طِباعة اليورو … إلى أين؟
كان استحداث عُملة أوروبا المشتركة تحديًا فريدًا من نوعه، سياسيًّا وفنيًّا على حد سواء. فلم يشهد التاريخ قط قبل ذلك تعاوُنَ عدد كبير من البلدان طواعية لطرح عملة مشتركة جديدة. كانت الأخطاء متوقَّعة، وهي قد تفسِّر جزئيًّا حقيقة أن المنتج ربما لم يحقِّق بالكلية الآمال السامية. لكن ليس هناك شيء مثالي، ويظل يوجد يقينًا مجال للتحسين. تحتاج أوراق اليورو إلى تحسين نوعي، كما أنها بالغة التكلفة. كان هذا ينطبق على الطرح الأولي من أوراق اليورو، وهو ينطبق كذلك على الأوراق التي تُطبع حاليًّا بغرض الإحلال؛ لأنه تظل هناك قيود سياسية على رغبة البنك المركزي الأوروبي في إنتاجٍ أكثر كفاءةً. تتباين الآراء حول ما إذا كان طبع أوراق النقد هو حقًّا مهمة سيادية أم لا، فترى البنوك المركزية التي استطبعت بالفعل أوراق نقدها بواسطة شركات طباعة نقد خاصة، أن العمل السيادي يقتصر على «إصدار» أوراق النقد. ثم إن طبع أوراق النقد عمل ينطوي على تكلفة وجودة ويمكن أداؤه بمعرفة القطاع الخاص، شريطة أن تستوفي شركة الطباعة الخاصة المعايير الموضوعة من البنوك المركزية بشأن الأمن في إنتاج أوراق النقد وتصميمها، وأن تراعي الالتزام بالسرية المطلقة. فإذا استُوفيت كل هذه المتطلبات، فإن الطباعة بمعرفة القطاع الخاص تبشِّر بإنتاج أكثر اقتصادًا في التكاليف مقارنةً بطِباعة المطابع الحكومية. لكنْ ليست كل البنوك المركزية سواء في درجة اهتمامها بتكلفة أوراق النقد التي تنتجها شركات طباعتها، وهو موقف تسانده النقابات العمالية القوية. فأحيانًا تكون هناك معارضة شديدة لفتح السوق أمام طباعة أوراق النقد، وكلما كانت المطبعة الحكومية أكبر كانت المعارضة أشد.
يحقِّق الأمريكيون أقصى استفادة من آثار دورات التشغيل الكبيرة الحجم في مطبعتيهم في واشنطن العاصمة وفورت وورث بولاية تكساس، كما أنتج مكتب سكِّ وطباعة العملة حتى الآن أوراق النقد بأقل من نصف ثمن البنك الاتحادي الألماني. ما يفسر هذه الميزة الأمريكية هو دورات التشغيل الهائلة لطبع أوراق دولار من فئة واحدة بأبعاد موحدة ولفترة طويلة دون خصائص أمنية كبيرة. وبحسب بيان صحفي صادر عن المكتب، ازدادت تكلفة ورقة اﻟ ٢٠ دولارًا الجديدة الصادرة في خريف ٢٠٠٣م بنسبة ٢٠ في المائة، لكن هذه الزيادة عُزيت إلى تحسين الخصائص الأمنية بقدر كبير، والأمن له ثمنه بالطبع. على سبيل المثال، أوراق الفرنك السويسري التي تُطبع حصريًّا بمعرفة أورِل فوسلي تتكلَّف في المتوسط ٣٠٠ فرنك سويسري (٢٠٠ يورو) لكل ١٠٠٠ ورقة؛ مما يجعل الأوراق السويسرية أغلى مرتين من أوراق اليورو الآتية من البنك الاتحادي. هذا السعر يُملِيه البنك الوطني السويسري، لكن يقال إنه سعر بحساب التكلفة كاملة، بما في ذلك استهلاك الآلات. علاوة على ذلك، لا تطبع سويسرا إلا نحو ١٠٠ مليون ورقة سنويًّا فيما يخص إحلال نقدها المتداول بأكمله والبالغ ٢٦٠ مليون ورقة، وهذه الكمية الطباعية موزعة على ست فئات. مثل هذه الإصدارات الصغيرة تزيد تكلفة الطبع زيادة كبيرة، ولا سيما في بلد يتسم بعلو الأجور. والخصائص الأمنية المكلِّفة في أوراق الفرنك السويسري تزيد من التكلفة. تختلف الآراء حول التصميم الجرافيكي لأوراق النقد السويسرية، لكن خصائصها الأمنية تُعتبر بإجماع الخبراء معيارًا يُقاس عليه. عندما يُستبدل بالإصدار السويسري الحالي، الذي تقادم فنيًّا، إصدار جديد عام ٢٠١٠م، سيكون قد مضى عليه في التداول خمسة عشر عامًا. أما إصدار اليورو الحالي فالأرجح ألا يصل عمره إلا إلى نصف هذا العمر نظرًا لمشكلاته الفنية. إذن فالاستثمار في الخصائص الأمنية يؤتي ثماره، هذا بافتراض أنه يتم في الخصائص المناسبة على المستوى المناسب من الفحوص الأمنية.
