الطيران في الحلم
من نافذة الطائرة أُطل على الغابة الصغيرة التي يُسمونها غابة ديوك، عصفت بها رياح المحيط الأطلنطي والهوريكين، خلع عنها الشتاء أوراقها، أشجار البَلُّوط تلمع عارية تحت الشمس، رءوسها حليقة منتظمة في صفوف، كرءوس الجنود في المحافل والمارشات العسكرية. أشجار الأرز مثلثة الرَّأس تومض أوراقها بدوائر الضوء، الثالوث المقدس في عيد المسيح، يسمونه الكريسماس، نحن في اليوم الأخير من الشهر الأخير من عام ١٩٩٦، وأنا في طريق العودة إلى الوطن بعد سنوات المنفى، أشجار الصَّنَوْبَر بسيقانها النحيفة الرشيقة تتمايل مع الهواء مثل راقصات الباليه. من وراء النافذة الصغيرة المستديرة، لوَّحت بيدي أودعهم، أربع من طالباتي واثنان من الطلبة، جاءوا نيابة عن الفصل إلى المطار، عيونهم تلمع فيها الابتسامات والدموع، ينادونني باسم دكتر ساداوي، كريس أصغرهم سنًّا، عمره عشرون عامًا، عيناه زرقاوان بلون مياه المحيط، أكثرهم انتباهًا في فصل الإبداع والتمرد، طويل ممشوق، بشرته بيضاء ملوحة بالشمس، في حفل الوداع بالأمس عزف أغنية على الجيتار من تأليفه وتلحينه:
إلى جوار كريس كانت تجلس كارولين، تتريض معي أحيانًا في الغابة، تفضل الرسم على الكتابة، في طفولتها كانت مثلي تطير في الحلم، لم تحلم أختها بالطيران أبدًا. سألتني كارولين: لماذا يعجِز بعض النَّاس عن الطيران في النَّوم؟! أهدتني لوحة رَسمت فيها نفسها محَلِّقة في الجو، تحرك ذراعيها في الهواء وتطير كما كنت أفعل في أحلامي بدون أجنحة. وهي فتاة أميركية وُلِدَتْ في مدينة نيويورك، عيناها زرقاوان، نفاذتان، بشرتها سمراء، ولدتها أمها في حي هارلم الفقير، أبوها أسود اللون جنَّدوه في حرب فيتنام ولم يَعُد، حصلت على منحة تفوق وجاءت إلى جامعة ديوك تدرس الرسم والإبداع، تشتغل وأمها في هارلم، تشتغل عاملة في مصنع للبلاستيك، تنفق على البيت وأطفالها الأربعة.
قالت كارولين وهي تودِّعني: سأدخر ثمن التذكرة إلى القاهرة وأزورك يا نوال، أصبحتْ تناديني باسمي، رغم فارق العمر نتبادل الحديث كأنما من عمر واحد، في طفولتها تذهب مع أمها إلى الكنيسة، كانت في العاشرة من عمرها، سرقت من زميلة لها في المدرسة قلمًا ملونًا، كانت تحب الرسم ولم تكن تملك ثمن القلم الملون. سمعت في الكنيسة أن السرقة حرام، وأن الاعتراف ضروري لمسح الذنوب، تسللت من وراء أمها وذهبت إلى القسيس، طلب منها أن تركع وتعترف، أغمضت عينها واعترفت بالسرقة، ربت القسيس بيده على كتفها وقال: غفر الله لك يا كارولين. ثم امتدت يده من كتفها إلى صدرها وبطنها، همس في أذنها: لا تخافي ولا تصرخي أنت فتاة مؤمنة يحبها الله. لكن كارولين صرخت من الألم، عرفت أمها ما حدث، تكتمت الخبر، خرجت كارولين من الحادثة سليمة، لم تحمل بالمسيح مثل العذراء مريم، وفقدت إيمانها بالله والكتاب المقدس.
أول يوم دخلت إلى الفصل سألتُ الطالبات والطلبة: لماذا اخترتم هذا الفصل بالذات؟ قال كريس: أنا أدرس الموسيقى، كنت متمردًا منذ الطفولة، أريد أن أعرف العلاقة بين التمرد والإبداع. وقالت كارولين: أنا أدرس الرسم، في الطفولة كنت أحلم بالطيران، أختي لم تكن تطير في الحلم، أريد أن أعرف لماذا يعجِز بعض النَّاس عن الطيران في الحلم. وقالت طالبة هندية اسمها مايا: قرأت روايتك «فردوس»، وتغيرت حياتي، فوجئت باسمك ضمن الأستاذات في جامعة ديوك، جئت إلى هنا لأكون طالبة من فصلك. بشرتها سمراء، عيناها سوداوان يكسوهما البريق، شعرها أسود غزير، في نهاية العام الدراسي بدأت تكتب رواية طويلة قبل أن تعود إلى الهند.
كان شريف قد سبقني في السفر إلى القاهرة، قال لي: يمكننا العودة إلى الوطن وقد زال الخطر إلى حد كبير، جاءتنا رسائل تقول إن قائمة الموت لم تعد هناك والأحوال في مصر أكثر هدوءًا. سافر شريف، وبقيت في جامعة ديوك ثلاثة شهور أخرى حتى انتهى العام الدراسي.
