أشباه البشر الأوائل المحتمَلون والمرجَّحون
قبل ثمانية ملايين سنةٍ كانت معظم أنحاء أفريقيا مغطاةً بغاباتٍ كثيفةٍ تتخللها الأنهار والبحيرات، وسكنت معظم الرئيسيات الأشجار. وخلال الفترة بين ٨ إلى ٥ ملايين سنةٍ مضت شهدت الأرض بداية توجُّهٍ طويل الأمد نحو الجفاف والبرودة. حدث الجفاف بسبب احتباس كمٍّ متزايدٍ من الرطوبة في الأرض داخل الألواح الجليدية التي بدأت تمتد بعيدًا عن القطبين الشمالي والجنوبي. انخفضت درجات الحرارة، حتى في أفريقيا، فكان النهار باردًا والليل أكثر برودة، أو حتى قارص البرودة في المناطق المرتفعة.
بدأ تطوُّر البشر في أفريقيا في وقت هذه التغيرات المناخية. ونتيجةً للجفاف المتزايد، حلَّت محل الغابات الكثيفة بالتدريج الغاباتُ المفتوحة. وبدأتْ مناطق المراعي تظهر بين المساحات الكبيرة من الأشجار. ونحن نميل إلى الاعتقاد بأن الحيوانات المتكيفة مع حياة المراعي، والتي نربطها حاليًّا بالسافانا الأفريقية الموجودة في عصرنا الحالي، مثل الظباء والحمار الوحشي؛ كانت موجودةً دومًا. إلا أن هذه الحيوانات والسافانا التي تعيش فيها ظواهر حديثة نسبيًّا. ربما عاش السلف المشترَك للإنسان الحديث والشمبانزي الموجود حاليًّا في الغابات الكثيفة. ومع هذا، بدأ بعض من سلالته يتكيَّف مع الحياة على الأرض في ظروفٍ مفتوحةٍ أكثر.
عُثر على الدليل الحفري لما يُحتمل أن يكون أوَّل أشباه البشر في مواقعَ تشير الأدلةُ الحفرية والكيميائية الأخرى إلى أنها كانت مجموعةً من البيئات؛ غاباتٍ ومراعيَ وبحيراتٍ وغابات الدهاليز على طول الأنهار، فلم يُعثر على حفرياتٍ محتمَلةٍ لأشباه البشر الأوائل في بيئةٍ تقتصر على الغابات الكثيفة. يُشير هذا إلى أنه إذا كانت هذه الحفريات تنتمي بالفعل إلى أشباه البشر الأوائل، فإن أشباه البشر الأوائل هؤلاء كانوا متكيفين مع الحياة على الأشجار وعلى الأرض؛ فقد كانت الأشجار تمدُّهم بالفاكهة وأماكنَ لبناء الأعشاش، وتحميهم من المفترسات. أما قطع المراعي فقد كانت تمدهم بمصادرَ جديدةٍ للغذاء مثل الدرنات، في حين أمدَّتهم البحيرات والأنهار بالأسماك والرخويات. ورغم العثور على بعضٍ من حفريات أشباه البشر الأوائل في الكهوف، فإنه من غير المحتمل أن أشباه البشر الأوائل قد عاشوا داخل الكهوف؛ فدون وجود مصادر يُعتمد عليها في الإمداد بالحرارة والضوء، لم تكن الكهوف مواطنَ جذابةً للرئيسيات.
(١) التمييز بين أشباه البشر الأوائل والبعام الأوائل
يُوجد الكثير من الاختلافات بين الهيكل العظمي للشمبانزي الحالي وهيكل الإنسان الحديث، خاصةً في قحف الدماغ والوجه وقاعدة الجمجمة والأسنان واليدين والحوض والركبتين والقدم. يُوجد أيضًا الكثير من الفروق بين الهياكل العظمية للإنسان الحديث والشمبانزي، مثل معدلات النمو والنضج، والأطوال النسبية للأطراف، لكنك بحاجةٍ إلى هياكلَ عظميةٍ محفوظةٍ على نحوٍ أفضل من تلك التي تُرى عادةً في المراحل المبكرة من السجل الحفري لأشباه البشر لتتمكن من رصد أنواع الفروق هذه.
