سبب خصوصية سوق طباعة النقود
نعرف كثيرًا جدًّا عن النقود، نظريًّا وعمليًّا. نعرف مَن يُديرها، ولماذا ترتفع قوتها الشرائية وسعر صرفها وينخفضان. لكن لا نكاد نعرف شيئًا عمَّن يصنعون أوراق النقد. لا يوجد منتَج صناعي آخَر في العالم يتعامل معه الجميع بمثل هذه الكثرة وعلى هذا النحو المتكرِّر، ولا يوجد فرع آخر من فروع الصناعة معزول بمثل هذا الإحكام الشديد عن عين الجمهور، ولا يوجد مجال آخر يكتنفه الغموض كطباعة النقد. يبذل صُنَّاع النقود، من القطاعين الحكومي والخاص، جهودًا هائلة للحفاظ على أسرار نشاطهم. هذا الهوس بالسرِّية يبدو غير متناسب مع عصر الإنترنت؛ لأن طباعة النقود ليست مجرد عملية إنتاج تكنولوجية متطورة؛ فهذه الصناعة تواجه صعوبات جمَّة تنطوي عليها عملية إعادة هيكلة عميقة. ولا ننسَ أن هذا يتضمَّن استعمال أموال دافعي الضرائب؛ لأن المواطن هو الذي يدفع ثمن طباعة النقود.
سرِّي وهَزْلي
مَن يغوصون في بواطن هذا القطاع المُؤَمَّن يمكنهم توقُّع العثور على ما هو سرِّي وما هو هَزْلي على السواء. تَبيَّن ذلك منذ بضع سنوات في اجتماع عُقِد في فندق جراند هوتيل إكسلسيور الفاخر في روما؛ حيث أسرَّ خبير إيطالي ينتمي إلى هذا القطاع إلى الحضور قصةَ الإيطالي السويسري «جوالتيرو جوري» المدهشة. فقد طوَّر رينو — وهو الاسم الذي كان يعرفه به الجميع — الآلات المستخدمة في طباعة الإنتاليو (الطباعة من سطح غائر) المتعددة الألوان التي تميَّزت بدقتها الشديدة؛ ومِن ثَمَّ وفَّرت حماية فعَّالة ضد التزييف، لدرجة أنه لم يَعُد ممكنًا لمطبعة ذات تدابير أمنية عالية في العالم أن تعمل من دونها. يعود تاريخ الإنتاليو (كلمة أصلها إيطالي بمعنى يحفر أو ينقش) كتقنية لحفر الألواح المعدنية إلى مصانع الأسلحة في ميلانو إبان عصر النهضة، التي كانت تستخدم مثل هذه الألواح لتزيين الدروع المستخدمة في الاحتفاليات. أُطلق على هذه العملية اسم الحفر بالإزميل أو الحفر بالحامض في فنون الرسم والطباعة. أحدث جوالتيرو جوري — كما روى ذلك الشخص العليم بالأسرار — ثورةً باستخدام هذه التقنية في طباعة النقد والسندات المالية المتعددة الألوان. غير أن السنيور جوري لم يكن مجرد مصمِّم عبقري، بل كان بائعًا لا يُشَقُّ له غبار. صار بحكم الواقع محتكرًا عالميًّا لسوق طابعات السندات المالية. وفي شركة دي لا رو (شركة طباعة نقد إنجليزية في لندن ذات تدابير أمنية عالية) أبرم جوري صفقةً يحصل بموجبها على رسم ترخيص بنسبة ٢ في المائة من صافي الدخل على كل ورقة تُطبع على آلاته. كانت دي لا رو آنذاك أكبر مطبعة نقد خاصة في العالم. وفي نهاية ثمانينيات القرن العشرين، كانت تُنتج أكثر من ٥ مليارات ورقة نقد سنويًّا، موفِّرة بذلك مبلغًا لا بأس به لجوالتيرو جوري.
تتفق هذه القصة مع الفكرة السائدة عن طبَّاعي أوراق النقد — بأرباحهم الأسطورية — كأشخاص يحملون «رخصةً لطباعة النقود». بالطبع لا جدوى من وراء البحث عن تأكيد لهذه القصة التي تتحدَّث عن رسم الرخصة في عالم الطباعة المُؤَمَّنة الذي تكتنفه السرِّية. ومع ذلك فإن مقالًا مبنيًّا على هذه المعلومات الشحيحة وَجد عندئذٍ طريقَه إلى الصحف، لدرجة أن مؤلف هذا الكتاب تَلَقَّى فيما بعدُ دعوةً للتحاور مع جوالتيرو جوري، الذي كان محجوزًا له جناح فاخر في الفندق سالف الذكر لسنوات طويلة. كان السنيور جوري، بحضوره الطاغي في سترته الرمادية الأنيقة، ذا قوام رياضي وبشرة أكسبتْها أشعة الشمس سُمْرة. كان رجلًا ذا وجه أخَّاذ، ولا توجد أوقية واحدة من الدهون الزائدة في منطقة خصره. كان يُريد شيئًا واحدًا من ضيفه، وهو اسم راوي القصة. وعندما لم يَكشِف له المؤلِّف عن هذا، على الرغم من إلحاحه في استنطاقه، قال جوري بعد سكتة مفعمة كما لو كان متحدِّثًا إلى نفسه: «لا يمكن أن يكون ذلك سوى ابني!» في غضون بضع دقائق كان الزائر قد عاد إلى بهو الفندق، بعد أن صرفه مضيفُه بفظاظة نوعًا ما معقِّبًا بقوله: «هذا التأكيد المنشور هو يقينًا لا أساس له من الصحة.» بعدَ ذلك بفترة طويلة، أكَّد أحد المؤتَمَنين على أسرار السنيور جوري أن رسم الترخيص المذكور حقيقي بكل تأكيد. حدثتْ تلك الواقعة منذ بضع سنوات. مات جوالتيرو جوري عام ١٩٩٢م، ومنذ ذلك الحين باع الابن روبرتو الشركة التي بناها أبوه. ومع ذلك فإن هذه الواقعة ما زالت تترك انطباعًا؛ فهي بدايةً أوضحتْ أن الجمهور لا يعرف شيئًا عن صانعي النقد ولا طريقة صنع النقد. ثانيًا: كان واضحًا أن شركات طباعة النقود المُؤَمَّنة تتعامل بحساسية مع أيِّ محاولة للتنقيب عن أسرار نشاطهم، وفرض مزيد من الشفافية عليهم.