الطائرة تحلِّق فوقَ المحيط الأطلسي متجهة شمالًا نحو نيويورك، أول مرة ركبت الطائرة منذ سبعة وثلاثين عامًا، منذ الطفولة كان هناك حلم يتكرر أنني أطير في الجو، أحرك ذراعيَّ كالجناحين وأشعر بجسمي ينفصل عن الأرض ويحلق في السماء، كأنما أمتطي جوادًا له جناحان، أخترق السحب، أجدني في عوالم أخرى وبلاد لا أعرفها، وأتلفَّت حولي في ذعر، أرى الأرض بعيدة راقدة في الظلمة، ومصباح صغير في نافذة وطفلة مؤرقة في الليل ترمق الطائرة في السماء، تلمع في الْخِضَمِّ الأسود كالنجمة.
تشهق جدتي حين أحكي لها الحلم.
– هذه ليست أحلام البنات.
– وماذا تحلم البنات يا جدتي؟
– يحلمن بالعريس وفستان الزفاف.
لكني لم أحلم بالعريس أو فستان الزفاف، وفي كل عيد يشتري لي أبي فستانًا جديدًا، ويشتري لأخي طائرة صغيرة لها زمبلك. كان أخي يلوي الزمبلك بأصابعه حتى يتكسر، يقذف الطائرة في الهواء، لكنها لا تطير، تسقط إلى الأرض، كنت أجلس إلى جوار حُطام الطائرة ثقيلة القلب، أجمع أشلاءها وأُعيد تركيبها لتصبح طائرة من جديد، أركب الزمبلك مكانَه أسفل البطن، أحركه ناحية اليمين دورة واحدة أو دورتين، فجأة تتحرك الطائرة وتحلق في الغرفة، أصفِّق بيديَّ الاثنتين وأصرخ من الفرح، تسمعني جدتي أو إحدى النسوة من عائلة أمي أو أبي، أرى تكشيرة الغضب فوق وجهها، تشد الطائرة من يدي وتلقي بها على الأرض ثم تصرخ: تعالي المطبخ لا وقت للعب!
كنت أفضل اللعب بالطائرة على تقشير البصل والثوم، وأهمس لأمي بأحلامي، كانت أمي في طفولتي تحلم بالطيران مثلي، لكنهم أمسكوها كما تُمْسَك الفرخة قبل الذبح، وساقوها إلى حفل زفاف تحت إيقاع الطبول.
منذ ركبت الطائرة لأول مرة عام ١٩٦٣، لم أتوقف عن السفر، سبعة وثلاثون عامًا رأيت فيها بلاد العالم، كتبت الجزء الأول من رحلاتي في كتاب صدر منذ خمسة عشر عامًا، لم أنشر الجزء الثَّاني بعد، ربما أفعل ذلك بعد الانتهاء من هذا الكتاب الجديد.
الطائرة تحلق بي فوق المحيط الأطلسي متجهة نحو الجنوب بعد الهبوط في نيويورك جاءت المضيفة الأميركية تجرُّ العربة عليها المشروبات، انحنت باسمةً سألتني: ماذا تشربين يا سيدتي؟ قلت: جين تونيك. تذكرت صديقتي بطة منذ ثمانية وثلاثين عامًا حين سمعت منها لأول مرة كلمة «جين تونيك»، كان ذلك بعد موت أبي في فبراير ١٩٥٩، أصبح الجين تونيك مشروبي المفضل، يساعدني قليلًا على الاسترخاء، أنسى قليلًا مشاكل الحياة، أتحرر من مخاوفي الراقدة في قشرة المخ، مخاوف صغيرة مكبوتة منذ الطفولة. رغم عشقي للطيران كنت أخاف من ركوب الطائرة، أراها تسقط وتتحول إلى حُطام. اهتزت الطائرة قليلًا وأنا أقول «جين تونيك»، سمعت الصوت ينبعث من الميكروفون يقول: اربطوا الأحزمة، نمر ببعض المطبَّات الهوائية. كم مرة سمعت هذا النداء خلال رحلاتي في العالم على مدى سبعة وثلاثين عامًا، مئات المرات! آلاف المرات! وفي كل مرة لا يحدث شيء، لا تسقط الطائرة؛ مع ذلك ما إن أسمع النداء حتى أتصورَ أن الطائرة سوف تسقط حتمًا هذه المرة.
أخذت كأسين من الجين تونيك، تبعتهما بزجاجة نبيذ أحمر بوردو، سرى الدفء في أوصالي، شعرت بالنشوة، شحنة من الحياة تدفقت في عقلي وجسدي، تلاشى الخوف من سقوط الطائرة، جاءت المضيفة الأمريكية مرة أخرى بالمشروبات، كانت ابتسامتها مشرقة كالشمس، بدت أجمل امرأة رأيتها في حياتي، قالت بصوت رقيق: ماذا تشربين قبل العشاء يا سيدتي الجميلة؟ رنَّت كلمة «جميلة» في أذني كالموسيقى، منذ الطفولة لم يكن أحد من عائلة أمي أو أبي يقول عني «جميلة»، كنت أسمع أحيانًا كلمة «ذكية»، لكن كلمة «جميلة» لم يكن ينطقها أحد، إلا في وصف واحدة من أخواتي اللاتي ورثن بشرة أمي البيضاء، وأصابعها الناعمة البضة، واستدارات جسمها الممتلئ وعينيها العسليتين الوادعتين، وصوتها الرقيق. كانت هذه هي مقاييس الجمال الأنثوي، أما أنا فقد ورثت بشرة أبي السمراء، والقامة الطويلة النحيفة، العينين السوداوين المرفوعتين لا يطرف لهما جفن، «تندب فيهما رصاصة» بلغة جدتي والدة أمي.
