطباعي بأكمله إلى شركة طباعة زميلة، وهو في الحقيقة فعل مستنكَر بقوة في هذه الصناعة. مضتْ شهور من التنسيق والتصحيح قبل أن تتسنَّى المجازفة بطبع الإصدار التجريبي لأوراق اليورو الحقيقية. شاركتْ دبدن، مطبعة بنك إنجلترا، في هذه التجربة الطباعية الكاملة بعدة ملايين من الأوراق.
ما تحقَّق من درجة تناغم في هذه العملية كان مثار إعجاب شديد، عندما يأخذ المرء في اعتباره كثرة عدد شركات الطباعة المشاركة وإلى أيِّ مدًى سار الإنتاج كما ينبغي، حتى على الرغم من أن الظروف لم تكن مهيَّأة تمامًا للإنتاج الصناعي، كما أكَّد على ذلك البنك المركزي الأوروبي بافتخار. على الأرجح قدَّمت بعض شركات الطباعة أوراقًا منتقاة بعناية من أجل فحصها. وعلى الرغم من ذلك، اكتشف مختبر المطبعة الاتحادية وجود انحرافات بتمحيصه كل أوراق الإصدار التجريبي بالكامل. كانت الاختلافات بين البلدان المشارِكة عظيمة جدًّا في قواعد الإنتاج، والرقابة على الجودة والمعدات والإمكانيات. كانت هناك حاجة إلى شهور أخرى من التنسيق الأوثق بين عواصم أوروبا قبل أن يتسنَّى النطق بالعبارة التقليدية «جاهز للطباعة» فيما يخص كل فئة من فئات اليورو، وتوثيق هذه الإجازة على مسوَّدة صفحة أوراق النقد بتوقيع شركة الطباعة والعميل. خلال هذه الفترة، صار اليورو الوليد «العملة الأكثر خبرة في التنقلات في العالم»، كما قال أحد الخبراء مازحًا. والحقيقة أن التجارب الطباعية تأخرت إلى درجة تسبَّبت مثلًا في فوضى هائلة في تخطيط المطبعة الاتحادية لسنة ٢٠٠٠م.
ومع ذلك كان عدد الأخطاء المطبعية مرتفعًا على نحو صادم في مرحلة الإعداد للإنتاج الصناعي لأوراق اليورو. قال العاملون في ردهات الطباعة في حنق إن بعض المواصفات التي طُرحت على طاولة التخطيط كانت غريبة على الممارسات الاعتيادية. وحتى أفضل العاملين أبلغوا في البداية عن نماذج طباعية مرفوضة في نطاق نسبة مئوية من خانتين؛ مما يمثِّل أضعاف معدلات الخطأ الشائعة في الإنتاج الاعتيادي. بل إن زوار شماليير في فرنسا أفادوا عن وجود نسبة خطأ صادمة بدرجة أكبر، فقط بسبب مشكلات الطباعة الشبكية التي سبق أن ذكرناها. لم تصدر كلمة رسمية بهذا الخصوص، لكن هذه الملاحظات أكدتْها بطريق غير مباشر الدفعات التي استُلمت هناك من المواد المساندة؛ ومنها مثلًا الحبر، الذي تجاوز بكثير الاحتياج العادي لطباعة فرنسا مخصَّصَها الوطني من اليورو. كان هناك الكثير من الأعطال والأخطاء في ضبط الألوان والتفاوتات غير المقبولة بين الجانبين الأمامي والخلفي، والبقع الحبرية على الأوراق، ومشكلات أخرى من هذا النوع. أيضًا كانت هناك إخفاقات أكبر. فجيزيكه أوند ديفريَنت، من بين كل شركات طباعة النقد، ارتكبت خطأً في الورقة فئة ١٠٠ يورو. كانت هذه الحادثة الإنتاجية ذات صلة بجهاز لمكافحة النسخ طُوِّر في منتصف تسعينيات القرن العشرين بمعرفة فريق من الاختصاصيين من بنوك مركزية عديدة بالتعاون مع اتحاد الآلات التجارية الياباني. كان ما يسمَّى «تأثير أومرون» يَحُول دون استنساخ أوراق النقد بواسطة ماكينة نسخ ملونة. ولكي يُفعَّل هذا التأثير، يُطبع عدد كبير من النقط الصفراء الصغيرة على ورقة النقد بترتيب يبدو عشوائيًّا. فقط عدد محدَّد تحديدًا دقيقًا من هذه النقط يكون له وظيفة فعلية. كان بعض هذه النقط — الموجودة على كلا جانبَي ورقة اليورو — مفقودًا من الورقة فئة ١٠٠ يورو المطبوعة في ميونخ. أُجري تعديل في برنامج الكمبيوتر، يُفترض أنه حدث أثناء ترقية هذا الجهاز الأمني، لكنه لم يخزَّن كما ينبغي. وقع خطأٌ في المراقبة. كانت الحادثة غير سارة لجيزيكه أوند ديفريَنت. فشركة طباعة النقد الخاصة كانت قد تصدَّرت عناوين الأخبار بالفعل في خريف عام ١٩٩٧م بأوراق نقد فئة ١٠٠ مارك ألماني مطبوعة على جانب واحد فقط؛ حيث تسبَّبت الكهرباء الاستاتيكية وقتها في التصاق أربع صفحات؛ ومن ثم انطبعت كل صفحة على جانب واحد، ولم يُكتشف الأمر حتى طرح البنك الاتحادي الأوراق للتداول. كانت الواقعة مسلية آنذاك، أما هذه المرة فلم تَرُقْ لأحد.