محاولات إشراك ممثلي الصناعة في حوار أثناء إجرائي البحوث لتأليف هذا الكتاب تمَّ تفاديها على نحو ممنهج. الأسئلة المقدَّمة كتابيًّا أو المطروحة هاتفيًّا لم يُجَب عن أغلبها. البنوك المركزية لا تقول شيئًا. المحامون حظروا الاتصالات بناءً على أوامر من الشركات. المسئولون الصحفيون ووكلاء الدعاية كانوا يتكهَّنون بدوافع المؤلِّف من وراء طرح الأسئلة. مَن الذي يدفع لك؟ كان ذلك ردَّهم أكثر من مرة. لجأتِ الشركاتُ إلى التهرُّب، وشاركتْ في اتفاقيات دولية حفاظًا على السرِّية، وكانت تحدث مماطلات ما دام ذلك ممكنًا. خلاصة القول: لم تَستَجِب الشركات إلا تحت ضغط الحقائق عندما لم يكن ثمة مخرج آخر. دعتِ المطبوعة الاحتفالية الصادرة عن جيزيكه أوند ديفريَنت إلى «الحَذَر المهني المطلق من جانب كل الأشخاص العليمين بصنع الأدوات النقدية المطبوعة.» وتبرير ذلك هو حماية كل امرئ لعملية إنتاجه وعلاقته الاستئمانية التي تجمعه بالعملاء. الحَذَر المهني والسرِّية المفروضة هما أيضًا شيئان عاديَّان في الصناعات الأخرى، لكن في الترتيبات التعاقدية لشركات طباعة الأوراق النقدية ذات التدابير الأمنية العالية، يتم النص عليهما بتفصيل دقيق. وهما يمتدان من قمة الهرم إلى قاعدته في الشركات، ويظلان ساريَيْن على الأشخاص لسنوات طويلة بعد رحيلهم عن هذه الشركات. ومهما كان مَن ينتهك هذه الترتيبات فلا بد أن يتوقَّع جزاءات قد تكون مؤلمة. هذا الجانب استُحضر مرارًا من جانب رافضي المقابلات الشخصية. وأما مَن تحدَّثوا فاشترطوا عدم الكشف عن هُوياتهم. لكن بما أن المقابلات كانت بشأن منافسيهم — بالمعنى الأوسع للكلمة — فقد تبيَّن أن كثيرًا ممَّن أُجريتْ معهم مقابلات مستعدون تمامًا لتقديم معلومات.
السيادة النقدية، بمعنى الحق الحصري في إصدار النقود، سواء معدنية أم ورقية، من الركائز التي تقوم عليها أيُّ دولة. وحق ضرب النقود المعدنية منوط بوزير المالية، وهذه النقود تُفيد كمصدر إضافي لإيرادات الموازنة. لكن إنتاج النقود الورقية وإصدارها منوط حصريًّا بالبنوك المركزية عدا استثناءات قليلة جدًّا مثل هونج كونج وسنغافورة. في كل البلدان الكبيرة اليوم، تسمح البنوك المركزية بإنتاج نقدها في المطبعة الحكومية وتُبقي أعيُنَها مفتوحةً لاكتشاف أيِّ تعدٍّ على نفوذها. في الأيام الأولى للنقود الورقية، إبان القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، لم يكن هذا هو الحال بعدُ. كانت بعض شركات طباعة النقد من القطاع الخاص تُهيمن على السوق العالمية في تلك الأيام، وكانت تُملِي الأسعار. كانت البلدان التي بمقدورها امتلاك مطبعةِ نقدٍ حكومية خاصة بها تُعَدُّ على أصابع اليدين الاثنتين. تغيَّر هذا تمامًا بعد الحرب العالمية الثانية. تمخَّضت الابتكارات الفنية في تصميم آلات الطباعة — التي سنتناولها في موضع لاحق بالتفصيل — عن اكتشاف البلدان الصغيرة آنذاك طباعة النقد باعتبارها «عملًا سياديًّا». ومن حيث عدد أوراق النقد المنتَجة، نجد أن اليد العليا هي بكل تأكيد للمطابع الحكومية في يومنا هذا، فيما تراجع شأن مطابع القطاع الخاص أو المطابع التجارية. وهذا أحد أسباب توتر العلاقات بين الجانبين.
