الهزيمة الكبرى
التقيت بشريف عام ١٩٦٤ في وزارة الصِّحَّة، خرج من السِّجن منذ عام واحد بعد أربعةَ عشرَ عامًا وراءَ القضبان. شَهِقَت بطة حين سمعت الخبر، إنتِ مجنونة يا نوال، خرِّيج سجون وشيوعي كمان؟! انتفضتْ صفية، الشُّيوعيَّة ضيَّعت أخويا أسعد ومالهاش مستقبل في بلادنا يا نوال! مطَّت سامية شفتيها، الشُّيوعيَّة ليست المشكلة يا أخواتي، المشكلة هي مؤسسة الزَّواج، مؤسسة فاشلة وليس لها مستقبل، وسوف تنقرض بإذن الله!
كركرت بطة بالضحك، يسلم بُقك يا سامية، لكن المشكلة الحقيقية هي نوال، هي لا تؤمن بمؤسسة الزَّواج منذ العصر العبودي، فكيف تدخل المؤسسة بإرادتها للمرة الثَّالثة؟! لا يلدغ مؤمن من جُحر مرتين فما بال الثالثة؟
كنت في الثالثة والثلاثين من العمر، سقطت أوهام كثيرة عشعشت في عقلي وخيالي، لم يَعُد قلبي يخفق كما كان في العاشرة من عمري أو العشرين، حياتي أصبحت كاملة دون رجل، الطب والأدب وابنتي وأخواتي والصديقات والأصدقاء، حياتي ممتلئة بكل ما يُشبع حاجات الإنسان وما يفيض، فلماذا أتزوج؟ لماذا أضع نفسي تحت طائلة قانون يعود بي إلى الوراء عشرين عامًا فأصبح قاصرةً لا أملك جسمي ولا عقلي ولا أسافر إلا بإذن من زوجي؟!
سألت شريف: هل نحن بحاجة إلى قانون الزَّواج؟ ألا يمكن أن نتزوج بإرادتنا الحرة دون كتابةِ ورقة؟! ما جدوى هذه الورقة إذا كنت أثق بك وأنت تثق بي؟ سنتزوج نحن الاثنين ونفترق إن شئنا بإرادتنا نحن الاثنين … فلماذا الورقة؟
لكننا كنا في عام ١٩٦٤ وليس عام ٢٠٠٠، انقضى ستة وثلاثون عامًا حتى يسقط قانون الزَّواج القديم، كنت أتمرَّد عليه وحدي، كنت أعرف أنه بقايا العصر العبودي، لكن أغلب النِّساء لم يَكُنَّ معي، حتى صديقاتي الثلاث بطة وصفية وسامية لم يملكن شجاعة الطَّلاق أو الاعتراض على القانون إلا داخل الغرف المغلقة، اليوم تغير الحال، زاد عدد النِّساء والشَّابات المتمردات على قانون الزَّواج القديم، وتم تعديل القانون أكثر من مرة داخل مجلس الشَّعب، تعديل طفيف لا يمس جوهر القانون القديم. هكذا بدأت الفتيات يتزوجن دون قانون، أو بقانون جديد ليس فيه عقد رسمي مختوم بالنسر، وإنما عقد عُرفي تعارفَ النَّاسُ عليه قبلَ نُشوء الحكومات. إن الحاجة إلى الحب والجنس تنتصر على أعتى الحكومات المركزية وأقدمها في التَّاريخ وهي الحكومة المصرية، أكثر من ذلك بدأت الفتيات يتزوجن بدون عقد على الإطلاق، دون حاجة إلى ورقة مكتوبة، مجرد الثقة المتبادلة بين الرجل والمرأة، كل منهما بالغ الرشد ومسئول عن الوفاء بالوعد، يمسك كل منهما بيد الآخر وينطق الوعد، لا أحد يشهد عليهما إلا الله، أليست شهادة الله أهم من شهادة موظف الحكومة؟!
قلت لشريف: إنهم يتكلمون كثيرًا على الإيمان بالله، مع ذلك لا يؤمنون به، وإلا فلماذا لا تعترف الحكومة بشهادة الله؟!
ضحك شريف وقال بصوته الهادئ: يا نوال أتريدين أن نتزوج أم تريدين تغيير العالم؟ قلت: أريد الاثنين يا شريف، قال ربما يتغير العالم بعد قرن أو نصف قرن، ولكننا نريد أن نتزوج اليوم، وإن لم نذهب إلى مكتب المأذون ونسجل العقد المكتوب فسوف يصبح أطفالنا غير شرعيين.
كان يوم ١٠ ديسمبر ١٩٦٤، ذهبنا إلى المأذون وكتبنا العقد، سأل المأذون كم المهر؟ قلت له خمسة وعشرون قرشًا، رمز العبودية، وضحكت، لكن المأذون لم يضحك، كان غاضبًا لأن أجره يزداد بازدياد المهر، أراد أن يُعَقِّد الأمر طمعًا في أجر أكبر، ناوله شريف أجرًا سخيًّا وقال: اكتب العقد يا شيخ بلاش تعقيدات، عندنا موعد ولازم نمشي بسرعة!
كان موعدنا في البيت مع ابنتي منى، عمرها سبعة أعوام، طفلة عيناها عسليتان يكسوهما بريق، اشتد البريق وهي تفتح الْعُلبة الملفوفة بالشريط الأخضر اللامع، ارتدت الفستان الجديد.
