الباحثة عن الحب
صيف عام ١٩٦٣ بدأت كتابة رواية أعطيتها عنوان «الباحثة عن الحب»، في أعماقي حنين غامض لشيء أكثر غموضًا، لا أعرف بالضبط عما أبحث، بلغت الثَّانية والثلاثين من العمر، أصبحت طبيبة ناجحة وأديبة معروفة، في حياتي كثير من الأصدقاء والصديقات، نساء ورجال أتبادل معهم الحديث على شاطئ النيل، نتحاور في الطب والأدب والفلسفة، مع قضمات من الحمام المشوي ورشفات نبيذ عمر الخيام، نطل على مدينة القاهرة من فوق ربوة الأهرامات، نتسكع في المدينة بعد أن ينام الكون … أعشق الشوارع الخالية من السيارات والبشر، يصفو عقلي وأتطلع إلى النجوم، يعود إليَّ السؤال الطفولي — كنت أسأله لأبي وأنا في السابعة من العمر: مين خلق النجوم دي كلها؟ ربنا يا ابنتي. ومين خلق ربنا يا بابا؟ ربنا خلق نفسه بنفسه يا ابنتي. لم يكن عقلي الطفولي يقبل هذه الفكرة، أن يخلق أحد نفسه بنفسه.
في العشرين من عمري نسيت الأسئلة الطفولية كلها، انشغلت بالدراسة في كلية الطب والنجاح في الامتحانات آخرَ العام. قبل الامتحان بأيام قليلة أواظب على الصلاة، لم أكن أرى أمي تصلي إلا وقت الأزمات، أسمع الشيخ في الراديو يقول النِّساء ناقصات عقل ودين. بدأت أتشبه بأبي، أواظب على الصلاة في غير أوقات الامتحان، بلغ بي الإيمان ذروته عام ١٩٥٢، حين بلغت الواحدة والعشرين من العمر، أصبحت في الأوراق الرسمية مواطنة في سن الرشد، أحظى بحقوق الإنسان فيما عدا الحقوق التي منحها الله للرجال دون النِّساء، كان الدستور المصري ينص على المساواة بين النَّاس أمام القانون، لكن شريعة الله تنص على أن الرِّجَال أعلى درجة من النِّساء، كان التناقض واضحًا بين الدستور والشريعة، لم أكن أرى هذا التناقض وأنا في الواحدة والعشرين من عمري، الإيمان المطلق الأعمى يجعلني لا أرى التناقضات الواضحة للعيان.
كنت أمشي في طريقي من البيت إلى الكلية في خط مستقيم، لا أحرك رأسي هنا أو هناك، وأعود من الكلية إلى البيت مباشرة دون أن أتطلع إلى هذا أو ذاك، كلَّ يوم أروح وأجيء في الطريق ذاته، كالبقرة العمياء معصوبة العينين تدور في الساقية، وفجأة التقيت بأحمد حلمي … كنت أمشي في فناء الكلية حين استوقفني وناداني باسمي: نوال. توقفت عند سماع اسمي بهذا الصوت، كأنما لم ينادني أحد باسمي من قبل، أو كأنما كلمة نوال لم تكن اسمي، أصبحتُ اسم امرأة أخرى جديدة ولدتْ لتَوِّها في هذه اللحظة.
ربما هما العينان وليس الصوت، عيناه وهو واقف أمامي في الفناء، عيناه فقط رأيتهما، ربما لم تكونا هما العينين، بل شيء آخر لم أره تمامًا؛ لأنني لم أملك القدرة على النظر إليه، فقدت شجاعتي قبل أن ترتفع عيناي إليه.
أتوقف عند هذه اللحظة بعد مرور خمسين عامًا، أتذكرها، أستعيدها، تعود إليَّ كما حدثت، تعود معها التفاصيل الصغيرة الدقيقة، تصورت أنها ضاعت من الذاكرة خلال نصف قرن، تُفاجئني أنها تعيش في الحاضر كما عاشت في الماضي، لحظة لم تتكرر في حياتي منذ خمسين عامًا، أتكون هي لحظة الحب الكبير أو الوهم الأكبر؟!
كان أحمد واقفًا في الفناء، بالضبط عند الباب الصغير بين فناء الكلية والمدخل إلى مستشفى قصر العيني القديم، كان يرتدي قميصًا أبيض، وفي يده مجلة يناولها إليَّ ويقول: ده العدد الجديد من مجلة شعلة التحرير يا نوال. ينطق حروف اسمي كأنما يعرفها، كأنما يألفها، رغم أنها المرة الأولى التي أقابله وجهًا لوجه. أخذت المجلة وانشغلت بفتح حقيبتي وإدخال المجلة فيها بين كتب الطب وكشاكيل المحاضرات والمشرط وأدوات التشريح، حقيبتي كانت ثقيلة ممتلئة، وكان عليَّ أن أفتحها وأضع المجلة فيها، حركة أنقذتني من النظر إلى عينيه، تظاهرت أني منهمكة في فتح الحقيبة، وإفساح مكان للمجلة بين الكتب والكشاكيل، بدت الحقيبة مكدَّسة بأشياءَ قديمة مهترئة لا قيمة لها إلى جوار المجلة الجديدة، يبرق اسمها فوق الغِلاف بخط أحمر، يلمع تحت شعاع الشمس: «شعلة التحرير».
– يا ريت يا نوال تقري قصة العدد وتقوليلي رأيك.
