ما الذي أذهب هالة شركة دي لا رو الإمبراطورية؟
إلى المدينة والعالم
ترجع أصول هذه المطبعة الخاصة ذات التدابير الأمنية الصارمة إلى عام ١٨١٣م، عندما افتتح توماس دي لا رو — سليل البروتستانت الفرنسيين الذين فرُّوا من فرنسا قاصدين جزيرة جيرنزي في القنال الإنجليزي ونشروا هناك صحيفة لو ميروار بوليتيك — متجر قرطاسية ومطبعة متاخمة له في لندن. في البداية كان يَطبَع أوراق اللعب. تَلَتْ ذلك طوابع التمغة وطوابع البريد عام ١٨٥٣م. وفي عام ١٨٦٠م طبع أول أوراق نقْد لصالح حكومة جزيرة موريشيوس. استُبعدت شركة دي لا رو من طبع أوراق النقد البريطانية ما عدا أثناء الحرب العالمية الأولى، لكن سُمح لها بطبع أوراق الجنيه الاسترليني لاسكتلندا وأيرلندا الشمالية. كبديل عن طبع العملة المحلية، كان الطلب على منتجاتها من الأقاليم الخاضعة للسيادة البريطانية، ولا سيما الهند، أقوى بكثير، سواء أكانت هذه المنتجات طوابع تمغة وبريد أم أوراق نقد. كانت المطبعة البريطانية الخاصة حتى في ذلك الحين تعيش على الصادرات. كُتب للروابط التجارية الخارجية التي نَمَتْ أثناء القرن أن تُؤتِيَ فيما بعدُ ثِمَارًا وفيرة مرَّة أخرى عندما مُنحت المستعمرات البريطانية استقلالها. فالسواد الأعظم من البلدان الجديدة الأفريقية والآسيوية التي أرادتْ أن يكون لها نقْدُها الخاص وطوابعها البريدية الخاصة بعد زوال الاستعمار جعلتْ شركة دي لا رو تتولَّى طبعها كاختيار بديهي.
ما تبيَّن أنه مُربِح بالقدْر نفسِه هو الاتفاقيات التي طَبَعَتْ بموجبها شركة دي لا رو أوراقَ النقد في لندن للحكومات العديدة في المنفَى هناك، من بلدان جنوب أوروبا وشرقها، أثناء الحرب العالمية الثانية عندما احتلَّتِ القوات الألمانية تلك البلدان. كان اليونانيون واليوجوسلافيون والبولنديون والتشيكوسلوفاكيون والنرويجيون يدفعون لمقاتلي المقاومة التابعين لهم في أوطانهم بأوراق نقد من إنتاج شركة دي لا رو، وكان يتولَّى «تسليم» هذه الأوراق غالبًا سلاح الجو الملكي. الفرنسيون وحدهم هم الذين لم يُعانوا من هذه المشكلة. فبعدَ الحرب العالمية الأولى، نقل بنك فرنسا كإجراء احترازي حكيمٍ مطبعةَ نقْدِه من باريس إلى شماليير بالقرب من كليرمون-فيران في وسط فرنسا؛ حيث ظلَّت المطبعة في الواقع لفترة طويلة دون أن يَمَسَّها الاحتلال الألماني أثناء الحرب العالمية الثانية. اتجهتِ البلدان التي كانت تحتلُّها ذات يومٍ ألمانيا بطبيعة الحال إلى شركة دي لا رو بعد تحريرها في نهاية الحرب العالمية الثانية. بل وحدث هذا على نطاق أوسع بعد سقوط الستار الحديدي، عندما أراد مزيد من البلدان استبدال نقود رأسمالية ذات قوة شرائية بنقودها الورقية الاشتراكية عديمة القيمة.
كانت بالفعل شركة دي لا رو المحدودة شركة ناشطة عالميًّا في نهاية خمسينيات القرن العشرين عندما كانت جيزيكه أوند ديفريَنت تترقَّب نفخة جديدة في روحها بطبع أول أوراق مارك ألماني لصالح البنك الاتحادي. حقَّقت شركة دي لا رو آنذاك مبيعات قيمتها ٢٢ مليون جنيه استرليني، وهو مبلغ يُساوي — بحسب بنك إنجلترا — خمسة عشر ضِعْفَ قيمتِهِ بجنيهات اليوم. كان لديها أربع وعشرون منشأة في أربعة عشر بلدًا وعشرة آلاف موظف. كان أكثر من مليار ورقة نقد يغادر مطبعة دي لا رو في منطقة بَنْهِل رو في لندن في تلك الأيام. كُتب لهذه الهيمنة السوقية من جانب شركة الطباعة البريطانية هذه أن تزداد أكثر، بعد بدء تشغيل مطبعة ضخمة جديدة ذات تدابير أمنية صارمة في جيتسهيد بالقرب من نيوكاسل في شمال إنجلترا في أوائل ستينيات القرن العشرين. في أفضل الأوقات كانت سبعة خطوط من آلات الطباعة تعمل هناك، من ضمنها ثلاثة من الخط السوبر العالي الأداء، وكلها من إنتاج كوباو-جوري. هل هناك شركة غير دي لا رو كانت تقْدِر على نشر مطبوعة أشبه بأطلس للعالم بمناسبة الذكرى السنوية الخمسين بعد المائة لتأسيسها بدلًا من الدورية المعتادة التي تنشرها الشركات؟ دي لا رو: «إلى المدينة والعالم»! ما كان لشركة أخرى أن تزعم أن لها مثل ذلك الوزن في سوق طباعة أوراق النقد والسندات المالية العالمية. ما زال الموظفون يتكلَّمون بحماس حتى يومنا هذا عن «مأدُبات العشاء الدبلوماسية» المقامة في فندق دورشستر في لندن لمحافظي البنوك المركزية وسفراء البلدان المتعامِلة معها، وكان دائمًا ما يتم ذلك في حضور أحد أفراد الأسرة المالكة أو رئيس الوزراء البريطاني. أُلغيتْ تلك الفعاليات منذ عقود مضتْ. كانت الشركة تُعتَبَر إحدى جواهر الصناعة البريطانية. كانت أيضًا في وعْيِها بذاتها شركة بريطانية بالمعنى الحقيقي للكلمة؛ حيث كان يُديرها «سادة أفاضل» يعرف بعضُهم بعضًا من أيام الجامعة أو الخدمة العسكرية، ويأتون إلى العمل بطبيعة الحال مرتدِين ربطات العنق المميزة الخاصة ﺑ «مدرستهم العامة». وقد فازت شركة الطباعة هذه ذات التدابير الأمنية الصارمة، أو أحد فروعها، بجائزة الملكة المرموقة «جائزة الشركات» للإنجاز المتميز تسع مرات.
ما وراء مالطة
لكن بمرور الوقت، صارت الشركة أكثر ضخامةً مما ينبغي. فقد تملَّكتِ المجموعة حصصًا في شركات لا تَمُتُّ بصلة إلى الطباعة المُؤَمَّنة. على سبيل المثال، كانت هناك شركة لتصنيع المنتجات المطاطية في الولايات المتحدة، وشركة بريطانية لتصنيع المراجل، وشركة متخصصة في هندسة التبريد. صُحِّح هذا الوضع في سبعينيات القرن العشرين على أيدي بيتر فرانسيس أورتشارد، رئيس دي لا رو التنفيذي الأسطوري، الذي كان قد أثبت جدارته في طباعة السندات المالية. تخلَّص أورتشارد من الأحمال الدخيلة، وأعاد تركيز المجموعة على نشاطها الجوهري، وهو طباعة أوراق النقد والسندات المالية، ومضى في الوقت نفسِه قُدُمًا في إقامة منشآت لطباعة أوراق النقد في الخارج. كانت دي لا رو في ذلك الوقت لديها بالفعل منشآت لطباعة السندات المالية في البرازيل والولايات المتحدة، وفي بعض الأحيان في المكسيك. لكنَّ طباعتها أوراقَ النقد كانت تتم حصريًّا في بريطانيا.