في المقعد المجاور لي بالطائرة كان هناك رجل، صعد من نيويورك لم أنتبه إليه إلا بعد الجين تونيك والنبيذ الأحمر، كنا يرشف النبيذ على مهل مع حبات من الفستق، يقرأ في جريدة الجارديان، ملامحه من الجانب تبدو مألوفة، هذا الأنف المرتفع في كبرياء يشبه أنف أبي، هذه الجبهة العريضة تشبه جبهة شريف، هذا الشعر الأبيض الغزير أراه في المرآة كل يوم، بشرته مزيج من السمرة والحمرة، رغم الخطوط الغائرة قليلًا حول الفم والأنف تبدو بشرته مشدودة بلا تجاعيد، هذا الوجه رأيته من قبل، ربما فوق الشَّاشة، يكاد يشبه جريجوري بيك، هذه الوسامة الطبيعية غير الذكورية، هذا المزيج من الشَّباب والكهولة والطفولة، الجسم القوي الممشوق مع بياض الشعر واستقرار الملامح، عيناه يكسوهما بريق أشبه بالجنون وهدوء مثل العقلاء والحكماء من الفلاسفة في التَّاريخ، مزيج عجيب! لا أدري أهي ملامحه الحقيقية، أم هو خيالي الجامح وأنا أطير في السماء أرشف الجين تونك والنبيذ الأحمر؟!
رأيته يرمقني بطرف عينه، تظاهرت أنني لا أراه، ربما كان يتأمل شعري الأبيض الغزير مع بشرتي السمراء الملوَّحة بالشمس، ربما لمح البريق الأسود في عيني وأنا أبتسم للمضيفة وأقول: زجاجة أخرى من النبيذ وقليل من الفستق يا سيدتي. ابتسمت المضيفة ووضعت أمامي زجاجة البوردو وصحنًا مليئًا بالفستق والبندق، سمعت صوت أسناني تقرقش بشهية الطفلة، كنت جائعة، أتشمم رائحة العشاء من غرفة الأكل والمضيفة ترص الصواني فوق العربة، جاءني صوته بعد قليل، سمعته بوضوح رغم أزيز الطائرة: إلى أين أنت ذاهبة؟
– إلى القاهرة، وأنت؟
– إلى لندن.
– هل أنتِ إحدى نجمات السينما، ملامحك مألوفة تمامًا، كأنما رأيتك فوق الشَّاشة، لا أذكر اسم الفيلم ولا المخرج، أهو فيليني أو ستانلي كوبريك؟
ضحكت بصوت لم أسمعه بأذني منذ تسعة وثلاثين عامًا كان ذلك في صيف عام ١٩٥٩، بعد موت أبي بخمسة شهور، قرأ المخرج صلاح أبو سيف روايتي «مذكرات طبيبة»، جاءني في زيارة إلى البيت، كان يريد إخراج الرِّوَاية كفيلم سينمائي، ثم قال لي قبل أن ينصرف: إيه رأيك تمثلي إنت دور الدُّكتورة في الفيلم؟!
ضحكت يومَها وقلت: لا يمكن يا أستاذ صلاح. ليه يا دكتورة نوال؟ عندك وجه فوتوجينيك وعندك موهبة كمان … قلت: موهبة في الكتابة وليس في التمثيل. قال صلاح أبو سيف: الموهبة الفنية هي الموهبة، في الكتابة، في الموسيقى، في التمثيل، على العموم فكري في الموضوع، حاتصل بيكي بالتليفون بعد أسبوع.
كانت مواعيد صلاح أبو سيف دقيقة، جاءني صوته بعد أسبوع بالضبط يسألني عبر الأسلاك: رأيك إيه يا دكتورة نوال؟
– رأيي إن الرقابة حترفض الفيلم.
– أيوه، لكن ممكن نغير بعض المشاهد في السيناريو، كل المخرجين بيعملوا كده.
– لكن، إذا غيرنا حاجة في الرِّوَاية حتبقى رواية تانية وليست مذكرات طبيبة.
– يمكن أقدر أفوت الرِّوَاية من الرقابة، لكن قررتِ إيه بخصوص التمثيل؟
خلال ذلك الأسبوع أخذتُ رأي الصديقات بطة وسامية وصفية، ضحكت بطة وقالت: خذيني معك يا نوال طول عمري أحلم إني أكون نجمة سينمائية. ومطت سامية بوزها في وجهي وقالت: تمثيل إيه وكلام فارغ إيه يا نوال … دي حاجات غير محترمة في بلادنا. وقالت صفية: أنا متأكدة إن الرقابة حترفض الرِّوَاية، وتبقى المشكلة محلولة.
