الإنسان قبل الحديث
إن جميع أصنوفات أشباه البشر المتحجرة التي تحدثتُ عنها حتى الآن صغيرةٌ نسبيًّا (تقريبًا ٦٠–١٢٠ رطلًا) مقارنةً بمعظم أفراد الإنسان الحديث. ولا نعرف حجمَ دماغٍ أو أبعادَ أطرافٍ إلا لعددٍ قليلٍ من الأفراد المنتمين إلى أصنوفات أشباه البشر القدامى والانتقاليين. وفي جميع الحالات التي بها معلومات كافية للوصول إلى تقدير ولو تقريبي لحجم الدماغ، فإن جميع أدمغتها تكون أقل من الحجم المطلق أو النسبي لأصنوفات الهومو التالية عليها. كما أن جميع الأصنوفات سيقانها أقصر نسبيًّا من الإنسان الحديث. كان من شأن هذا أنْ جعلهم أقلَّ كفاءةً منا في السير على قدمين، لكنه يعني أنهم ظلُّوا يمتلكون القدرة على استخدام الأشجار في الحماية والغذاء. هذا وتشير أسنان المضغ الضخمة والأجسام ذات الفكوك السفلية السميكة لأشباه البشر القدامى والانتقاليين، وأسنان المضغ الضخمة للغاية لدى أشباه البشر القدامى ذوي الأسنان الضخمة؛ إلى أن نظامهم الغذائي احتوى على الدوام، أو من وقتٍ لآخر، على طعامٍ أكثر صلابةً أو قسوةً من أطعمة الإنسان الحديث. يبدو أن جميع أشباه البشر القدامى وأشباه البشر الانتقاليين ينتمون إلى صنفٍ مختلفٍ عن الإنسان الحديث. إذنْ، متى وأين يظهر في تاريخ تطوُّر الإنسان أول دليلٍ على كائناتٍ أقرب شبهًا بالإنسان الحديث؟
(١) هومو إرجاستر (الإنسان العامل)
قبل أقل من مليونَي سنةٍ مضت بدأنا نرى في بعض الحفريات المُستخرَجة من كوبي فورا وغرب بحيرة توركانا — كلاهما موقعان في شمالي كينيا — أوَّل دليلٍ على كائناتٍ أقرب شبهًا للإنسان الحديث من أيٍّ من أشباه البشر القدامى أو الانتقاليين. أصبح الاسم الرسمي لهذا الدليل الحفري الإنسان العامل. لا يستخدم كل الباحثين اسمَ نوعٍ منفصلٍ للإشارة إلى هذه المادة؛ وبدلًا من ذلك يشيرون إليها على أنها تنتمي إلى «هومو إريكتوس الأفريقي المبكر».
يُعتبر «الإنسان العامل» أوَّل شبيهٍ للبشر يكون حجم جسمه وشكله أقرب شبهًا إلى الإنسان الحديث من أي أصنوفةٍ لأشباه البشر القدامى أو الانتقاليين. ومقارنةً بحجم جسمه نجد أن أسنانه وفكَّيه أصغر حجمًا من الموجودة لدى أشباه البشر القدامى والانتقاليين. ويعني هذا إما أن نظام «الإنسان العامل» الغذائي كان مختلفًا عن نظام أشباه البشر القدامى والانتقاليين، أو أنه كان يتناول أنواع الطعام نفسه لكنه كان يعالجه خارج فمه بدلًا من داخله. والطريقة البديهية لمعالجة الطعام خارج الفم هي عن طريق طهيه، فاقترح كثير من الباحثين أن الإنسان العامل ربما كان أول شبيهٍ للبشر يطهو الطعام على نحوٍ روتيني. فالطهي يجعل بعض الأطعمة القاسية أسهل في الأكل، وكذلك يوقف عمل كثيرٍ من المواد الكيميائية التي بخلاف ذلك تجعل الأطعمة المغذية سامة.