على الرغم من أن ذلك كانت تفرضه أيضًا دواعٍ أمنية، كان سَلَف أورتشارد قد خرق هذا المبدأ بالفعل عام ١٩٧٤م، فأُقيمتْ أول مطبعة نقد تابعة لشركة دي لا رو خارج إنجلترا في جمهورية مالطة المستقلة. أضاف أورتشارد أثناء رئاسته قائمةً كاملة بمطابع نقد في الخارج؛ حيث امتدَّتْ مواقعُها (أيرلندا وسريلانكا وسنغافورة وهونج كونج) كعِقْدٍ من اللؤلؤ إلى أقاصي جنوب شرق آسيا. وأضيفتْ في تسعينيات القرن العشرين بعد رحيل أورتشارد كينيا ونيجيريا والبرتغال، لكن الطاقة الإنتاجية الزائدة في السوق كانت قد بدأت تنمو بالفعل في ذلك الوقت. كان المرء يأمل في أن يتحصَّل على مزايا اتخاذ قواعد في الخارج من وراء هذه الفروع التي أُقيمتْ لاحقًا، ولا سيما في السوق الأفريقية الصاعدة. أَثبتتْ دي لا رو أنها جاهزة للإقدام على المخاطر وليست مُعرِضة عن إقامة تحالُفات حسَّاسة سياسيًّا مع المطابع الحكومية المحلية. كانت منشآت سريلانكا ونيجيريا والبرتغال تمثِّل مشروعات مشتركة، بل وبحصص أقلية إلى حدٍّ ما. في البداية لم يتبع التنويع الجغرافي أيَّ خطة استراتيجية. لم تكن الوحدات الخارجية إلا ردَّ فعل تجاه الصراع المتصاعد مع نقابة عمال المطابع الإنجليزية، التي تَسبَّب موقفُها المتصلِّب في نهاية المطاف في إغلاق مؤسسات الطباعة في الجُزُر البريطانية و«انهيار شارع فليت ستريت» بلندن في واقعة سيئة السمعة؛ حيث تمَّ تشريد الكثير من العاملين في مجال الطباعة الذي يُشتَهَر به هذا الشارع. لكنَّ الانتقال إلى البلدان المنخفضة الأجور التي كانت تقدِّم أيضًا حوافز ضريبية وفَّر مزايا من حيث التكلفة. في مالطة، عدَّلتْ دي لا رو تكاليف الأجور التي ما زالت اليوم أقلَّ كثيرًا من أجور جيزيكه أوند ديفريَنت، كما تجزم ميونخ. ضَمِن هذا للبريطانيين هامشًا قبلَ الفائدة والضرائب يتراوح بين ١٥ و٢٠ في المائة بالنسبة إلى النشاط الجوهري، وهو طباعة النقود. لا نستغرب أنَّ المنافسين كانوا يَنظُرُون إلى هذه القُدْرة الإيرادية بإعجاب يَملَؤُه الحَسَدُ. ظلت جيتسهيد هي المركز الذي يوفر أعلى جودةٍ في طباعة أوراق النقد. لم يكن إنتاج الورق مُغريًا؛ فشركة طباعة النقد — كما دأبتْ دي لا رو على القول — لا تصنع الورق، بل تشتريه.
بنقل دي لا رو الطباعة إلى الخارج، حرَّرتْ نفسَها من إملاءات النقابات، لكن جلبتْ على نفسِها العديد من المشكلات اللوجستية. صارت الاستجابة للتغيُّرات في الطلب والاستخدام المرتجل لطاقة طباعة النقد المعطَّلة أشد تعقيدًا. فبمجرد أن تكون شحنة الورق المُؤَمَّن على متن السفينة في طريقها لطبع عملة معينة، كان يصعب إجراء تغييرات. كذلك تسبَّب نقل الإنتاج أيضًا في مشكلات تتعلَّق بالجودة. فعلى الرغم من أن فنيين بريطانيين كانوا يُديرون الإنتاج في الموقع، كانت هناك شكاوى من جودة الطباعة، وغالبًا ما كان يُسفر ذلك عن خسارة أحد العملاء.
هذا النقل للمقارِّ، وما تَزَامَن معه من ازدياد في الطاقة الطباعية، صاحبتْه استراتيجية مقصودة لغربلة السوق، فكان يتم الاستحواذُ على المنافسين المُزعِجين كلما سنحتِ الفرصة، وغالبًا ما كان يتمُّ قبول تكاليف إعادة هيكلة هائلة عندما يحدث هذا. فاختفتْ على هذا النحو من السوق شركات ووترلو آند صنز عام ١٩٦١م، وبرادبِري وِلكِنسون عام ١٩٨٦م، وهارِسون آند صنز عام ١٩٩٧م. لقد جُمِّدت الطاقات الطباعية لهذه الشركات. يُستثنى من ذلك مطبعة هارِسون للطوابع في هاي ويكَم، التي كان قد تمَّ شراؤها لما يتَّسم به نشاطها في مجال طباعة الطوابع بالقوة. بل إنَّ دي لا رو أبدتِ اهتمامَها بالاستحواذ على جيزيكه أوند ديفريَنت في مرحلة من المراحل. كان هذا في أواخِرِ ستينيات القرن العشرين عندما أَجْبَرَ «الوافدُ الجديدُ» البريطانيين على الخروج من سوق الطباعة المُؤَمَّنة المكسيكية. وكان رفض شركة ميونخ رفضًا مهذَّبًا.
نكبة بورتالز
بلغ صافي الاحتياطيات المسجَّلة في ميزانية دي لا رو العمومية في نهاية السنة المالية ١٩٩٣-١٩٩٤م مبلغ ٢٧٠ مليون جنيه استرليني، وهو ما يُساوي نحوَ نِصْفِ مبيعات المجموعة مجمَّعة. أحدث هذا ضجة في مدينة لندن. طالبتْ مجموعة متزايدة من المحلِّلين بضرورة استثمار هذه الأموال «على نحوٍ مُثْمِرٍ». كانت دي لا رو تَفْتَقِر إلى التكامل الرأسي في الإنتاج، وإلى توريد الورق لها على نحو مستقرٍّ، وكانت شركة بورتالز توفِّر الاثنين. كانت تصنع ورق إنتاج النقد من القطن في أوفرتون والورق المُؤَمَّن لطبع جوازات السفر ودفاتر الشيكات في باثفورد. كانت هذه الشركة أيضًا قد تأسَّستْ على يَدِ أحد اللاجئين من البروتستانت الفرنسيين. كان هذا المصنع هو المورِّد الحصري لورق إنتاج الجنيه الاسترليني بالنسبة إلى بنك إنجلترا منذ عام ١٧٢٤م، وهذا هو أيضًا سبب امتلاك البنك حصةً فيه بنسبة ٣٠ في المائة. ظلت بورتالز لفترة طويلة تدَّعي أنها المنتِج الخاص الأول في العالَم للورق المُؤَمَّن. بطبيعة الحال، كانت بورتالز أيضًا أهم مورِّدِ ورقٍ لدى شركة دي لا رو، إنْ لم تكن المورِّد الأوحد. والعكس صحيح؛ حيث كانت دي لا رو أهم عميل منفرد لبورتالز من بين شركات طباعة النقد الخاصة في العالم كافة.
أقامت بورتالز منشأتها الإنتاجية الأولى في الخارج لورق إنتاج النقد في بداية ثمانينيات القرن العشرين، في هوكِنزفيل بولاية جورجيا الأمريكية. كانت تلك مغامرة جريئة؛ لأن سوق ورق إنتاج الدولار مُحكَمة الغلق أمام كل المنافسين الأجانب بفعل حواجز فنية. بادئ ذي بدء، ينتج الأمريكيون ورقَهم الذي يَطبَعون عليه الدولار على آلة تُسمَّى فوردرِنير؛ تيمُّنًا بمخترعها الفرنسي. هذه الآلة تعمل بألياف لُبابٍ أطول كثيرًا، في حين تصنع بقية دول العالم ورق إنتاج النقد القصير الألياف باستخدام طريقة القالب الأسطواني. علاوة على ذلك، في سبيل تصنيع ورق دولارهم، يضيف الأمريكيون كتَّانًا من نُفايات الأقمشة الخشنة غير المصبوغة إلى لُباب الورق العادي بنسبة ٢٥ في المائة، وهو شيء لا يفعله أحد غيرهم. والنتيجة هي ورقة دولار أثخن كثيرًا وأشد قوةً. وهذا يُفسِّر الصوت المميز المرتبط بإمساك أوراق النقد الأمريكية. وكما لو أن هذا وحده لا يوفِّر حماية كافية ضد المنافسة غير المرغوب فيها من الواردات، فإنه من غير المسموح لمكتب سكِّ وطباعة العملة أن يستخدم لإنتاج الدولار إلا ورقًا يتم إنتاجه محليًّا. ومع ذلك فهذا كله لم يَبْدُ كافيًا في رأي بعض الساسة؛ حيث سُنَّ، بناءً على طلب سِلفيو أُو كونتي، النائب الجمهوري الراحل عن ولاية ماساتشوستس، ما يُسمَّى «تعديل كونتي» عام ١٩٨٧م. ومنذ ذلك الحين، فإن أيَّ مُصنِّع لورق إنتاج الدولار يجب أن يكون تحت سيطرة رأس المال الأمريكي بنسبة ٩٠ في المائة على الأقل.
أحدث ذلك بلبلة في سوق الأسهم. ففي السنة المالية السابقة (١٩٩٣م)، كانت بورتالز قد حقَّقت أرباحًا قبل احتساب الضرائب تبلغ ٣١ مليون جنيه استرليني على مبيعاتها المجمَّعة البالغة ١٩٨ مليون جنيه. كان ذلك ربحًا لا بأس به، لكن المبيعات والأرباح كانتا تشهدان ركودًا منذ سنوات. اعتُبر في المدينة أن تقديم علاوة سعرية تصل إلى ٣١ ضعفًا لعائد سهم بورتالز مرتفعًا أكثر مما ينبغي، ولا سيما عند الأخذ في الاعتبار أن دي لا رو استدانت بغزارة لتمويل هذا الاستحواذ. تم الشراء في غضون بضعة أسابيع فقط، واستفادت أثناءَها دي لا رو بسرعة من الارتفاع التاريخي الذي بلَغَه سعرُ سهْمِها، الذي تَجَاوَز تحديدًا ١٠٠٠ بنس، لتدبير زيادة كبيرة في رأسمالها. بعد الاستحواذ الذي أُعلن عنه بنشوة انتصار بشهر واحد بالضبط، أصدرتْ دي لا رو إنذارًا بانخفاض وشيك في أرباح السنة المالية الجارية، وأوعزتْ إلى العالم المالي الحائر بأن يترقَّب مساهمةً ربحية سالبة لعامَيْن تاليين على الأقل بعد الاستحواذ. هبط سعر سهم دي لا رو هبوطًا سريعًا؛ حيث فقد نحو نصف قيمته السوقية في غضون بضعة أشهر. شيء بسيط من العزاء تمثَّل في أنَّ بورتالز ستكون الشركة الوحيدة التي سيُمكِنها الاحتفاظ باسمها ضمن مجموعة دي لا رو. ولا ننسَ أنَّ هذه الشركة التابعة كانت أقدم من الشركة الأم بمائة سنة؛ مما فرض عليها مسئولية كبيرة.