كان ذلك في يوليو ١٩٥٩، مصر تتأرجح بين اليسار واليمين والوسط والإخوان المسلمين، أعوان عبد الناصر يضربون أي رأي لا يَدِين بالولاء والطاعة، والرقابة على الكتب والأفلام والصُّحف وكل شيء. رفضت الرقابة رواية مذكرات طبيبة. حاول صلاح أبو سيف مرة أخرى بعد عامين، لم ينجح في الحصول على الموافقة. حاول مرة ثالثة عام ١٩٦٦، ومرة رابعة عام ١٩٧٢، ثم سمعت صوته اليائس عبر الأسلاك يقول: المشكلة ليست في الرِّوَاية يا دكتورة، المشكلة في اسم نوال السعداوي.
– ما له الاسم يا أستاذ صلاح؟!
– بيقولوا عليكي شيوعية.
كانت المضيفة قد جاءت بالعربة عليها صواني الطعام، سألتني: سمك أم لحم البقر أم فراخ؟ تحيرت لحظة وقلت: ما رأيك أنتِ؟ ابتسمت وقالت: كله لذيذ يا سيدتي. ضحكت وقلت: هاتي كله! ضحك الشاب الكهل الشبيه بجريجوري بيك الجالس إلى جواري وقال للمضيفة: أظن أن لحم البقر الأكثر لذة يا سيدتي.
– لماذا يا سيدي؟
– لأنه مريض بالجنون.
أطلقت المضيفة ضحكة عالية متحررة من قيود الأرض، ووضعت أمامَه طاجنًا ملتهبًا خارجًا لتوِّه من الفرن، تفوح منه رائحة اللحم المشوي والبازلاء الخضراء، لم أكن بهذه الجرأة لأمرض بجنون البقر، رغم الجين تونيك والنبيذ الأحمر كانت خلية في عقلي لا تزال واعية تمامًا، خاضعة لقيود الأرض والمنطق، تؤكد لي أن السمك المشوي أو الفراخ المشوية أفضل للصحة من اللحوم الحمراء. توقفت عن أكل اللحم الأحمر منذ عامين؛ بسبب ارتفاع الكوليسترول في الدم، وبسبب ما أقرأه في الصُّحف الأمريكية عن مرض جنون البقر في بريطانيا. كان جريجوري بيك يلتهم طاحن اللحم بشهية الأطفال، أسنانه بيضاء حادة مثل أسنان الذئب، عيناه تلمعان بلون السماء الأزرق تشوبه خضرة الزرع.
– هل قال لك أحد من قبل أنكِ تشبهين صوفيا لورين؟!
– وهل قال لك أحد من قبل أنك تشبه جريجوري بيك؟!
ضحكنا طويلًا وجاءت المضيفة تجر العربة عليها زجاجات الليكور الصغيرة، أنواع من المشروبات المركزة التي يشربها الأثرياء بعد وجبات الطعام كنوع من مسك الختام، أخذ زجاجة صغيرة من الكونياك «ديمي مارتن»، وأخذت أنا زجاجة من الليكور، له نكهة البرتقال، اسمه «كوانترو».
دار بيننا حوار طويل، طوال المسافة ما بين نيويورك ولندن، سبع ساعات ونصف ساعة نتحاور معًا دون انقطاع، نام الركاب جميعًا في الطائرة، إلا هو وأنا، شحنة من الحياة والسعادة تغمرني من قمة الرَّأس حتى بطن القدمين، حالة من الحالات لم أعِشْها منذ كنت في العاشرة من العمر، تشبه الطيران في الحلم، أرمق جناح الطائرة الفولاذي الأسود يشق السحب البيضاء كأنما هو خيال، أو مشهد في فيلم سينمائي، وأنا ألعب دور صوفيا لورين، ولماذا صوفيا لورين بالذات؟ في أول الشَّباب حين كنت طالبة بالسنة الأولى بالجامعة كان بعض الطلبة ينتظرونني أمام مدخل الكلية، أسمع أحدهم يقول: سامية جمال جت أهه! صديقتي بطة كانت تقول إنني أُشبه إستر ويليامز، لكن صفية تقول إنني أشبه صوفيا لورين، أما سامية فكانت تراني عاطلة من الجمال، إلا العينين. فقط عيناك يا نوال، والباقي كله لا شيء، صحراء جرداء. تمط بوزها إلى الأمام وهي تنطق الكلمتين: صحراء جرداء.
تكلمنا سبع ساعات ونصفًا دون أن أسألَه أو يسألَني عن اسم أبي أو جدي، أو جنسيتي أو ديني أو قبيلتي أو عائلتي أو أي شيء آخر من هذا القبيل. بدت كل هذه الأشياء غير ضرورية، المكتوبة في جواز السفر، وما يسمونها عناصر الهوية أو الشَّخصيَّة، بدت في تلك اللحظة كأنما هي أغطية، مجرد أغطية، تُخفي حقيقة الإنسان أكثر مما تظهرها.
وكأنما جزء من الحقيقة بدأ يظهر فوق السطح، مثل جبل الثلج تحت الماء، يظهر بالتدريج مع يقظة ما يسمونه اللاوعي، أو على الأصح غياب الوعي، ربما بسبب الارتفاع الشاهق فوق كوكب الأرض واكتشاف الكواكب الأخرى، أو ربما التغيير الكيميائي داخل خلايا المخ إثر النبيذ والجين تونيك والكوانترو.