كنت في طريقي إلى مدرج علي باشا إبراهيم، أُسرع الخطى قبل أن أتأخرَ عن موعد المحاضرة. كان الأستاذ هو «أنريب»، يدرِّس لنا علم الفسيولوجي، يلقي المحاضرة بلغة إنجليزية تشوبها لكنة روسية. جاء من روسيا إلى مصر ليصبح أستاذًا في كلية الطب في نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات، قصير سمين مربع الجسم داخل معطف أبيض، له وجه مربع عريض يشبه الدب الأبيض، لحيته كثيفة تشبه لحية تشيكوف ودوستيوفسكي. كان يحكي لنا عن العالم الروسي «بافلوف» الذي اكتشف نظرية الارتباط الشرطي، أحدثت طفرة في علم الفسيولوجي، وفي نظرية المعرفة. خيالي الأدبي كان يسرح مع الدُّكتور «أنريب» وهو يحكي لنا قصة الكلب والجرس، إنها التجرِبة التي أجراها بافلوف في المعمل، كان يضع الطعام أمام الكلب كل يوم في ساعة معينة، يُقبل الكلب على الطعام بشهية، كلَّ يوم في الموعد نفسه يجد الكلب الطعام في المكان نفسه، يأكل بشهية، ويلحس الصحن، أصبح بافلوف يدق جرسًا عدة دقات تصاحب اللحظة التي يأكل فيها الكلب الطعام، بدأ الكلب يسمع دقات الجرس مع قضمات أسنانه على الطعام، تكرر الحدث كل يوم، عدة أيام، ثم بدأ بافلوف يدق الجرس دون أن يقدم الطعام للكلب، أصبح لعاب الكلب يسيل لمجرد سماع صوت الجرس، وأصبحت معدة الكلب تفرز الأنزيم الخاص بالهضم كأنما هي تستقبل الطعام. لقد ارتبط صوت الجرس في خيال الكلب وعقله برائحة الأكل ومذاقه في فمه ومعدته. توصل بافلوف إلى الارتباط الشرطي بين المادي والخيالي في عملية التعليم والتدريب في حياة الكلاب، وحياة البشر على حد سواء. كانت العلاقة بين المادة والروح تشغلني أحيانًا، أُدرك أن الجسد لا ينفصل عن العقل، وأن الخيال جزء من الحقيقة.
كنت أستغرق بعقلي وجسدي فيما يقوله الدُّكتور أنريب. لم يكن يتلو علينا المحاضرة مثل الأساتذة الآخرين، كان يحكي لنا الحكايات، نفهم الفسيولوجي ونظرية المعرفة الجديدة عن طريق القصص، والربط بين الخيال والواقع، الربط بين الماديات والروحانيات.
يتخلخل الإيمان الأعمى بانفصال الروح عن الجسد، تدور في رأسي الأسئلة الطفولية القديمة، عيناي ترتفعان إلى السماء في رهبة، كلمة «الله» ترمز إلى الروح بدون جسد، عقلي الطفولي كان عاجزًا عن الإيمان بوجود الروح دون جسد. بلغت سن الرشد، ونسيت البديهيات، سرت نحو النضوج والإيمان الأعمى بالأرواح المنفصلة عن الأجساد، بدأت أرى في الليل أشباح الجن، أومن بوجودها وبكل ما ورد في القرآن.
في غرفة الطالبات فتحت حقيبتي، الغِلاف الجديد والعنوان بالخط الأحمر، شعلة التحرير، لمحَتِ الصديقاتُ البريق في عيني، رمقتني بطة بعين مجرِّبة وهمست: حب جديد يا نوال؟! لم يكن للطالبات حديث في أوقات الفراغ إلا عن الحب. كثيرة هي قصص الحب بين الطلبة والطالبات، يدس الطالب رسالة حب في كشكول الطالبة، تقرأها علينا في غرفة الطالبات، تتورد خدود البنات وهنَّ جالسات تحت شجرة الكافور الضخمة، يحفرن بمشرط التشريح فوق جذع الشجرة حروف الاسم داخل القلب، يرسمن القلب بدقة كما هو مرسوم في الكتاب، وكما يظهر في صدر الجثة فوق منضدة التشريح.
كنت واحدة من هؤلاء البنات المراهقات في كلية الطب، أومن بالحب الروحي المنفصل عن الجسد، كما أومن بالله، الروح العليا في السماء، المنفصلة عن الجسد الأدنى فوق الأرض، وكنت أجد رسالة الحب داخل الكشكول، كل يوم يدس أحد الطلبة الرسالة، كان الطلبة عددهم بالمئات، والطالبات عددهن قليل يعد على أصابع اليد الواحدة، أو اليدين الاثنتين. كان نصيبي من رسائل الحب أكثر من زميلاتي، لم يكن للزميلات نشاط في الندوات الأدبية بالكلية، أو الاجتماعات السِّياسيَّة أو المظاهرات الوطنية، ربما كنت الطالبة الوحيدة في ذلك الوقت التي تكتب القصص القصيرة والمقالات، وكان رؤساء تحرير المجلات من الطلبة الكبار يأتون إليَّ وأنا جالسة بين زميلاتي في المشرحة، تحمر وجوه البنات حين يأتي إلينا طلبة غرباء ليسوا زملاء لنا في المشرحة. كان الطلبة الغرباء أكبر سنًّا وأكثر جرأة في التطلع إلى البنات، يرفعون رءوسهم في كبرياء كأنهم زعماء، يتنافسون على الخطَب في المظاهرات، ينقسمون إلى فرق متناحرة بعدد الأحزاب في مصر قبل سقوط الملك: الإخوان المسلمون يرفعون شعار السيف والقرآن، الشيوعيون شعارهم المطرقة والمنجل، والوفديون يحملون صورة النحَّاس باشا، الحزب الوطني يردد كلمات مصطفى باشا كامل، أحزاب الأقلية لكل منهم شعاره، الحكومة والسراي والإنجليز لكل منهم حزب داخل البلاد، المستقلون لهم أحزابهم، بعضهم يتبع عزيز المصري، بعضهم يؤمن بالألمان والنازية، بعضهم يؤمن بالحلفاء والدِّيموقراطيَّة، كلهم توابع للقوى المتصارعة في الساحة السِّياسيَّة.
بدا أحمد حلمي كأنما هو المستقل الوحيد، مجلة شعلة التحرير يُصدرها مع مجموعة من زملائه، يدفعون نفقاتها من جيوبهم. كان هو رئيس التحرير، قرأت عددين أو ثلاثة، نشرت فيها بعض القصص القصيرة بأقلام طلبة الطب ذوي الميول الأدبية. قرأت قصة أحمد حلمي بعنوان «كلب وغلام»، لا أنسى القصة رغم مرور نصف قرن من الزمان، صورة الكلب الصغير الأعرج يأكل من صفيحة قُمامة إلى جواره طفل أعرج. كان أحمد حلمي ينظم الندوات الأدبية، يربط بين الفقر والمرض، بين الطب والأدب. لم يكن يوسف إدريس يكتب القصة بعد، كان يكتب المقالات السِّياسيَّة ويرأس مجلة أخرى اسمها «الجميع».