كانت المخاوف مبرَّرة تمامًا. كان واضحًا منذ سنوات أن السوق في حالة تقلُّب، بما لا يَصُبُّ في صالح بورتالز في أغلب الأحيان. فعندما شرعت جيزيكه أوند ديفريَنت في ستينيات القرن العشرين في بناء مصنع خاص بها للورق المُؤَمَّن، كان المنافسون لا يزالون قادرين على رفض تزويدها بالتكنولوجيا اللازمة لآلات صنع الورق المخصوص. اضطرت جيزيكه أوند ديفريَنت إلى تطوير هذه المعرفة الهندسية ذاتيًّا بمساعدة مُصنِّع الآلات دورييس. في النهاية صارت شركة ميونخ تتمتع باستقلال ذاتي في هذه التكنولوجيا. لم يكن الآخرون يُريدون ذلك. كان منطقيًّا آنذاك أنْ يُنصح مصنع ورق لويزنتال بأن يكون حَذِرًا بشأن تمرير تكنولوجيته الثمينة. كان مصنع لويزنتال آنذاك يتكبَّد خسائر كبيرة، ومن الطبيعي أنه لم يكن يرغب في القضاء على سوق تصديره. كان المنافِسون الراسخون لا يزالون يسيطرون على أسعار السوق العالمية. كان نشوب حرب أسعار سيضر بشركة ميونخ.
لكن مصنع لويزنتال شقَّ طريقَه صعودًا ببطء؛ حيث أصبح مورِّدًا دوليًّا مهمًّا للورق المُؤَمَّن. ثم لم تَعُدِ المسألة مجرد مسألة نقل تكنولوجيا. صار عليه آنذاك أن يَقلَق بشأن الأسعار والأسواق. فأي شيء أكثر منطقية من التحالفات السرية في سوق تحتكرها أقلية مبتلاة دومًا بالطاقة الإنتاجية الزائدة؟ لم يكن سيجفريد أوتو خجولًا في مثل هذه الأمور. فمثل هذه المفاوضات الحساسة تأتي على نحو أسهل عندما يكون اللقاء في محيط ساحر، كأنْ يكون تحت شمس تسكانيا الدافئة. كانت المحصلة «الاتفاق الإيطالي» الذي التزم فيه الثلاثة الكبار بألَّا يُقدِّموا أقلَّ من سعر الإنتاج عند التصدير، وأن يبتعدوا طواعيةً في حالات معينة — كحالة بلد يعتبره منتِج آخر عميلًا له — بات واضحًا مرارًا وتكرارًا فيما بعدُ في مناقصات توريد الورق — وأيضًا مناقصات طباعة النقد — أن مورِّدًا ما يُقدِّم عطاءً جذَّابًا فيما يَخُصُّ فئات معيَّنة من أوراق النقد؛ ومع ذلك يُخرِج نفسَه بقوة من المناقصة بعرضه أسعارًا عالية علوًّا غير منطقي فيما يخص الفئات الأخرى.
كان هذا مجرد تكهُّن في البداية، لكنَّ الشائعات قويت باستمرار، على سبيل المثال فيما يخص الخيط ذا الفتحة الموجودة عند أحد حواف الورقة النقدية الذي طوَّرتْه بورتالز بعد ذلك بسنوات. في حالة هذا الخيط ذي الفتحة، نَجِدُ الخيط المُؤَمَّن المصنوع من البوليستر الشفاف، الذي كان في الأحوال الأخرى يُطمَر تمامًا في الورق، يَظهَر على السطح على نحو متقطِّع. ولا يُميَّز مسارُ الخيطِ المتصلُ إلا عند النظر في الورقة على خلفية مضاءة. هذا الخيط البوليستر، المكسوُّ سطحُه بألومنيوم أو معدن ثمين، متقطِّع جزئيًّا على مسافات متساوية، لكن دون قطع موصليته الكهربائية. وهو يُتِيح وضع كتابة سوداء بحروف مجهرية على خلفية بيضاء، كانت أصلًا لا تُرى إلا في الصورة السلبية الفوتوغرافية ككتابة بيضاء على خلفية سوداء. وهذه خاصية أمنية إضافية وفعالة. نقلت بورتالز ترخيص هذا الابتكار إلى لويزنتال دون ثمن. وبالتأكيد، كان هناك دور في هذا الصدد لعبه ردُّ فعل العملاء بممانعة متزايدة لإقامة روابط وثيقة مع مورِّد واحد فقط، وعدم رغبتهم كذلك في أنْ يَصِيروا تابعين بسبب خاصية أمنية يوفِّرها مورِّد حصري. لكن وجهة نظر السوق كانت تتمثَّل في أنَّ بورتالز لم تَعُدْ قوية بما يكفي لتحقيق نجاح بخاصيتها الأمنية الجديدة بمفردها تمامًا. اكتشفتْ كرين آند كومباني — شركة تصنيع ورق إنتاج الدولار — تهديدًا لسوق صادراتها في الاتفاق بين بورتالز ولويزنتال. في النصف الثاني من تسعينيات القرن العشرين، قاضَى الأمريكيون — الذين كانوا آنذاك يُشغِّلون مصنعًا ثانيًا للورق (يُطلَق عليه باي ستيت) يستخدم تكنولوجيا القالب الأسطواني التقليدية للتصدير — مصنع لويزنتال بزعم تعدِّيه على براءة اختراع. وأخفقوا إخفاقًا تامًّا؛ حيثُ خَسِرُوا أيضًا حماية براءة الاختراع المتواضعة التي كانت لديهم حتى ذلك الحين. لم يكن من الحكمة أن يتصارعوا أمام القضاء على عملية لم يكونوا أتقنوها حتى تكنولوجيًّا.
إبرام اتفاقيات الشرف مسألة سهلة بالطبع، أما ما إذا كانت هذه الاتفاقيات ستُحتَرَم أم لا، وإلى متى ستُحتَرَم، فهي مسألة أخرى. لكنَّ الطاقة الإنتاجية الزائدة المزمنة تحدُّ بوضوح من قيمتها؛ لأنه في حالة الشك، يفكِّر كلُّ مورِّد أولًا في استخدام طاقته الإنتاجية. على سبيل المثال، ظلَّت الهند سوقًا مميَّزة وذات أهمية خاصة لبورتالز، وكانت قد بَنَتْ مصنعًا لورق إنتاج الروبيَّة في هوشانج أباد بالقرب من مجمع ديواس الضخم لطباعة النقود. وبما أن الهند كانت تملك تحت تصرُّفها الموادَّ المطلوبة لتصنيع ورق إنتاج النقد، من القطن إلى الكيماويات، فإنها كانت ترجو أن تُقلِّص اعتمادَها على واردات الورق الغالية. لكن مصنع هوشانج أباد، الذي يُنتِج اليوم نحو ٤٠٠٠ طن متري سنويًّا، أُقيم بحجم أصغر مما ينبغي في البداية، ولم يكن بأيِّ حال يُضارِع الطلب الهندي المتزايد بحِدَّةٍ. كما ابتُلي المصنع أيضًا بالإضرابات العمالية والعراقيل الفنية على نحوٍ متكرر، لدرجةٍ أثارتْ حتى دهشة الخبراء. ولتلبية الاحتياجات البالغة آنذاك نحو ١٢ ألف طن متري سنويًّا، كانت الهند لا تزال مضطرة إلى الاعتماد على الواردات. قدَّم هذا، وما زال يُقدِّم، مساهمة مشكورة في معدل تشغيل مصنع بورتالز في أوفرتون.