إنتاج أوراق النقد — حسب تأكيد بنك إيطاليا — إنتاج صناعي «فريد من نوعه»؛ لهذا تستحق الطباعة الاستئمانية (الاسم الآخر الذي تُعرف به طباعة النقد) حمايةً خاصة في عملية الإنتاج. يردِّد الإيطاليون، بقولهم هذا، عقيدةَ كثير من المصرفيِّين المركزيين الذين يفترضون أن صنع أوراق النقد، لا مجرد إصدارها، واجب سيادي، ويستنتجون من هذا ضرورة ادِّخار إنتاج أوراق النقد لمطبعتهم الحكومية، وأن مطابع القطاع الخاص لا يمكن ائتمانها على تصنيع مثل هذا المنتَج الحسَّاس. إن أيَّ عمل منشور يتناول موضوع طباعة النقد من شأنه أن يوقظ الجشع والقلق لدى الجمهور، بحسب قول ممثل كبير للبنك المركزي الأوروبي في سياق البحوث التي أَجريتُها لتأليف هذا الكتاب. والحقيقة أن فكرة أن المواطن ينبغي أن يَثِقَ ثقةً عمياء في القيمة المطبوعة اعتباطيًّا على قطعة مستطيلة الشكل من الورق لم تَعُد تغطيتُه بمعدن ثمين مضمونةً لهي فكرة يصعب فهمُها عقلانيًّا، ولا تعكس على الأرجح إلا قوة العادة، أو الإيمان الراسخ. لا شيء يصوِّر الظاهرة اللاعقلانية التي يتعذَّر تفسيرُها حقيقةً، ظاهرة النقد الورقي الحديث، أفضل من المصطلح الذي سكَّه لها الاقتصاديون في البلدان الناطقة بالإنجليزية؛ وهو «نقود إلزامية»، كما سبق أن ذكرنا. الأمر يُشبه خَلْق «قيمةٍ» من لا شيء، وليست مصادفة أن هذا يذكِّرنا بخرافة خَلْق النور: «ليكُنْ نور، فكان نور»! (فكأنما قيل: لتكُن نقود، فكانت نقود.) وكما قال المؤلف والمهاجر الألماني كورت توخولسكي ذات مرة ساخرًا، فإن النقود ذات قيمة؛ لأنها مقبولة عمومًا، وهي مقبولة عمومًا؛ لأنها ذات قيمة. وأيُّ تلاعبات من أي نوع ستقوِّض في الحقيقة ثقة الناس في أوراق النقد، على الفور وبشكل قاطع. لكن هذا لا يُضفِي مزيدًا من قوة الإقناع على الزعم القائل بأن طباعة النقد عمل سيادي — ويجب أن تظل كذلك — من واجبات الحكومة. إصدار أوراق النقد وحده هو الذي يُعَدُّ وظيفة سيادية، أما إنتاج أوراق النقد فليس كذلك، وما هو إلا عملية لا تُعنَى إلا بالجودة والتكلفة. ولنا في صناعة الأسلحة مثال؛ فالقطاع الخاص مسموحٌ له بإنتاج الأسلحة، لكن الدولة — باحتكارها استخدام العنف — هي وحدها التي يجوز لها استخدام هذه الأسلحة.
إن وصف قطاع طباعة النقود بأنه ذو تدابير أمنية صارمة له ما يبرره؛ فالجمهور لا يعرف المتطلبات الأمنية الصارمة حقَّ المعرفة إلا فيما يخصُّ نقل أوراق النقد؛ إذ يُمكن نقل أوراق نقد بالملايين باستخدام وسيلة نقل خاصة. ويستطيع المرء بسهولة أن يتصوَّر وجود كمية أوراق نقد تُعدُّ بمليارات اليوروهات، اعتمادًا على الفئة، تسير على الطرق السريعة. ولا عجب أن توقيت عمليات التسليم من أي مطبعة نقد سرٌّ يُحفظ بصرامة حتى على المستوى الداخلي. ولا عجب أيضًا أن هذه البضاعة الثمينة تكون مصحوبةً بفِرَق حراسة خاصة مدجَّجة بالسلاح. لكن متطلبات الأمن والسرِّية تكون أيضًا استثنائية فيما يتعلَّق بإنتاج النقد وتخزينه؛ فالمنشآت الإنتاجية مصمَّمة وفق معايير أمنية خاصة، وأحيانًا تُشبه حصونًا حقيقية. والالتزام الصارم باللوائح الأمنية يخضع لرقابة دقيقة من دائرة الرقابة والأمن بالمنشأة. ويُختار الأفراد الذين يتعاملون مباشرة مع أوراق النقد، ولا سيما الأوراق الجاهزة للتسليم، بعناية فائقة. ففي ألمانيا، يُشترط للتوظيف في هذا القطاع امتلاك سجلٍّ جنائي نظيف. وكان الروس والهنود ذات يوم يُسكِنون قوَّتهم العاملة المعنية بأكملها في مناطق سكنية معزولة، وهم لا يزالون يفعلون هذا إلى اليوم في بعض الأحيان. في كثير من المطابع، يلزم العامل التجرُّد من ملابسه وارتداء بدلة شغل دون جيوب قبل بدء العمل. غرفة الطبع منطقة محظورة على الزوَّار، حتى ممثلي البنوك المركزية. والاستثناء الوحيد لهذه القاعدة هو مطبعة مكتب سكِّ وطباعة العملة في واشنطن. لكن هناك مطبعة ثانية في فورت ويرث في تكساس محظورة على الزوار. ومع ذلك، من الممكن مشاهدة غرفة الطباعة التابعة للمطبعة الاتحادية أو جيزيكه أوند ديفريَنت في ألمانيا، لكن بإذن كتابي من البنك الاتحادي فقط. وحتى عندئذٍ يجوز تغطية الآلات بالقماش. ولا يفترض أن يعلم الضيف اسم البلد الذي تَجري حاليًّا طباعةُ طلبيَّته. والرقابة