في إحدى الندوات الأدبية قال يوسف لأحمد: قرأت قصتك «كلب وغلام»، إزاي كتبتها يا أخي؟ شيء عجيب فعلًا، تصور يا أحمد وأنا نايم في عز النوم أشوف الكلب الأعرج بياكل من الزبالة مع الطفل الأعرج، يا أخي القصة دي أحسن من مِيت مقال سياسي!
لم يكتب أحمد حلمي شيئًا بعد هذه القصة، سافر إلى القنال وعاد محطَّمًا، خانه الأصدقاء قبل الأعداء. تزوجنا ضد إرادة أبي، كان أبي يؤمن بالعمل الفدائي والموت من أجل الوطن، ملأ خيالي وعقلي منذ الطفولة بأناشيد الفداء، بلادي بلادي أفديكِ بروحي ودمي. عاش أبي المنفي في منوف عشر سنوات، كف فيها عن النشيد، أصبح ينوء بالحِمل الثقيل، عائلة من تسعة عيال وأمهم، أصبح رهين المحبسين الوظيفة الحكومية والأسرة الأبوية.
كان أبي يؤمن بالله والوطن، ولكن أحمد حلمي كان يؤمن بالوطن فقط. في أول حديث لنا عن الدين سألني: أتؤمنين بالله يا نوال؟ قلت: طبعًا … مرت لحظة صمت طويلة، كنا نجلس في حديقة الشاي، مكان هادئ يطل على بحيرة صغيرة، يعوم فيها البط داخلَ حديقة الحيوان بالجيزة. كنت أرتدي بلوزة وردية جديدة، أرى وجهي منعكسًا فوق مياه البحيرة، عيناي يكسوهما بريق، الدقات تحت ضلوعي محسوسة، أنفاسي تتعاقب بسرعة لم أتعودها، أحاول أن أتظاهر بالهدوء وأنشغل بمراقبة البط يفرد أجنحته في الماء، يتطاير فوق ريشة الرذاذ مثل ذرات من اللؤلؤ تلمع تحت أشعة الشمس.
– وأنت يا أحمد هل تؤمن بالله؟
– لأ يا نوال.
الصدمة الأولى في الحب، تجمَّدت الدقات تحت ضلوعي، توقفت الأنفاس وقدرتي على النطق، لم أعد أرى البحيرة ولا البط، غامت عيناي، مرت سحابة حجبت الشمس، تصورت أن الله سمع كلمة «لأ» وأراد أن يدمر الأرض والشمس وكل ما في الكون.
فتحت عيني ورأيت أحمد جالسًا أمامي، كأنه كائن ميت لا أقوَى على النظر إليه.
– آسف يا نوال إذا كنت صدمتك، أنا دائم التفكير في فكرة نشوء الكون، أنا غير مقتنع بنظرية الخلق في الكتب السَّمَاوية، أنا شرَّحت جسم الإنسان في المشرحة، وقريت كتاب داروين «أصل الأنواع»، الكتاب ده بمثابة المسمار في عرش الإمبراطورية البريطانية؛ لأنه هدم أهم أركانها وهو الكتاب المقدَّس، أو أهم ما في الكتاب المقدس وهي نظرية الخلق ونشوء الكون.
صمت أحمد قليلًا، أحسست الجفاف في حلقي، شيء يؤلمني تحت الضلوع، أنفاسي عادت بطيئة ودقات القلب لم تعد هناك، أحس الدم يمشي في صدري بطيئًا بارد الملمس، كأنما جرح في صدري مفتوح منذ الطفولة، جرح لم يلتئم منذ ولدت ولم أسمع الزغاريد، لم أشهد في العيون إلا الحزن والصمت، أصابع غليظة سمراء كالمسامير الصدئة تحاول خنقي تحت الماء، وأنا أرفس بقدمي وذراعي وأطفو، صوت يخرق أذني مثل السيخ المحمي في النار، بنت وليست ولدًا! العوض على الله! كلمة «الله» تنفذ إلى أذني مثل المسمار الحديدي الذائب في النار، الله يفضل الرِّجَال على النِّساء، الله صاحب الجلالة مذكر وليس مؤنثًا، في القرآن الله لا يلد ولا يولد، وفي التوراة — الكتاب الأول المقدس — الله لا يلد البنات، أبناء الله تزوجوا بنات النَّاس وأنجبوا البشرية.
– قريتي أصل الأنواع يا نوال؟
– لأ.
– لازم تقريه يا نوال، وكمان كتاب كارل ماركس «رأس المال»، في سنة ١٨٨٢، السنة نفسها اللي احتلت فيها مصر مات داروين، عملوا له مقبرة عظيمة في وست مينيستر أبي، كان كارل ماركس في لندن من سنة ١٨٤٩، مات في لندن بعد داروين بسنة واحدة، قبل ما يموت أهدى كتابه «رأس المال» لداروين، لكن داروين كان مؤمنًا بالمسيح والإمبراطورية البريطانية، عشان كده رفض هدية كارل ماركس، رفض أن يستلم كتاب «رأس المال»، كان خايف من الكنيسة والحكومة في لندن، قريتي «رأس المال» يا نوال؟
– لأ.
– ده كتاب مهم يا نوال، أنا مش ماركسي ولا شيوعي لكن الكتاب ده مهم لازم تقريه.
دار هذا الحوار بيني وبين أحمد قبل زواجنا وقبل سفره إلى الحرب مع الفدائيين، عدت إلى البيت سيرًا من حديقة الحيوان إلى بيت أبي في أول شارع الهرم، قدماي تسيران وحدَهما في الطريق وعقلي شارد. كادت سيارة تصدمني وأنا أجتاز الشَّارع لأهبط تحت نفق القطار، كأنما أسير في نفق مظلم لا أعرف الحقيقة من الخيال. بدا كل شيء من حولي يتخبط في الوهم، الحب والإيمان بالله، والكتاب المقدس ونظرية الخلق ونشوء الكون … أتطلع إلى السماء كأنما أتوقع أحدًا يرد، أتطلع إلى أبي في البيت أود أن أسألَه لكن صوتي لا يخرج، لم تعد كلمة «الله» تخرج من فمي عادية، أصبحت مشحونة بالكهرباء أو الديناميت، أخشى لو نطقت بها أن ينفجر المكبوت في أعماقي منذ الطفولة، أن ينكشف السبب الحقيقي وراءَ إيماني، وهو الخوف من أبي أو الخوف من الله ونار جهنم الحمراء بعد الموت.