لا شك أن الهند، بمتطلباتها الهائلة، كانت سوقَ مبيعات جذَّابة بشدة لشركة ميونخ. في البداية تمكَّن مصنع لويزنتال من بيع الورق إلى الهند في بداية ثمانينيات القرن العشرين، ثم حدث توقُّف في التوريد لمدة عَقْد ونصف العَقْد قبلَ أنْ تُعلِن شركة ميونخ، الكتومة فيما عدا ذلك، بنبرة شبه انتصارية في خريف عام ١٩٩٨م عن توقيع أكبر عَقْد لها لتصدير ورق إنتاج النقد في صفقة مع الهند تُقدَّر بنحو ١٠٠ مليون مارك ألماني. واليوم فإنَّ مصنع لويزنتال من بين المورِّدين الاعتياديين لشبه القارة. وبعدَ أنْ أعْلَنَ الهنود عن سياسة «النقد النظيف» في مطلع الألفية، صارت علاقة العمل التي تَجمَعُهم بجيزيكه أوند ديفريَنت أوثقَ مِن ذِي قبل. ورَّدتْ ميونخ الآن نظامها الخاص بمعالجة أوراق النقد إلى الهند بأعداد كبيرة، بل وتمكَّنتْ من تركيب مستشعراتها الخاصة بمراقبة جودة الطباعة على آلات كوموري في مطبعة سالبوني الجديدة. ووفقًا للتقارير المتخصصة، تُجرِي ميونخ مباحثات مع مموِّلين هنود من القطاع الخاص لبناء مصنع ورق كبير قد يؤذن بنهاية توريدات بورتالز إلى الهند. لكن شركة ميونخ لطباعة النقد ليست على عجلة من أمْرِها لإقامة هذا المصنع. فمَن الذي يتلهَّف على خسارة عميل مُهِمٍّ كهذا؟
كان مارشال، باستحواذه على بورتالز، يضع نُصب عينيه مثال جيزيكه أوند ديفريَنت ومصنعها المربح للورق، لكن دخول مجال الورق جاء بعد فوات الأوان وبثمن فادح. الناس في «المدينة» يُعَزُّون أنفسَهم اليوم بفكرة أن شركة دي لا رو لن يمكنها الاستمرار كشركة لطباعة النقد دون بورتالز. التحول من طباعة النقد إلى الورق في سلسلة القيمة المضافة وتضمين خصائص أمنية تكنولوجية عالية في المادة الورقية الأساسية يؤكدان سلامة هذا القرار الاستراتيجي. يظل الضغط السعري وقوة العُملة البريطانية عبئَيْن على بورتالز بالتأكيد. كان قرار الشراء صحيحًا، لكن سعر الشراء كان أعلى مما ينبغي ﺑ ٣٠٠ مليون جنيه، كما نوَّه الرئيس التنفيذي إيان متْش إلى زملائه، وهو ينظر إلى الوراء، إلى استحواذ دي لا رو. لم يتعافَ سعرُ سهم دي لا رو قط من نكبة بورتالز.
جهود نحو خط أعمال إضافي
بطبيعة الحال، كانت شركة طباعة النقد البريطانية ذات التدابير الأمنية الصارمة قد نوَّعتْ نشاطَها مبكِّرًا ودخلتْ في خطِّ أعمال إضافي هو الآلات؛ إذ كانت شركة دي لا رو من أوائل مَن اعترفوا في الصناعة بأهمية معالجة أوراق النقد. لكنَّ البريطانيين لم يتخصَّصوا في العمل مع البنوك المركزية، بل تخصَّصوا بدلًا من ذلك في أَتْمَتَة صرْف النقد لدى البنوك التجارية؛ إذ كان هذا يُبشِّر بأحجام مبيعات أكبر. في أواخر تسعينيات القرن العشرين، كانت شركة دي لا رو قد رَكَّبت بالفعل أول آلات صرف في لندن أتاحت للعملاء سحب النقد على مدار اليوم. تَلَتْ ذلك آلات عَدِّ وفرزِ النقد المستخدمة في شبابيك الصرَّافين، بالإضافة إلى تغذية آلات الصرف بأوراق النقد أوتوماتيكيًّا. ومن حين لآخر كانت شركة دي لا رو تدَّعي قيادة السوق في هذا المجال.
لكن الشركة اعتمدتْ في بنائها لعملها في مجال الآلات، اعتمادًا أقل على قوة نشاطها الذاتي في البحث والتطوير، مواصِلةً التوسُّع بدلًا من ذلك من خلال صفقات شراء التكنولوجيا واستهداف الأسواق. كان هذا يوفِّر الوقت والمال، ويسمح بدخول السوق بسرعة، إذا كان المرء محظوظًا في مشترياته. وكان الاستحواذ على إنتر إنوفيشَن السويدية في بداية تسعينيات القرن العشرين ضربة حظ. كانت هذه الشركة تطوِّر وتُنتج آليات التوزيع للصرف الفردي لأوراق النقد، وهي أجهزة يحتاج إلى شرائها صغار المُصنِّعين الذين يُمارِسون نشاطَهم في مجال آلات الصرف كمجرد متخصصين في دمج الأنظمة. أما كبار مورِّدي آلات الصرف، وهم: آي بي إم وإن سي آر وديبولد الأمريكيون، وفِنكور نِكسدورف الألماني، وفوجيتسو الياباني؛ فيطوِّرون ويُنتِجون هذه الأجهزة، لكنْ لا يَبِيعون تكنولوجياتهم لطرف ثالث. الاستحواذ على إنتر إنوفيشن مكَّن شركة دي لا رو من دخول هذا المجال المتخصِّص باعتبارها ما يُسمَّى صانع معدات أصلي، وضمن لها نجاحًا مستدامًا في المبيعات في أوروبا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. أثبَتَ حضور شركة دي لا رو العالمي أنها تُمثِّل بطاقة رابحة هنا. ازدادت المبيعات زيادةً غير متكافئة فور الاستحواذ على الشركة السويدية، وسرعان ما فاقت مبيعات طباعة النقد والسندات المالية التقليدية.
لكن أهم ما يعيب تلك الاستراتيجية السوقية القائمة على صفقات الشراء هو أنها تعوق تطوير المرء قدراته الذاتية، وقد ظهرتْ نقطةُ الضعف هذه في وقت مبكِّر عندما بدأتْ شركة دي لا رو تُظهِر اهتمامًا بالأنظمة العالية الأداء لمعالجة أوراق النقد. ربما لم تَحْظَ أهمية هذه السوق الكثيرة المطالب بالتقدير في الوقت المناسب؛ إذ لم تَحْذُ دي لا رو حَذْوَ الآخرين حتى أُعجبتْ بالعمل التطويري في ميونخ في مجال «أوراق النقد القابلة للأَتْمَتة» وأنظمة معالجة أوراق النقد المكمِّلة. كانت دي لا رو قد اشترتْ في سبعينيات القرن العشرين كروسفيلد إلكترونِكس، وهو مورِّد لأنظمة الرقابة، وكان آنذاك يعكف على تطوير نظامٍ لفحص أوراق النقد بصريًّا بالاشتراك مع رِكوجنِشَن إكوِبمِنت في دالاس، وهي شركة أمريكية متخصِّصة في أنظمة الفرز البريدي. لم يَلْقَ النظامُ الذي طرحتْه دي لا رو آنذاك إلا اهتمامًا ضئيلًا بالسوق؛ إذ كان هذا النظام يتسم بالبطء الشديد، ويواجه صعوبةً في فحص الأوراق المتسخة. فبِيعتْ كروسفيلد من جديد.
ظلَّت نفقات هذه الشركة ذات التدابير الأمنية الصارمة على البحوث والتطوير منخفضة نسبيًّا، فكانت في بداية تسعينيات القرن العشرين تصل إلى ٢ في المائة فقط من المبيعات. وحتى النسبة الحالية البالغة ٢٫٧ في المائة من مبيعات المجموعة تُعادِل أقلَّ من نصف النسبة التي ظلَّت جيزيكه أوند ديفريَنت تستثمرها في بحوثها لسنوات، وإنْ كان رقم ميونخ هذا يشمل مجال البطاقات الكثيف التكلفة. بل إنَّ دي لا رو خفَّضتْ في النصف الأول من تسعينيات القرن العشرين إنفاقَها على البحوث في قطاع الآلات. وعندما زِيدت النفقات من جديد مع اقتراب اليورو، جاء هذا الجهد بعد فوات الأوان. رَبِحَتْ دي لا رو من تجديد آلات صرف النقد في منطقة اليورو، وحقَّقت مبيعات قياسية في مجال «أنظمة الدفع». لكن الشركة البريطانية لم تلعب دورًا تقريبًا في أنظمة الفحص المستخدَمة في البنوك المركزية والبنوك التجارية الكبرى. كان قد حِيلَ عمليًّا بينها وبين دخول هذا المجال الخاص في بلدان اليورو.
بحثت دي لا رو مجدَّدًا عن الخلاص في الاستحواذ، فقرَّرت الاستحواذ على شركة كَرَنْسي سِستمز إنترناشونال الأمريكية، التي كانت بالفعل في تلك المرحلة ذات تاريخ متقلِّب. كانت الشركة قد اجتُزئَتْ من شركة رِكوجنِشَن إكوِبمِنت السالفة الذكر في بداية تسعينيات القرن العشرين، عندما فشِلَتْ تلك الشركة في الوفاء بعَقْدٍ تَلَقَّتْه من الاحتياطي الفيدرالي لتطوير نظام قادر على معالجة أوراق النقد. وعندئذٍ خاطر بعض الموظفين بشراء الشركة بأنفسهم لمواصلة التطوير بمفردهم بما لديهم من معرفة تكنولوجية. كانت آلات كَرَنْسي سِستمز إنترناشونال تُباع أيضًا لبعض البنوك المركزية (أستراليا وكندا وإسرائيل وماليزيا وجنوب أفريقيا وتايوان)، لكن تقنية المستشعرات وسرعة العمل في فحص أوراق النقد ظلَّتَا تمثلان مشكلة. ظل اختراق السوق المنشود يُراوِغ الشركة التي تُعانِي نقصًا مزمنًا في التمويل. وبهذه الطريقة، بِيع أغلبية رأس مال كَرَنْسي سِستمز إنترناشونال في النهاية إلى شركة جي بلاس دي (لا علاقة لها بجيزيكه أوند ديفريَنت) في بولونيا، وهي شركة بالغة التكتُّم كانت تُعتَبَر واحدًا من كبار مورِّدي آلات تعبئة السجائر في العالَم. أرادتْ شركة بولونيا المزدهرة تنويعَ نشاطِهَا بدخول مجال ثانٍ بسبب الأزمة في صناعة التبغ، لكن سرعان ما تبيَّن لها أنَّ إحداث تحوُّل مالي وتكنولوجي في كَرَنْسي سِستمز إنترناشونال مكلِّف للغاية. ومِن ثَمَّ انتهى الحال بهذه الأخيرة في يَدَيْ دي لا رو.