يرجع تاريخ أول دليلٍ على احتراق الأرض بالقرب من مكان العثور على الأدوات الحجرية إلى ما بين مليونٍ ومليونَي سنةٍ مضت. ومن المغري تفسير هذا على أنه دليل على حريقٍ متعمَّد، لكن عندما يضرب البرق إحدى الأشجار ويحرقها، فإن بقايا جذع الشجرة المحترق يمكن الخلط بينها وبين بقايا حريقٍ متحكَّمٍ فيه داخل موقد. عادةً ما تكون درجة الحرارة التي تتعرض لها جذوع الأشجار في الحريق المتحكَّم فيه أعلى من الحريق الطبيعي، لكن بينما من الممكن نظريًّا تمييز بقايا الحريق الطبيعي من حريق أشباه البشر المتحكَّم فيه، فإن الأمر لا يكون دومًا بمثل هذه السهولة. حاليًّا ظهر أول دليلٍ أثريٍّ على القدرة على التحكُّم في النار في موقعٍ عمرُه نحو ٨٠٠ ألف سنةٍ في جسر بنات يعقوب في إسرائيل؛ ولم تظهر الأدلة على المواقد الحجرية إلا فيما بعد (منذ نحو ٣٠٠ ألف سنة) في السجل الأثري.
تُشبه الأطراف السفلى للإنسان العامل أطراف الإنسان الحديث. تسمح السيقان الطويلة للكائنات التي تسير على قدمين بالانتقال لمسافاتٍ طويلةٍ بكفاءة. من الواضح أن بعض البالغين من الإنسان الحديث ماهرون في تسلُّق الأشجار والحصول على المكسرات والعسل، لكن الإنسان الحديث ليس لديه مهارة التنقُّل لأي مسافاتٍ كبيرةٍ على الأشجار. إن سيقانهم الطويلة تعيقهم، كما أن أذرعهم فقدت القدرة الشبيهة بالقرود على استخدام الأغصان بفاعلية في الحركة. من جميع هذه النواحي نجد أن الإنسان العامل أكثر تخصصًا من أشباه البشر الأوائل. ومع ذلك، من أحد الجوانب المهمة — حجم الدماغ — نجده يُظهر تقدمًا طفيفًا على إنسان بحيرة رودولف وحسب، وهو صاحب أكبر دماغٍ بين أصنوفتَي أشباه البشر الانتقاليين. لا يزال سبب عدم ظهور الأدمغة الكبيرة حتى وقتٍ متأخرٍ من تطوُّر البشر لغزًا على علماء الحفريات البشرية، وربما ارتبط هذا بتجنُّب الأخطار الإضافية في المراحل المتقدمة من الحمل. إن شكل الحوض الحقيقي وحجمه، إضافةً إلى ما يمكن استنباطه من أحجام أدمغة البالغين عن حجم دماغ رضيع الإنسان العامل؛ تشير جميعها إلى أن الرأس كان صغيرًا بما يكفي ليكون اتجاهه بالعرض على طول قناة الولادة؛ ومن ثَمَّ لا توجد حاجة إلى تدويره عقب مروره عبر مدخل الحوض. كان من شأن هذا التخلصُ بفاعليةٍ لدى الإنسان العامل من أحد الأسباب الشائعة لإعاقة الولادة لدى الإنسان الحديث.
(٢) الخروج من أفريقيا: مَنْ ومتى؟
حتى أقل من مليونَي سنةٍ مضت كانت السجلات الحفرية والأثرية لأشباه البشر تقتصر على أفريقيا. لكن «غياب الدليل ليس دليلًا على غياب الوجود»؛ لذا لا بد لنا من الانتباه إلى عدم الوقوع في فخِّ التوقُّف عن البحث عن أدلةٍ على أشباه البشر خارج أفريقيا قبل هذا الوقت.
في الوقت الحالي ظهر أقدم دليلٍ حفريٍّ جيدٍ على أشباه البشر خارج أفريقيا من موقع دمانيسي في القوقاز. لا توجد تواريخ مطلقة للرواسب المستخرجة من هذا الموقع، لكن عمر النظائر المشعة في الحمم البركانية الموجودة تحت الرواسب والحيوانات المتحجرة التي عُثر عليها مع أشباه البشر؛ يشير إلى أن عمرها يتراوح بين ١٫٧ و١٫٨ مليون سنة. لم يُدرس بعدُ أشباهُ البشر الذين عُثر عليهم هناك بالتفصيل، لكن يبدو أنهم ينتمون إلى كائنٍ بدائيٍّ نسبيًّا يُشبه الإنسان العامل. ومع هذا، فإن المثير للاهتمام أن الأدوات الحجرية التي استُخرجت من الطبقة نفسها التي عُثر فيها على أشباه البشر في دمانيسي تُشبه الأدوات الحجرية الأفريقية الأولى التي يقول علماء الآثار إنها تنتمي إلى الحضارة الأولدوانية (سُميت كذلك نسبةً إلى أولدوفاي جورج في تنزانيا، الموقع الذي عُثر عليها فيه لأول مرة). بعد دمانيسي، يأتي ثاني أقدم دليلٍ مؤرَّخٍ جيدًا على وجود أشباه البشر في المنطقة من موقعٍ يرجع عمره إلى ١٫٥ مليون سنة في تلِّ العبيد في إسرائيل، لكن حتى الآن لم يُعثر في هذا الموقع إلا على عددٍ قليلٍ من أسنان أشباه البشر.