– يبدو أنكِ سافرتِ كثيرًا في بلاد العالم.
– وأنتَ أيضًا؟
– سافرت إلى كل بلاد العالم ما عدا البلاد العربية وإسرائيل.
– لماذا؟
– لأني غاضب من حكومة إسرائيل ومن الحكومات العربية، كنت أحد المسئولين في الأمم المتحدة عما يسمونه مشكلة الشرق الأوسط، ثم قدمت استقالتي.
– قدمت استقالتك من الأمم المتحدة؟!
– منذ ثلاثة أيام فقط في اجتماع نيويورك الأخير.
فرد ذراعيه عن آخرهما وملأ صدره بشهيق عميق أعقبه بزفير طويل، وقال: أخيرًا تحررت من سجن الوظيفة بالأمم المتحدة بعد ثلاثين عامًا، عشت ثلاثين عامًا كالسجين، أسيرًا للقوى الدولية ومحكمة العدل ومجلس الأمن، كنت أفكر كلَّ يوم في الاستقالة، لكني لم أكن أملك حريتي، كنت أسيرًا لمؤسسة أخرى داخلَ البيت.
حرَكَته وهو يفرد ذراعيه عن آخرهما ويقول «أخيرًا تحررت من سجن الوظيفة» يكاد يشبه أبي حين فرد ذراعيه عن آخرهما بعد أن أحالوه إلى المعاش وصاح بعد أن أخذ شهيقًا عميقًا أعقبه بزفير طويل: أخيرًا تحررت بعد ثلاث وثلاثين سنة، كنت رهين المحبسين الوظيفة الحكومية وسرير الزَّوجية.
– هل أنت متزوجة؟
– نعم.
– وعندك أولاد وبنات؟
– ابنة واحدة وابن واحد، وأنت؟
– عندي ثلاث بنات، تخرجت الكبرى من كلية الصيدلة؛ لكنها لم تحب رائحة الأدوية فالتحقت بفرقة موسيقية في سويسرا، الابنة الوسطى درست الأدب المقارن ثم سافرت إلى باريس، حيث تزوجت زميلًا لها من جنوب إفريقيا، الابنة الصغرى في لوس أنجلوس ضمن حركة نسائية جديدة يسمونها ما بعد الفيمينيست. ضحك بصوت طفولي وقال: أنا مع تحرير المرأة، لكن ابنتي تعيش مع زميلة لها أمريكية، تفخر بأنها «ليزبيان»، أنا لست ضد الحرية الجنسية؛ لكني لا أنجذب للذكور، ربما أكون رجلًا تقليديًّا عجوزًا، وأنتِ؟ ماذا عن ابنتك وابنك؟
– ابنتي تخرجت من كلية الاقتصاد وحصلت على درجة الماجستير والدُّكتوراه، لكنها تركت كل ذلك وتفرغت للأدب وكتابة القصص والمقالات، وابني تخرج من كلية الهندسة واشتغل مهندسًا لمدة أسبوع واحد فقط ثم تفرغ للإخراج السينمائي.
– فانتاستيك! هذا جنون رائع! وأنتِ؟
– أنا تخرجت من كلية الطب وكذلك زوجي شريف، لكنه ترك الطب وتفرغ للأدب وكتابة الروايات، وأنا أيضًا كاتبة روائية.
– أنتم أسرة عجيبة مجنونة، وكلكم تعيشون في القاهرة.
– نعم.
لم يكن سألني عن اسمي حتى ذلك الوقت، ولم أكن سألته عن اسمه، لكني تذكرت أنني قرأت عن استقالة أحد المسئولين بالأمم المتحدة في إحدى الصُّحف قبل هبوط الطائرة في نيويورك، كان هو قد غادر مقعده واختفى قليلًا ربما في دورة المياه. رأيت جريدة الجارديان تطل من الجراب أمام مقعده، بدأت أتصفحها حتى رأيت صورته في إحدى الصفحات، وحوارًا قصيرًا معه عن أسباب استقالته. أعدت الجارديان إلى مكانها في الجراب، عاد إلى مقعده يحمل لفة صغيرة مربوطة بشريط أخضر رفيع، وضعها في حقيبته الصغيرة تحت مقعده، ضحك وقال: لا بد من هدية صغيرة لزوجتي أكفِّر بها عن ذنوبي الكبيرة.
– قرأت الحوار معك في الجارديان.
– ما رأيك؟
– أتفق معك في كل شيء إلا شيئًا واحد!
– ما هو؟
– كان يجب أن تستمر في موقعك ولا تستقيل؛ لأن شخصًا آخر سوف يحتل مكانَك وينفذ ما يريدون.