الإنسان الحديث | الشمبانزي | |
---|---|---|
الجبهة | شديدة الانحدار | منخفضة |
الوجه | مسطح | ناتئ |
تجويف الدماغ | أكثر اتساعًا لأعلى | أوسع عند القاعدة |
حجم المخ | ضخم | صغير |
الأنياب | صغيرة | ضخمة |
قاع الجمجمة | مقوس | أكثر استقامة |
الصدر | جوانبه مستقيمة | مخروطي |
الفقرات القطنية | ٥ | ٣-٤ |
عظام الأطراف | مستقيمة | مقوسة |
أبعاد الأطراف | الأطراف السفلى طويلة | الأطراف السفلى قصيرة |
المعصم | أقل حركة | أكثر حركة |
اليد | كأسية الشكل والإبهام طويل | مسطحة، والأصابع طويلة، والإبهام قصير |
القدم | مقوَّسة والإصبع الكبيرة مستقيمة | مسطحة والإصبع الكبيرة مقوسة |
الحوض | فتحة الولادة ضيقة | فتحة الولادة أكثر اتساعًا |
النمو – العظام والأسنان | بطيء | سريع |
تشترك الغوريلا في صفاتٍ تكوينيةٍ مع الشمبانزي أكثر من الصفات الموجودة بينها وبين الإنسان الحديث (يزيد احتمال الخلط بين عظام الغوريلا وعظام الشمبانزي وأسنانه أكثر من احتمال الخلط بينها وبين عظام الإنسان الحديث وأسنانه)؛ ومن ثَمَّ، فإن السلف المشترك للشمبانزي والإنسان الحديث ربما كان أقرب شبهًا إلى الشمبانزي الذي يعيش حاليًّا منه للإنسان الحديث. وعلى الأرجح كانت ستظهر في هيكله العظمي أدلة على تكيُّفه مع الحياة على الأشجار. على سبيل المثال، ربما كانت أصابعه مقوَّسة لتسمح له بالإمساك بالأغصان، وربما كنَّا سنجد أطرافه متكيفةً مع كلٍّ من السير على أطرافه الأربعة وأطرافه الخلفية فقط. وربما كان وجهه ذا خطم، وليس مسطحًا مثل وجه الإنسان الحديث، وربما احتوى فكَّاه الطويلان على أسنانٍ متوسطة الحجم نسبيًّا للمضغ، وأنيابٍ ناتئةٍ وأسنانٍ قاطعةٍ علويةٍ ضخمةٍ في المنتصف.
(٢) أشباه البشر الأوائل
يعتقد العلماء أنه على الأرجح لم تحدث سوى تغيراتٍ طفيفةٍ نسبيًّا بين السلف المشترك للشمبانزي/الإنسان والبعام الأوائل. لكن على أيِّ نحوٍ كان أشباه البشر الأوائل مختلفين عن السلف المشترك وعن البعام الأوائل؟ يتوقَّع الباحثون أنه، على عكس البعام الأوائل، ربما كان بأنيابٍ صغيرة، وأسنان مضغٍ كبيرة، وفكه السفلي كان أكثر سُمكًا. ربما كانت تُوجد أيضًا بعض التغيرات في الجمجمة والهيكل العظمي ترتبط بقضاء المزيد من الوقت في الوضع المنتصب، وبالاعتماد أكثر على الأطراف الخلفية من أجل السير على قدمين. وربما اشتملت هذه التغيرات أيضًا على تحوُّل الثُّقبة العظمى إلى الأمام، وهي المكان الذي يربط بين الدماغ والحبل الشوكي، بحيث يكون الرأس في موقعٍ أفضل على جسمٍ جذعُه منتصب أكثر، وأردافُه أكثر اتساعًا، وركبتاه أكثر استقامة، وقدماه أكثر ثباتًا.