(٣) الإنسان المنتصب
منذ نحو مليون سنةٍ مضت عُثر على دليلٍ على نوعٍ جديدٍ من أشباه البشر، الإنسان المنتصب، في أفريقيا والصين وإندونيسيا. يقتنع بعض الباحثين، وليس جميعهم، أن الإنسان المنتصب وصل إلى إندونيسيا لأول مرةٍ في وقتٍ مبكرٍ منذ ١٫٧ مليون سنةٍ مضت، وربما قبل ذلك منذ ١٫٩ مليون سنةٍ مضت. إذا كان هذا صحيحًا، فإنه على الأرجح قد رسخ وجوده في القارة الآسيوية قبل هذا ببعض الوقت. وحاليًّا تُعتبر الأدوات الحجرية التي يرجع تاريخها إلى ١٫٥ مليون سنةٍ أولَ دليلٍ موثوقٍ به على وجود أشباه البشر فيما يُعرف حاليًّا بالصين الحديثة.
إذا قابلتَ الإنسان المنتصب في الشارع فمن غير المحتمل أن تخلط بينه وبين الإنسان الحديث، لكنه أقرب شبهًا إلى الإنسان الحديث من أيٍّ مِن أشباه البشر القدامى أو الانتقاليين. تأتي أشهر الأدلة الحفرية على الإنسان المنتصب من مواقع على طول نهر سولو في إندونيسيا ومن موقع إنسان بكين (المعروف حاليًّا باسم زوكوديان) في الصين. وكما رأينا في الفصل الثالث، عثر يوجين دوبوا على أولى حفريات الإنسان المنتصب في جاوة؛ فقد تشجع دوبوا بعثوره على قطعةٍ صغيرةٍ من فكٍّ سفليٍّ في موقعٍ يُسمَّى كيدونج بروبوس في شمالي جاوة؛ لذا حوَّل اهتمامه إلى أحد أجزاء جاوة كشف فيه نهر سولو رواسبَ أصبحنا نعرف حاليًّا أنها ربما ترجع إلى نحو مليونَي سنةٍ مضت. فنظَّم عملياتِ تنقيبٍ مستفيضةً للرواسب التي ظهرت على ضفتَي النهر خلال موسم الجفاف بجوار قرية ترينيل. وفي عام ١٨٩١ اكتشف المنقبون بعض الأسنان وعظمة فخذٍ والجزء العلوي من الجمجمة (الذي يُسمَّى فعليًّا قلنسوة). في البداية اعتقد أن القلنسوة تنتمي إلى جيبون عملاق منقرض، لكن من الواضح أنه غيَّر رأيه لأنه في عام ١٨٩٤، بعد عامين من الإعلان الأول على الاكتشاف، نشر بحثًا يُطلق عليه فيه اسم جنس مختلف؛ «إنسان جاوة» (بيثكانثروبوس). يدرج الباحثون حاليًّا إنسان جاوة ضمن جنس الهومو. تَذكَّر أنه في عام ١٨٩٤ كانت أصنوفتا أشباه البشر الوحيدتان المعروفتان تنتميان إلى الإنسان الحديث، وهما الإنسان العاقل وإنسان نياندرتال. تفتقر العينة المُستخرجة من ترينيل إلى الدماغ الضخم وقحف الدماغ الطويل المستدير اللذين يميِّزان الإنسان الحديث. بلغ حجم دماغه نحو ٦٠ في المائة من متوسط حجم دماغ الإنسان الحديث، لكن عظمة الفخذ التي عُثر عليها بالقرب منه بدت مثل عظمة فخذ الإنسان الحديث، ولهذا السبب أطلق دوبوا على هذا النوع الجديد اسم إنسان جاوة المنتصب «بيثكانثروبوس إريكتوس». ومع هذا، لا يقتنع كل الباحثين بأن عظمة الفخذ في نفس عمر القلنسوة؛ فربما تنتمي إلى هيكلٍ عظميٍّ أحدث، وربما «أُعيد دفنها» في حصى النهر. استمرَّ البحث عن أشباه البشر في ترينيل لمدة عقدٍ من الزمن، وآخر قطعةٍ لأشباه البشر استُخرجت من الموقع عُثر عليها في عام ١٩٠٠.