بعد أن سافر أحمد إلى الحرب في القنال بدا الكون خاويًا بلا معنًى، بلا إله ولا شيطان، ولا أي شيء، كلية الطب بدت بلا معنًى وبلا هدف، الطلبة يُهَرْوِلون إلى المشرحة والمستشفى كالأشباح في عالم من الوهم، الأرواح الخفية والجان وكل ما ورد في القرآن، أرى أبي راكعًا يصلي فأشفق عليه من الوهم، أكاد أقول له لا توجد جنة بعد الموت ولا جدوى من الركوع والصلاة، أضع يدي فوق فمي أحبس الكلمات في حلقي.
حزمت حقيبتي وقررت السفر إلى القنال، تطوعت مع بعض الممرضات في المستشفى للسفر إلى الجبهة، تدربت على الإسعافات الأولية. كانت لي صديقة بين الممرضات اسمها وديدة، خطيبها سافر مع الفدائيين إلى القنال، أرادت أن تراه ثم تعود، أنا أيضًا أردت أن أرى أحمد ثم أعود، لم يكن الطريق إلى الإسماعيلية طويلًا، ساعتين بالسَّيَّارَة، ويمكن أن أعود بالسَّيَّارَة في اليوم نفسه، أو في اليوم التالي.
ركبت مع وديدة السَّيَّارة اللوري، جوار السائق، خلفَنا جلس أحد الممرضين وسط زجاجات الدم والبلازما، أفقت على صوت السائق يقول: فاضل كيلو واحد على الإسماعيلية، قلبي يخفق تحت الضلوع، لم يعد إلا كيلو واحد وألتقي أحمد، أحوط صدري بذراعيَّ، أكتم الخفقات عن السائق بجواري، أخشى أن يَكتشف السبب الحقيقي وراء سفري إلى الإسماعيلية، لقد أعلنتُ له أنني متطوعة مع الممرضات من أجل الوطن.
خرجنا من القاهرة في الليل، وديدة ركنت رأسها فوقَ حافَة النافذة، شردت عيناها في السماء، صوتها المبحوح يدندن بأغنية أم كلثوم «هو صحيح الهوى غلاب ماعرفش أنا»، يذكرني صوتها بزميلتي فاطمة في مدرسة حلوان الدَّاخلية. فتحتُ حقيبتي وأخرجت الساندويتش، رغيف فينو طويل داخلَه جبن رومي وبيضة مسلوقة بالملح والفلفل، قسمت الرغيف ثلاثة أقسام ناولت السائق جزءًا، وديدة جزءًا، وأخذت الجزء الأخير.
كنت جائعة، رائحة الخبز والجبن والفلفل تصيبني بانتعاش مفاجئ، أعود طفلة تأكل بشهية، أتذكر أمي حين كانت تجهز الساندويتش لآخذَه إلى المدرسة وأنا طفلة في السابعة من العمر.
رائحة الخبز والجبن والفلفل أعادت إلى خيالي صورة أمي في طفولتي، مثل صوت الجرس في تجرِبة بافلوف، يستحضر في خيال الكلب صورة الطعام، هناك تشابه بين خيال الكلب وخيال الإنسان. تعود إلى ذاكرتي قصة «كلب وغلام»، كان لأحمد أسلوب مميز في الكتابة، كلماته فوق السطر تتتابع بهدوء يشبه خطوته فوق الأرض، يشبه صوته حين يتكلم، الإيجاز في التعبير يبدو كالإعجاب، والتصوير الدقيق إلى حد التجسيد. يتراءى لي جسم الغلام الصغير النحيف، وجسم الكلاب يشبه الغلام صغيرًا ونحيفًا، يأكلان معًا من صفيحة القمامة، عيونهما غائرة داخل عظام الجمجمة، المقلتان السوداوان بارزتان فوق البياض مشتعلتان بنار الجوع، كل منهما ينظر إلى الآخر في ألفة وصداقة، يتيمان وحيدان في مدينة القاهرة الراقدة تحت شبورة رمادية، وسماء ملبدة بالآلهة غير مبالية.
همست وديدة في أذني والعربة اللوري تدخل إلى مشارف الإسماعيلية: لازم أعرَّفك باليوزباشي رجب، ناويين نتجوز على طول أول ما يرجع من الحرب، وحشني موت يا نوال، حتبقى مفاجأة لما يشوفني، ما يعرفش إني تطوعت في كتيبة التمريض عشان أشوفه.
ثم أطبقت شفتيها في صمت، كأنما تخون الوطن، تفكر في الحب وقت الحرب، وتنتمي إلى عالم النسوة العاطلات الخاملات، لا شيء يشغلهن إلا الرِّجَال.
سمعنا دَوِيَّ الانفجارات من بعيد، أسرع السائق فوق الطريق المحاذي للسكة الحديد، لم أكن أعرف إلى أين نتجه، الظلمة كثيفة، الشفَق الأحمر تراءى من بعيد، دَوِيُّ الانفجارِ يشتد، السائق يدوس على البنزين، صوته يعلو على صوت الموتور: لازم نوصل المعسكر قبل الفجر ما يطلع. كأنما هو في سباق مع حركة الشمس حول الأرض أو الأصح حركة الأرض حول الشمس كما قال كوبيرنيكس، كوكب الشمس مركز الكون وليس الأرض، مسمار كبير في نعش الكنيسة عام ١٥٤٣، قبل مسمار داروين بثلاثة قرون ونصف، وكم من مساميرَ أخرى تعاقبت حتى اليوم، وأصبحت الشمس مجرد كوكب ضمن أربعمِائة بليون كوكب آخر في المجموعة الشمسية، تبعد عن الكوكب الأرض أربع سنوات ضوئية، أي بلايين البلايين من الكيلومترات، المسافة بين الشمس والأرض أكثر من مِائة وخمسين مليون كيلو متر تجتازها أشعة الشمس في ثماني دقائق ضوئية، أي بسرعة نصف مليون كيلومتر في الثَّانية الواحدة.
المدافع تُدَوِّي في أذني، السَّيَّارَة اللوري تتخبط فوق مطبات الطريق، الموتور يعلو فوق صوت السائق، زجاجات الدم والبلازما تتخبط وراءنا، التمورجي القابع في قاع السَّيَّارة يشير إلى السماء في فزع، فيه غارة جوية وفوق راسنا طيارة!