(٣) البساطة في مقابل التعقيد
يُوجد لدى التقسيميين والكُليِّين نماذج مختلفة تمامًا في أذهانهم عن المراحل الأولى من تطوُّر البشر؛ فالعالِم الكُلي لا يمكنه التفكير إلا في ثلاثة احتمالاتٍ فقط لحفريةٍ من الرئيسيات العليا ترجع إلى ٨–٥ ملايين سنةٍ أقرب شبهًا إلى الإنسان الحديث والشمبانزي من الغوريلا أو الأورانجوتان؛ فهي إما تنتمي إلى السلف المشترك للشمبانزي/الإنسان، أو هي لأحد البعام البدائية أسلاف الشمبانزي الموجود حاليًّا، أو هي لأحد أشباه البشر البدائيين المنحدر منهم الإنسان الحديث. أما العالِم التقسيمي، الذي يعتقد أن البعام الأوائل وأشباه البشر البدائيين ربما كانوا مجرد سلالتين من عددٍ من السلالات الوثيقة الصلة، فسيفكر في خياراتٍ أخرى للحفرية نفسها التي ترجع إلى ٨–٥ ملايين سنة؛ فبالنسبة إليه، إضافةً إلى الخيارات المذكورة سابقًا، ربما تنتمي هذه الحفرية إلى أحد الفروع الحيوية المنقرضة التي كانت أصنوفة شقيقة لفرع الشمبانزي/الإنسان الحيوي، أو إلى واحدٍ أو أكثر من الفروع الحيوية الفرعية للبعام المنقرضة وأشباه البشر المنقرضين.
قد يتوقع التقسيميون أيضًا العثور على أدلةٍ على حالات تجانس التقويم والشكل في هذه الفترة من ٨ إلى ٥ ملايين سنةٍ مضت. يُعقِّد تجانس التقويم والشكل من مهمة فصل أشباه البشر الفعليين عن الأصنوفات التي ربما تكون قد تطوَّرتْ على نحوٍ مستقل؛ ومن ثَمَّ تشترك في صفةٍ أو أكثر من التي افترض الباحثون أنها لا تظهر إلا لدى أشباه البشر. يعتقد بعض الباحثين، وأنا واحد منهم، أننا بحاجةٍ إلى أدلةٍ أفضل من الموجودة لدينا حاليًّا حتى نتمكن من فصل أشباه البشر الأوائل عن غيرهم بأي درجةٍ من الثقة.
(٤) المتنافسون على لقب أشباه البشر الأوائل
رشَّح الباحثون أربعة أنواعٍ تنتمي إلى ثلاثة أجناسٍ لتكون أشباه البشر الأوائل. إن إحدى المشكلات الرئيسية في تحديد ما إذا كانت الحفريات بالفعل لأشباه البشر البدائيين أم لا هي الكَمُّ الصغير من الأدلة الحفرية الموجودة لدينا؛ فيمكن بسهولةٍ وضع الأدلة الحفرية على هذه الأنواع الأربعة داخل إحدى عربات التسوق، ويظل ثَمَّةَ مكان فسيح في العربة. بالإضافة إلى ذلك، من غير الضروري أن تحتويَ عربة التسوق على الدليل الحفري نفسه لكلٍّ من المتنافسين الأربعة؛ فيوجد لدينا حاليًّا جمجمة مشوهة وأجزاء من عددٍ من الفكوك السفلية وأسنان أحد هذه الأنواع، وفي الغالب أسنانٌ وبعضٌ من عظام اليد والأقدام الصغيرة لنوعٍ آخر، وبعضٌ من أسنانٍ وأجزاءٌ من عظام الفخذ للنوع الثالث، وأجزاءٌ من الجمجمة والفك السفلي والأسنان، مع قليلٍ من عظام الأطراف المفيدة للنوع الرابع.