لونه وردي له كولة بيضاء من الدانتيلا، وباقة من الورد البلدي الأحمر والزهور البيضاء، جلسنا نحن الثلاثة حول المائدة الصغيرة في شقة الجيزة نحتفل بعيد زواجنا الأول، لا أحد يشهد عليه إلا الله والطفلة في السابعة من عمرها.
في أول لقاء مع شريف أدركت أنني أثق فيه، عيناه رأيتهما، نافذتان مفتوحتان إلى الأعماق، العينان هما الإنسان في نظري، هناك قول مأثور يقول: «تكلم حتى أراك» وأنا أقول: أرني عينيك حتى أراك.
في أول لقاء سألت شريف عن علاقته بالكتابة والأدب، هذا السؤال كنت أسأله لأي رجل أو امرأة يمكن أن أصادفَها، الكتابة عندي أعز ما أملك، الماء والهواء والكتابة، ثلاثة عناصر ضرورية للحياة، أنا أكتب إذن أنا موجودة. لا أتصور الحياة الدنيا بدون ورقة وقلم، الحياة الأخرى أيضًا لا أتصورها بدون ورقة وقلم. في المدرسة الثانوية طردني مدرس الدين من الفصل عام ١٩٤٦ حين سألته: أيكون في الجنة ورقة وقلم لمن يريد أن يكتب؟ وفي السِّجن عام ١٩٨١ كان الحراس يفتشون كلَّ يوم ويقول رئيسهم مهدِّدًا: إذا وجدنا ورقة وقلمًا فهذا أخطر من أن نجدَ طبنجة! واستطعت رغم ذلك أن أُخفي الورقة والقلم تحت أرض الزنزانة دون أن يعثر عليهما أحد، ومنذ طفولتي لم أكن أنام دون الورقة والقلم تحت وسادتي، ومن أجل الورقة والقلم خَلَعْتُ من حياتي الزَّوجَ الأوَّل والثَّاني.
كان شريف هو زوجي الثَّالث، لم يكن يكتب إلا المقالات السِّياسيَّة، منذ أول لقاء قلت له: أنت أديب يا شريف قبل أن تكون سياسيًّا وقبل أن تكون طبيبًا. قال: منذ طفولتي يا نوال كنت أحب الموسيقى والأدب، وكانت أمي تمسك يدي وتقول أصابعك خُلقت للموسيقى.
قبل الزَّواج حدثني شريف عن حياته في السِّجن وفي البيت، عن طفولته حين كان في العاشرة من عمره عام ١٩٣٣. ينتمي شريف إلى الطبقة الأرستقراطية المصرية، أصحاب الأراضي والإقطاع منذ الخديوي والسُّلطان والمماليك، يملكون الأرض والمصانع والشَّركات، يشاركهم فيها الأسرة المالكة والأجانب، مَثَلهم الأعلى الملك فؤاد الأول ثم فاروق الأول، يتفاخرون بجذورهم في الأرض المصرية، يرثونها عن الأب والجد، يتزوجون الشقراوات الأجنبيات حين يسافرون إلى باريس أو لندن للسياحة أو للحصول على الشهادات العليا. مدينة القاهرة في الثَّلاثينيات من القرن العشرين كانت تتألق في الليل كالرجل الداعر، يتزوج المرأة الأجنبية أو الأرستقراطية من الطبقة العليا، ثم يتسلل في الليل إلى العشيقة المصرية من الطَّبقات الدُّنيا. يتكلم اللغة الإنجليزية أو الفرنسية في البيت، وفي وَكْر العشق أو اللذة يتكلم اللغة العامية الدارجة، أو لغة الشوارع. يثبِّت في عروة البدلة الأنيقة وردة حمراء، والطربوش الأحمر فوق رأسه مائل نحو أذنه اليمنى أو اليسرى. ينتمي إلى حزب اليمين أو حزب اليسار، يحمل لقب الباشا الأحمر أو الأخضر أو الأصفر. يتحدثون عن الشَّعب المصري الفقير مع رشفات الويسكي وقضمات الكافيار ودُخَان السِّيجار، يتبارَوْنَ في الانتخابات على المقاعد في مجالس النُّواب أو الشُّيوخ، وفي الليل يتبارَوْنَ على بنات الهوى في الكباريهات والعوَّامات الراسية على شاطئ النيل. في البيت الكبير بيت العيلة الكريمة يحتفظون بالزَّوجة الأولى العجوز أم الأولاد، عفيفة طاهرة كالأم العذراء. في البيت الثَّاني الخفي، مثل الحكومة الخفية، هناك الزَّوجة الثَّانية الشَّابة المكتنزة باللحم، من أجل الحب والعشق واستعادة الشَّباب. تحت سُنة الله والرسول، لكل منهم ثلاثة بيوت أو أربعة بحسب عدد الزَّوجات، ثم الشقة السرِّية تحمل اسم «الجارسونيرة» وهي كلمة فرنسية تعني المكان الذي تَفِد إليه المومِسات أو العشيقات السرِّيات. يعود الرجل منهم آخِرَ الليل إلى زوجته الأولى، تفوح منه رائحة الخمر وعطر النِّساء، يخلع الطربوش والبدلة والوردة الحمراء في العروة، يعطي أم الأولاد ظهره، ثم يسقط في النَّوم يشخر حتى ظُهر اليوم التالي.
لم يرث شريف عن هؤلاء الرِّجَال العهر وفراغ الدماغ، ورث عن أمه الإنجليزية الإرادة الحديدية، وعن جدته الفلاحة أم أبيه ورث الضمير الحي والاستقامة. لم تقرأ جدَّتُه كتابَ الله، كانت مثل جدتي الفلاحة أم أبي لا تعرف القراءة، وكانت تقول ربنا هو العدل عرفوه بالعقل. ورث شريف عن جدته الإيمان بالعدل، أصبح في أعماقه منذ الطفولة جهاز عضوي يؤمن بالعدل أشبه بجهاز المناعة ضد الأمراض، أليس هو الضمير؟!