– أنا معك، لكني تعبت، ثلاثون سنة وأنا أعيش هذه المأساة، أشارك في هذه اللعبة السِّياسيَّة التي يسمونها اجتماعات الأمم المتحدة، وقرارات مجلس الأمن، وكلها مجرد لعبة للتغطية على جرائم إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، لم تنفذ إسرائيل قرارات مجلس الأمن، بينما تقوم الأمم المتحدة بنزع أسلحة الدمار الشامل في العراق والبلاد العربية والإفريقية والآسيوية. لم تتحرك لنزع السلاح النووي في إسرائيل؛ لأن الولايات المتحدة ومعها بريطانيا، تريدان أن تكون إسرائيل القوة العسكرية النووية الوحيدة في المنطقة. تملك إسرائيل أكثر من مِائتين وخمسين صاروخًا محمَّلًا برءوس نووية، أين ستوجَّه هذه الرءوس؟ إلى بغداد ودمشق والقاهرة وطهران وأنقرة وأي بلد في المنطقة لا يَدِين بالولاء والطاعة! وهذه اللعبة السِّياسيَّة التي يسمونها مفاوضات السلام في الشرق الأوسط! أيمكن أن يكون هناك سلام وشعب العراق يموت منه الآلاف يوميًّا من الجوع تحت الحصار لأكثرَ من ثمانية أعوام؟! وهذه الأكذوبة عما يسمونه برنامج النفط مقابل الغذاء؟ هل يُعقل أن فريق التفتيش على أسلحة الدمار الشامل في العراق الذي يضم موظفين في المخابرات الأميركية يعيدون صياغة التقارير كما يشاءون؟! هل يُعقل أن يتم تحميض الأفلام في إسرائيل، هذه الأفلام التي تم تصويرها في العراق بواسطة فريق التفتيش؟ هل يُعقل أن المخابرات الإسرائيلية الموساد كانت تزود فريق التفتيش بالمعلومات عن المواقع الهامة كي يتمَّ تدميرها بالكامل، ولإسرائيل خبرة في هذا منذ ضربت المفاعل النووي في العراق. وهذه المهزلة التي يسمونها تحريك عملية السلام، والمفاوضات المسدودة لتحقيق بعض حقوق الشَّعب الفلسطيني، في الوقت الذي لا تتنازل إسرائيل عن شيء، بل يزداد عدد المستوطنات ويزداد عدد القتلى من الفلسطينيين! وبكل أسف فإن بعض الحكومات العربية تشارك في هذه اللعبة كما شاركت في حرب الخليج عام ١٩٩١.
توقف عن الكلام حين سمعنا الصوت ينبعث في الميكرفون يقول: اربطوا الأحزمة ستهبط الطائرة في مطار لندن، هيثرو.
– أنا أعيش في لندن منذ ثلاثين عامًا، زوجتي إنجليزية وهي أستاذة في الجامعة تدرِّس الفيزياء، شعرها أبيض مثلك وهي في جنيف الآن تحضر مؤتمرًا نسائيًّا، إنها فيمينيست من الموجة الأولى، وهي تحب النِّساء أيضًا، حب بريء، وليس مثل ابنتنا الصغرى في لوس أنجلوس، ثم ضحك، وسألني، هل أنت فيمينست؟!
– هذه كلمة إنجليزية، وفي لغتنا العربية نستخدم كلمات مختلفة، وإن كان المعنى هو تحرير النِّساء، بالطبع أنا مع تحرير النِّساء وتحرير الرِّجَال أيضًا؛ فالمشكلة تتعلق بالنظام الأبوي منذ نشوء العبودية وحتى اليوم.
هبطنا من الطائرة، كانت الساعة في لندن السابعة صباحًا، أخرجت ساعتي الصغيرة من حقيبة يدي، كانت لا تزال حسب التوقيت في «ديرهم» متأخرة عن لندن سبع ساعات. حركت الوقت إلى الأمام بإصبعين اثنين سبع دورات، رأسي يدور دائمًا في تلك اللحظة حين أهبط من الطائرة وأحرك الوقت إلى الوراء أو إلى الأمام، يبدو الوقت لعبة أو أكذوبة دولية أو كونية مثل قرارات الأمم المتحدة. أترنح قليلًا في مشيتي مع الدوران في رأسي أو في الأرض تحت قدمي، ربما بسبب الساعات الطويلة في الجو داخل الطائرة النفاثة، لكن ما هي إلا لحظة ويعود رأسي ثابتًا في مكانه، والأرض ثابتة تحت قدمي. أدبُّ بقوة على بلاط الممر اللامع الذي يشبه الرخام الأبيض، كعب حذائي مربع متين يشبه كعوب أحذية الرِّجَال، لا ألبس الكعب الأنثوي الرفيع العالي، خطواتي واسعة سريعة، في يدي حقيبة جلدية صغيرة، وهو يمشي إلى جواري بالخطوة الواسعة السريعة، جسمه ممشوق وشعره أبيض غزير، عيناه يكسوهما بريق طفولي، يتلفت حوله في دهشة كأنما يرى مطار هيثرو للمرة الأولى، توقف أمام بوتيك صغير يبيع البطاقات والهدايا التذكارية.
– ما رأيكِ بأن أشتري لكِ هدية صغيرة من لندن؟
– أشكرك، ليس عندي وقت.
– متى تقلع طائرتك إلى القاهرة؟
– الساعة الرابعة مساءً.
– أوهوه! الساعة الآن السابعة صباحًا، أمامَكِ أكثر من ثماني ساعات انتظار، أنا لا أطيق الانتظار في المطارات، وأنتِ؟
– أنا لا أطيق الانتظار أيضًا، لكن معي رواية جديدة كنت أنوي قراءتها في الطائرة.
– ضيعتُ وقتكِ في الكلام؟!
– أبدًا، لقد استمتعت بالحديث معك.
– فاتت سبع ساعات مثل سبع دقائق، لم أشعر بالوقت.