أمرٌ اعتيادي عند مداخل المطابع وغرف التغليف؛ حيث يتم تسجيل أي شخص يدخل أو يخرج. وإذا كانت هناك مادة ذات خصائص شديدة السرِّية يَجري صُنعُها أو تجهيزُها، فلا يُسمح لأحد على الإطلاق بدخول المنطقة المعنية أو مغادرتها. كل حركة داخل غرفة الطباعة بمطبعة نقد حديثة في يومنا هذا مسجَّلة يقينًا بالفيديو، ويُحتفظ بالفيلم لفترة طويلة تصل أحيانًا إلى سنوات. في بعض المطابع توجد إجراءات رقابية مفاجئة؛ فلا يُسمَح لأحد من الموجودين في غرف الطباعة بالتحرُّك من مواضع عملهم عند انطلاق إشارة صوتية، ثم يتم تفتيشهم بمعرفة حرَّاس الأمن. ويجوز مثلًا إخضاع الزوَّار بشكل عشوائي للتفتيش عند بوابة مصنع الورق في لويزنتال. ويُحتفظ بسجلٍّ بكل خطوات الإنتاج، سواء طبع أم صناعة ورق، وكل جانب من جوانب العمل يُحسب من جديد ويقاس. الأوراق البيضاء وصفحات الورق المقصوصة والأخطاء المطبعية، ببساطة كل شيء، يتم توثيقه بدقة بالغة. ويجب تسليم هذا السجل إلى اللجنة المعنية التابعة للعميل؛ أيِ البنك المركزي، عند إتمام طلبيَّة الطبع. ويجب تحديدًا تسليم جميع النُّسخ التي تتضمَّن أخطاءً مطبعية دون استثناء إلى العميل لإعدامها. ولا يجوز تسليم الورق إلا على هيئة خاصة معتمدة، وتحديدًا على هيئة ما يسمَّى رِزْمة تضم ٥٠٠ صفحة مكشوفة الحواف؛ بحيث يتسنَّى التأكد من عدد الصفحات. الورق غير الصالح للاستعمال الذي لم يُطبَع عليه شيء هو وحدَه الذي يجوز إعدامه في الموقع نفسِه، وهو إجراء يَجِب أيضًا توثيقه. وإذا لزم إصلاح آلة معطَّلة، ولا سيما أثناء المراقبة النهائية للنقد التَّامِ الصُّنع أو في منشأة التغليف، يُطبَّق مبدأ «الأعين الأربع» الأمني — مع استمرار مراقبة خطوات العمل كافة بكاميرات الفيديو — حيث يقوم موظفان معًا — أحدهما من قسم الأمن الداخلي — بفتح الآلات بمفتاحين منفصلين. وبفضل الأغطية البلاستيكية الشفافة في يومنا هذا، تُعزل هذه الماكينات بإحكام تام. إنها بلا شك صناعة ذات متطلبات أمنية مرهِقة.
كذلك ترتبط رغبة المنتجين والطبَّاعين ومورِّديهم ورغبة عملائهم في السرِّية في مجال طباعة النقد بالهيكل غير العادي لهذا القطاع. فإنتاج أوراق النقد سوق ليس لها سعر سوقي. توجد عقود علنية في طبع النقد كما في شراء الورق والمواد المسانِدة كالخصائص الأمنية والأحبار الملوَّنة المُؤَمَّنة. وإذا كانت المطبعة المعنية مطبعةً حكومية، فلا بدَّ أن تطرح العقود في مناقصات. لكنَّ عدد مقدِّمي العطاءات محدود مثلما أن عدد المُشتَرين محدود. وكما قال أحد المصرفيين المركزيين، يَجري التفاوض في عملية ثنائية شبه احتكارية. ويكاد يوجد أيضًا تناقض لا يقبل التوفيق بين جهد التطوير الكثيف التكلفة وما يلي ذلك من متطلَّب عدم السماح إلَّا لبعض المتعاقدين المحتملين بتقديم عطاءاتهم. باستثناء عملية طبع النقد وحدها، العمل على خفْض التكاليف من خلال الإنتاج بالجملة أمرٌ مستحيل. فعلى سبيل المثال، لو أمكن استخدام عملية أو خاصية أمنية، طُوِّرت لأوراق النقد، لحماية منتجات كالبضائع ذات العلامات التجارية أيضًا، فستُصبح تلقائيًّا عديمة القيمة في طباعة أوراق النقد. فلِمُحاربة التزييف، يَجِب استخدام تقنيات هي حكْرٌ على أوراق النقد. هذه الحصرية في التعامل مع المنتَج المطروح يَلزَم تعويضُها بعلاوة سِعرية، وهو ما يَلزَم التفاوض عليه بين المورِّد والعميل. لكنْ إلى أيِّ مدًى يظلُّ هذا مبرِّرًا إذا كان هناك مثلًا مُورِّد واحد فقط لمادة إنتاجية معينة في العالَم كله؟ متى تبدأ إساءة استغلال الهَيْمنة السوقية؟ علاوة على ذلك، لماذا تُساوِم شركات طباعة نقود خاصة مورِّدَ أحبارٍ طباعية مُؤَمَّنة بقوة للحصول على سعرٍ مميَّز أو خاصية أمنية مميزة إذا كان هذا الطبَّاع يستطيع تمرير التكاليف الإضافية إلى العميل دون أيِّ مشكلة وبهذه الطريقة يزيد هامش ربحه؟ بل ربما ستكون هناك عمولة خاصة لا بأس بها في هذا لشركة طباعة النقود مِن مُورِّد المادة نظيرَ عدم المساومة بشدة لتخفيض السعر. لا يمكن إغفال مخاطر الاتحادات الاحتكارية المتحكِّمة في الأسواق والأسعار. فالمورِّدون المتنافسون بشكلٍ رسمي يُمكِنهم بسهولة هيكلةُ عطاءاتهم، بحيث يحصل الجميع على قدرٍ من الفائدة.