منذ طفولته كان قلبه يَرِقُّ للخدَم في البيت والشَّحاذِين ذوي العاهات في الشوارع. في النَّوم يرى نفسه نبيًّا أو قسيسًا يدعو إلى العدل والخير، كان طفلًا وحيدًا حزينًا في بيت كبير، أبوه غائب معظم الوقت، أمه تنظر إلى أصابعه الطويلة النحيفة وتقول أصابع فنان مبدع أو جراح ماهر. كان يحب الفنانين ويكره الجراحين، لم يكن رجال الطبقة العليا يحترمون أهل الفن، يقولون عنهم «أرتيست»، يلفظون الكلمة بطرَف اللسان في ازدراء. يدخل الأرتيست إلى قصورهم في الأفراح من الأبواب الخلفية مع الخدَم، يعزفون العود أو الكمنجة مع الطبلة والرِّق، يَطْرَب السادة للغناء والموسيقى، يهزون رءوسهم طربًا، يُلقون طرابيشهم على الأرض، ينتشون، ينهلون من المتع التي حرمها الله حتى الثُّمالة، ثم ينامون، وفي الصَّباح ينهضون، يركعون لله ركعتين كنوع من الرِّشوة، يضعون الطَّرابيش فوق رءوسهم، يشمخون بأنوفهم يتفاخرون بالتقوى والصلاح.
على شاطئ النيل في الجيزة كنت أتمشَّى أنا وشريف، يحكي لي عن طفولته وأيام الدراسة وكلية الطب، المظاهرات الوطنية، أحداث كوبري عباس في الجيزة، فتح البوليس الكوبري على الطلبة المتظاهرين، غرق بعضهم في مياه النيل، تلقَّى بعضهم الرصاص في صدره قبل أن يقفز فوق السور، اختلط الدم الأحمر بالماء والطمي.
تخرج شريف في كلية الطِّب، عام ١٩٤٦، كان طالبًا متفوقًا يحلم أن يكون طبيبًا مثاليًّا، يعالج الفقراء بالمجَّان. اصطدم الحُلم بالواقع القبيح، الدم والصديد والعرَق في جلاليب الفلاحين، الوجوه الضامرة الممصوصة، ينزفون الدم في البول، يمرضون بسبب الفقر والجهل والاستعباد وليس بسبب الجراثيم.
تحول الطبيب المثالي إلى مناضل ثوري يحلم بإلغاء الفوارق بين الطبقات، كلمة الطبقة كانت محرَّمة، محظورًا النطق بها، تعني الشُّيوعيَّة والإلحاد، أليس الله هو الذي خلق الفقير والغني؟ أليس المال هو مال الله يعطي من يشاء بغير حساب؟
صوت شريف هادئ ينساب في أذني مع نسمة الليل في الربيع، نحن في عام ١٩٦٥، عيناه يكسوهما حلم حزين، ملامحه تذكِّرني بملامح أبي وزوجي الأوَّل، ملامح الفدائيين والقديسين، أتذكرهما رغم مرور السنين، المظاهرة الصامتة عام ١٩٥١، الْهُتاف يُدَوِّي تَحْيا مصر حُرَّة. عيناه تلتقطانني من وسط الملايين يكسوهما البريق، الحب جزء من الخيال وجزء من الحقيقة، يخفق له القلب رغم الموت والحرب، الدماء فوق الأرض والأصابع حول عنقي، الهروب في الليل قبل طلوع الفجر أحمل طفلتي فوق صدري، فتح لي أبي بيته وذراعيه، لم يؤنِّبني ولم يعاتبني، ربما كان يحس تأنيب الضمير، ألم يملأ خيالي منذ الطفولة بأحاديث البطولة؟ سعد زغلول وثورة ١٩١٩، الحرب والقتال وتحرير الوطن، الحرية والاستقلال أو الموت الزُّؤَام، في أعماقه جهاز للإيمان، أشبه بجهاز المناعة ضد الأمراض، في خياله صورة عن الله، يحاول أن يستبدل الصورة بالحقيقة، يلوي عنق الحقيقة، يلوي عنقي لأصبح مطابقة للصورة، عنقي غير قابل للالتواء مثل عنقه، رأسي غير قابل للانحناء مثل رأسه، كلما عجز عن تغييري اشتد به الإحباط، لم يملك شيئًا يغيره إلا ابنته بعد أن عجز عن تغيير العالم.