كان ذلك في نهاية عام ١٩٥١، كنت في العشرين من العمر، لا أعرف معنى الحرب، كنت أسمع عن المدافع والرشاشات، لم أعرف في حياتي حتى ذلك الوقت إلا رشاشة الْفِلِت، أُمسك مِقْبَضها بيدي وأحرِّكه كالمنفاخ، يتطاير رذاذ الفلت ويقتل الذباب. منذ سافر أحمد إلى القنال وأنا أرى حُلمًا يتكرر في النَّوم، أُمسك رشاشة الفِلِت وأحرك مِقْبضها، يتساقط الجنود الإنجليز إلى الأرض كالذباب الميت. في طفولتي كان يُطربني سماع صَفَّارة الإنذار تُعلن عن الغارة الجوية، ينطلق النَّاس خارجَ بيوتهم إلى المخابئ تحت الأرض، تخرج النِّساء بقمصان النَّوم والرِّجَال بلا أحذية ولا بدل ولا كرافتة. في المخبأ تذوب الفوارق بين الأغنياء والفقراء، يختلط النِّساء بالرِّجَال والبنات بالأولاد، نلعب نحن الأطفال معًا في الظلمة بقِطَع الطوب الصغيرة، نرسم فوق التراب المربعات ونلعب السيجة، حين تنطلق صَفَّارة الأمان نشعر بالحزن، تعود كل عائلة مع أطفالها وراءَ جدران بيتها، تعود التقاليد تفصل البنات عن الأولاد، تبقى البنات داخل المطبخ ويخرج الأولاد يلعبون في الشَّارع. كانت جدتي تقول: إن الله فرَّق بين البنات والأولاد، وهو الذي خلق العائلات وخلق البيوت والجدران.
لم أكن أرى الكشافات في القرية، كنت أراها في بيت جدي في القاهرة، حين تُدَوِّي صَفَّارة الإنذار أجري إلى الشرفة الواسعة المطلَّة على السماء، تتعلق عيناي بكشافات الضوء، تروح وتجيء في الكون اللانهائي، أذرعها بيضاء طويلة تمسح الظلمة من السماء، كأنما هي أذرع الله تكشف طائرات الأعداء، وترن أصوات المدافع في أذني من بعيد مثل صواريخ العيد.
توقفت العربة اللوري عند المعسكر، خيام سوداء متفرقة تتخفى تحت الشجر، عربات جيب مصفحة مركونة على جانب الطريق، عربات كارو تجرُّها الخيول أو الْحَمِير، أوعية للأكل وماء داخلَ قِرَب من جلد الماعز، شباب يرتدون بدل حرب العصابات، بدو الصحراء يجرُّون جِمالهم من فوقها الأسلحة مختفية تحت عباءات من صوف الإبل.
بدأ الشَّباب ينقلون زجاجات الدم والبلازما، رأيت رئيس المعسكر واقفًا أمام باب الخيمة، يتأمل الشَّباب ينصبون خيامهم، يحفرون خنادق تحت الأرض، الجو مشبع بالرمال والتراب. سألت أحد الشَّباب عن أحمد حلمي، لا أحد يعرف أحدًا باسمه الحقيقي، الجميع يحملون أسماء تنكرية.
من بعيد وسط الضباب على شط القنال كتلة ضخمة من السواد تنتصب في الظلمة مثل قلعة ضخمة تحرس قناة السويس، يقولون عنها معسكرات الإنجليز، قناة السويس ترتبط في خيالي الطفولي بالخديوي عباس، وديليسبس، والفلاحين يحفرون القناة من أجل الله والوطن، كالعبيد بنوا الهرم الأكبر من أجل فرعون والوطن … الكرابيج كالسياط تلسع أجسادهم، يسقطون من الإعياء ويموتون، يتطوع أبناؤهم الفقراء فداء الوطن، يتلقَّوْنَ الرصاص في صدورهم، يُستشهدون في ساحة القتال وهم يهتفون: الملك، الله، الوطن!
سمعت الشَّباب يهتفون، كل فرقة تهتف بشعار مختلف: الإخوان المسلمون يرددون لا إله إلا الله محمد رسول الله، الشيوعيون يهتفون الكفاح المسلح الكفاح المسلح يحيا الشَّعب، شباب الوفد يهتفون النحاس النحاس. تختلط أصوات الشَّباب وتذوب في الصمت، يتعالى الغبار مع ضربات المعاول في الأرض. على الضفة الأخرى للقناة أرى تلال سيناء، رمالها تشوبها حُمرة تحتَ أشعة الشمس كأنما هي غارقة في الدم. منذ التَّاريخ كانت سيناء هي البوابة الشمالية يدخل منها الغزاة، يركبون الخيول والْحَمِير والدبابات أو الطائرات. فوق الخريطة تبدو مثلثةَ الشكل، شبه جزيرة سيناء، تلال من الرمال دُفنت تحتَها أجساد الشَّباب الفقراء، لم يكن أبناء الأثرياء يذهبون إلى الحرب، يدفع الأب الفدية، مبلغًا من المال يشتري به حياة ابنه، يموت الشاب الفقير في سبيل الله والوطن.
في الليل، داخل الخيمة، همستْ وديدة في أذني: ما حدش عارف حد هنا، مش عارفة أنام يا نوال، خايفة موت نرجع من غير ما أشوفه. ثم أغمضت عينيها وراحت في النَّوم … تشبه الطفلة، شعرها أسود غزير يغطي وجهها، ترتدي قميص نوم من الكستور الأبيض فيه زهور صغيرة حمراء. فتحت عينيها ورأتني شاخصة إلى سقف الخيمة، همست في أذني: صاحية ليه يا نوال؟! اللي واخد عقلك يتهَنَّا بيه! لازم أرجع بكره يا وديدة، بابا ما يعرفش إني هنا، قلت لهم في البيت إني في مستشفى القصر العيني وعندي نوبتشية، لازم أرجع بكرة يا وديدة.