فيما يُسمَّى العالَم الثالث بوجْه خاصٍّ، غالبًا ما يتولَّى مسئولون مُتَدَنُّو الأجور نسبيًّا البتَّ في إسناد عقود طبع نقد بالملايين. ولا تأتي محاولة ممارسة تأثير غير لائق على القرار من المورِّد بالضرورة. فقلَّما يستطيع المرء زيادةَ الاحتياج الفِعْلي لبلدٍ ما من النقد من خلال عطايا غير قانونية، لكنَّ المرء يستطيع يقينًا التأثير على اختيار المورِّدين. كل واحد في هذا القطاع على كلا جانِبَيِ الأطلسي يعلم هذه المشكلة. ولا يوجد لدى أحدٍ مبرِّرٌ للإشارة بأصابع الاتهام إلى آخر. تكلفة الرشوة التي تتحمَّلها الصناعة الألمانية كانت تُسجَّل بشكل شرعي تمامًا في الدفاتر تحت بند «نفقات مفيدة»، بل وكانت أيضًا، حتى بضع سنوات مضت، مستحقَّة للتخفيضات الضريبية لو أنها أُنفقتْ في الخارج. تَعَامَل السويسريون روتينيًّا بلا مبالاة مُماثِلة مع الرشوة ما دَامتْ تنطوي على بلدان أجنبية. وقد سَعَتْ منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في باريس منذ سنوات إلى مزيد من الشفافية في المشتريات العامة، فأعلنتِ الحربَ على الفساد، وأقرَّتْ عام ١٩٩٧م اتفاقية دولية دخلت الآن حيِّز التنفيذ. وحتى قبل دخول الاتفاقية حيِّز التنفيذ على نطاق واسع، كانت ألمانيا عام ١٩٩٨م من بين البلدان الأولى التي ضمَّنتْها في قوانينها الوطنية. أما بريطانيا البراجماتية فتحرَّكتْ على مهل؛ لأن الواقع لم يتغير إلا قليلًا. في بلدان كثيرة، إذا لم يكن مقدِّم العطاء مستعدًّا لدفْع البقشيش المطلوب فربما ينبغي ألَّا يُكلِّف نفسَه عناء عرْض خدماته. الصناعةُ تَعرِف كيف تُساعِد نفسَها؛ حيث اتجهتْ إلى بلدان كالإمارات العربية المتحدة، التي لم تُوقِّع على اتفاقية منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. هذه البلدان هي في الغالب واحات ضريبية أيضًا؛ مما يعني أن المرء يمكنه ضرب عصفورين بحجر واحد.
سوق لكن بلا سعر سوقي
تتَّسم سوق طباعة النقد بهيكل محيِّر نوعًا ما. فالأغلبية الساحقة من أوراق النقد تُنتِجها مطابع حكومية ليست أكثر مِن دوائر تابعة للبنوك المركزية. مثل هذه المطبعة الحكومية — ولنا في إيطاليا مثال — ليست مضطرَّة للقلق بشأن هيكل تكلفتها. هناك أيضًا بعض المطابع الحكومية التي خُصخِصت صوريًّا لكنَّ أسهُمَ رأسمالها ما زال أغلبُها أو كلُّها في حَوْزة البنك المركزي، ومثال ذلك النمسا. يمكن أن يَفتَرِض المرءُ هنا أيضًا أن البنك المركزي، بصفته المالِكَ، يتحمَّل بطبيعة الحال التكلفة (مبانيَ وأمنًا وأفرادًا). الطائفة الأصغر حجْمًا من حيث الأعداد والحصة السوقية هي شركات طباعة النقد من القطاع الخاص، وجميعُها يعمَل وفقًا لمبادئ السوق الخاصة، وجميعها يهدف إلى الربح، لكنها تعتمد بدرجات متفاوتة على السوق. بعض هذه الشركات يطبع العملة الوطنية في المقام الأول، وبأسعار جذابة، بمُوجِب عَقْد مع البنك المركزي، وأمثلة ذلك أورِل فوسلي في سويسرا، وإنسخيده في هولندا. طائفة ثانية يُسمَح لها بالمشاركة في طَبْع العملة الوطنية بأجْرٍ مُجْزٍ، لكنها تَعمَل في المقام الأول لصالح تجارة التصدير، وذلك مثل شركة جيزيكه أوند ديفريَنت. وأخيرًا هناك أيضًا مطابع القطاع الخاص المُستبعَدَة من طباعة العملة الوطنية — على الأقل حتى تاريخه — ومثالها شركة دي لا رو في بريطانيا، وفرنسوا شارل أوبرتور فيدوسيير في فرنسا. لكنَّ ثمة شيئًا آخِذًا في التغيُّر هنا، وذلك كما سنُبيِّن فيما بعدُ.