استُحوذ على الشركة الكائنة في تكساس مقابل ٥٥ مليون دولار، بما في ذلك الدَّيْن، قبلَ طرْح اليورو بأشهُر قليلة فقط، لكن سرعان ما اكتشفتْ دي لا رو أنَّ دمْج وحدتَيْن عليلتين لا يَنتُج عنه وحدةٌ واحدةٌ معافاة. تجلَّتْ صعوبة غير متوقعة في دمج كَرَنْسي سِستمز إنترناشونال، وفي إعادة مواءمة قواعد الإنتاج وتطوير حلول تكنولوجية جديدة. زادت التكاليف بشكل جنوني. بُعيدَ استحواذ دي لا رو على كَرَنْسي سِستمز إنترناشونال، نجَحَتْ جيزيكه أوند ديفريَنت في الحصول على فرصة لدى البنوك المركزية لأستراليا ونيوزيلندا والهند وبلدان أخرى بأنظمتها الكبيرة لفحص أوراق النقد، بل واجتذبتْ عملاءَ كبارًا من البنوك والكازينوهات في الولايات المتحدة. اضطرت دي لا رو إلى الاعتراف علانيةً بأنها أخطأت في تقدير السوق، وخفضت قيمة الاسم التجاري لكَرَنْسي سِستمز إنترناشونال. لكن البريطانيين لم يَيْأَسوا. فبُعيدَ طرح اليورو، قامت دي لا رو بشراء بابيلاكو — وهي شركة متخصصة في أَتْمَتة معالجة أوراق النقد في شبه جزيرة أيبيريا — لدخول نشاط جديد هو إعادة تدوير النقْد. هذا القطاع واعد، وإنْ كان التحرُّك جاءَ في وقت غير مؤاتٍ آنذاك. كانت الأزمة البنكية هي التي تسبَّبتْ في انهيار مبيعات الشركة التابعة الجديدة في أهم سوقَيْن لدَيْها؛ وهما إسبانيا وألمانيا. من جديد اضطر البريطانيون إلى تخفيض قيمة الاسم التجاري لشركة مستحوَذ عليها حديثًا. وعلى الرغم من حجم المبيعات الجيد الذي يحقِّقه قطاع الآلات، فإنه يظل بمنزلة نقطة ضعف لدى المجموعة البريطانية ذات التدابير الأمنية الصارمة.
المنافسة غير المقدَّرة حقَّ قدْرِها
نعود إلى طباعة أوراق النقد. هذا مجال شديد الحساسية لا يكفيك فيه أن يكون لديك منتَج جيد أو حتى أجود في بعض الأحيان؛ إذ تلعب الاعتبارات السياسية دورًا محوريًّا في تقرير مَن يجوز له طبع أوراق النقد لبلد معين. ظلت دي لا رو لفترة طويلة صاحبة اليد العليا في هذا المجال. كان للاتصالات على المستوى الدبلوماسي والاستخباراتي أثرُه. وعندما كان يَجِدُّ الجدُّ، كان المرء يطلب مساعدةً متكتِّمة لكي يتخلَّص من منافس مزعج. يمكن لحالة بولندا أن توضِّح بشكل جيد جدًّا الحساسية السياسية التي تُميِّز مجال طباعة النقد، وقوة شركة طباعة النقد البريطانية الخاصة. فبعد سقوط جدار برلين بفترة قصيرة، قررتْ وارسو إنتاج إصدار جديد تمامًا من أوراق النقد في إطار إصلاح العملة. كان نارودوفِه بنك بُلْسكي، وهو البنك الوطني البولندي، لديه شركة طباعة نقد مملوكة للدولة هي بولسكا فِتفورنيا بابيرُف فارتوشوفِخ، بمقدورها طبع الزلوتي الجديد (العملة البولندية)، لكنَّ طاقتَه الطباعية كانت تُستَهلَك في طبْع أوراق النقد التي كانت لا تزال سارية. علاوة على ذلك، كان يُفتَرَض أن يكونَ طبْع النقد الجديد سرًّا صارمًا لتجنُّب المزيد من إزعاج الشعب الذي كان يُصارِع بالفعل صعوبات التحول؛ ومن ثم تقرَّرت طباعة النقد في الخارج. كانت جيزيكه أوند ديفريَنت قد أقامت لشركة بولسكا فِتفورنيا بابيرُف فارتوشوفِخ مصنعَ ورق حديثًا في سبعينيات القرن العشرين، وكانت كثيرًا ما تحصل على الورق من هناك؛ مما كان يوفِّر لبولندا العملة الأجنبية. كثيرًا ما كانت وفود بولندية تزور ميونخ، وكانت الاتصالات الشخصية وثيقة جدًّا؛ لذا أبرم البنك الوطني البولندي عَقْدًا مع جيزيكه أوند ديفريَنت لطباعة ٥٥٠ مليون ورقة زلوتي في صفقة تُساوي أكثر من ٣٠ مليون مارك ألماني. وممَّا لعب دورًا كبيرًا في إسناد هذا العقد تلك التطمينات بأنَّ أوراق النقد البولندية الجديدة ستشتمل على الخصائص الأمنية ذاتها الموجودة في الإصدار الثالث من المارك الألماني (بي بي كيه ٣)، الذي كان البنك الاتحادي يستعدُّ لإنتاجه. كانت جيزيكه أوند ديفريَنت قد كُلِّفتْ بطبْع نصف تلك الكمية، كما قامت حصريًّا بتوريد كل الورق اللازم لطباعة أوراق المارك الجديدة، التي اعتُبرتْ خصائصها الأمنية شديدة الفعالية في مكافحة التزييف. لهذا السبب كان يُفترَض أن يأتي الورق اللازم لإنتاج الزلوتي الجديد أيضًا من لويزنتال. في مقابل ذلك، طلبت شركة ميونخ من مصنع الورق البولندي طلبية ورق كبيرة لطباعة أوراق نقد لزائير. تم الحصول على التصميمات اللازمة لفئات الزلوتي التسع (من ١ إلى ٥٠٠) من اثنين من فناني الرسوم الجرافيكية البولنديين، وكُلِّف مركز التكنولوجيا التابع لشركة دي لا رو جوري في سيفِلِن بتوفير المستلزمات، التي تتمثَّل تحديدًا في إعداد النُّسَخ الأصلية وصُنع الألواح الطباعية. سافر شتيفان تيمنسكي، مدير عام مطبعة النقد البولندية والخبير المعروف دوليًّا في أمْن أوراق النقد، مرارًا إلى لوزان في بداية تسعينيات القرن العشرين لمراقبة سَيْر العمل في النسخ الأصلية. تم الطبع في جيزيكه أوند ديفريَنت. حازت التجارِب الطباعية على موافقة لا تشوبها شائبة من الجانب البولندي. نُفِّذ عقد الطباعة على نحو حاز الرضا التام. كانت — كما أكد العديد من الخبراء المستقلين بالإجماع — عملية طبع نقد نُفِّذت بطريقة مثالية.
كان اقتصاد بولندا لا يزال يُعاني من صعوبة إعادة البناء في حقبة ما بعد الشيوعية. كان هناك تعديل كبير للتضخم؛ ومن ثم لم يَشَأ البنك الوطني البولندي إصدار عُملته الجديدة ريثما تترسَّخ الإصلاحات المعلَن عنها في السياسات الاقتصادية والمالية العامة، فتَقرَّر حفظ أوراق الزلوتي الجديد في المستودعات. كان متوقَّعًا أن يكون هذا الحفظ في ألمانيا لأسباب تتعلَّق بالسرية والأمن، فوفَّر البنك الاتحادي المساحة اللازمة لتخزين ٦٠٠ طن متري من أوراق النقْد بالمجَّان. لكنَّ الإصلاحات توقَّفتْ وانزلق الاقتصاد البولندي في أزمة متزايدة العمق. تعاقَب المحافظون على البنك الوطني البولندي بسرعة حتى عُيِّنتْ هانا جرونكِفِتش فالتس محافظًا عام ١٩٩٢م، وهو الوقت الذي بدأتْ فيه المشكلات. لأسباب لم تكن كلُّها شفافة، كانت أوراق الزلوتي الجديد شوكة في جنب المحافظ الجديد. وجد ممثلو البنك الوطني البولندي فجأةً عيبًا في الخصائص الأمنية في أوراق الزلوتي المخزَّنة في ألمانيا، مؤكِّدين أنها لا تستوفي أحدث مستوًى أمنيٍّ لمكافحة التزييف. بل ولم يتمكَّن تقرير خاص من البنك الاتحادي الألماني من إقناع وارسو بأن أوراق الزلوتي هذه، المشتملة على خصائص أمنية تُضاهِي خصائص أوراق المارك الألماني الجديد، ليست عُرضة للتزييف بدرجة عالية. كانت هناك شائعات خبيثة متداوَلة في المجال تقول إن اسم سَلَف سَلَفِها المدوَّن على أوراق الزلوتي يُشكِّك في جدارتها بالمنصب.