راح أبي ضحية الحلم الكبير مثل زوجي الأول، يذوب الحلم في الحقيقة، مؤرق في الليل والنهار، يسمع الدقات المنتظمة للزمن والنبض، السَّاعة فوق معصمه وقلبه تحت الضُّلوع، دقات منتظمة غريبة في انتظامها، مفزعة في استمرارها كدقات الموت البطيء، يهبُّ من النَّوم حاملًا سلاحه، يذهب إلى حرب لا يعرفها، يندفع في الظَّلام كمن يمشي في النَّوم، يمشي فوق الموت دون أن يتوقَّف، دون أن ينظر إلى الوراء، يتطلع إلى السماء، يرى صورته محمولًا فوق الأعناق، النَّاس تهتف باسمه: يعيش يا يعيش! وهو يمشي فوق السحب حاملًا سلاحه، مرهق يبحث عن الرَّاحة، حزين ينشد الفرح، مهزوم يحلم بالنَّصر، يمشي وحدَه مثل خيال، الوجوه من حوله ميتة، كلهم موتى، كلهم غارقون في الهزيمة، لا يملكون إلا سلاحًا مكسورًا أو قلمًا مقصوفًا، كلمات فوق الورق تطير في الهواء، طلقات الرصاص والدم المراق، عيناه غارقتان في الدموع، أهي دموع الحزن أم الفرح؟ أهو الموت أم الانطلاق نحو حياة جديدة؟
كنت أخرج لأتمشَّى على شاطئ النيل في الجيزة، شريف يمشي إلى جواري، يحكي لي عن السِّجن، أربعة عشر عامًا في السِّجن، دخل عام ١٩٤٩ وخرج عام ١٩٦٣، عشر سنوات منها تحت حكم جمال عبد الناصر من ١٩٥٣ حتى ١٩٦٣ مع الأشغال الشَّاقَّة، قطع الأحجار في الجبل في سجن طُرَة وأبو زعبل.
يسترجع شريف الذكريات وأنا أمشي إلى جواره صامتة أرمق النَّاس في الطَّريق، وجوه الرِّجَال متهدلة، عيونهم منكسرة، إلى جوار كل واحد منهم زوجته يقبض على يدها كالأسيرة، النِّساء أجسادهن سمينة مربعة، يتأرجحن فوق كعوب رفيعة، ثقيلات الخطو بطيئات الحركة، بطونهم عالية، إلى جوارهن تسير بناتهن نحيفات رشيقات، كالزَّهور يتفتحن في الرَّبيع، ثم يأتي موسم القطف، يصبحن مثل أمهاتهن بعد ليلة الزِّفاف مكسورات القلب مترهلات.
إنَّه عام ١٩٦٧ شهر يونيو، بالضَّبط ١٠ يونيو، وأنا أمشي بجوار شريف في شارع الجيزة، الساعة الرابعة صباحًا قبل طلوع الفجر بقليل، الدنيا ظلام، النَّاس تمشي في الليل كمن يمشون في الحلم، خرجوا من بيوتهم يهتفون ضد الهزيمة، يطالبون بالسلاح، الحرب والقتال حتى الموت، تحيا مصر حرَّة، الأجساد تغطي الشوارع، لا مكان لقدم، مثل يوم الحشر حين ينهض الموتى من القبور أفواجًا أفواجًا، وأنا أمشي إلى جوار شريف، كما مشيت إلى جوار أحمد في المظاهرة الصامتة منذ ستة عشر عامًا، الخطوة فوق الأرض هادئة ثابتة، الصوت هادئ يُشبه الصَّوت، العينان يكسوهما البريق ذاته والحلم ذاته، تحيا مصر حرة، نموت فداء الوطن، صوت عبد الناصر يهتف في الإذاعات سنقاتل حتى النَّصر، الملايين في الشَّوارع تهتف في نفَس واحد: النصر! النصر!
منذ العاشرة من عمري وأنا أهتف معهم، في المدرسة الابتدائية في منوف، في المدرسة الثانوية في حلوان، في كلية الطب في شارع قصر العيني، في نقابة الأطباء بدار الحكمة، في وزارة الصِّحَّة بشارع مجلس الأمة، وفي شوارع القاهرة والإسكندرية والسويس والإسماعيلية وبورسعيد والجيزة والفيوم وبني سويف والمنيا وأسيوط وقنا وأسوان.
سمعت شريف يهتف مع النَّاس: الموت حتى النصر! عيناه يكسوهما بريق الحلم الطفولي، كالدمعة الحبيسة لا تسقط ولا تجف. خرج من السِّجن بعد حكم بالأشغال الشاقة أربعة عشر عامًا، خرج نحيف العود منتصب الرَّأس أكثر صلابة مما كان، لم يفقد الحلم ولا الأمل، يفكر باللَّيل والنَّهار في الثَّورة، يهبُّ من النَّوم حاملًا سلاحه، يندفع في الظَّلام يمشي فوق الموت لا يتوقف، يسقط بين أيدي البوليس، يدخل السِّجن ويخرج ثم يدخل ويخرج. يسير إلى جواري صامتًا يفكر، الرِّجَال من حوله يتكلمون ويثرثرون، يتناثر في الجو رذاذ لعابهم، لا يكفُّون عن الكلام، يقاطع بعضُهم بعضًا، يتكلمون في وقت واحد وهو صامت، وإذا تكلَّم صمت الجميع.
منذ أن صدرت القرارات الاشتراكية عام ١٩٦٢ أصبح النَّاس أعضاء في الاتحاد الاشتراكي، صدرت الأوامر الإدارية ودخل الموظفون والموظفات الحزبَ الوحيد، لم يتخلف أحد في الوزارات أو الجامعات أو مؤسسات الدَّوْلة خوفًا من الجهاز الحكومي، أقدم جهاز في التَّاريخ البشري منذ الفراعنة، لم يعرف الشَّعب المصري إلا حكم الفراعنة أو الاحتلال الأجنبي. جاء القرن الواحد والعشرون ولم يتحرر الشَّعب المصري بعد، تغيرت الأسماء والوجوه والألقاب وطرق الاستعباد والاستبداد، وبقي فرعون على حاله ومعه الاحتلال الأجنبي، تخلَّص الشَّعب المصري من السيطرة الأجنبية بضعة أعوام قليلة ثم سرعان ما عادوا.