– الوقت أكذوبة كونية مثل قرارات مجلس الأمن.
أطلق ضحكة طفولية، مددت يدي لأودعه لكنه تراجع خطوة إلى الوراء وقال: ولماذا تودعيني الآن وأمامَك ثماني ساعات؟! ما رأيك في فنجان قهوة كابيتشينو وقطعة كرواسان؟ لا أحد ينتظرني في البيت وليس عندي عمل بعد الاستقالة، ويمكن أن أبقى معك قليلًا إن شئت.
دخلنا إلى الكافيتيريا، نكهة القهوة تملأني بالانتعاش، أتشمم النكهة، أملأ بها صدري في شهيق عميق، ألامس بطرق لساني رغوة اللبن المغلي الممزوج بالبن، يحترق طرف اللسان من شدة السخونة، مع ذلك لا أغتاظ ولا أتوقف عن تكرار ارتشاف السطح الملتهب، كما كنت أفعل في طفولتي، أرشف الشاي واللبن المغلي، يتصاعد البخار إلى أنفي، أتلقاه فوق وجهي، تمتصه مسام بشرتي، أضم قطعة الكرواسان كأنما هي الفطيرة التي كانت أمي تخرجها من الفرن، وهو يرمقني بعينين يكسوهما البريق، كأنما رأيت هذا البريق وهاتين العينين في مكان وزمان لا أدري عنهما شيئًا، كأنما أنا أجلس في هذه الكافيتريا في مطار هيثرو منذ زمن بعيد، منذ وعيت الحياة وأصبح عندي ما يسمى الوعي، كأنما سأبقى جالسة هكذا في مكاني إلى آخر الزمن، حتى يتسرب مني الوعي وأموت.
بعد لحظة واحدة أفيق إلى أنني أجلس إلى رجل غريب، تصادف أن جلس إلى جواري في الطائرة من نيويورك إلى لندن، إنني أجلس معه في الكافيتيريا داخل صالة الترانزيت، أقرأ كلمة «الترانزيت» باللغة الإنجليزية، أعرف أنها تعني الانتظار المؤقت الذي سوف ينتهي عاجلًا بعد دقائق أو ساعات قليلة.
– أنت شاردة تمامًا، فيم تفكرين؟!
– هذه الحياة غريبة جدًّا، تصور أنَّ …
– نعم أتصور أنَّ الصدفة أغرب من الخيال.
– عندنا مثل عربي يقول: ربَّ صدفة خير من ألف ميعاد.
– هي تبدو لنا صدفة، لكنها ليست صدفة، وقد ركبت آلاف الطائرات وجلس إلى جواري آلاف الرِّجَال والنِّساء … ومع ذلك لم أتبادل كلمة واحدة مع أي منهم، إنها ليست صدفة يا … فجأة توقف عن الحديث، اتسعت عيناه بدهشة، تصوري لم أعرف اسمك حتى الآن! أنت عرفت اسمي من الجارديان، لكن أصدقائي ينادونني باسم «بيل».
– اسمي نوال يا بيل.
– نافال؟!
– نوال، بالواو.
– ناوال.
– لا توجد ألف بعد النون، نوال.
– نوال؟
– أيوه هذا صح!
– يا له من اسم عجيب، نوال!
أصبح ينطق الاسم على نحو صحيح، لم تكن كلمة «نوال» سهلة النطق لمن لا يتكلمون اللغة العربية، أغلب أصدقائي الأجانب وصديقاتي ينطقون اسمي «نافال» أو ناوال، دائمًا بالألف بعد النون، لكنه أصبح يناديني نوال كأنما يعرف اللغة العربية.
– هل تعرف بعض كلمات عربية يا بيل؟
– كلمات قليلة جدًّا مثل شوكرن.
– شكرًا وليس شوكرن.
– شوكرًا.
– شكرًا، بدون الواو بعد الشين.
– شكرًا.
– أيوه هذا صح.
– شكرًا نوال.
– الاسم يأتي أولًا، نقول: نوال، شكرًا، وليس شكرًا نوال.
– نوال، شكرًا.
أطلق ضحكته الطفولية المعدية، ضحكت وأنا أعلِّمه النطق الصحيح، وهو ينطق الحروف بدقة كأنما سيتكلِّم اللغة العربية حتى الموت، وأنا أضحك كما كنت أضحك في المدرسة الابتدائية في منوف.
– سأقول لكِ سرًّا يا نوال، لو قلتِ تعالَ معي إلى القاهرة سأشتري تذكرة وأركب معكِ الطائرة الساعة الرابعة، لكني أعرف أنك لن تقولي هذا؛ لأنك إنسانة عاقلة، وأنا أيضًا عاقل … لكن هذا العقل جعلني سجين الوظيفة ثلاثين عامًا، هذا العقل قضى على سعادتي في الحياة، ولقد جاءتني بعض الفرص القليلة لأخرج من السِّجن لكنِّي كنت أخاف، منذ عشرة أعوام تقريبًا، قابلت إنسانة مثلك في مؤتمر الأمم المتحدة في جنيف عام ١٩٨٦، كدت أترك كل شيء وأسافر معها إلى ريو دي جانيرو، لكني تراجعت وعدت إلى السِّجن، مثل المحكوم عليه بقرار مؤبد من قوَّة عليا مجهولة.