كذلك كانت جيزيكه أوند ديفريَنت قد قَوِيَتْ شوكتُها وصارتْ منافسًا محتمَلًا في طباعة النقد، على الرغم من أنها كانت قد لعبتْ منذ زمن طويل دورًا ثانويًّا يتناقض مع أهميتها في مجال الورق. فتَحْتَ ضغط التزايُد المستمرِّ في قيمة المارك الألماني، كان تركيز هذه الشركة منصبًّا عادةً على الشريحة العليا في طباعة أوراق النقد؛ حيث كان يمكنها أيضًا تقاضي أثمانًا مرتفعة نظيرَ ما تتسم به من جودة عالية. كانت المواصفات الفنية الصعبة لطباعة المارك الألماني، بالإضافة إلى السياسة السعرية المرنة للبنك الاتحادي الألماني، شرطين أساسيين لهذه الاستراتيجية. كانت دي لا رو قد ازدهرتْ نتيجةً للأنشطة الضخمة التي اضطلعتْ بها، وكانت أحيانًا تضطلع بتنفيذ عقد لا يُدِرُّ أيَّ رِبْح، أو لا يُدِرُّ إلا القليل، لاستغلال طاقتها الطباعية الهائلة على نحو أفضل. تغيَّر ذلك تغيرًا جذريًّا في العَقْد الأخير من القرن العشرين؛ ففي بداية تسعينيات القرن العشرين دخل المنافِسُ الكائن في ميونخ — على نحوِ ما نوَّهنا — السوقَ المتاحة دوليًّا بتوسُّع متزايد، و«بشراسة»، كما اعترف أيضًا في تاريخ شركته.
ربما كان رضا دي لا رو عن قُوَّتها هو الذي جَعَلَها لا تُعِير إلا اهتمامًا قليلًا جدًّا لهذه التغيرات، ولا تستفيد إلا قليلًا جدًّا من مَواطن قوتها في نشاط أوراق النقد الأساسي، وبدلًا من ذلك شتَّتت طاقتها بسعْيِها المحموم وراء مجالات عمل جديدة. على أيِّ حال، خسرتْ دي لا رو تدريجيًّا عملاء في أفريقيا والشرق الأدنى وآسيا. كانت خسارة ماليزيا كعميل لطباعة النقد لصالح جيزيكه أوند ديفريَنت ضربةً قوية لشركة دي لا رو في تسعينيات القرن العشرين، بعد أن كافحتْ عَقْدَيْن من الزمن وبكلِّ ما أُوتيتْ من سُبُلٍ للحيلولة دون حدوث هذا. لكنَّ ميزان القوة المتحوِّل تجلَّى من جديد في حالة الهند؛ ففي نهاية ١٩٩٧م، طلبتِ الهند تقديم عطاءات لطباعة ٣٫٦ ملايين ورقة روبية، وهو أكبر عَقْد لطباعة «الفائض» (الزائد عن قدرة مطابع النقد المحلية على الطباعة) مَنحه البلد على الإطلاق. كانت دي لا رو تَعتبر الهند عمليًّا «سوقًا داخلية»، وتوقَّعت الحصول على العَقْد. لكن عقب حرب عطاءات اتسمتْ بقَدْر ضئيل من الشفافية، وأثارتْ ضجةً في وسائل الإعلام والدوائر السياسية (وهو ما سيتم تغطيته بالتفصيل في الفصل الذي يتناول المطبعة الاتحادية)، لم يرْسُ على البريطانيين إلا طبع مليارَيْ ورقة، أما البقية فتولَّتْ طبعَها جيزيكه أوند ديفريَنت. كان ذلك أول عَقْد طباعة نقد من الهند تحصل عليه شركة ميونخ، ولم تكن آخر هزيمة من هذا النوع تُمنَى بها دي لا رو. بعد ذلك بفترة قصيرة، طلبت نيجيريا — أكبر بلد في أفريقيا، ومتطلباتها من أوراق النقد هائلة — عطاءات لطباعة ٤ مليارات ورقة نايرا. كان هذا العقد آنذاك أكبر عقد لطباعة «الفائض» يُمنح على الإطلاق في تاريخ طباعة النقد الدولية. كانت دي لا رو تحتلُّ وضعًا ممتازًا في الدولة الغرب أفريقية، وكانت تملِك أقلية معرقِلة في مطبعة النقد الحكومية النيجيرية. على الرغم من أنَّ شركة ميونخ كانت قد ورَّدتْ نظامًا لفحص أوراق النقد لنيجيريا — وتصادف أنْ كان ذلك بسعر جيد — لم يكن قد سُمح لها بطبع أوراق النقد لنيجيريا إلا مرة واحدة. ومع ذلك مُنحتْ جيزيكه أوند ديفريَنت العقد. لكن شركة ميونخ أسندتْ من الباطن أكثر من نصف الكمية بأكملها إلى دي لا رو، وعَزَتْ هذا رسميًّا إلى «مشكلات في الطاقة الإنتاجية الطباعية».
كان النيجيريون يبحثون منذ زمن طويل عن شركة طباعة نقد أجنبية كشريك في مطبعة نقدهم الحكومية العليلة، وقد ضاعفوا جهودهم آنئذٍ، بل وبدا في وقت من الأوقات أنهم وجدوا ضالتهم في فابريكا ناثيونال دي مونيدا إي تيمبري الإسبانية، غير أن العقد الأوَّلِي أفسدَه إعلانٌ غريب عن عدم وجود أحدٍ بين الإسبانيين لديه معرفة باللغة الإنجليزية. أظهرتْ دي لا رو وجيزيكه أوند ديفريَنت صمتًا مهذَّبًا ربما كان دافعه أكثر من مجرد البيئة الصعبة السيئة السمعة في نيجيريا. سُمح لهما منذ ذلك الحين بتنفيذ المزيد من طلبيات طبع النقد العملاقة لصالح نيجيريا، في حين ظلَّت مطبعة النقد الحكومية النيجيرية معطَّلة. في هذه الأثناء، أجَّل النيجيريون كل خُطط الخصخصة أو الإتيان بشريك أجنبي، مفضِّلين استطباع نقدهم في الخارج في الحالات الطارئة.
مَجْدٌ غَابِر
من ثم تبلور «القرار الموجِع» بتقليص الطاقة الزائدة في طبع النقد بنسبة ٢٥ في المائة في مطلع عام ١٩٩٨م، وبالتزامن مع ذلك أعلن الرئيس التنفيذي مارشال انسحابه من تعاقده. كتبت الفاينانشال تايمز تتحدَّث عن «السنوات الثلاث الأخيرة من اعتلال الصحة». جاء خليفة مارشال، ويُدعَى إيان متْش، من مجال الهندسة الميكانيكية، وكان يتمتع بسمعة في المدينة بصفته «اختصاصيَّ تحويلِ مسارٍ ذا قوة وإصرار». كان نهجُه موجَّهًا بشكل صارم إلى «القيمة المحققة للمساهمين»، وهي استراتيجية غير معتادة نوعًا ما في مجال أوراق النقد المتحفِّظ الذي يركِّز على المدى الطويل. قام الرئيس التنفيذي الجديد بتغيير ستين مديرًا كبيرًا، بل وذُكر هذا التغيير الجماعي للموظفين باستحسان في تقرير الأعمال السنوي. لكن ذلك كان يعني أن دي لا رو خسرت في خطوة واحدة على مستوى القيادة معظم المديرين ذوي الخبرة في نشاط أوراق النقد المعقَّد. حتى مايكل بيو، الذي ترعرع في أحضان طباعة السندات المالية، رحل قبل الأوان، وكان، باعتباره عضوَ مجلس الإدارة المسئول عن الورق المُؤَمَّن والطباعة، قد ظل على مرِّ السنين يمثِّل الخصم العلني والمفاوِض السري للمنافس المكروه الكائن في ميونخ. كما أعاد المدير التنفيذي الجديد تنظيم أقسام العمل واستحدث قسمًا خاصًّا سمَّاه «الخدمات العالمية»، الذي لم يُدرِك الجميع على الفور مهمته، وقد ظل تقدُّمه في مجال المبيعات مخيِّبًا للآمال، وسرعان ما حُلَّ من جديد.