تركزت المرحلة التالية من البحث عن بقايا أشباه البشر في جاوة عند منبع النهر في ترينيل، حيث يمرُّ نهر سولو عبر رواسب قبة سانجيران. في هذه المنطقة بدأ عالِم الحفريات الألماني رالف فون كونينجسفولد بحثه عن أدلةٍ على تطوُّر أشباه البشر، فاستخرج قحفًا يشبه قلنسوة الجمجمة التي استُخرجت من ترينيل، لكن حجم الدماغ كان أصغر حتى من حجم قلنسوة ترينيل. استُخرجت بعض العينات الأخرى، لكن بعد ذلك قلَّصت الحرب العالمية الثانية واحتلال اليابانيين لجاوة عمليات البحث. دفن رالف فون كونينجسفولد مؤقتًا حفريات أشباه البشر في حدائق من أجل إخفائها عن اليابانيين. وتجدد البحث عن أشباه البشر الأوائل عقب الحرب العالمية الثانية، ولا يزال البحث مستمرًّا في قبة سانجيران وحولها. استخرج الباحثون فكوكًا سفلية والعديد من القحوف وبعض الأدلة تحت القحفية.
في حين شهدت عشرينيات القرن العشرين خمودًا في نشاط البحث في جاوة، بدأ في الصين البحث عن أشباه البشر الأوائل في أوائل عشرينيات القرن نفسه؛ فنقب عالِم الحفريات السويدي جونار أندرسون وزميله النمساوي الأصغر منه أوتو زدانسكي لمدة فصلَيْن في عامَيْ ١٩٢١ و١٩٢٣ في كهف زوكوديان (الذي كان يُنطق من قبل تشوكوتيان) بالقرب من بكين. استخرج الاثنان مصنوعاتٍ من الكوارتز، لكن يبدو أنهما لم يعثرا على أي حفرياتٍ لأشباه البشر. مع ذلك، في عام ١٩٢٦ عندما كان زدانسكي يستعرض المواد المُستخرجة المشحونة إلى مدينةرأوبسالا، أدرك أن ثَمَّةَ حفريتَيْن مصنفتَيْن تحت اسم أسنان «قرد» من الموقع ١ تنتميان إلى أحد أشباه البشر. صُنفَت هذه الأسنان — ضرس علوي وسن ضاحكة سفلية — على يد عالم التشريح دافيدسون بلاك في عام ١٩٢٦، وقد نسبها بلاك، بالإضافة إلى أول ضرسٍ سفليٍّ دائمٍ جيدِ الحفظ في جهة اليسار عُثر عليه في عام ١٩٢٧، إلى جنسٍ ونوعٍ جديدَيْن هو «إنسان بكين».
في العام نفسه استكمل بلاك مع زميله الصيني وينج وانهاو وأندرس بولين التنقيب في زوكوديان. عُثر على أول قحف في عام ١٩٢٩، واستمرَّت عمليات التنقيب حتى توقفت بسبب الحرب العالمية الثانية. هذا وقد فُقدت كل الحفريات التي استُخرجت من الموقع ١ خلال الحرب؛ فقد كان من المقرر شحنها إلى الولايات المتحدة، لكنها لم تصل قط، ولا يزال مكانها لغزًا حتى الآن. على ما يبدو كان يُفترض أن تأخذها وحدة من البحرية الأمريكية إلى مكانٍ آمن؛ ومن غير الواضح ما إذا كانت هذه الحفريات قد فُقدت قبل وصول البحرية إلى الميناء، أم أنها فُقدت في البحر. يظهر كل يومٍ أناس يدَّعون أنهم قد ورثوا من أحد أقاربهم صندوقًا مليئًا بحفرياتٍ لا تُقدر بثمنٍ لأشباه البشر الأوائل، ومن حسن الحظ فقد صُنعت نماذج ممتازة لهذه الحفريات في المتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي، وأعدَّ أحد علماء المتحف، فرانز فايدنرايش، وصفًا نوعيًّا وكميًّا دقيقًا لهذه المواد. كانت لدى هذا النوع بعض الصفات التكوينية المميزة، لكن في كثيرٍ من النواحي الأخرى كانت حفريات إنسان بكين تُشبه الحفريات المنتمية إلى إنسان جاوة المنتصب المُستخرجة من جاوة. ومن أجل توضيح هذا اقترح فرانز فايدنرايش في عام ١٩٤٠ ضم مجموعتَيِ الحفريات تحت نوعٍ واحدٍ سمَّاه «الإنسان المنتصب» (هومو إريكتوس). ومنذ الحرب العالمية الثانية عُثر على حفرياتٍ تُشبه تلك التي تنتمي إلى إنسان جاوة وإنسان بكين في مواقعَ أخرى في جاوة (مثل نجاوي وسامبونجماتشان)، والصين (مثل لانتيان)، وفي جنوب أفريقيا (مثل سوارتكرانس) وشرقها (مثل ميلكا كونتوري، ووسط أواش، وأولدوفاي جورج، وبويا).