كانت المرة الأولى أكذب على أبي وأمي وأبيت خارج البيت، رتبت مع السائق أن أعود معه في العربة اللوري في الصباح. فقدت الأمل في العثور على أحمد. كل شيء هنا يبدو غريبًا، مثل الحلم المفزع. رأيت الممرضات يغسلن الجروح من الدم والصديد، في إحدى الخيام رقد شباب ينزفون الدم، فوق رءوسهم زجاجات الدم والبلازما، والخراطيم السوداء الرفيعة يجري فيها الدم من الزجاج إلى الأذرع الممدودة فوق الأرض، أحد الشَّباب لفظ النفس الأخير، دفنوه في الأرض في مقبرة بجوار الخيمة.
لم يعرف أحد كم من الفدائيين ماتوا في هذه الحرب عام ١٩٥١، لكن الأرقام نُشرت بعد ثلاثين عامًا. في عام ١٩٨١، وأنا داخلَ الزنزانة في سجن النِّساء بالقناطر الخيرية، جاءت زوبة، من عنبر المومسات تحمل أرغفة الخبز لنا، لفَّت الأرغفة الثلاثة الخاصة بي داخلَ ورقة من أوراق الصُّحف، وهمست: بالهناء والشفاء يا دكتورة نوال. كانت زوبة تهرِّب لنا بعض أوراق الصُّحف. الصحيفة تحمل تاريخ ٢٧ أكتوبر ١٩٨١؛ أتذكره لأنه تاريخ ميلادي. لم تكن إلا صفحة واحدة داخلية، فيها بعض الأخبار وخبر صغير في أسفل الصفحة يقول: في حرب ١٩٥١ قُتل من الفدائيين ما يزيد عن مِائتي فدائي. كشفت الحقائق بعد ثلاثين عامًا عن أن هذه الحرب ضد الاحتلال البريطاني هي التي مهَّدت لثورة يوليو عام ١٩٥٢، إلا أن أسماء هؤلاء الشهداء ضاعت في التَّاريخ، بعضهم حُفر اسمه على عمود من الحجر بالقرب من شط القنال، سقط الحجر مع الزمن واندثر الاسم في العدم.
كنت أرمق هؤلاء الفدائيين بعين ملؤها الحسد، وهم يسيرون برءوس مرفوعة، سلاحهم فوق كتفهم، عيونهم تلمع بالكبرياء، إنْ سقطت قنبلةٌ فوقَ الخيمة يموتون واقفين في كبرياء، وأنا أموت في فراشي راقدة مع النِّساء الممرضات. لم يكن للمرأة أن تنال شرف الموت وهي تقاتل، كانت تموت وهي راقدة في فراشها، أو وهي تحمل بُراز الفدائيين في الجردل، أو تغسل جروحهم من الدم والصديد.
من بعيد كنت أرمق معسكرات الإنجليز، ينتابني القلق أو الخوف من المجهول، هل أعيش حتى أرى هذه المعسكرات حُطامًا؟! إنها تبدو مثل القلعة المحصَّنة، مثل الأبراج العالية تسكنها كائنات غير بشرية، مفترسة ومخيفة، يتراقص من فوقها العلم البريطاني، مثل طائر خرافي من الطيور الجارحة، خطوطه حمراء بلون الدم تتقاطع مع خطوط سوداء بلون الموت.
بعد أربعة عشر عامًا جئت إلى الإسماعيلية بعد حرب ١٩٦٧، تغير شكل العلم فوق معسكرات الأعداء، أصبح يحمل نجمة داود، يرفرف في الظلمة، والعربة اللوري تشق الطريق ما بين الإسماعيلية وبورسعيد.
تحت ظلمة الليل كانت الصحراء تتلاشى والسماء، كل شيء في الكون يتساوى في الظلام، أعلام الدول ومعسكرات الأعداء، كلها تتساوى وتذوب في السواد، عيناي مفتوحتان لا أنام، وديدة راحت في النَّوم تحلم بعودة خطيبها من الحرب وليلة الزفاف. أخشى أن أسقط في النَّوم ولا أصحو في الصباح، أخشى أن تسقط قنبلة وأموت في الإسماعيلية، يكتشف أبي وأمي أنني كذبت عليهما وقضيت الليلة في الإسماعيلية وليس في نوبتشية القصر العيني، كان الموت أهون في نظري من انكشاف الكذب.
خرجت من الخيمة أتمشى في الصحراء، الشفق الأحمر يَسري في صدري مع نسمة الفجر، أستشعر الحنين للحب، أمشي نحو عين الماء، أتصور أنني سوف ألتقي بأحمد هناك، ربما نهض من النَّوم ليشرب، ربما يدرك أنني هنا في الإسماعيلية، في الخيمة المجاورة له، وأنني أنهض وأمشي إلى عين الماء، كأن بيننا موعدًا وأنا أمشي إليه، وهو يمشي إليَّ، نقطتان صغيرتان في الكون تمشيان نحو بعضهما، نجمان مؤرَّقان في سماء الليل والكون كله نائم. لم يكن أحد عند عين الماء، أحسست خيبة الأمل، كأنما أحمد خان العهد وتخلف عن الموعد. غسلت وجهي وذراعي بالماء البارد، ملأت كفي بالماء وشربت، ليس له طعم ماء النيل، له نكهة معدنية، كأنما أضيفت إليه مادة كيمائية، هل سمم الأعداء الماء؟! كنت أسمع من البدو أن الأعداء يسممون عيون الماء والآبار. من بعيد رأيت البدو يسيرون وهم يقودون الحمير أو الجمال، نصبوا خيامهم وانضموا إلى كتائب الفدائيين، الفلاحون أيضًا جاءوا بفئوسهم، وقطَّاع الطرق جاءوا بالأسلحة. والفلاحات أيضًا، منهن امرأة فارعة القامة تحمل بندقية فوق كتفها يسمونها أم الفدائيين، ترتدي جلبابًا واسعًا أسود، تربط رأسها بحزام من جلد الماعز، قدماها كبيرتان سمراوان، كعبان مشققان، تشبه جدتي الفلاحة أم أبي، خطوتها واسعة فوق الأرض، خفيفة الجسم، قفزاتها سريعة كوثبات الفهد.
هنا وهناك بركت الجمال والحمير، راحت في ما يشبه النُّعاس، والحصان الأبيض يركبه رئيس المعسكر، أهداه إليه أحد الأعراب من سيناء، تلال سيناء وصخورها منتصبة في غضب، كأنما تريد الانقضاض على معسكرات الأعداء.