– ربما هي مارجريت تاتشر. أطلق ضحكة ثم واصل الحديث: تقريبًا كلَّ عشر سنوات ألتقي بهذا النوع من النَّاس، نساءً أو رجالًا، هذا النوع من الصداقة النادرة التي لا تعرف الفروق المصنوعة بين البشر، لا الجنس ولا الجنسية ولا اللون ولا العِرْق ولا اسم العائلة، فقط الاسم الأول: نوال.
حين نظرت إلى الساعة وجدتها الواحدة والنصف، مضت ست ساعات ونصف ونحن نتكلم دون أن نشعر، كانت الكافيتيريا قد ازدحمت بالمسافرين، ناس يجيئون يجرُّون حقائبهم ثم يروحون، ويأتي غيرهم بحقائبهم ثم يمضون في حياتهم دون أن يتركوا وراءهم أثرًا. أتأمل وجوه المسافرين، رجالًا ونساءً وأطفالًا، كأنما رأيت هذه الوجوه من قبل في كل المطارات، وهذه الحقائب يجرونها فوق العجلات، وهذه الفتاة الجرسونة التي تحمل الصينية فوقها الصحون والأكواب وتجري بين الموائد، وصوت الملاعق، وفرقعات سدادات الزجاجات، وصوت الثلج داخل الكئوس، ورائحة الشواء والطواجن الخارجة من الفرن.
– لا بد أنك جائعة وقد أتى موعد الغداء، أنا شخصيًّا أشعر بجوع غريب، ماذا تشربين قبل الغداء، جين تونيك؟!
حكيت له عن صديقتي بطة وأول مرة أسمع كلمة الجين تونيك منذ سبعة وثلاثين عامًا في عيادتي الطبية، بميدان الجيزة عام ١٩٥٩، بعد وفاة أبي.
– أنت طبيبة يا نوال؟
– نعم، ولكني كرهت المهنة، أغلقت عيادتي منذ سنين طويلة.
– وماذا تعملين الآن؟
– أكتب روايات وقصصًا!
– فانتاستيك! أنت مجنونة يا نوال، وأنا أحب هذا الجنون، أنجذب إليه لأني أفتقده، لقد فقدت جنوني ثلاثين عامًا داخل السِّجن، أصبحت موظفًا بالأمم المتحدة أشارك في مهنة السِّياسة الدولية دون أن أومن بها، وأخيرًا بعد ثلاثين سنة أحرِّر نفسي، لكن بعد فوات الأوان يا نوال، كان حلم حياتي أن أكون موسيقيًّا مثل شوبان أو موتسارت.
– ليس هناك شيء اسمه فوات الأوان، أنت لا زلت في ريعان الشَّباب يا بيل.
– لكني أرى نفسي في المرآة كهلًا عجوزًا.
– المرآة خادعة وكاذبة مثل قرارات الأمم المتحدة! ضحكنا ونحن نرشف الجين تونيك، ثم طلبنا زجاجة النبيذ الأحمر، مع السمك المشوي وطاجن أرز في الفرن، وسلاطة خضراء من الخيار والطماطم والخس.
ثم سمعنا الصوت يعلن في الميكرفون عن توجه المسافرين للقاهرة إلى باب الخروج رقم أربعة، سار معي حتى باب الخروج، توقف لحظة يصافحني، تظاهرت أنَّني لا أرى عينيه، ابتسمت وأنا أشد على يده وأقول: سنلتقي مرة أخرى يا بيل.
– هذا أكيد يا نوال، سأكتب إليك، ومن يدري ربما ترينني في القاهرة قريبًا جدًّا.
•••
استدرت قبل أن أختفي وراءَ باب الخروج، رأيته واقفًا يلوح لي بيده، عيناه فيهما حزن عميق. سرت نحو باب الطائرة بخطوات بطيئة ثقيلة، جلست في مقعدي بجوار النافذة، دخل رجل وجلس في المقعد المجاور لي، وجهه أبيض منتفخ باللحم، كتفاه عريضان مثل مروِّضي الثيران في إسبانيا. خلع الجاكيت وناوله للمضيفة بحركة ذوي السلطة والنفوذ، جلس وملأ المقعد بجسده الضخم، فتح حقيبة سوداء سامسونايت وأخرج منها بعض الأوراق، راح يبحلق فيها بعينين جاحظتين قليلًا، أسند رأسه إلى الوراء، ثم راح في سُبات عميق.
•••
في مطار القاهرة، كان ينتظرني شريف، ومنى وعاطف، الوجوه الثلاثة الحميمة رأيتها تطلُّ عليَّ وأنا أخرج من الباب أجرُّ العربة فوقَها الحقائب، تعانقنا بحرارة الشوق والحب. سرت بينهم أملأ صدري بنسمة الوطن الدافئة. في الليل قبل أن يحوطني شريف بذراعيه حكيت له ما حدث في مطار هيثرو، ابتسم شريف بهدوئه المعتاد وقال: أول ما شفتك في المطار قلت نوال راجعة من مغامرة مثيرة، مشكلتك يا نوال إن كل حاجة بتبان في عينيك. وضحكنا كما كنا نضحك منذ ثلاثين عامًا، حين كنا نحكي عن المغامرات قبلَ الزَّواج.