كلمة «الاشتراكية» كانت تجري على لسان جمال عبد النَّاصر قبل الهزيمة بأعوام قليلة، بالضَّبط منذ عام ١٩٦٢، ما يجري على لسان رئيس الدَّوْلة يجري على ألسنة رجال البلاط من الوزراء والموظفين والمثقَّفين من أصحاب الأقلام في الصُّحف والمجلات. بدأت الوجوه تظهر على شاشة التلفزيون، السَّيِّد الرَّئيس مِنْ حوله كبار رجال الدَّوْلة والأدباء والصَّحَفيين، أصبحوا يحملون لقب النُّخبة، يندرجون تحت فئة المثقفين، إحدى فئات الشَّعب العامل الخمسة «العمال والفلاحون والجنود والرَّأسمالية الوطنيَّة والمثقفون». كلمة فئات تبدو أكثر براءة من كلمة طبقات، مفردها كلمة طبقة، تنطوي على الصِّراع الطبقي أو الشُّيوعيَّة. رئيس الدَّوْلة أصبح ينطق عبارة جديدة «تذويب الفوارق بين الطَّبقات»، انتشرت العبارة في كل مكان، يرددها رجال البلاط والمثقفون وأصحاب الأقلام، ينطقون العبارة بصوت رئيس الدَّوْلة، واللهجة ذاتها، يُخرجون لسانَهم عند نُطق حرف الذال في كلمة «تذويب».
كانت بطة لا تزال صديقتي هي وصفية وسامية، اكتشفت بطة جذورها الفقيرة من الفلاحين في قرية السنبلاوين، زوجها الدُّكتور حمدي اكتشف أن أباه كان عاملًا في مصانع النسيج بالمحلة الكبرى، ارتدى الدُّكتور حمدي بدلة زرقاء كُحْلية من تيل المحلة، لها ياقة مكوية مُنَشَّاة شديدة الأناقة تُشبه ياقة وزير الخارجية، رشح نفسه في الانتخابات ودخل مجلس الشَّعب تحت فئة العمال.
لم ينجح الدُّكتور مصطفى زوج صديقتي صفية في الانتخابات تحت فئة الفلاحين، رغم ارتدائه الجلباب والطاقية، وتحريك السبحة بين أصابعه بالحركة ذاتها مثل السَّيِّد الرَّئيس والوزراء والمثقفين ورجال البلاط، إلا أنه أصدر كتابًا جديدًا عن الاشتراكية في الإسلام، أوضح الخلاف بين الاشتراكية الإيمانية الإسلامية والشُّيوعيَّة المادِّيَّة الإلحادية. قال الاشتراكية بدأت في الإسلام بأبي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ رضي الله عنه، والرسول ﷺ كان اشتراكيًّا يحارب أغنياء قريش من أجل «تذويب الفوارق» بين الطبقات في الجزيرة العربية، ثم استطرد قائلًا: كلمة «تذويب الفوارق» لا تعني إلغاء الفوارق؛ لأن الله خلق النَّاس درجات، وهذا هو الفرق بين الاشتراكية الإيمانية والشُّيوعيَّة الإلحادية، الشُّيوعيَّة ترى العالم بدون طبقات على الإطلاق، مما يخالف كلام الله في الكتب السَّمَاوية، وفي القرآن نص لا يقبل التَّفسير ولا التَّأويل، خلقَنا اللهُ درجات، أي طبقات، طبقة فوق طبقة، طبقة أعلى وطبقة أدنى، وخلقنا الله من نفْس واحدة ذكر وأنثى، لكن الذكر أعلى من الأنثى، والرِّجَال عليهن درجة، إن هؤلاء النِّساء اللائي يحاولن مساواة المرأة بالرَّجل يخالفن كلام الله في القرآن والكتب السَّمَاوية.
أصبح الدُّكتور مصطفى أحدَ كبار المفكرين في مصر، اسمه الدُّكتور مصطفى الزُّهيري، زوج صديقتي الدُّكتورة صفيَّة. كانت صفيَّة تؤمن بأن النَّاس خلقوا درجات أو طبقات، لكنها لم تؤمن بأن الرَّجل يرتفع عن المرأة درجة. صديقتي سامية لم تكن تؤمن بالفكرتين معًا، تمط شفتيها وتقول: النَّاس سواسية كأسنان الْمُشْط، لا فرق بين عربي وأعجمي ولا رجل ولا امرأة إلا بالصلاح والتقوى. لم تعد بطة تكركر بالضحك، أصبحت تجلس في وقار تضع الساق فوق الساق، يكشف فستانها الحريري الضيق عن ركبتين كبيرتين مكتنزتين باللحم، أصبحت بطة تحتل منصبًا كبيرًا في الاتحاد الاشتراكي، وعضوًا بارزًا في نقابة الصَّحَفيين، كيف تحولت بطة من طبيبة إلى صحفية؟ أعضاء الاتحاد الاشتراكي دخول وزارة جديدة اسمها وزارة الثقافة والإعلام، احتلوا المناصب العالية في مبنى التلفزيون الجديد، ومبنى الإذاعة، والمؤسَّسات الصَّحفيَّة الجديدة ودور النَّشر ومجلس الثَّقافة الأعلى الدَّائم واللِّجان التي أصبحت تحمل لقب اللِّجان الدَّائمة. أم إبراهيم كانت تقول: الدوام لله.