إذا تأكد قِدم قحف الطفل المُستخرج من موجوكرتو/بيرنينج، والتاريخ الحديث للغاية لبقايا نجاندونج، فإنه حتى إذا استُبعد الإنسان العامل المُستخرَج من شرق أفريقيا من عينة الإنسان المنتصب القياسية، فإن التاريخَيْن يشيران إلى أن المدى الزمني للإنسان المنتصب يتراوح بين نحو ١٫٩ مليون سنةٍ مضت ونحو ٥٠ ألف سنةٍ مضت.
تُشبه أطراف الإنسان المنتصب أطرافَ الإنسان الحديث في أبعادها (من حيث الأطوال المطلقة والنسبية لأجزاء الأطراف)، لكن الأجزاء المتوسطة الطويلة القوية في العظام تكون أكثر تسطيحًا من الأمام إلى الخلف (عظمة الفخذ) ومن جانبٍ إلى آخر (عظم القصبة) من الإنسان الحديث. يحتوي الحوض على تجويفٍ ضخمٍ من أجل رأس عظمة الفخذ (التجويف الحقي) كما أن العظمة التي تربط التجويف الحقي بالعُرف الحرقفي أكثر سُمكًا (تستطيع الشعور بهذا على جانبَي جسمك في نفس مستوى الوركين). تتفق هاتان السمتان مع اعتياد الوقفة المنتصبة واتساع مدى الخطوة بالسير على قدمين. لا يوجد دليل حفري يتعلق بتقييم مهارة الإنسان المنتصب، لكن إذا كان الإنسان المنتصب قد صنع الفئوس اليدوية، فهذا قد يُعبِّر ضمنيًّا عن مهارته.
يبدو أن الصين وإندونيسيا (والأخيرة على وجه الخصوص بسبب الدليل المُستخرج من نجاندونج) كانتا ضمن آخر أماكن انتشار الإنسان المنتصب؛ ففي أفريقيا تُوجد أدلة على أن الإنسان المنتصب الذي جاء فيما بعد ربما تطوَّر ليتخذ شكل الإنسان قبل الحديث في صورة «إنسان هايدلبيرج» (هومو هايدلبيرجنسيس)، لكن في إندونيسيا يبدو أن شكل الإنسان المنتصب الذي جاء فيما بعدُ كان أكثر تخصصًا. وهذا يجعل احتمال تطوُّر أشباه البشر الإندونيسيين إلى جنس الإنسان القديم ضعيفًا للغاية، فعلى الأرجح كان الإنسان المنتصب الآسيوي «نهاية نوعه».
(٤) إنسان هايدلبيرج
في أفريقيا منذ ٦٠٠ ألف سنةٍ مضت، بدأنا نرى في مواقع مثل بودو في إثيوبيا وكابوي في زامبيا أدلةً لأشباه بشرٍ تفتقر إلى الحواف الأفقية السميكة المميزة الموجودة فوق الحاجبين، والتي تُوجد لدى الإنسان المنتصب. يبلغ متوسط حجم قحف الدماغ في هذه الجماجم ١٢٠٠ سنتيمتر مكعب، على عكس المتوسطات التي تبلغ أقل من ٨٠٠ سنتيمتر مكعب، ونحو ألف سنتيمتر مكعب لكلٍّ من الإنسان العامل والإنسان المنتصب على التوالي. حدث كذلك المزيد من التضاؤل في حجم الفكوك وأسنان المضغ. أيضًا تفتقر العظام تحت القحفية إلى بعضٍ من المميزات الخاصة لهيكل الإنسان المنتصب العظمي، مثل جسم العظم المسطح، لكن مع هذا فإن عظام أطراف إنسان هايدلبيرج أكثر سُمكًا وأقوى بكثيرٍ وأسطح المفاصل أكبر من الإنسان الحديث. يبدو اسم «إنسان هايدلبيرج» غريبًا على شبيه بشرٍ متحجرٍ ظهر لأول مرةٍ في السجل الحفري الأفريقي، لكننا نستخدمه لأن الفك الذي عُثر عليه لأول مرةٍ في عام ١٩٠٨ بالقرب من هايدلبيرج في ألمانيا ينتمي على الأرجح إلى الأصنوفة نفسها.