(٤-١) إنسان تشاد السواحلي
أحد أقدم المتنافسين هو إنسان تشاد السواحلي، وقد عُرف من حفريات أشباه البشر التي اكتشفها مايكل برونيت وفريقه منذ عام ٢٠٠١. وقد تحدد عمرها باستخدام طرق التأريخ الحيوي النسبية إلى ما بين ٧ و٦ ملايين سنةٍ مضت.
إن إنسان تشاد السواحلي أصنوفة مهمة لعدة أسباب؛ أولها، أنه عُثر عليه في موقعٍ يُسمَّى توروس-مينالا في تشاد في غربي وسط أفريقيا. هذه المنطقة جزء من منطقة الساحل، وتقع الصحراء الكبرى شمالَها في وقتنا الحالي. لكن منذ ٧-٦ ملايين سنةٍ كانت هذه المنطقة مختلفة؛ فتشير الأدلة الجغرافية والحفرية إلى أن أشباه البشر المحتملين قد عاشوا في بيئةٍ مركبةٍ تتكوَّن من بحيراتٍ وغاباتٍ عشبيةٍ وأنهارٍ تحفها الغابات. نحن نعلم هذا لأن الجيولوجيين الذين يدرسون الصخور بإمكانهم التعرُّف على بقايا من رواسب لا يمكن أن تكون قد وُضعتْ إلا على شاطئ بحيرة، ونظرًا لأن الفقاريات التي عُثر عليها في الموقع ضمَّت أسماكَ مياهٍ عذبةٍ ونماذجَ من حيواناتٍ تعيش في الغابات والمراعي. ثانيًا، تضمُّ اكتشافات أشباه البشر جمجمةً مكتملةً على نحوٍ رائعٍ لكنها مشوهة بالإضافة إلى فكين سفليين. واستخدم الباحثون المشتركون في تفسير اكتشافات تشاد تقنياتٍ أنثروبولوجيةً افتراضيةً من أجل «تصحيح» شكل الجمجمة. ويسمح هذا بمقارنتها على نحوٍ مفيدٍ أكثر بأشباه بشرٍ آخرين جاءوا في وقتٍ لاحقٍ وبالشمبانزي.
إن حجم مخ جمجمة إنسان تشاد السواحلي هو نفس حجم مخ الشمبانزي، لكن الجزء العلوي من وجهه به جزء ناتئ عند منطقة الحاجبين يُشبه الموجود لدى أشباه البشر الذين يبلغ عمرهم الجيولوجي نصف عمره. يمتاز الفك السفلي بأنه أكثر سُمكًا من فك الشمبانزي الموجود حاليًّا، كما أن الأنياب متآكلة فقط من أطرافها وليس عند الجوانب أيضًا مثل حالها لدى الشمبانزي. هل يُمثِّل الجزء الناتئ عند منطقة الحاجبين، والفك السفلي القوي، والأنياب المتآكلة عند الأطراف فقط دليلًا كافيًا للتأكُّد من أن إنسان تشاد السواحلي أحد أشباه البشر البدائيين، وليس السلفَ المشترك للشمبانزي والإنسان، أو فردًا في سلالة البعام، أو فردًا في فرعٍ حيويٍّ آخر منقرض؟
لا يقتنع جميع علماء الحفريات البشرية بأن إنسان تشاد السواحلي أحد أشباه البشر؛ فتُوجد وجهة نظر، يكاد خطؤها يكون مؤكدًا، أنه حفرية غوريلا. وإذا كان إنسان تشاد السواحلي هو بالفعل أحدَ أشباه البشر الأوائل، فإن موقع العثور عليه في غربي وسط أفريقيا يعني أن أشباه البشر الأوائل قد شغلوا مساحةً أوسع في أفريقيا من التي اعتقدها علماء الحفريات البشرية في السابق.