أصبحت بطة رئيسة لإحدى اللِّجان الدَّائمة في جهاز التلفزيون، تظهر فوق الشَّاشة تتحدث، صوتها أصبح وقورًا فيما عدا حرف الراء تقلبه إلى غاء، تقول: الاشتغاكية بدلًا من الاشتراكية، هذه اللدغة في اللسان منذ الطفولة لم تستطع تغييرها مهما حاولت، يلتوي لسانها وعنقها القصير السمين وهي تنطق الكلمة، كأنما هي غصة في الحلْق، تشهق قليلًا كالمختنقة تمد عنقها إلى أعلى مزهوَّة بالشعر الأسود أو الباروكة المصفوفة فوق رأسها درجات فوق درجات، على شكل هرم أكبر من رأسها، تمط شفتيها الحمراوين المكتنزتين بحركة تكاد تشبه صديقتي سامية. وكانت بطة منذ أيام الدِّراسَة لا تكف عن الضَّحك والكركرة، شفتاها منفرجتان دائمًا كأنَّما لا يمكن أن تنطبق إحداهما على الأخرى.
«العمَّال والفلاحون نِسْف المجتمع ومن حقهم الحصول على نِسْف المكائد في مجلس الشَّعب.»
صوتها يرنُّ في أذني وأنا جالسة أمام الشَّاشة الصغيرة في بيتي بالجيزة، شريف إلى جواري يتابع حديثها، يبتسم في هدوء حين يسمعها تقول «نسف المجتمع» بدلًا من «نصف المجتمع»، و«المكائد في مجلس الشَّعب» بدلًا من «المقاعد في مجلس الشَّعب». إلى جوارها يجلس الدُّكتور رشاد، ترك الطب وتفرغ للسياسة، أصبح من أعوان الوزير، يرأس إحدى اللِّجان العليا الدَّائمة، يظهر على شاشة التلفزيون، يعجز مثل بطة عن نطق حرف الراء، يقول: الديموكغاتية بدل الدِّيموقراطيَّة، يلتقي بي أحيانًا في فناء وزارة الصِّحَّة أو مدخل نقابة الأطباء بدار الحكمة في شارع قصر العيني، يستوقفني ويهتف بصوته الرقيق: نوال مش معقول! شعرك بقه أبيض خالص زي التلج، لكن مديكي تشاغم خطيغ! (يعني تشارم خطير)، وكلمة «تشارم» تعني باللغة العربية «جاذبية».
منذ المؤتمر الوطني للقوى الشَّعبية عام ١٩٦٢ لم ألتقِ بالدُّكتور رشاد إلا على شاشة التلفزيون، أو في الطريق بالصدفة. كان عضوًا في المؤتمر الوطني مثلي عام ١٩٦٢، إلا أنه كان يجلس في الصُّفُوف الأماميَّة مع النُّخبة المثقفة، كنت أجلس في الصُّفُوف الخلفيَّة مع الشَّباب. حين جاء دوري في الكلام قلت بصوت سمعه الجالسون فوق المنصة، منهم جمال عبد الناصر ووزير الدَّاخليَّة، تعكرت الوجوه وأنا أقول الفلاح هو الذي بوله أحمر، هذا ما سمعته من جدتي الفلاحة، أهناك فلاح واحد في مصر لا ينزف الدم مع البول؟! ينتشر مرض البلهارسيا في الريف بنسبة ٩٩٪. سجل وزير الدَّاخلية اسمي الثلاثي فوق ورقة أمامه. بعد الاجتماع استوقفني الدُّكتور رشاد عند الباب الخارجي للجامعة في الجيزة، وقال: بأه ده كلام يتآل يا نوال؟ الفلاح بوله أحمر؟! ده تهكم واضح على الاشتغاكية وسيادة الغيِّس شخصيًّا (يعني الاشتراكية وسيادة الرَّيس).
منذ هذا المؤتمر عام ١٩٦٢ دخل اسمي القائمة السوداء، أصبح لي دوسيه صغير في وزارة الدَّاخلية يحمل اسمي الثلاثي، الأب والجد السعداوي الذي مات قبل أن أولد. بعد أن تزوجت شريف حتاتة في ديسمبر ١٩٦٤ أضيف إلى اسمي كلمة أخرى سيئة السمعة «شيوعية» يضيفون إليها كلمة أكثر سوءًا «حمراء»، لي جريمة سابقة تَصْطَبِغ باللون الأحمر، هي عبارتي عن الفلاح وبوله الأحمر وأنا امرأة أيضًا، المرأة الحمراء ليست كالرَّجل الأحمر، كان في مصر رجل يسمونه «الباشا الأحمر» تعني الباشا الشُّيوعي؛ يمكن للرَّجل أن يكون أحمر دون المساس بأخلاقه، فهي كلمة سياسية، أما «المرأة الحمراء» فهي تندرج — مثل الليالي الحمراء — تحت بند الأخلاق، مثل «امرأة الشَّارع» في اللغة تعني المومِس أما «رجل الشَّارع» فهو المواطن الكادح من فئات الشَّعب، «الرحل الحر» يعني الرَّجل الأبي الشجاع المدافع عن الحرية، أما «المرأة الحرة» أو الداعية إلى حرية المرأة فهي إباحية تدعو إلى الفساد الأخلاقي.
سكن شريف معي في شقتي الصغيرة بشارع مراد بالجيزة، أصبحت الشقة تحت المراقبة ثمانية وعشرين عامًا حتى انتقلنا منها، كانت مراقبة غير دائمة متقطعة بحسب ذبذبات الحكم في مصر، حكم مذبذب بين اليسار واليمين، يستقر في الوسط دون نظرية أو فكر، ينتقل من النقيض إلى النقيض بين يوم وليلة، يلعن الاستعمار كالشَّيْطان يومًا ويقدسه كالإله في يوم آخر، ما بين هذا وذاك يتحول الأصدقاء إلى أعداء، أو الأعداء إلى أصدقاء.