منافسة على غرار منظومة اليورو
على الرغم من العملة المشتركة، تشبَّثت منطقة اليورو في طبع أوراق النقد بمبدأ الحماية الصارمة للأراضي الوطنية، المنصوص عليه عمومًا في قوانين أي بنك وطني. لا شيء آخر كان ممكنًا من الناحية السياسية، وقد استُعملت هذه اللامركزية آنذاك، كما بيَّنَّا، كمبرر لتوسيع الطاقات الإنتاجية الطباعية الوطنية. قياس الطاقة الإنتاجية في الطباعة صعب؛ إذ تعتمد هذه الطاقة على عدد مناوبات العمل. لكن وفق تقديرات صناعة الطباعة الرفيعة الأمن، فإن الطاقة الطباعية الحالية في كل بلدان الاتحاد الأوروبي مجتمعةً تبلغ نحو ١٠ مليارات ورقة سنويًّا، ويعتبر هذا التقدير متحفظًا. بعد إتمام الطرح الأوَّلي، كانت منظومة اليورو قد افترضت إحلالًا سنويًّا مقداره ٤ مليارات ورقة، ونظرًا لأن الطلب الفعلي على الإحلال كان أقل من هذا بكثير، لم يُستهلك المخزون الاحتياطي الأولي الكبير من أوراق اليورو المحتفظ به لدى البنوك المركزية إلا ببطء. كذلك انخفضت الحاجة إلى الإحلال عام ٢٠٠٤م إلى أدنى مستوياتها؛ حيث بلغت ١٫٦ مليار ورقة يورو فقط.
نظرًا لمعدلات التشغيل الكارثية، دعت بعض البنوك المركزية إلى طرح أوراق يورو فئة ١ و٢ يورو تُصدَر بالتوازي مع القطع المعدنية المتداولة بالفئتين ذاتهما، وهو اقتراح جاء من إيطاليا وأيَّدته بلجيكا واليونان والنمسا. عُزيت هذه المبادرة إلى ما يُفترض أنه تفضيل من جانب المواطنين في جنوب أوروبا والبلدان الأوروبية الشرقية العشرة التي كانت قد انضمت لتوِّها إلى الاتحاد الأوروبي؛ إذ يقلُّ في الحقيقة مستوى الدخل في هذه الأماكن عنه في بقية منطقة اليورو. ويقال أيضًا إن الأوراق النقدية من الفئات الصغيرة ستزيد الوعي بالأسعار وتكبح جماح التضخم. كانت مثل هذه الأوراق الصغيرة الفئة ستُحتاج بكميات هائلة ثم لا تكون لها إلا دورة حياة قصيرة، وهو ما كانوا يريدونه بالضبط. وكان لهم في الولايات المتحدة نموذج؛ إذ إن نحو نصف أوراق النقد التي تطبع هناك كل عام هي من فئتَيِ الدولار والدولارين، أصغر فئتين، وكان الدرس بالنسبة إلى منطقة اليورو واضحًا: هاتان الفئتان الصغيرتان ستزيدان التكاليف التي تتحملها منظومة اليورو للطبع والمعالجة والإعدام زيادة هائلة. وفوق ذلك كله سيأتي علو التكاليف في صناعة القطاع الخاص نظير إعادة تجهيز كل آلات البيع، من جديد. منذ زمن طويل، تخلَّى البريطانيون الذين تشغلهم التكلفة كثيرًا عن الورقة فئة جنيه واحد لهذا السبب. وفي أعقاب مناقشات داخلية حامية في البنك المركزي الأوروبي، رُفض اقتراح البلدان الأربعة في النهاية. ولو نفِّذ هذا الاقتراح، لصاحَبه، دون قصد، انخفاض كبير في إيرادات وزراء المالية من امتيازهم الوطني لسكِّ العملة، وهو ما سهَّل رفضه رفضًا سياسيًّا.