(٤-٢) الأورورين
ثاني أقدم الأنواع المحتملة لأشباه البشر البدائيين هو «أورورين توجنسيس»، وهو الاسم الذي أُطلق على الحفريات التي عُثر عليها في رواسب في تلال توجن في شمالي كينيا. وقد تحدَّد عمرها باستخدام تأريخ البوتاسيوم/الأرجون بنحو ٦ ملايين سنة. اكتُشفت عينة واحدة، الجزء الناتئ من سنٍّ طاحنة، في عام ١٩٧٤، ثم عُثر على ١٢ عينةً أخرى منذ عام ٢٠٠٠.
لا تزال الأدلة على أورورين توجنسيس غيرَ مكتملةٍ على نحوٍ محبط؛ فقد بنى مكتشِفاه، بريجيت سينوت ومارتن بيكفورد؛ عالما الحفريات البشرية اللذان يعملان في مؤسسة كوليج دو فرانس في باريس، استنتاجهما بأن الأورورين توجنسيس أحد أشباه البشر على دليلين؛ أحدهما قحفي والآخر تحت قحفي.
يتمثَّل الدليل القحفي فيما ادَّعى كلٌّ من بريجيت ومارتن أنها طبقة مينا كثيفة تُغطي أسنان الأورورين توجنسيس الطاحنة والضاحكة؛ فقد قالا إن طبقة مينا بمثل هذا السُّمك لا توجد لدى البعام ولا توجد إلا لدى أفراد فرع أشباه البشر الحيوي اللاحقين المعروفين. إلا أن الباحثين الذين عثروا على الأورورين توجنسيس استمدوا دليلهم الأكبر من الجزء من عظمة الفخذ الذي يقع أسفل مفصل الورك؛ فلدى الرئيسيات المتسلقة تكون العظمة الخارجية، أو اللحائية، متساوية السُّمك حول عنق عظمة الفخذ بأكمله، أما لدى الكائنات التي اعتادت السير على قدمين فتكون أكثر سُمكًا في أعلى عنق عظمة الفخذ وأسفله. يدَّعي كلٌّ من بريجيت سينوت ومارتن بيكفورد أن العظمة اللحائية لعنق عظام فخذ الأورورين توجنسيس تميل إلى زيادة السُّمك أيضًا في أعلى عنق العظمة وأسفله. مع الأسف، نَتَجت عن محاولتهم لاستخدام التصوير المقطعي في تصوير عنق عظمة الفخذ صورٌ غير واضحة؛ فأصبح من غير الممكن التأكُّد من سُمك العظم حول عنق عظمة الفخذ.
يتلخص رأي منتقدي وجهة النظر التي تقول إن هذه الحفريات تنتمي إلى أشباه البشر الأوائل في ثلاث نقاط؛ أولًا: يقولون إن تكوين عظمة فخذ الأورورين توجنسيس لا يختلف كثيرًا عن تكوين عظمة الفخذ الموجودة لدى الرئيسيات التي تتحرك على الأشجار. ثانيًا: لم يثبت لدى الرئيسيات العليا أن مينا الأسنان السميكة حكرٌ على فرع أشباه البشر الحيوي. وثالثًا، كما اعترف كلٌّ من بريجيت سينوت ومارتن بيكفورد، فإن معظم تكوين أسنان الأورورين توجنسيس «شبيه بالقِرَدَة».
حتى يصبح لدينا المزيد من الأدلة عن الأورورين توجنسيس، من الأفضل اعتباره كائنًا وثيق الصلة بالسلف المشترك للشمبانزي وأشباه البشر، لكن لا توجد أدلة كافية للتأكُّد من أنه من أشباه البشر.