مثل هذا الحكم لا يؤدي في النِّهاية إلا إلى الهزيمة، منذ ولدت في بداية الثلاثينات حتى اليوم لم تشهد بلادنا إلا الهزيمة وراء الهزيمة، حل الأميركان محل الإنجليز، ودولة إسرائيل أصبحت تملك الترسانة النووية والسلطة العليا، تحلم بأرض الله الموعودة من النيل إلى الفرات، لم يعد الفرات بعيدًا عنها بعد حرب الخليج عام ١٩٩١. منذ عهد السادات وبداية عصر الانفتاح عام ١٩٧٤ كفَّ رجال البلاط والنُّخبة المثقفة عن نطق كلمة الاشتراكية، أصبحت من الكلمات المحظورة، عادت مصر إلى مجتمع النصف في المِائة، ازداد الفقراء فقرًا والأثرياء ثراءً، فَتحت البورصة أبوابها المغلقة منذ العهد الملكي القديم، انتشرت كلمة الدِّيموقراطيَّة والليبرالية، تجمَّع نفر من النُّخبة المثقفة في قصر السادات وصدر قرار جمهوري بإنشاء المعارضة والأحزاب السِّياسيَّة، أصبح حزب الحكومة هو الأكبر، يمكن عند الضرورة أن يبتلع الأحزاب الأخرى، يمين ويسار ووسط، كما ابتلعت عصا موسى الثعابين الصغيرة.
لم أدخل أي حزب بطبيعة الحال، كتبت مقالًا بجريدة الشَّعب، إحدى الصُّحف الجديدة التي حملت اسم حزب العمل، أحد الأحزاب المعارضة، كان مقالًا بعنوان «من ينشئ الأحزاب في مصر، الشَّعب أم الحاكم؟» وفي يوم ٦ سبتمبر ١٩٨١ اقتحم رجال البوليس بيتي في شارع مراد بالجيزة، كسروا الباب وأخذوني إلى سجن النِّساء بالقناطر الخيرية، وجدت نفسي متهمة بالتَّآمر لقلب نظام الحكم في مصر لحساب دولة أجنبيَّة اسمها بلغاريا، لماذا بلغاريا بالذات؟! لا أعرف.
لم أسافر في حياتي إلى بلغاريا، ليس لي معرفة بامرأة بلغارية أو رجل بلغاري، لا أعرف اللغة البلغارية، لا أكاد أعرف شيئًا عن بلغاريا، أنسى موقعها فوق خريطة العالم.
إن تلفيق التهم للمعارضين أمر معروف في كل العهود، في كل البلاد، لكن هذه التهمة كانت أشبه ما تكون بالنكتة، يضحك شريف ويقول: كده يا نوال تتآمري مع بلغاريا على قلب نظام الحكم من غير ما تقولي لي؟!
لم أدرك مأساة هزيمة ١٩٦٧ إلا في زيارة لقريتي صيف عام ١٩٦٨، حين التقيت بحفيد دادة أم إبراهيم، اسمه على اسم أبيه الذي لم يعد من حرب ١٩٤٨. كان راقدًا فوق الحصيرة على الأرض، من حوله النِّساء يبكين في صمت، عيونهن ذبلت من البكاء، سقطت عنها الرُّموش، يولولن بأصوات جماعية خافية كالنحيب المكتوم: إلهي ينتقم منك يا ميخا! وجوههن ضامرة ممصوصة محروقة بالشمس، رءوسهن ملفوفة بالطُّرَح السوداء، الجلاليب بلون التراب، وإبراهيم راقد فوق الحصيرة يَهْذِي بالحمَّى، أمه تكاد تشبه أمها دادة أم إبراهيم، لكنها أكثر ذبولًا وإعياءً، تمسح عن وجه ابنها العرَق بطرَف طرحتها السوداء، تبكي بلا صوت وابنها يحكي ما حدث له في الحرب، نجا من الموت لكنه عاد حُطام إنسان.
كان إبراهيم قد بلغ عامه الواحد والعشرين قبل أن يذهب إلى الحرب بأيام، كان يستعد لحفل زواجه من ابنة عمته زهيرة، جاءه أمر الاستدعاء في شهر مايو ١٩٦٧، ترك القرية والعروسة، ارتدى الزي العسكري وانطلق يهتف: الله، الوطن، تحيا مصر حرة. حلقوا رأسه ورحَّلوه إلى منطقة بير الحما بالقرب من مغارة الفحم في العريش. قامت الحرب يوم ٥ يونيو وهو في بير الحما، عرف ذلك من الراديو، سمع المذيع يقول انتصرنا انتصرنا. ثم فوجئ بعد ثلاثة أيام بالضبط يوم ٨ يونيو بالدبابات الإسرائيلية تحيط به وبزملائه الجنود، وتم تدمير كتيبته بالكامل وقتل قائدها.
يمسك إبراهيم رأسه بين يديه ويجهش بدون صوت، تمسح أمُّه العرقَ فوق جبهته بطرَف جلبابها، ترمقه النِّساء لاهثات، تسأله كل واحدة منهن عن ابنها: وكان مين معاك يا إبراهيم؟ مش فاكر كان مين معاك يا إبراهيم؟ يبربش إبراهيم بعينيه، يرمق السَّقف الأسود بلون الهباب، يمسك رأسه بين يديه ويقول: مش فاكر مين كان معايا لكن قائد الكتيبة كان اسمه فؤاد عبد الحكيم، أخذوه وقتلوه مع الأسرى.