يعتمد احتياج بلد ما من أوراق النقد على درجة التنمية الاقتصادية والأحوال المناخية. وهناك قاعدة عامة في هذه الصناعة تقول إنه يتعيَّن ضرب عدد السكان في المنطقة المعتدلة في عشرة لحساب احتياج البلد السنوي التقريبي من أوراق النقد. وتكون الحاجة إلى الاستبدال أعلى في المناطق الرطبة. تتكلَّف الطباعة ذات التدابير الأمنية الصارمة كثيرًا من المال؛ حيث تتجاوز استثماراتها الاستثمارات اللازمة لمنشأة طباعية تجارية بكثير. تبتلع آلات الطباعة والتجهيزات الأمنية الكثيفة، ولا سيما لإنشاء سراديب مُؤَمَّنة، قدْرًا ضخمًا من المال. فعلى حسب تكلفة العقارات، قد يكون هناك القليل مما يمكن فعله بمبلغ يقل عن ٨٠ مليون يورو. يمكن أن يشتري المرء لهذا الغرض خطًّا من الطابعات يستطيع إنتاج ما يصل إلى مليار وحدة سنويًّا، وذلك على حسب عدد مناوبات العمل يوميًّا، وهو ما يتناسَب غالبًا مع احتياج وطني من أوراق النقد أقل من مائة مليون وحدة سنويًّا. على الرغم من ذلك، فإن ٦٤ من اﻟ ١٩١ عضوًا بالأمم المتحدة يتمتعون حاليًّا برفاهية امتلاك مطبعة نقد حكومية، والباقون منهم يطبعون نقودهم في الخارج. ولأسباب أمنية، يُفضَّل ألَّا يكون الطبْع في بَلَدٍ مجاوِر مباشرةً، هذا إنْ أمكن. معظم هذه البلدان يُسنِد هذا العمل إلى إحدى المطابع الخاصة المعتمَدة لدى بنوكها المركزية التي تحتفظ بقائمة بالمورِّدين المحتملين بعدَ غربلتها وفقًا لمعايير صارمة؛ لأن المطابع الحكومية لا تعمل لصالح دول أجنبية إلا في حالات استثنائية. يحدث في بعض الأحيان أن تُضطَرَّ حكومة ما إلى إشراك مطبعة خاصة في إنتاج نَقْدها لعدم قُدْرة مطبعتها الحكومية — أحيانًا لأسباب يصعب فهْمُها تمامًا — على التسليم في الوقت المناسب. مثل هذه الطلبات الطباعية (تُسمَّى باللغة المهنية «الفائض») لا تحدث بالطبع إلا على فترات متقطعة، لكنها عندئذٍ يمكن أن تصل إلى عدة مليارات من الأوراق. هناك حوالي ٢٠ بلدًا تضطر بانتظام إلى طرح عقود فائض كهذه، ويفترض أن يكون هذا في مناقصات. لكن تحت ضغط الوقت، غالبًا ما يتم إسنادُها دون عطاءات. وفي هذه الحالة، تكون العقود مُجزية الأجر، وتكون الرغبة فيها شديدة بالقَدْر نفسِه.
طباعة أوراق النقد سوق ضيقة، وهو الأمر الذي يَجعَل هذا النشاط التجاري شديد الصعوبة. فمِن ناحية، نَجِد أنَّ إمكانيات تمييز المنتج محدودة؛ لأن أوراق النقد متجانسة نسبيًّا. ومن ناحية أخرى، تباطأتِ الزيادةُ في الطلب بشكل ملحوظ على الرغم من تَوَاصُلها. ويُمثِّل النمو السكاني والتوسع الاقتصادي والتضخم العواملَ الثلاثةَ الرئيسية التي تُقرِّر الطلبَ على أوراق النقد. يصل النمو في يومنا هذا إلى ٢ أو ٣ في المائة سنويًّا فقط بعد أنْ كان من قبلُ ٥ في المائة. هذه الوتيرة الحالية أبطأُ من معدَّل نمو سكان العالم. في البلدان الصناعية، التي لها ثقلها في مجال الإحصاءات، نجد أن الطلبَ الإضافيَّ الناشئ عن نمو السكان — وهو نموٌّ ضعيف هناك — وعن النشاط الاقتصادي، منخفضٌ انخفاضًا غيرَ متناسب. هذا الطلب تُوازِنه أيضًا جزئيًّا وسائطُ الدفع البديلة كبطاقات الائتمان والخصم والنقد الإلكتروني. تبدو الأمور مختلِفة في بلدان ما يُسمَّى بالعالَم الثالث، التي لا تَشهَد زيادةً سكانية قوية فحسبُ، بلْ هي أيضًا في ذروة التحول من المقايضة إلى الاقتصاد النقدي. ومع ذلك فهذه العملية تكون أيضًا في الأغلب مرتبطة بارتفاع التضخم.
مكتب سكِّ وطباعة العملة الأمريكي | ٣٠١ |
٧ مليارات وحدة بمتوسط سعر ٤٣ دولارًا لكل ١٠٠٠ ورقة | |
شركات طباعة أوراق اليورو (حكومة وقطاع خاص) | ٤٨٠ |
٤٫٨ مليارات وحدة بسعر ١٠٠ دولار لكل ١٠٠٠ ورقة | |
«السوق الحُرَّة» للشركات الخاصة العاملة في مجال طباعة النقد دون حصة اليورو | ٦٢٠ |
١٠ مليارات وحدة بسعر ٦٢ دولارًا لكل ١٠٠٠ ورقة | |
شركات طباعة النقد الحكومية الأخرى خارج منطقة اليورو | ٢٨١٢ |
٧٤ مليار وحدة بسعر ٣٨ دولارًا لكل ١٠٠٠ ورقة | |
إجمالي السوق العالمية للنقد المطبوع | ٤٢١٣ |
الحجم الطباعي التقديري ٩٥٫٨ مليار ورقة نقد |
تَهوَى شركات طباعة النقد الخاصة هذا المزيج من النمو السكاني والتحول إلى الاقتصاد النقدي والتضخم، الذي يُوجِد احتياجًا متزايدًا باطِّراد إلى أوراق النقد؛ لأنَّ الشروط الفنية للدفع الإلكتروني ما زالت غيرَ متوافرة في الدول الصاعدة، باستثناءات معينة. لكنَّ هذا لا يَعنِي أنَّ شركات طباعة النقد الخاصة من شأنها تأجيجُ التضخُّم في البلدان التي تَجمَعها بها أنشطة تجارية؛ فالمسئولية عن السياسة النقدية منوطة حصريًّا بحكومة كلِّ بَلَد على حِدَةٍ وبنكه المركزي، وما على شركات طباعة أوراق النقد إلا توريد منتَج.