بالطبع كانت الشركات الخاصة في مجال إنتاج الورق المُؤَمَّن وطباعة أوراق النقد سترحِّب بفكرة استحداث أوراق يورو صغيرة الفئة. كان هؤلاء أقل حماسًا عندما بدأت شركات طباعة النقد الحكومية التي تحصل على دعم مالي كبير في الاستحواذ على طلبيات لطبع النقد في السوق العالمية الحرة. جاءت أول إشارة تحذيرية مع قرار بنك فرنسا تركيب خط طابعات تغذَّى بالصفحة من القطع الكبير من إنتاج كيه بي إيه-جوري في شماليير بعد فترة قصيرة من طرح اليورو. كان تركيب هذا النوع تحديدًا من آلات الطباعة التي تغذَّى بالصفحة هو الذي عارضته باريس بعناد في إطار طباعة الطرح الأولي من اليورو. لكن لا يُطبع على الطابعات الجديدة في شماليير إلا أوراق نقد بلدان «المنطقة المالية الأفريقية»، وتظل أوراق اليورو الفرنسية تنتج بالطباعة الشبكية المختلف عليها. وجدت شركات طباعة النقد الخاصة سلوانها في حقيقة أن بنك فرنسا اكتفى بسحب مخصصه الطباعي من شركة طباعة النقد الخاصة فرنسوا شارل أوبرتور فيدوسيير. ما ينطوي على تهديد أكبر هو سلوك مطابع بعض البنوك المركزية في البلدان الصغيرة، التي لا تصل فيها الحصص الوطنية من طباعة أوراق اليورو إلى المستوى الذي يمكِّنها من الاستمرار على المدى الطويل. استهلت المسيرة في هذا الشأن مطبعة النقد والسندات المالية النمساوية — الشركة التابعة المملوكة بنسبة ١٠٠ في المائة للبنك الوطني النمساوي والتي يكثر الحديث عنها — بطلبية طبع نقد لصالح أرمينيا. كانت الطلبية صغيرة، كما أنها لم تُسعد النمساويين كثيرًا لوقوع خطأ مطبعي أجبر المطبعة على إعادة الطبع؛ ومن ثم لم تتذمَّر شركات طباعة النقد الخاصة من هذا العقد. لكن بعدئذٍ تقدَّم النمساويون بعطاءات بأسعار إغراقية في أكثر من مناقصة عامة، حتى في ماليزيا، التي كانت جيزيكه أوند ديفريَنت قد بدأت لتوها تشغيل مطبعة نقد جديدة فيها. وفي سنغافورة، حصل النمساويون أخيرًا على عقد لطبع نصف مليار ورقة بسعر ٢٤ دولارًا للألف، كما تردَّد في أوساط الصناعة. كما أعلنت المطابع الحكومية الإسبانية والبلجيكية واليونانية عن حملات مماثلة للحصول على طلبيات تصدير، وفي حالة اليونان، تضمَّن هذا طبع جوازات السفر.
تعتمد شركات طباعة النقد الخاصة ذات التدابير الأمنية الصارمة في بقائها على أعمال التصدير. وانشغال هذه الشركات بالكميات الطباعية التي خسرتها أقل كثيرًا من انشغالها بالأسعار التي تعرضها المطابع الحكومية وتُلحق من خلالها ضررًا مستدامًا بالسوق العالمية لهذه الشركات الخاصة. فليس بمقدور شركة طباعة نقد خاصة أبدًا منافسة مثل هذه الأسعار المدعومة، وبالأخص في أوروبا. عندئذٍ صار النزاع علنيًّا، في ظل النداءات المطالبة بالمساعدة حتى من البنك المركزي الأوروبي. كان لأنشطة مطبعة النقد والسندات المالية النمساوية عواقب غير متوقعة. ففي البداية تبيَّن أن مطبعة النقد الحكومية هذه نسيت أن تتحوَّط من تحركات سعر الصرف التي تؤثر على عقدها السنغافوري؛ ومن ثم انتهت هذه الطلبية الكبيرة بخسارة كبيرة فقد على أثرها مدير أعمال المطبعة ونائبه وظيفتيهما. ثم انتهت المراجعة الذي سبق أن ذكرناها من جانب ديوان المحاسبة النمساوي، إلى أن هذه المطبعة الحكومية التابعة للبنك الوطني قدَّمت، بشكل ممنهج، عطاءات بأقل من تكاليفها في مناقصات التوريد الحكومية. بعبارة أخرى، كل طلبية تصدير إضافية لم تكن تجلب إلا خسائر أكبر. لا عجب أن خسائر هذه المطبعة الحكومية النمساوية كانت تفوق أحيانًا مبيعاتها السنوية. أوضح البنك الوطني النمساوي رسميًّا في تلك الأثناء