كل هذه الأشياء لم تكن بالهينة، خاصةً في عالم طباعة أوراق النقد ذي التدابير الأمنية الصارمة، الذي هو معتاد على أعلى درجة من الدقة. لكنَّ هذه الأخطاء لم تَعُدْ تُثير اهتمامًا كبيرًا. كانت هناك أخطاء مطبعية قد وقعت في العملات الوطنية الأوروبية في الماضي، وقد اعتاد الجمهور سماع تقارير عن الإخفاق في إتقان صنع عملة اليورو. كان المرء يظن على الأرجح أن شيئًا كهذا لم يَعُدْ ممكنًا. بُعيد خطأ جيزيكه أوند ديفريَنت المطبعي مباشرةً، ركَّبت بعض شركات طباعة النقد أنظمة إلكترونية إضافية لمراقبة الجودة لمنع مثل هذه الأخطاء الإنتاجية. لكن لم يكن المرء حتى يستطيع التحدث عن توحيد مراقبة الجودة. صارت معايير الجودة والدرجة اللازمة من التناغم موضوعَي نقاش دائمَيْن.
المنقذون غير المحبوبين
عندئذٍ استُحسنت من جديد، وعلى نحو غير متوقع، فكرة تخصيص فئات معينة من اليورو لشركات طباعة معينة لتقوم بإنتاجها. في ظل ضغط الموعد النهائي للطرح الوشيك لليورو، بدأت شركات طباعة النقد، التي امتنعت سابقًا عن أي تعاون، تتعاون فيما بينها. فقبل كل شيء، تبيَّن أن فئات اليورو العليا بكمياتها الصغيرة نسبيًّا أشد كثافةً في العمالة وأعقد فنيًّا مما ينبغي. فجأةً بدأت عملية نشطة لمبادلة المخصصات الطباعية. جمَّع الهولنديون والنمساويون بعض الكميات، وكلاهما معًا طبَعَا لليونان. وطبع البلجيكيون لفرنسا وإسبانيا. وطبعت المطبعة الاتحادية لليونان ولكسمبورج. أما شركة دي لا رو فلم تساعد البرتغال فحسب، بل طبعت أيضًا لفنلندا وأيرلندا. وطبع الأيرلنديون أيضًا للبرتغال في النهاية، في حين طبعت جيزيكه أوند ديفريَنت لفرنسا واليونان وهولندا والبرتغال وإسبانيا. صارت هذه أشبه برقصة حلقية أوروبية مفعمة بالحيوية. أصاب التوتر البنك المركزي الأوروبي، فقرَّر طبع كميات إضافية في إطار احتياطي الطوارئ الخاص به الذي كان يُفترض أن يسدَّ الفجوات في طرح أوراق النقد يوم المهلة النهائية. لم يكن لدى شركات طباعة النقد الحكومية طاقة إنتاجية تستغني عنها؛ ومع ذلك قاتلت باستماتة للفوز بالطلبية. بعد مفاوضات مطوَّلة، ذهبت طلبية الطباعة إلى اتحاد شركات طباعة خاصة يتألَّف من جيزيكه أوند ديفريَنت ودي لا رو ويو إنسخيده والمطبعة الاتحادية التي كانت قد خُصخصت في تلك الأثناء، فأنتجت هذه الرباعية نحو ١٫٨ مليار ورقة، استحوذت منها جيزيكه أوند ديفريَنت على نصيب الأسد بصفتها قائد الاتحاد. لم يُسمح للشركة السويسرية أورِل فوسلي بالمشاركة، على الرغم من طاقتها الإنتاجية غير المستغلَة وسعرها الجذاب.