(٥) إنسان نياندرتال
إن أشهر نوعٍ في فئة «الإنسان قبل الحديث» هو إنسان نياندرتال، المعروف كذلك باسم نياندرثال (يفضِّل بعض الباحثين الاسم الألماني الحديث «نياندرتال»، لكن نظرًا لأن الاسم مأخوذ من تسمية لينيوس الثنائية التي لا بد من الحفاظ فيها على التهجية الأصلية، فإن اسم «نياندرثال» صحيح فنيًّا). يمتلك إنسان نياندرتال سماتٍ مميزةً في تكوين قحفه وأسنانه والجزء تحت القحفي. ويبدو أن إنسان نياندرتال قد اقتصر وجوده على أوروبا والمناطق المجاورة لها، وقد تعرَّض أفراد هذا النوع، الأكثر تميزًا في تكوينهم الذين جاءوا فيما بعد، لفتراتٍ طويلةٍ من الطقس الشديد البرودة في مشهدٍ طبيعيٍّ فعليًّا من التندرا.
استُخرج أقدم دليلٍ لأشباه البشر يُظهر علاماتٍ على تكيُّف أجزاء جسم إنسان نياندرتال من موقعٍ في إسبانيا يُسمَّى سيما دي لوس أويسوس في أتابويركا. في هذا الموقع اكتشف فريق إسباني قاده في البداية إيميليانو أجيري، والآن أصبح بقيادة خوان لويس أرسواجا، كنزًا دفينًا من حفريات أشباه البشر. ترجع هذه البقايا تقريبًا إلى ٣٠٠–٤٠٠ ألف سنةٍ، وعُثر عليها في كهفٍ فُتح عندما كان عمال بناءٍ يبنون سكةً حديديةً جديدة.
عقب اكتشاف العينة القياسية كان الاكتشاف التالي لإنسان نياندرتال في مارافيا في كهف شيبكا في عام ١٨٨٠. ثم توالت اكتشافات بلجيكا (في سباي عام ١١٨٦) وكرواتيا (في كرابينا في ١٨٩٩–١٩٠٦) وألمانيا (إيرنجزدورف من ١٩٠٨ حتى ١٩٢٥) وفرنسا (لوموستييه في ١٩٠٨)، كما استُخرجت بقايا إنسان نياندرتال أيضًا من جزر القناة الإنجليزية (سانت بريلاد في عام ١٩١١). وفي عام ١٩٢٤ عُثر على أوَّل إنسان نياندرتال خارج غرب أوروبا في كيك-كوبا في شبه جزيرة القرم. ومنذ ذلك الحين ظهرت اكتشافاتٌ في كهف الطابون في جبل الكرم في بلاد الشام في عام ١٩٢٩، ثم في وسط آسيا في تيشيك-تاش في عام ١٩٣٨. في الوقت نفسه ظهرت في موقعَيْن في إيطاليا (ساكوباستور في عام ١٩٢٩ وجواتاري/تشيرتشيو في عام ١٩٣٩) بقايا لإنسان نياندرتال. أُضيفَ المزيد من الأدلة عقب الحرب العالمية الثانية؛ أولًا من العراق (شاندر في عام ١٩٥٣)، ثم من المزيد من المواقع في بلاد الشام في إسرائيل (العامود في عام ١٩٦١ ومغارة كبارة في عام ١٩٦٤) وسوريا (كهف الديدرية في عام ١٩٩٣). هذا ويستمر اكتشاف أدلةٍ حفريةٍ جديدةٍ لإنسان نياندرتال في أوروبا وغرب آسيا؛ على سبيل المثال في سانت سيزار في فرنسا في عام ١٩٧٩، وفي زفاريا في إسبانيا في عام ١٩٨٣، وفي لاكونيس في اليونان في عام ١٩٩٩.