(٤-٣) أرديبيتيكوس
تندرج المجموعتان الأخريان من الحفريات التي ربما تنتمي إلى أشباه البشر الأوائل البدائيين تحت الجنس نفسه «أرديبيتيكوس». يرجع عمر المجموعة الأقدم من الحفريات إلى ٥٫٧–٥٫٢ ملايين سنةٍ وتنتمي إلى النوع «أرديبيتيكوس كادابا» واستُخرجت من وسط منطقة أواش في إثيوبيا. ضمَّت الحفريات فكًّا سفليًّا وأسنانًا وبعض العظام تحت القحفية. تُشبه بعض جوانب الدليل الحفري، مثل الأنياب العلوية الطويلة والمدببة، الشمبانزي. لا يوجد تشابه مورفولوجي إلا ضئيل بين الحفريات الموجودة ضمن هذه المجموعة وأشباه البشر القدامى الذين سأعرضهم لاحقًا. إن الأدلة على كون أرديبيتيكوس كادابا أحدَ أشباه البشر ليست أدلةً قوية.
أما المجموعة الثانية من حفريات أرديبيتيكوس فقد استُخرجت من منطقتي وسط أواش وجونا في إثيوبيا. يرجع عمر هذه الحفريات إلى نحو ٤٫٥ ملايين سنةٍ مضت وربما استمرَّ وجودها إلى نحو ٤ ملايين سنةٍ مضت. تشتمل مجموعة الحفريات على أسنان، وأجزاء من عدة فكوك، وبعض عظام اليد والقدم الصغيرة، وجزء من الجانب السفلي للجمجمة. تنتمي هذه المجموعة إلى جنس أرديبيتيكوس، لكن في نوعٍ منفصلٍ يُسمى «أرديبيتيكوس راميدوس»؛ لأن مكتشفيه يعتقدون أن أنيابه أقلُّ شبهًا بأنياب القرد من أنياب أرديبيتيكوس كادابا.
تربط عدة سمات أرديبيتيكوس راميدوس بأشباه البشر؛ وأقوى دليلٍ على ذلك وضع الثقبة العظمية؛ ففي هذا النوع تُوجد هذه الفتحة نحو الأمام أكثر من الشمبانزي رغم أنها ليست متقدمة إلى الأمام كثيرًا كما هي الحال لدى الإنسان الحديث.
تنقصنا حاليًّا معلومات عن حجم مخ الأرديبيتيكوس راميدوس، كما أن الأدلة على شكل وقفته وحركته ضئيلة. من حيث الحجم فإن كلًّا من أرديبيتيكوس كادابا وأرديبيتيكوس راميدوس يشبهان شمبانزي بالغًا حديثًا صغير الحجم، يبلغ وزنه نحو ٧٠–٨٠ رطلًا. ورغم التغيرات في شكل أسنان الأدريبيتيكوس راميدوس وقاع جمجمته التي تربطه بأشباه البشر القدامى (سنعرض هذا لاحقًا)، فإن مظهره العام كان أقرب شبهًا إلى الشمبانزي من الإنسان الحديث.
من بين الأنواع الأربعة المحتمَل كونُها من أشباه البشر تُوجد أسبابٌ قوية، لكن مختلفة، لضمِّ كلٍّ من إنسان تشاد السواحلي وأرديبيتيكوس راميدوس لفرع أشباه البشر الحيوي. وبينما سيستخدم «التقسيميون» الأسماء الثنائية التي استخدمتها للأصنوفات الأربعة، فإن «الكُليين» سيتبنَّوْن فكرة أن هذه الأصنوفات الأربعة إما أن تكون أنواعًا مختلفةً داخل جنسٍ واحد — أرديبيتيكوس — أو تنتمي كلها إلى نوعٍ واحد — أرديبيتيكوس راميدوس (يُسمَّى بالمصطلح التقني «سينسو لاتو» أي «بالمعنى الواسع»).