لا يوجد أساسًا إلا ثلاث شركات طباعة نقد خاصة ما زالت تقتسم السوق العالمية المتاحة، وجميعُها في أوروبا: دي لا رو البريطانية، وجيزيكه أوند ديفريَنت الألمانية، وفرنسوا شارل أوبرتور فيدوسيير الفرنسية، وهي تستحوذ مجتمعةً على حصة سوقية تُساوي نحو ٩٠ في المائة، على الرغم من وجود فجوات كبيرة فيما بينها. أما إنسخيده الهولندية وأورِل فوسلي السويسرية — وكلتاهما معروفة بأنها شركة طباعة خاصة تُنتِج نقدًا ذا مستوًى عالٍ جدًّا من الأمن والكفاءة الفنية لبنوكها الوطنية — فليس لهما إلا وزْنٌ ضئيل في السوق الحرة. وأما الشركات الأخرى التي تتضمَّنها دائرة شركات طباعة النقد غير الحكومية من أوروبا والأمريكتين، والتي جَرَّبتْ حظَّها في هذه السوق الرفيعة المستوى والشديدة الصعوبة، فقد أخفقتْ في السنوات الماضية بسبب المتطلبات الفنية أو بسبب عدم كفاءتها في هذا المجال من النشاط التجاري. والمدهش أنَّ هذا ينطبق على شركات طباعة النقد الأمريكية ذات التراث الحافل، التي اضطُرَّتْ — بدون استثناء — إلى الانسحاب من سوق طباعة النقد.
وعلى الرغم من المنافسة المتزايدة الاحتدام، يظل إنتاج النقد نشاطًا مربحًا لشركات طباعة النقد الخاصة. والدفع كقاعدة عامة يكون بالعُملة الصعبة، لا بالأوراق الملوَّنة التي تكون قد انتهت شركة طباعة النقد توًّا من طبْعها لصالح حاكم ما. مستوى الانضباط في تحويل الأموال عالٍ، لكنْ فيما يُسمَّى العالَم الثالث، يوجد غالبًا نقْصٌ في العُملة القابلة للتداول. لسوء الحظ أن هؤلاء هم أفضل عملاء شركات طباعة النقد الخاصة. ومَن ذا الذي سيُقاضِي بنكًا مركزيًّا لا يسدِّد ما عليه؟ الصراع على السوق المتاحة عادةً ما يستعِرُ بين شركات طباعة النقد الخاصة الثلاث المذكورة. لكنْ في الظروف الصعبة، تُوحِّد الشركات الثلاث هذه صفوفَها في المَيْدان ضدَّ المطابع الحكومية، ولا سيما عندما تحسب شركات طباعة النقد الحكومية تكاليفها بالنظام الحَدِّي رغبةً في استغلال طاقتها الإنتاجية الزائدة.
لا تُقْدِم أيٌّ من شركات طباعة النقد الخاصة على إعلان أسماء البلدان التي تَطبَع نقودًا لها. حتى شعار الشركة الطابعة الذي كان شائعًا ذات يوم، بل والذي كان يقتضيه القانون في بعض البلدان كالمملكة المتحدة، وكان مخفيًّا في مكان ما في الورقة النقدية، لم يَعُدْ معمولًا به إلى حدٍّ كبير. والسبب الذي تسوقه شركات طباعة النقد الخاصة لتبرير إخفائها هُوياتها هو أن البنوك المركزية «سيُجَنُّ جُنونُها» إذا أُفصِح عن علاقات العمل. وهناك أسباب أخرى؛ فقد لحِقَتِ العولمة منذ زمن طويل بمجال طباعة النقد ذاتِ التدابير الأمنية الصارمة أيضًا. هناك شفافية سوقية وتنافُس لم يُعرَفا من قبلُ يسودان الآن بين شركات طباعة النقد الخاصة. تراجُع ولاء عملاء البنوك المركزية بشكل ملحوظ. ومما يزيد الأمرَ عسرًا على شركات طباعة النقد الخاصة أنهم يُبدِّلون المورِّدين بسهولة من إصدار إلى إصدار. فحتى البنوك المركزية — بعضها على الأقل — منشغلة بشكل متزايد بضغط التكلفة وتحاول الحفاظ على مخزونها من أوراق النقد عند أدنى مستوًى ممكن؛ ومن ثم فإنَّ حَجْم ما تطلَّب من طَلَبِيَّات في انخفاض مستمرٍّ، والفواصل الزمنية بين الطلبيات في تناقُصٍ دائم. التفاصيل تَشِي بهذا التغيُّر. كان المتَّبع أن تَبقَى الألواح الطباعية — التي هي مِن حيث المبدأ مِلْكٌ للعملاء — لدى شركات الطباعة مخزَّنة في أمانٍ في سِرْدابها، وإذا طلب بنكٌ وطنيٌّ استعادةَ ألواحِه رغبةً في تغيير شركة الطباعة، فقد يتحطَّم لَوْحٌ طباعي ثمين «عَرَضًا» أثناء النقل. أما اليوم فكثير من البنوك الوطنية يُصِرُّ على الاستعادة الفورية للألواح الطباعية لِتكونَ أمامَها حريةُ الاختيار عند تغيير شركة الطباعة التي تتعامل معها. ويشكو كثيرون ممَّن هم في هذه الصناعة مِن أنَّ أوراق النقْد التي كانت ذاتَ يوم موقَّرة بدأتْ تفقد هالَتَها الأسطورية وتتراجع إلى مجرد سلعة تجارية. البندول يتأرجح من طرف إلى آخر.
لقد انقضت السنوات السِّمانُ لقطاع طباعة النقد ذات التدابير الأمنية الصارمة. أكثر من ربع قرن من التوسُّع الاقتصادي وانتشار الازدهار في أجزاء كبيرة من العالم، إن لم يكن في العالم كله، حفَّز الطلب على أوراق النقد والسندات المالية بكل أنواعها. ومن وراء هذا، رَبِحَ القطاعُ بأكمله، بما فيه صانعو الآلات أو مورِّدو الخامات أو شركات طباعة النقد المُؤَمَّنة. جاءتْ أُولَى إشارات الإنذار الحَذِرة في نهاية ثمانينيات القرن العشرين، عندما بدأ القطاع يشكو من الطاقة الإنتاجية الزائدة والأسعار الآخِذة في الانخفاض. أذِن فتْحُ شرق أوروبا بانتعاش آخَرَ. لكنْ سُرعانَ ما صار ذلك الانتعاشُ أيضًا شيئًا من الماضي. ثم بدأتِ الاستعاضة عن السندات المالية المادية بالمتاجرة الإلكترونية، وتراجعَتْ أهمية الشيكات البنكية والشيكات السياحية والطوابع البريدية التقليدية، واستُعيض عن تذاكر الطيران بالحجوزات عبْرَ شبكة الإنترنت.