«الله أكبر ولله الحمد، هذه التلال يا إخواني خلقها الله لتحميَ المسلمين من غزوات الكفرة!» هذا هو صوت أحد الفدائيين في كتيبة الإخوان المسلمين، صوته ينطلق مع أذان الفجر. وصاح شاب من كتيبة الوفد أو الشيوعيين «والحماية العسكرية هنا ليه يا أخ إذا كانت التلال دي حاميانا؟!» نشب حوار أشبه بالمعركة بين الشَّباب، كادت تُستخدم فيه الأيدي والبنادق. لم يفُضَّه إلا حضور رئيس المعسكر، عضلاته مشدودة، علامة القيادة، سلاحه يُطل من جيبه، يرتدي كاسكيت يحجب نصف وجهه العلوي، ذقنه مربعة عريضة، راح يتمشى بعد أن فض العراك بخطوة الأسد الهادئ الواثق من نفسه، يرفع وجهه نحو السماء، عيناه تشردان في الأفق نحو معسكرات الأعداء، ربما كان يتخيلها حُطامًا، يتخيل نفسه بطل النصر، أينتصر حقًّا على الإنجليز؟! وإن انتصر وأصبح بطلًا لمن يدين بهذه البطولة؟! لهؤلاء الشَّباب الفدائيين أم للإنجليز الأعداء؟!
أغمض عينيه كأنما نام وهو واقف، ثم أطرق إلى الأرض، ربما اجتاحه شعور بالإثم وتأنيب الضمير، سؤال يدور في عقله، أيمكن أن يكون بطلًا دون وجود الإنجليز الأعداء؟! أحرجه السؤال فاستدار، لم أعد أرى إلا ظهره، وارتفع صوت الفدائي يمزق الصمت: يا إخواني، إن جبل سيناء معنا ضد الإنجليز؛ فقد ظهر الله فوق هذا الجبل لسيدنا موسى عليه السلام، اصطفاه الله من كل جبال العالم ليهبط فوقه، وهناك أيضًا معبد سانت كاترين، والطريق الذي سارت فيه السَّيِّدة مريم مع سيدنا عيسى عليه السلام ويوسف النجار هاربين إلى مصر، هذا يا إخواني جبلٌ مقدَّس، الرمال فيه مقدَّسة، التلال والصخور تتربص بأعدائنا الإنجليز، وإذا كان الجبل معنا فإن الله معنا والنصر معنا، وسوف تصبح هذه المعسكرات حُطامًا بإذن الله، نُزِيلها من الوجود، ونبني مكانَها جامعًا ومئذنة يرتفع من فوقها صوت الحق، الله أكبر الله أكبر!
دبَّ الحماس في الشَّباب، هتف بعضهم: الله أكبر. فريق آخر راح يهتف: يحيا كفاح الشَّعب المسلح! وانطلقت أصوات أخرى تهتف: النحَّاس النحَّاس! وارتفع شعار الهلال والصليب في الجو، مع راية عليها سيفان يحملان المصحف الشريف، وراية أخرى مرسوم عليها المطرقة والمنجل، وعلم مصر يرفعه بعض الشَّباب.
كان رئيس المعسكر واقفًا من بعيد يتطلع إليهم، نصف وجهه العلوي يختفي تحت الكاسكيت، عضلات فمه مشدودة، يمسك ذقنه المربعة بأصابع متوترة، ربما كان يفكر أن معركته الأولى هي إخضاع هذه الفرق المتناحرة، ثم بعد ذلك يأتي إخضاع الإنجليز، أيكون إخضاع الإنجليز أسهل؟! هؤلاء الشَّباب الفدائيون ليسوا جنودًا من أبناء الفلاحين الفقراء الجهلة، إنهم طلبة في الجامعات، رءوسهم محشوَّة بالأفكار الجديدة: حرية الرأي، الاستقلال، الدِّيموقراطيَّة، العدالة الاجتماعية. هل تنفع هذه الأفكار في الحرب؟! الحرب ليس فيها إلا فكرة واحدة: الطاعة العمياء للأوامر وقتل العدو أينما كان!
كلما فرغت الدماغ من الأفكار أصبح الجندي أفضل.
كان واقفًا من بعيد مطرق الرَّأس كأنما يفكر في هذه العبارة، الغبار الرَّمادي الأصفر يغطي الكون، العواصف الصحراوية تهب يعقبها نُباح الكلاب، صوت طلقات الرصاص من بعيد، أهي بنادق صيد؟! هل خرج الإنجليز في رحلة للصيد في الصحراء أم خرجوا مع كلابهم في حملة استكشاف أوكار الفدائيين؟! كلابهم لديها جهاز عصبي حساس يعرف رائحة العدو، هذه الرياح الصحراوية قد تحمل رائحة الفدائيين إلى أنوف الكلاب، الرياح قادمة من ناحية الجبل، أينقلب الجبل ضد المسلمين ويصبح مع الإنجليز؟!
كان السؤال يدور في رأسي وأنا واقفة أنتظر سائق اللوري، أتلفت حولي في دهشة لا أكاد أعرف من أين جئت وإلى أين أمضي؟! الأرض مفروشة داخل الخيمة بقطع من فروة الخرفان، سرير من الصاج ترقد فوقَه وديدة، فوقَها كليم من الصوف، طشت نُحاس وإبريق ماء، تحت وسادتها المصحف الكريم، آية منقوشة تتدلى عند باب الخيمة إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ، مقعد من القش المجدول، كنبة من البامبوه أو عيدان البوص المشغولة بأيدي النِّساء من البدو، حصيرة فوق الأرض من القش أو الجريد.
كانت وديدة راقدة في سريرها تُحَملق في الظلمة، تنظر إلى أصابع يديها، أصابع شاحبة رفيعة تهتز في الضوء الشاحب، ترسم على الجدار ظلالًا سوداء على شكل أصابع، عيناها شاخصتان مفتوحتان لا يطرف لهما جفن. سرت فوق جسدي قشعريرة، «وديدة!» ناديتها بصوت هامس، لم تتحرك شفتاها، تصورت أنها ماتت في هذا الوضع، يدها اليمنى فوق صدرها، صغيرة ناعمة كأصابع الطفلة، خاتم الخطوبة يلتف حول إصبعها، يشع في الظلمة ضوءًا خافتًا ذهبي اللون.