باشر المدير التنفيذي الجديد تخفيض الدَّيْن الساحق بقوة ساحقة مماثِلة. فبالإضافة إلى بَيْع مجموعة من الشركات التابعة الصغيرة، باع متْش شركة دي لا رو كارد سِستمز، التي طالما احتُفي بها في المجموعة بوصفها معْقِدَ الآمال. ذهب نشاط البطاقات بأكمله، بمبيعاته البالغة ١٤٠ مليون جنيه، إلى المنافس الفرنسي فرنسوا شارل أوبرتور مقابل ٢٠٠ مليون جنيه استرليني. تصادَف بيع هذه الشركة مع ذروة الفورة السعرية في سوق الأسهم، فكان سعر البيع جذَّابًا بالمثل. لكن لم يتبقَّ الكثير في الخزانة؛ حيث لزم تمرير نصف حصيلة البيع على الأقل إلى مساهمي دي لا رو المتذمِّرين في إطار عملية صرْف أرباح خاصة. كذلك بِيعتْ مرة أخرى فيليبس كارت إي سِستم، التي لم يكن قد مضى على شرائها سوى عام بأكثر من ٥٦ مليون دولار. كان التخلِّي عن نشاط البطاقات محلَّ خلاف شديد داخل الشركة. ما كان يؤيد قرار البيع هو صغر الحصة السوقية الصغيرة، ولا سيما بالنسبة إلى البطاقات الذكية ذات الشريحة التي كانت واعدة بشدة، وضعف إسهام القسم في الأرباح. كان القيام بتوسع من شأنه أن يستهلك قدرًا كبيرًا من الطاقات الإدارية والهندسية، وكان سيتطلب استثمارًا كبيرًا في البحوث والتطوير، ولم تكن الموارد اللازمة متاحة لدى شركة دي لا رو في ذلك الوقت. ربما برَّرت الأزمة العالمية في مجال البطاقات، بعد التخلص من القسم، هذا البيع عند النظر بأثر رجعي. لكن أهل الصناعة كانوا يَرَوْن أنَّ دي لا رو ببيعها قسمَ البطاقات فصَلَتْ نفسَها عن مصدرٍ مهمٍّ للتكنولوجيا؛ مما أضعف بدرجة خطيرة مركزها السوقي في مجال أنظمة الهوية الحديثة، وهو مجال له مستقبله. على الأقل استطاع المدير التنفيذي الجديد سداد عبء الدَّيْن كاملًا ببيع هذه الشركات.
مضى متْش يُباشِر بحيوية مماثلة تعديلات الطاقة الإنتاجية التي أُعلنتْ قبلَ تولِّيه منصبَه، والتي كان يُفترض في البداية ألا يكون لها تأثير إلا على طباعة النقد بالاستعانة بنهج جديد في التعامل مع هذا القطاع السوقي العالي القيمة. كان سَلَفه مارشال قد باع بالفعل مطبعة النقد الكائنة في هونج كونج. والمصادفة أن هذا حدث بعد مرور عشر سنوات فقط على بنائها. انخفضت الطاقة الإنتاجية آنئذٍ إلى خط سوبر واحد في جيتسهيد، التي كانت ذات يوم مفخرة المجموعة بخطوطها السبعة من آلات الطباعة. ونظرًا لحدوث انخفاضات كبيرة أيضًا في طباعة السندات المالية من شيكات وطوابع (كانت إنسخيده وفرنسوا شارل أوبرتور تلاحقان عملاء دي لا رو القُدَامَى في هذا المجال)، فرضت تخفيضات الطاقة الإنتاجية نفسَها هنا أيضًا؛ مما آذَنَ بالنهاية المريرة لمطبعة هاي ويكَم للسندات المالية، التي كانت قد حُدِّثت لتوِّها بتكلفة باهظة. لكنْ في الوقت نفسِه تقريبًا، اشتُريتْ هاوس أوف كويست، وهي شركة صغيرة متخصصة في طباعة الطوابع.
كل ذلك بدا ارتجاليًّا ومحمومًا نوعًا ما، ومع ذلك لم تكن هذه هي الخطوة الأخيرة؛ فقد أعلنتْ دي لا رو على نحو مفاجئ عام ٢٠٠٢م نيتها إغلاق مطبعة النقد في سنغافورة، التي كانت عاملة منذ عشرين عامًا، وانسحبتْ بهدوء تامٍّ من المشروع المشترك في نيجيريا أيضًا. بُرِّر إغلاق مطبعة سنغافورة رسميًّا بمشكلات لوجستية كانت موجودة فعلًا. لكنْ عُلم أيضًا أن مالطة المرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي كانت قد طلبت توفير وظائف إضافية في الجزيرة مقابل تجديد اتفاقية ضريبية مع شركة دي لا رو. والواقع أن معظم الآلات التي أُخذت من مطبعة سنغافورة أُحضرت إلى مالطة؛ مما ضاعف الطاقة الطباعية هناك إلى خطَّيْ سوبر. ذهبت بقية الآلات إلى مطبعة السندات المالية في كينيا؛ حيث أرادت دي لا رو آنذاك التركيز على طباعة الإنتاليو لجوازات السفر بجانب طباعة الشيكات. التوازن السياسي المحلِّي في كينيا ليس مستقرًّا بالقدْر الكافي، كما يُشتبه أيضًا في نشاط خلايا تابعة لشبكة القاعدة الإرهابية هناك. واحتمال ظهور جوازات سفر أصلية يومًا ما في أيدي إرهابيين لن يَسُرَّ بعض عملاء دي لا رو على الأرجح. في النهاية تبقَّتْ مع دي لا رو ثلاث قواعد فقط لطبع النقد؛ وهي جيتسهيد ومالطة وسريلانكا.
عانت دي لا رو عدة مرات، لكن لا يمكن بحالٍ اعتبارُها خارج السباق؛ ففي مطلع عام ٢٠٠٣م، حقَّقت دي لا رو ضربة موفَّقة باستيلائها على مطبعة دِبدِن برنتوركس التابعة لبنك إنجلترا. منذ ذلك الحين، سُمح لشركة الطباعة الخاصة هذه بإنتاج كل أوراق الجنيه الاسترليني لصالح بنك إنجلترا في دبدن بموجب عقد إدارةٍ مدته سبع سنوات. في إطار هذا الاتفاق، انتقلتْ آلات الطباعة الموجودة في دبدن إلى مِلكية شركة الطباعة الخاصة هذه، أما المقر فهو مستأجَر فقط. تعود مزايا كبيرة على دي لا رو من بقاء المطبعة ذات التدابير الأمنية الصارمة في مِلكية البنك المركزي ومواصلة البنك قيامه بخدماته هناك كمعالجة النقد. فتكلفة الجهاز الأمني والمنشآت والأفراد في مثل هذه المنشأة الطباعية ذات التدابير الأمنية الصارمة تشكِّل يقينًا ٥ في المائة من إجمالي تكلفة تصنيع الورقة. وفي حالة مطبعة دبدن، يظل بنك إنجلترا هو المتحمِّل لهذه التكلفة. هناك أيضًا ضمان توريد للسنوات الخمس الأولى بمقدار نحو مليار ورقة جنيه استرليني سنويًّا، وهي الكمية التي قد تنخفض قليلًا فيما بعد.
يُعتبر الخبراء أن مطبعة دبدن تجمع بين الحداثة والكفاءة. فعلى حسب عدد المناوبات واستنادًا إلى الإصدارات البريطانية التي تظل سارية لفترة طويلة، يمكن إنتاج ما يصل إلى مليارَيْ ورقة بخطَّيْ سوبر و٢٣٠ موظفًا. يَجرِي حاليًّا طبع أقل من مليار ورقة في دبدن في دورة من مناوبتَيْن. تُصدِر بريطانيا أربع فئات فقط من أوراق الجنيه الاسترليني؛ مما يخفض الوقت المهدر في إعادة تجهيز آلات الطباعة؛ ومن ثم يجوز لشركة الطباعة الخاصة وفقًا للعقد استغلال الطاقة الاحتياطية الحالية في القيام بأعمال طباعة بنظام الطلبية لبلدان أجنبية. ربما يعود الفضل في نَيْل مزايا عَقْد دبدن إلى ألِكس جارفِس، الذي عمل — بعد تقاعُده من منصب المدير العام لشركة دبدن بفترة قصيرة — مستشارًا لشركة دي لا رو، ولشركة تصنيع فرَّامات الورق الهولندي كوسترز.
اختُبرت قدرة دبدن بعد الاستحواذ عليها ببضعة أشهر بطبعها نقدًا جديدًا للعراق الذي كان يسيطر عليه الأمريكان. فقد حصلت شركة دي لا رو، بصفتها قائدَ اتحاد شركات، على عقد مُربح للغاية لطبع نحو مليارَيْ ورقة نقد، لكن لم يخصص إلا بضعة أشهر لطبع الفئات النقدية العراقية الست، التي نُفِّذت بطباعة الإنتاليو على جانب واحد وجهِّزت بخصائص أمنية حديثة نسبيًّا. اضطرت دي لا رو، التي نَفَّذت الطبع في دبدن، إلى التعاقد من الباطن على طبع جزء لا بأس به من الطلبية بسبب ضغط المهلة وكمية الورق الهائلة. فقد تطلَّب الشحن سبع طائرات عملاقة حمولةُ كلٍّ منها ٩٠ طنًّا متريًّا من أوراق النقد. بما أن إسبانيا كانت ضمن تحالف الحرب ضد صدَّام حسين، كانت مطبعتها فابريكا ناثيونال دي مونيدا إي تيمبري المملوكة للدولة أول ما أُخذ في الاعتبار. لكن جيزيكه أوند ديفريَنت حصلت أيضًا — في سريَّة تامة — على حصة لا بأس بها، وقد قامت بإنتاجها في ليبزيج. قبل ذلك بعام، كانت شركة ميونخ قد مُنحتْ عَقْدًا لطباعة نقد جديد للحكومة الأفغانية الانتقالية، وتحديدًا نحو مليار ورقة نقد بما يشمل دورة طباعة أوراق الإحلال الأولية. في تلك الحال، اضطرت هي بدورها إلى إسناد حصة من الباطن إلى شركة دي لا رو. كانت تلك هي حصة اﻟ ٥ في المائة التي حصل عليها مصنع الورق الأمريكي كرين لشركته التابعة السويدية الجديدة تومبا (تومبا بروك سابقًا)، لكنه قرَّر بعدئذٍ ألا يطبع.