يُوجد إنسان نياندرتال مكتمل النمو بكافة صور تكوينه المميز، بما في ذلك فتحتا أنفه الكبيرتان، ووجهه الانسيابي الناتئ في خط المنتصف، وقحفه المستدير من الأعلى والخلف، وتجويف قحفه الأكبر حجمًا في المتوسط من تجويف الإنسان الحديث، وعظام أطرافه المميزة ذات الأجدال السميكة وأسطح المفاصل الضخمة؛ في أغلب الأحيان في مواقع ترجع إلى ما بين ٣٠ و١٠٠ ألف سنة. إنها تُمثِّل أصنوفة أوروبية ومن الشرق الأدنى في الأساس؛ فلم يُعثر على أي حفريةٍ لإنسان نياندرتال في إسكندينافيا؛ فربما كان الطقس شديد البرودة بحيث استحال أن يعيش فيه البشر. وقد احتلَّ إنسان نياندرتال منطقةً كانت خلال آخر مليون سنةٍ عرضةً لدوراتٍ تمتد ﻟ ١٠٠ ألف سنةٍ من الطقس البارد تتخللها فترات أكثر دفئًا.
توجد فكرتان متعارضتان عن العلاقة بين إنسان نياندرتال والإنسان الحديث؛ تقول إحداهما إن تكوين أجسام إنسان نياندرتال متخصص للغاية بحيث لم يكن لهم إسهام ملحوظ قط في التجميعة الجينية للإنسان الحديث، وإن الاختلافات بينهم وبين الإنسان الحديث كبيرة للغاية بحيث يصعب ضمهم للإنسان العاقل. أما الفكرة المضادة لهذه الفكرة فترى أن هذه الاختلافات المورفولوجية الموجودة بينهم وبين الإنسان الحديث تافهة إلى حدٍّ ما وتدعم ضمهم للإنسان العاقل.
(٦) الحمض النووي الميتوكوندري من إنسان نياندرتال
لحسن الحظ أصبحت مجموعةٌ أخرى من الأدلة متوافرةً من أجل تحديد تصنيف إنسان نياندرتال؛ إذ استطاع الباحثون استخراج شرائحَ قصيرةٍ من الحمض النووي للميتوكوندريا من حفريات إنسان نياندرتال؛ ففي تقريرهم عن أوَّل استخلاصٍ ناجحٍ للحمض النووي الميتوكوندري من أي حفريةٍ لأشباه البشر، شرح ماثياس كرينجز وباحثون آخرون من مختبر فانتي بابو في لايبزيج أنهم قد نجحوا في استخراج أجزاءٍ قصيرةٍ من الحمض النووي الميتوكوندري من عظم عضد العينة القياسية نياندرتال ١. كان تسلسل النيوكليوتيدات في هذا التتابع المتحجر الفردي للحمض النووي الميتوكوندري خارج نطاق الأنواع المأخوذة من عينةٍ متنوعةٍ من الإنسان الحديث؛ ومن ثَمَّ، استُخرج الحمض النووي الميتوكوندري من حفريةٍ أخرى استُخرجت مؤخرًا من الموقع النموذجي (انظر أعلاه)، ومن هيكلٍ عظميٍّ لطفلٍ من ميزمايكايا في روسيا، ومن حفريتَيْن من فينديجا في كرواتيا، ومن بقايا طفل نياندرتال استُخرجت من إنجيس في بلجيكا، ومن أحد أوائل الهياكل العظمية المُكتشفة لإنسان نياندرتال من موقع لاشابيل أوه سانت في فرنسا. تُشبه الاختلافاتُ الموجودة بين الأجزاء المتحجرة للحمض النووي الميتوكوندري التي دُرست الاختلافاتِ الموجودةَ بين العدد نفسه من حفريات الإنسان الحديث الأفريقي التي اختيرت عشوائيًّا، لكن الاختلافات بينها وبين الحمض النووي الميتوكوندري لدى الإنسان الحديث كبيرة وواضحة. تتسم أجزاء الحمض النووي الميتوكوندري التي دُرست بأنها قصيرة، لكن إذا تكرَّر ظهور نتائج هذه الدراسات في أجزاءٍ أخرى من الجينوم فإن وضع إنسان نياندرتال في نوعٍ منفصلٍ عن الإنسان الحديث سيحظى بدعمٍ كبير.
أشارت الحكمة التقليدية لفترةٍ طويلةٍ إلى أن إنسان نياندرتال قد تطوَّر ليصبح الإنسان الحديث. وقد دعم هذا التفسيرَ التواريخُ الأصلية التي أُعطيت لمجموعةٍ من حفريات أشباه البشر في الشرق الأدنى؛ فقد أشارت هذه التواريخ القديمة إلى أن حفريات نياندرتال التي عُثر عليها في كهفَي الطابون ووادي العمود كانت أقدم من الحفريات الأقرب شبهًا بالإنسان الحديث التي استُخرجت من مواقع مثل جبل القفزة. إلا أن طرق التأريخ الأكثر دقةً غيَّرت هذا التفسير التقليدي إلى النقيض؛ فيشير أحدث دليلٍ إلى أن حفريات جبل القفزة الأكثر شبهًا بالإنسان الحديث تسبق بقايا إنسان نياندرتال في الزمن.