(٥) لا سجل حفري تقريبًا للشمبانزي
إذا كان الإنسان الحديث والشمبانزي أقرب الأقارب الموجودين على قيد الحياة كلٌّ منهما إلى الآخر؛ إذن فإن كليهما قد تطوَّر على نحوٍ منفصلٍ للفترة نفسها من الوقت. وكما سنرى في الفصول التالية، فإن الإنسان الحديث لديه سجل حفري ضخم، أفضل بكثيرٍ من السجل الحفري لكثيرٍ من الثدييات الأخرى. إلا أن السجل الحفري للشمبانزي لا وجود له فعليًّا؛ فالدليل الحفري الوحيد على البعام طوال آخر ٨ ملايين سنةٍ هو أسنان منفصلة عمرها ٧٠٠ ألف سنةٍ استُخرجت من موقعٍ يُسمَّى بارينجو في كينيا.
أمر غريب؟ بالتأكيد. في الماضي «فُسِّر» هذا بأنه نظرًا لحياة الشمبانزي في الغابات، وبسبب قلة فرص التعرية في الغابات، لا يوجد سبيل لظهور الحفريات؛ ومن ثَمَّ لا توجد أماكن يمكن للحفريات الظهور فيها إثر عملية التعرية. ويقول آخرون إن المستويات المرتفعة لحمض الهيوميك في تربة الغابات يذيب العظام قبل إمكانية تحجُّرها. ليس أيٌّ من هذه التفسيرات مقنعًا بالكامل، فمن الصعب العثور على حفرياتٍ في الغابات، لكنها موجودة بالفعل. وقد تصادف فحسب عدم اشتمالها على أي حفرياتٍ تنتمي إلى قبيلة البعام. بالطبع يمكن أن تكون بعض الحفريات المنسوبة إلى الأرديبيتيكوس والأورورين وإنسان تشاد السواحلي من قبيلة البعام، لكن لم يهتم أحد بالتخلي عن فرصة كونه مكتشف أشباه البشر الأوائل في سبيل أن يكون مكتشف البعام الأوائل.
هذا أمر غريب؛ لأنه من وجهة نظر الاهتمام الأوسع نطاقًا لعلم الأحياء كان من المثير للاهتمام العثورُ على أدلةٍ حفريةٍ على سلف البعام الأول من العثور على أدلةٍ حفريةٍ على أحد أشباه البشر الأوائل الآخرين. فإذا استطعنا معرفة شكل البعام الأوائل، فسيعني أن يحظى الباحثون بفرصةٍ أفضل لتحديد أشباه البشر «الحقيقيين». تُوجد أسباب أخرى لفائدة عثور الباحثين على البعام الأوائل؛ ففي العصر الحالي يفترض الباحثون أن السلف المشترك لأشباه البشر والبعام، والبعام الأوائل، كانوا جميعًا يُشبهون الشمبانزي؛ فكان من الأفضل كثيرًا أن «نعرف» شكل البعام الأوائل بدلًا من وضع «تخمينات» عنها، وستساعد هذه المعلومات أيضًا الباحثين الذين يحاولون التعرُّف على صور تجانس التقويم والشكل في فرع الشمبانزي/البشر الحيوي.
نقاط ختامية
-
إذا كانت الأدلة الجزيئية على توقيت الانقسام الذي أدَّى إلى ظهور فرعَي أشباه البشر والبعام الحيويين تضع ظهور أشباه البشر أقرب إلى ٥ ملايين سنةٍ من ٨ ملايين سنة؛ فإن بعض أشباه البشر الأوائل المحتمَلين، مثل إنسان تشاد السواحلي، ربما تُستبعد؛ لأن وجودها سبق تاريخ عملية الانقسام.
-
عندما يوجد لدينا المزيد من الأدلة الحفرية من ٥ إلى ٨ ملايين سنةٍ فإنها ستوضح أكثر ما إذا كانت المرحلة الأولى من تطوُّر أشباه البشر «بسيطة» أم «معقدة».
-
إذا استطاع الباحثون تحديد موقع صخورٍ ذات عمرٍ مناسبٍ تحتوي على عيناتٍ من المزيد من سكان الغابات، فإنهم ربما يتمكنون من العثور على المزيد من الأدلة على حفرياتٍ للشمبانزي وأدلةٍ حفريةٍ للغوريلات.