لكنَّ مثل هذه النجاحات لا تُغيِّر حقيقة أنَّ هيمنة دي لا رو السابقة على السوق ظلت تتآكل خلال عَقْد التسعينيات من القرن العشرين؛ فوفقًا لدراسة داخلية أجرتْها مطبعة النقد الاتحادية الألمانية، كانت دي لا رو تستحوذ عام ٢٠٠٠م على حصة نسبتها ٥٤ في المائة فقط من السوق المتاحة بعدد أوراق النقد المطبوعة، مقارنةً بنسبة ٧٨ في المائة في تسعينيات القرن العشرين. ومن ناحية أخرى، كانت جيزيكه أوند ديفريَنت قد تمكَّنت عام ٢٠٠٠م من رفع حصتها إلى ٢٥ في المائة بعد ١٠ في المائة عام ١٩٩٠م حسبما أظهرت الدراسة. ميونخ متحفِّظة في تعليقاتها على الحصة السوقية، مدَّعية امتلاكها نسبة ٣٥ في المائة مقابل ٤٥ في المائة لشركة دي لا رو. بل إنه وفقًا لتقديرات أحد الخبراء البريطانيين، لم تطبع دي لا رو سوى ٣٫٢ مليارات وحدة في عام ٢٠٠٢م بعد إغلاق مطبعة سنغافورة. ولو صحَّ هذا فإنه يكون أكثر بقليل مما أنتجتْه جيزيكه أوند ديفريَنت في العام نفسِه. سيكون ناتج طباعة دي لا رو عندئذٍ انخفض إلى النصف منذ منتصف القرن الماضي. ولا يمكن التحقُّق من هذا؛ لأن دي لا رو لم توفِّر المزيد من البيانات بشأن طبعها أوراق النقد منذ توقف تشغيل مطبعة سنغافورة. على أيِّ حال، في موعد أقصاه تاريخ انتهاء اتفاق دبدن ذي السبع سنوات، سيكون على دي لا رو اتخاذ القرار الموجِع بشأن أيُّ المطبعتين تُريد أنْ تُغلِق: دبدن بأمنها الفني النموذجي وموقعها بالقرب من لندن، أم مطبعة جيتسهيد الكبيرة للغاية في أقصى شمال إنجلترا. فمن غير المحتمل أن توجَد المطبعتان جنبًا إلى جنب على المدى الطويل.
يمكن أيضًا التعرُّف على انحسار هيمنة دي لا رو من خلال المقارنات العددية الأخرى. ففي نهاية السنة المالية ٢٠٠٤-٢٠٠٥م، لم تتجاوز مبيعات المجموعة مبيعاتها عام ١٩٩٤م إلا بقدر ضئيل جدًّا. جدير بالذكر أن عام ١٩٩٤م هو العام الأخير قبل الاستحواذ على بورتالز. لكن بورتالز بعدئذٍ رفعتِ المبيعات بمقدار ٢٠٠ مليون جنيه استرليني. وإذا نظرنا إلى أقسام ثلاثة معًا، وهي أقسام الورق وطباعة النقد وطباعة السندات المالية، نجد مبيعاتها اليوم أقل كثيرًا من القيمة التي حقَّقتها دي لا رو في طباعة النقد والسندات المالية وحدهما قبل الاستحواذ المشئوم على بورتالز. ساد مدينة لندن نوعٌ من التقييم الحَذِر للأسهم؛ فقد تلاشت تمامًا فقاعة الشركات الإلكترونية التي كانت قد رفعت سعر سهم دي لا رو، وفقًا لتقييم المدينة، كان يفترض أن تموِّل الأرباح المحقَّقة في مجال الورق وطباعة النقد التنويعَ بدخول مجالات أخرى. أثار رحيل المدير المالي الشاب صاحب المؤهلات الرفيعة طواعيةً في صيف ٢٠٠٢م بعد ثلاث سنوات فقط، والبحث الطويل عن بديل له، خوفَ المدينة؛ مما أثار مزيدًا من القلق في أعقاب إجراء المزيد من التغييرات في طواقم العمل في أقسام مهمة. اعتُبرت مسألة تطبيق برنامج واسع النطاق في شركة دي لا رو لإعادة شراء أسهمها أمارةً على أن إدارتها لم يَعُدْ لديها تصوُّر. في فبراير عام ٢٠٠٣م، انخفض سعر السهم بنسبة ٣٢ في المائة في جلسة تداول واحدة على خلفية إنذار بانخفاض آتٍ في الأرباح، وكان الإنذار الثالث من نوعه خلال ستة أشهر. فُقد نحو ٢٠٠ مليون جنيه استرليني من قيمة شركة دي لا رو السوقية في هذا اليوم وحدَه.
القيمة السوقية لمجموعة دي لا رو بأكملها في البورصة اليوم تقلُّ عن المبلغ الذي دفعتْه المجموعة للاستحواذ على بورتالز. وبعد أن كانت الشركة تتصدَّر في يوم من الأيام مؤشر أسهم فاينانشال تايمز، فَقَدَتْ منذ زمن بعيد كثيرًا من بريقها. تحت ضغط من مدينة لندن، استُبدل ليو كُوِن بإيان متْش في أوائل عام ٢٠٠٤م. لم تكن مهمة سهلة في انتظار هذا المستجد على القطاع بصفته الرئيس التنفيذي الجديد لشركة دي لا رو. باستثناء قطاع البطاقات، ما زالت الشركة البريطانية أكبر بمقدار الثلث من منافستها الألمانية في مجال «الورق وطبع النقد وأنظمة الدفع». لكن هذه المقارنة تشمل قطاع الآلات المنخفض المبيعات الذي يواصل معاناته نتيجة تفتُّت الإنتاج والتكاليف المتزايدة. يمكن للاستخدام الرشيد لطاقة طباعة النقد المقلَّصة، بالإضافة إلى التركيز المتزامن على القطاع الأعلى مستوًى من السوق أنْ يُعطي دفعة لطبع النقد في شركة دي لا رو، المُربح على أيِّ حال. لا يمكن التقليل من شأن أثر شركة دبدن، ولا سيما أن بنك إنجلترا يريد تجريد البنوك الحكومية الاسكتلندية الثلاثة والأيرلندية الشمالية الأربعة من امتيازها التاريخي لإصدار أوراق جنيه استرليني «خاصة بها». بُرِّرت هذه النيَّة بالسرقة التي أثارت ضجة لأوراق نقدٍ بقيمة ٢٦٫٥ مليون جنيه من بنك أيرلندا الشمالية في ديسمبر ٢٠٠٤م. مثل هذا التغيير سيزيد معدل تشغيل دبدن نوعًا ما. علاوة على ذلك فإن دي لا رو، بطبعها أوراق النقد في مالطة، صارت على أعتاب طباعة اليورو. تنتمي مالطة الآن إلى الاتحاد الأوروبي، وتُعتبر مرشحًا واعدًا للدخول مبكرًا إلى مجموعة العُملة المشتركة. أظهرت أول قائمة مالية قدَّمها كُوِن وتُغطِّي السنة المالية ٢٠٠٤-٢٠٠٥م بوادر تحسُّن. لقد استفاد كُوِن على الأرجح من تدابير زيادة الكفاءة الإنتاجية التي كان قد استهلَّها سلفُه عديمُ الحظ. النتائج القوية وإعلان كُوِن عن أنَّ دي لا رو ستركِّز منذ ذاك فصاعدًا على الأنشطة التي تعرفها قوبِلَا بإشادة من صحافة الأعمال البريطانية. دعتْ صحيفة الفاينانشال تايمز، التي تَمِيل فيما عدا ذلك إلى الحديث بتحفُّظ، إلى «عاصفة من التصفيق» للمدير التنفيذي الجديد. لم تكن وسائل الإعلام في الحقيقة أُتحِفَتْ بأخبار طيبة من دي لا رو خلال السنوات العشر الماضية. فالشركات التي تُدار إدارة سيئة هي الضحايا التقليدية للصناديق الخاصة للاستثمار في الأسهم. ومثل هذه الشائعات لاحقت أيضًا دي لا رو في أوقات مختلفة في الماضي. وقد جَرَتْ في الحقيقة محاولتان للاستحواذ العدائي على دي لا رو على مدى تاريخها، جاءت الأولى في نهاية ستينيات القرن العشرين من جانب رانك أورجنَيزيشَن الأمريكية، والثانية بعد نحو عشرين سنة من جانب نورتون أوباكس البريطانية. ويُقال إن الناشر روبرت ماكسويل، باعتباره المساهمَ الرئيسي في دي لا رو، كان قلقًا بشدة في ذلك الوقت على حصته البالغة ٢١٫٧ في المائة، لدرجة أنه جسَّ نبْضَ منافس دي لا رو الكبير في ميونخ بشأن تقديم المساعدة؛ مما أثار حنق بيتر أورتشارد. رفعت دي لا رو مؤخرًا الحصة الجماعية لأكبر خمسة مستثمرين فيها (تُسمِّيهم دي لا رو «المستثمرين المستقرِّين») إلى نحو ٥١ في المائة من الحصة السابقة البالغة ٣٥ في المائة. بهذه الطريقة ردَّت الشركة العملاقة الضربةَ التي وُجِّهت إليها.