بعد عام واحد من هذا اليوم كنت أمشي في فناء مستشفى قصر العيني الجديد، رأيت وديدة تمشي منحنية الظهر ترتدي ملابس الحداد السوداء، تصورت أن خطيبها قُتل في الحرب؛ لكنها أجهشت بالبكاء، وهمست في أذني: يا ريته كان مات في الحرب على الأقل كنت أفتكره بالخير … مسحت دموعها وصمتت، تصورت أن خطيبها تعرض لخيبة الأمل مثل أحمد حلمي، يحقن نفسه بالسم لينسى الخيانة، الحرب مثل وابور الطحين يا وديدة، إن لم تقتل الجسد قتلت الروح، يصبح الإنسان ميتًا وإن عاش.
أجهشت وديدة بالبكاء المكتوم، أنفاسها تتقطع مع كلماتها وهي واقفة في فناء المستشفى: موت الضمير أفظع شيء يا نوال، والرَّجل الخائن للحب يخون الوطن أيضًا. كان خطيبها من البوليس السياسي، تنكر في زي الفدائيين، عاد من القنال سرًّا قبل حريق القاهرة ٢٦ يناير ١٩٥٢. اختفى عن خطيبته وديدة ستة شهور حتى قيام ثورة ضباط الجيش يوم ٢٣ يوليو، ظهر اسمه في الصُّحف بعد بضعة شهور، فتحت وديدة الجريدة ذات صباح، رأت صورته وخبرًا عن حفل زفافه إلى ابنة أحد رجال الثورة، كان الحفل ليلة عيد رأس السنة الجديدة أو يناير ١٩٥٣. ارتدت وديدة ملابس الحداد السوداء، ابتلعت مِائة قرص لونه أسود مع كوب من الماء، تمددت في سريرها داخل عنبر الممرضات، أنقذوها في المستشفى بغسيل سريع للمعدة. أجهشت بالبكاء حين عادت إلى الحياة، حاولت الانتحار مرة ثانية، أنقذها من الموت طبيب جديد في سنة الامتياز، وقعت في حبه وكفَّت عن الانتحار.
بعد عشرة أعوام وأنا أمشي داخلَ حديقة الحيوان التقيت أحمد حلمي وجهًا لوجه، كان ذلك في يوم حارٍّ من صيف عام ١٩٦٣، كنت أهبط في الصباح الباكر من بيتي في شارع مراد، أمشي مسافة دقيقة أو دقيقتين لأصبح في شارع الجيزة، أمام باب حديقة الحيوان. لم أكن أدفع رسوم الدخول، أصدر الطبيب البيطري للحديقة أمرًا بإعفائي من الرسوم، قلت له: إنني أكتب رواية طويلة جديدة، وأن الوحي لا يهبط عليَّ إلا وأنا أتمشى في ممرات الحديقة. كان رسم الدخول خمسة قروش فقط، ليست لها قيمة الآن، كانت تبدو لي منذ سبعة وثلاثين عامًا مبلغًا كبيرًا لا يمكنني دفعه كلَّ صباح، وكان الطبيب البيطري يتابع ما أنشره من قصص ومقالات.
– وإيه عنوان الرِّوَاية الجديدة يا دكتورة نوال؟
– الباحثة عن الحب يا دكتور.
لمعت عيناه الضيقتان لحظة ثم انطفأ البريق، كأنما عادت إلى ذاكرته صورة من الماضي البعيد، كان رجلًا قصيرًا ممتلئ الجسم في الخمسين، يبدو لي عجوزًا وأنا في مرحلة الشَّباب. كنت أقف أمام جبلاية القرود، تلفَّت حوله في دهشة يتأمل وجوه الحيوانات، كان الشمبانزي جالسًا مربعًا فوق جذع شجرة يشبه الإنسان. تركته واقفًا يتأمله وسِرْت إلى حديقة الشاي، هناك كانت المنضدة التي أجلس إليها كلَّ يوم وأكتب الرِّوَاية، أتسلَّى بمراقبة البط في البحيرة الصغيرة، يسبح تحت أشعة الشمس الذهبية، يفرد أجنحته ويطير فوق سطح الماء، ينفض عن ريشه الرذاذ، تتناثر من حوله القطرات اللؤلؤية، تشع ضوءًا مثل ذرات تتساقط من الشمس.
كنت أكتب الفصل الأخير من الرِّوَاية، كانت البطلة قد أعلنت لبطل القصة أن ما بينهما قد انتهى، وسألها بدهشة كيف ينتهي الحب؟! قالت: الحب ينتهي مثل زهرة تموت ولا تعود، مثل فراشة تطير فوق الزرع يقبض عليها الأطفال وتموت في أيديهم. سألها: هل في حياتك رجل آخر؟ قالت: ليس في حياتي رجل آخر، لكن في حياتي نساء ورجال كثيرون، بعد أن خرجت من خندق الحب إلى الحياة الواسعة.
رفعت وجهي من فوق الأوراق، كانت الشمس قد مالت نحو الغرب، أسراب البط عادت إلى بيوتها، رأيت إلى جواري شخصًا واقفًا، كان يرتدي قميصًا أبيض، ونظارة سوداء تُخفي عينيه، ابتسم قليلًا، تذكَّرته على الفور.
– أهلًا يا أحمد.
– إزيك يا نوال!
لم تعد كلمة نوال بصوته تهزني، لا شيء يدق تحت ضلوعي، لعب الزمن دوره في نسيان الألم والحزن والفرح والحب، قميصه الأبيض أصبح مثل أي قميص، نظارته السوداء مثل أي نظارة سوداء، واسمه أحمد حلمي أنطقه كأي اسم عادي.
جلس معي بعض الوقت قبل أن ينصرف، طلبت له كوب شاي، قال: أتذكرين حين جلسنا هنا في أول لقاء لنا منذ اثني عشر عامًا؟!
كنت أذكر اللقاء الأول، لم تعد الذكرى تؤلمني أو تفرحني، جلست معه أشرب الشاي كما أجلس مع أي زميل أو صديق، أتكلم معه بحرية وسهولة، أصبحت العلاقة بيننا أكثر إنسانية.
لم تعد علاقة بين رجل وامرأة، تحرَّرنا من ثقل التَّاريخ والإرث العبودي القديم، جلست معه ودار الحوار بيننا أجمل مما كان، نكهة الشاي أصبحت أحلى مما كانت، أصبح أحمد إنسانًا بعد أن كفَّ عن أن يكونَ زوجي.