بما أنَّ الازدياد في تداول أوراق النقد بدأ يصل إلى مستوًى مستقرٍّ منذ سنوات في الدول الصناعية في ظل اكتساب البطاقة البلاستيكية مزيدًا من الأهمية، تبيَّنتْ لشركات طباعة النقد الخاصة ضرورة إبدائهم اهتمامًا أقوى وأقوى بتكنولوجيا البطاقات وتوظيفها في مختلف مناحي الحياة. لكنَّ مجال أعمال البطاقات ينطوي على تحدِّيات تكنولوجية ويستنزف القدرات المالية. استُخدمتِ البطاقات، في مراحلها الأولية، في العمليات البنكية فقط للمساعدة في المصادقة. واليومَ صارت البطاقة في حدِّ ذاتها أداةَ دَفْع. وبعدَ بطاقة المصادقة، كانت البطاقة النقدية الهاتفية بشريطها المُمغنَط هي الخطوة التالية، ثم استُعيض عنها بالبطاقة الذكية المزوَّدة بشريحة، التي وَجدتْ لها أيضًا استخدامًا في الهواتف الخلوية باسم بطاقة تعريف المشترك. في هذه الأثناء، تُقدِّم شركات طباعة النقد الخاصة أيضًا بطاقات معالجة تشتمل بذاتها على قُدْرة حاسوبية، وتُسمَّى البطاقات الذكية، بل وبعضُها يشتمل على توقيع رقمي. وتكاد تكون السعة التخزينية للبطاقات الذكية غير محدودة، كما أنَّ إمكانيات توظيفها متنوعة بالقدْر نفسِه؛ حيث يمتدُّ استخدامُها من الرقابة على الدخول، ولا سيما في وسائل النقل الجماعي، إلى رُخَص القيادة وبطاقة الرعاية الصحية أو بطاقة الهُوية. ولا يقف في طريق انتشارها في بلدان كثيرة إلا حماية خصوصية البيانات.
تُعتبر طباعة النقد الأوروبية ذات التدابير الأمنية الصارمة قائدةَ العالَم في هذا المجال في يومنا هذا. فالتصميم التخطيطي والاحتياطات الأمنية الفنية وجَودة الطباعة المتعددة الألوان لأوراق النقد تُعتبر نموذجًا لمعظم أوراق النقد الصادرة في العالم. افتُرض بطبيعة الحال أن يُستغل إدخال اليورو كفرصة فريدة لتقديم شركات طباعة النقد الأوروبية ذات التدابير الأمنية الصارمة، بجانب العُملة المشتركة ذاتها، كنموذج للحداثة والمَقْدِرة والريادة. ويوجد تقرير شامل في الجزء الأخير من هذا الكتاب حول المَخَاض العسير لأوراق اليورو. ويمكن الإفصاح عن الحكم مسبقًا: ضاعت الفرصة التاريخية. تحوَّلت الرغبة في إشراك جميع البلدان أعضاء اليورو في إنتاج اليورو إلى عِبْءٍ ثقيل. وزاد التنافُس التقليدي بين شركات طباعة النقد الحكومية والخاصة مِن تعقيد المشروع. وعلى نحوٍ غير مسبوق في تاريخ النقود الورقية، أدَّى إسنادُ طبْع اليورو إلى مورِّدي ورق متعدِّدِين وشركات طباعة نقد متعدِّدة إلى زيادة المخاطر الأمنية في الإنتاج ورفع التكاليف بشدة دون داعٍ. وأدَّى تنوُّع معدات الإنتاج وتفاوُت مستوى الحِرَفِيَّة لدَى المشاركين إلى وجود سقَطَات في الجودة؛ مما قلَّل مستوى أمْنِ أوراق اليورو ضد التزييف على الرغم من أنها كان يُفتَرض أن تكون أعلى أوراق النقد أمنًا في العالَم.
لقد ذهبتْ فرصة تاريخية أدْرَاج الرياح. بلْ إنَّ العُملة المشتركة الجديدة يُمكِنها أنْ تُهدِّد وجود صناعة أوراق النقد الخاصة. في المرحلة السابقة على طباعة اليورو، زادت المطابع الحكومية طاقتَها الإنتاجيةَ زيادةً كبيرة، بتمويل من الإيرادات الضريبية. لا يوجد طلب على هذه الطاقة في يومنا هذا. ويُخشَى أنْ تبحث المطابع الحكومية، التي تتلقَّى دعمًا ماليًّا كبيرًا، عن عقود طَبْع في أسواق التصدير التي تَحيَا عليها شركات طباعة النقد الخاصة.
في السنوات المقبلة، سوف تتطلَّب الطاقة الزائدة والتحوُّل التكنولوجي تغييرات هيكلية عميقة في هذا القطاع، بشركاته الخاصة والحكومية على السواء. والاستمرارية أو البقاء لن تحسمه البصيرة التجارية والدعم الرأسمالي والقوة في البحوث والتطوير فحسب؛ لأن النفوذ السياسي أقوى مما ينبغي. لقد حان الوقت لإلقاء نظرة أعمق على أهمِّ اللاعبين في هذا القطاع الصناعي ومصيرهم الذي يغلب عليه التقلُّب.