جودة اليورو
تم تصنيع أوراق اليورو في ظل ظروف غير عادية. تحوَّلت العملة المشتركة للبلدان الاثني عشر، خلال مخاضها العسير، إلى مشروع مشترك حقيقي على نحو لم يخطر ببال أصحاب فكرة اليورو الأوائل. ففي نهاية المطاف، شاركت تسعة مصانع ورق وخمس عشرة شركة طباعة نقد وأكثر من ٢٠ مورِّدًا في الإنتاج. كان هذا كابوسًا برأي الخبراء من حيث العمل واحتياطات الأمن الفنية. انتهك تفتُّتُ الإنتاج قاعدةً أساسيةً من قواعد طباعة النقد ذات التدابير الأمنية الصارمة؛ وأعني ضرورة تركيز التعامل مع كل مراحل العمل قدْرَ المستطاع منعًا لإساءة استعمال المواد الأصلية. إضافة إلى ذلك — وكما يقولون — فإن كثرة الطُّهاة تُفسِد الحساء، حتى في طبع أوراق النقد. شرط تماثُل أوراق النقد في الشكل والملمس، وتطابقها تمامًا في كلٍّ من الخواص البصرية واللمسية، لم يكد يتسنَّى تحقيقُه بتفتُّت الإنتاج على هذا النحو. بالطبع كانت هناك تفاوتات في إنتاج الإصدارات الصغرى من أوراق النقد، حتى في زمن المارك الألماني في ألمانيا. فإلى أي حدٍّ يزداد عدد المصادر المحتملة للخطأ عند الحاجة إلى طبع ١٥ مليار ورقة في مرة واحدة؟ ربما يغضب سكان قوصرة أو لنبذوشة لغياب بعض الجزر الإيطالية عن خريطة أوروبا المطبوعة على ظهر كل أوراق اليورو. ومع ذلك ليس هذا بكارثة، فهناك سوابق شهدتها عملات أخرى. وحتى غياب اللقب تحت توقيع رئيس البنك المركزي الأوروبي غير المقروء يقل تأثيره المزعج عندما يأخذ المرء في اعتباره عدد اللغات في منطقة العُملة المشتركة وضيق المساحة المتاحة على ورقة النقد. يسري الاعتبار نفسُه على كتابة برايل الموجودة على الورقتين فئة ٢٠٠ و٥٠٠ يورو. هذه الكتابة محل نزاع بين جمعيات المكفوفين على أيِّ حال، فهي تخشى تخفيض عتبة احترام المكفوفين وضعاف البصر. ويتجنَّب المزيِّفون عادةً الاحتيال على مثل هؤلاء الأشخاص.