انتهاء سياسة التوسع التي اتبعتْها إدارة الأعمال المقالة. لكن مشكلة المنافسة المشوَّهة لم تُحَلَّ على الإطلاق. على سبيل المثال، يُفيد تقرير التدقيق المحاسبي أن المطبعة الجديدة التي تكلَّفت عدة مئات من ملايين اليوروهات تنازل عنها البنك المركزي النمساوي مقابل مبلغ صادم، هو ٠٫٠٧ يورو — ما يعادل ثمانية سنتات أمريكية! — إلى المطبعة الحكومية عندما فُصلت عن البنك الوطني عام ١٩٩٨م. وقد أورث هذا البنك الوطني أيضًا مطبعة نقده «المستقلة» الآن، التي ما زالت مملوكة بنسبة مائة في المائة للبنك الوطني النمساوي، مخزونًا كبيرًا من أوراق النقد نصف المطبوعة، أعاد شراءها آنذاك كأوراق تامة الصنع بثمن قياسي. والأسوأ أن البنك الوطني — الذي يدفع لموظفيه أجورًا عالية جدًّا — ظل يدفع أجور الموظفين الذين نُقلوا منه إلى كشف رواتب المطبعة الأقل سخاءً. ويخشى ديوان المحاسبة، وحُقَّ له ذلك، أن تتضاءل فرص مطبعة النقد الحكومية النمساوية في البقاء في منافسة مفتوحة. وعليه، فإنه يمكن أن يُفهَم أن مدقِّق الحسابات يوصي — بشكل خفي بين السطور — بأن يغلق البنك الوطني ببساطة مطبعة نقده.
مستقبل غامض
ومع ذلك فما يبدو منافسة مفتوحة وسوقًا حرة، عادةً لا يسير بالضرورة على هذا النحو، وبالأخص في الاتحاد الأوروبي. فالتحول إلى المناقصات المفتوحة مرهون بشروط تضمن قبول إجراء المناقصات الموحَّد من قِبَل نصف البنوك المركزية في منظومة اليورو على الأقل، التي تستحوذ على نصف أوراق اليورو المطلوبة على الأقل. في مرحلة «إحماء» بداية من عام ٢٠٠٨م، يُفترض أن تعطى شركات طباعة النقد الحكومية خيار المشاركة في المناقصات على سبيل الاختبار، ويُشترط لمشاركتها أن تسمح بتدقيق دفاترها بمعرفة مدققي حسابات معتمَدين مستقلين، وهو شرط يُفترض أنه يتجنَّب المنافسة المشوَّهة عن طريق الإعانات المتبادلة، على نحو ما سبق بيانه في حالة النمسا. نجحت شركات طباعة النقد الحكومية على مر السنين في الحيلولة دون إعلان حساباتها، ولا يمكن بالضرورة أن يُتوقع منها تغيير مواقفها، بما أنها على الأرجح لم تصبح أكثر تنافسيةً، كما تبيِّن حالتا المطبعتين الحكوميتين الفرنسية والنمساوية. فالنقابات العمالية القوية في هاتين المنشأتين الحكوميتين ستكفل ذلك. بعد عام ٢٠١٢م، لن يُجبَر بنك مركزي على المشاركة في المناقصات العامة التي تُجرَى على طبع أوراقه من اليورو. حتى بعد ذلك الموعد النهائي، يوجد بندٌ يُعطي هذه البنوك تحديدًا خيار الحفاظ على حماية أقاليمها، وهي القاعدة السائدة إلى الآن، وبهذا يُسمَح لها بالاستمرار في طبع حصصها الوطنية من أوراق اليورو على الرغم من استبعاد مطابعها الحكومية عندئذٍ من المشاركة في مناقصات البنوك الأخرى. لم تُعلِن إلا بعض البلدان — ألمانيا وفنلندا وهولندا ولكسمبورج — حتى الآن عن نيتها استدراج عطاءات لطبع احتياجاتها من النقد. وأما فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، فهي إما تبدو متحفظة تجاه فتح السوق، وإما ترفضه صراحةً، لكنها صاحبة أكبر حصص طباعة وطنية بعد ألمانيا. والأمر ذو الحساسية الخاصة بالنسبة إلى مطابع هذه الدول من القطاع الخاص هو الفتح الأحادي الجانب لمناقصات التوريد على النحو المخطَّط له من جانب ألمانيا وهولندا. فعندئذٍ سيكون لِدي لا رو وفرنسوا شارل أوبرتور فيدوسيير — وكلتاهما مستبعدتان حاليًّا من طبع اليورو — الحق في المشاركة في مناقصات ألمانيا وهولندا، ولن تكون تلك المناقصات بالضرورة مربوطة بالفتح المتبادل للأسواق المحلية لشركتَي طباعة النقد هاتين.