كان إنسان نياندرتال، إن لم يكن الأول، أحدَ أوائل مجموعةٍ من أشباه البشر تدفن موتاها بانتظام، ولهذا السبب جودة السجل الحفري لأشباه البشر وكميته أفضل عند إنسان نياندرتال من أشباه البشر الأقدم منه. كذلك تُظهر بعض القبور أدلةً على مراسم، وادَّعى الباحثون أيضًا أن إنسان نياندرتال كان مهتمًّا بالفن.
تعرَّض إنسان نياندرتال على وجه الخصوص إلى عددٍ كبيرٍ من التفسيرات المتعلقة بعلم الأمراض؛ على سبيل المثال، الهيكل العظمي المُستخرج من لاشابيل أوه سانت، والذي استُخدم في استخلاص حمض الميتوكوندريا النووي، كان مصابًا إصابةً بالغةً بالفصال العظمي، لكن تصادف استخدامه في واحدةٍ من أشهر عمليات إعادة التصوير لإنسان نياندرتال؛ لذا افتُرض أن جميع أفراد إنسان نياندرتال كانت ظهورهم منحنية وأكتافهم مستديرة. كذلك اقتُرح بشدةٍ أن إنسان نياندرتال كان إنسانًا حديثًا مصابًا بقصورٍ خلقيٍّ في الغدة الدرقية، يُسمَّى أيضًا الفدامة. وجاء هذا الاستنتاج على أساس التشابه التقريبي بين توزيع مواقع نياندرتال و«حزام التضخم الدرقي» المعاصر الممتد عبر أوروبا وصولًا إلى الشرق الأدنى. إلا أن هذا مثال على تجاهل الفرق بين علاقة الارتباط وعلاقة «السبب والنتيجة»؛ فينتج عن الفدامة آثار مميزة على الهيكل العظمي لا تُرى في عظام إنسان نياندرتال المتحجرة.
نقاط ختامية
-
إذا كان الإنسان العامل هو أوَّل شبيهٍ بالبشر يترك أفريقيا، فإن هذا كان مجرد أول «دفقة» من «دفقات» عديدة من الابتكار التكويني والسلوكي التي نشأت في أفريقيا، ثم انتشرت إلى أوراسيا وأخيرًا إلى جميع أجزاء العالم. يدَّعي الباحثون أن النمط الوراثي للإنسان الحديث يحتوي على أدلةٍ على العديد من هذه التغيرات، ومع جمْع علماء الأحياء الجزيئية المزيدَ من المعلومات عن التنوُّع الإقليمي في الجينوم النووي للإنسان الحديث ربما يظهر المزيد من الأدلة.
-
يرغب الباحثون بشدةٍ في العثور على المزيد من المواقع مثل دمانيسي؛ حيث يمكنهم جمع المزيد من المعلومات عن أشباه البشر الذين انتقلوا لأول مرةٍ خارج أفريقيا. يتوقع بعض الباحثين أن الحاجة إلى مساحةٍ أوسع مع الاعتماد على أكل اللحوم كانا في النهاية المسئولَين عن هذه الهجرة. هذا وسيسمح المزيد من الأدلة الحفرية والأثرية باختبار صحة هذه الفرضية عن طريق البحث عن أدلةٍ على الصيد المنظم.
-
توجد معلومات أكيدة قليلة عن أصل أشباه البشر القدامى، مثل إنسان هايدلبيرج، ومصيرهم. ظهر أقدم دليلٍ عليهم في أفريقيا، لكن توجد أدلة حفرية قليلة للغاية مؤرَّخة جيدًا من فتراتٍ بين ٥٠٠ و٣٠٠ ألف سنةٍ مضت يمكنها تمكين الباحثين من فحص كيفية ارتباط هذه الحفريات بأنواعٍ تاليةٍ عليها مثل إنسان نياندرتال والإنسان العاقل.
-
لا يزال الباحثون، للأسف، يجهلون الصلة بين حجم الدماغ المطلق والنسبي والسلوك. فما العقبات الإدراكية والسلوكية التي تَحتَّم على أشباه البشر تَخَطِّيها قبل اعتمادهم على مصدرٍ ثابتٍ وعالي الجودة من الطعام مثل اللحم؟