تُفرض على تصنيع أوراق النقد معايير جودة عالية؛ لأنها تمثِّل وعدًا حكوميًّا بالقيمة، ولم يَرْقَ اليورو إلى المستوى المنشود في هذا الصدد؛ إذ توجد نقطة ضعف صارخة في أوراق اليورو، وهي بلا شك شدة تسطُّح طباعة الإنتاليو المقصور استخدامها على الوجه. ولم يكن أكثر من ذلك ممكنًا بسبب الطباعة الشبكية الفرنسية. بعض العلامات المائية بالغ البساطة، وكثير منها هزيل في تدرُّجه من الفاقع إلى الداكن. أما سبب تفوق جودة العلامة المائية في الورقة فئة ٥ يوروهات على جودتها في الورقة فئة ٥٠ يورو — الورقة الأكثر عرضةً بكثير للتزييف — فيجب أن يظل سرًّا من أسرار بيروقراطيِّي منطقة اليورو. لقد تقرَّر استخدام خصائص الكاينجرام الأمنية، من أشرطة أو رُقَع، على الرغم من غلائها الملحوظ، ووُضعت على المساحات غير المطبوعة في أوراق النقد، وأسوأ من هذا استغناء بيروقراطيي منطقة اليورو عن طباعة الإنتاليو المهمة النافرة من سطح لوح فولاذي على رُقَع الكاينجرام. فيما يخص أوراق النقد الألمانية والفنلندية والهولندية والنمساوية، كان وجود خلفية ملونة تحت الكاينجرام والطباعة من سطح غائر على الرقعة هو العرف المتبع. لم يحدث ذلك مع اليورو؛ لأن معظم المطابع الحكومية لم تكن تملك المقدرة الفنية اللازمة، ولا سيما الفرنسيين بطابعاتهم الشبكية؛ ومن ثم اضطُر إلى تنحية هذه الخاصية الأمنية المهمة ضد النسخ والتزييف جانبًا، على الرغم من تحذيرات خبراء التزييف الصريحة؛ مما ترتب عليه عواقب وخيمة على أمن فئات اليورو العليا، كما نعرف الآن. ومما زاد الأمر سوءًا، وقعت أيضًا انحرافات في الألوان. فعلى سبيل المثال، في الأرقام الدالة على الفئة أسفل يسار وجه الورقة فئة ١٠ يوروهات، انحرف الجزء المحدَّد بدقة ذو اللون المتدرِّج من الأحمر إلى البني انحرافًا كبيرًا في بعض الأوراق، أو كانت تظهر ظلال خضراء، تكون فاقعة أحيانًا وداكنة أحيانًا أخرى على ظهر الورقة فئة ١٠٠ يورو، على حسب بلد الصنع والشركة المنتجة. بل إن تأثُّر أوراق اليورو بالضوء فوق البنفسجي يختلف بناءً على بلد تصنيعها. ففي حين أن أثر الحبر المتغيِّر بصريًّا كان يتغيَّر كما هو محدَّد بالنسبة إلى أوراق اليورو من الفئات العليا، غالبًا ما كان هذا الأثر متباينًا. وختامًا لهذا، يجب أن نتطرَّق بإيجاز إلى الحروف المجهرية التي لزم تكبيرها، بناءً على طلب بعض شركات طباعة النقد، حتى كادت لا تستحق وصفها ﺑ «المجهرية».
ما كان حتى للبنك المركزي الأوروبي أن يؤكد أن أوراق اليورو — بصُوَرها التي تفتقر إلى الحيوية وإلى إطار هيكلي، والمطبوعة في جزء منها بألوان باهتة — تمثِّل المستوى الجرافيكي أو الفني لطباعة النقد في أوروبا؛ إذ كان بمقدور شركات طباعة النقد الأوروبية أن تفعل ما هو أفضل، لو سُمح لها. هذه الأوراق هي القاسم المشترك الأدنى لعدد يفوق الحصر من الحلول الوسط؛ مُنتَج ربما يكون حتميًّا كبداية لمثل هذا المشروع الطموح، لكن يا لها من بداية مؤذية! فهي تساعد المزيِّفين أيَّما مساعدة.
Z: بلجيكا | S: إيطاليا |
X: ألمانيا | R: لكسمبورج |
L: فنلندا | P: هولندا |
U: فرنسا | N: النمسا |
Y: اليونان | M: البرتغال |
T: أيرلندا | V: إسبانيا |
T: مطبعة البنك الوطني البلجيكي، بلجيكا |
R: المطبعة الاتحادية (قطاع خاص)، ألمانيا |
P: جيزيكه أوند ديفريَنت (قطاع خاص)، ألمانيا |
D: سِتِك أُوي (شبه حكومية)، فنلندا |
L: مطبعة بنك فرنسا، فرنسا |
E: فرنسوا شارل أوبرتور فيدوسيير (قطاع خاص)، فرنسا |
N: مطبعة البنك المركزي اليوناني، اليونان |
H: دي لا رو (قطاع خاص)، بريطانيا |
K: مطبعة بنك أيرلندا، أيرلندا |
J: مطبعة الأوراق الثمينة ببنك إيطاليا، إيطاليا |
G: إنسخيده (قطاع خاص)، هولندا |
F: مطبعة البنك الوطني النمساوي، النمسا |
U: مطبعة بنك البرتغال، البرتغال |
M: المطبعة الوطنية للنقود والطوابع، إسبانيا |
رموز محجوزة لبلدان حال انضمامها فيما بعد: |
A: مطبعة بنك إنجلترا، إنجلترا |
C: تومبا (قطاع خاص)، السويد |
S: مطبعة البنك المركزي الدنماركي |