يسكت إبراهيم يبتلع ريقَه، تُناوله أمُّه كُوزَ الماء، تسأله إحدى النِّسوة: مش فاكر اسم حد من اللي كانوا معاك يا إبراهيم؟ يتذكر إبراهيم: كان معايا واحد اسمه أنيس كان شاويشًا متطوعًا من الإسماعيلية، وواحد تاني من بورسعيد اسمه جمعة، وجت دبابة ومشيت على الأرض، أمرونا إننا نرقد ع الأرض على شكل صفين فوق علامة جنزير الدَّبَّابة، وكانت الدَّبَّابة تمشي بعيد عنا وبعدين ترجع هاجمة علينا عشان تدفِنَّا في الأرض، وكان اللي يقوم واقف عشان ينقذ نفسه من الدَّبَّابة يضربوه بالنار، وقلت لنفسي: خلاص يا إبراهيم ربنا أراد إن عمرك ينتهي، وماحدش بيموت ناقص عمر ده مصيرنا مكتوب على الجبين. والدَّبَّابة وهي ماشية كانت تضرب بالمدافع بين الصَّفين الرَّاقدين ع الأرض.
ومات اللي مات، منهم جمعة من بورسعيد، وربنا كتب لي عمر جديد أنا وأنيس، أخذونا في الليل جوَّه عربيَّة، وكنت تقريبًا فاقد الإحساس ودراعي اليمين فيها جرح كبير ينزف مش عارف من إيه، وحطُّونا في مكان بعيد في الصحراء وحوطونا بالأسلاك الشائكة وحطُّوا علينا حارس اسمه ميخا. يتوقف إبراهيم عن الكلام، يلهث، وتمزق النِّسوة الطُّرَح السَّوداء، يصرخن في نفَس واحد: ربنا يحرقك في نار جهنم يا ميخا! أمه تناوله كوز الماء تمسح عرقه، يرمقها بعينين تبربشان: لا يمكن أنسى شكل ميخا يا أمه، كان عددنا حوالي تلتمية وميخا قال عشرة عشرة؛ يعني نقف صفوف، كل صف عشرة، ويضرب علينا الرَّشاش.
وكان الكل يندفن، اللي مات واللي لسه صاحي، وبعدين ميخا قال عشرة عشرة، ونقف صفوف، كل صف عشرة، بين الصف والصف متر، يمشي ميخا يعد الصُّفُوف وإذا لقي صف ناقص واحد ياخذ منه اتنين، أو صف زايد واحد ياخد منه اتنين برضه، يطلعهم على جنب ويضربهم بالنار، ويقول لنا ياللا احفروا وادفنوا زمايلكم. وبعدين يقول عشرة عشرة، ويضرب بالنار. احنا الباقيين قسمنا مجموعة في اليمين ومجموعة في الشمال، اللي في اليمين عليها تحفر وتدفن، وأنا دفنت بإيديا زميل مضروب بالرصاص لكن صاحي وعينيه في عيني، وأنا بارمي الرمل عليه وفي ضهري مدفع وزميلي صاحي يقول لي اردم يا دُفعة خلص عليَّ بسرعة، ولما ردمت الرمل على عينيه الدنيا دارت بي ووقعت ع الأرض.
كنت فاقد الإحساس، ولما فُقت لقيت نفسي جوة عربية ماشية في الصحراء وجنبي أنيس وفرحت أوي بأنيس، هو الوحيد اللي عرفته، قال ياللا ننط. وقفزنا من العربيَّة في الضالمة ومشينا في الصحراء يوم وراء يوم لغاية ما وصلنا البحر، كان هو بحر العريش، ولقينا أعداد كتيرة أوي ماشيين على البحر مشينا معاهم. وجت الطيارات الميراج حلقت فوقنا، كانت الطَّيارة تنزل عجلتها الأمامية ويمكن تلمس الأرض وتضرب علينا، وشفت رأس طايرة في الهواء من غير جسم، أو جسم طاير في الهواء من غير رأس. وبعد الميراج جت الطيارات الهيلوكوبتر تصطاد واحد واحد من البحر، وخرجت من البحر مبلول ومش عارف أنا مين، وبعدين افتكرت إن اسمي إبراهيم وإنَّهم استدعوني من الاحتياط يوم ٢٥ مايو، وافتكرت أنيس ورُحت أدوَّر عليه، يظهر إنه مات أو غرق في البحر مش عارف. ومشيت ع البحر وأقول يمكن ربنا ياخد بيدي، لكن جت عربيَّات جيب وأخذوني السِّجن، وكان اليوم ده هو ٢٥ يونيو، يعني شهر بالضَّبط من يوم ما سافرت. قالوا إنَّي أسير من الأسرى في بير سبع، وكان معايا زمايل كتير ما عرفش أسماءهم، عصبوا عينينا وكتفونا زي الفراخ ونقلونا لسجن تاني اسمه عتليت، مات فيه اللي مات، وأنا مش عارف إزاي عشت، لكن كل يوم كنت أدعي ربنا إني أموت، لغاية ما جه يوم قالوا اجهز، وعرفت إني راجع بلدي ضمن مجموعة في تبادل الأسرى، كان اليوم ده ٢٦ فبراير ١٩٦٨، يعني تسع شهور ويوم من أول ما استدعوني من الاحتياط.
سكت إبراهيم طويلًا، كان يرتعش، تصطكُّ أسنانه، ينتفض كالمصاب بحمى الملاريا، همستْ أمه في أذني: ربنا يخليكي يا ضكطورة اكشفي عليه واكتبي له دوا يشفيه إلهي يكفيكي شر المصايب يا رب!
لم يكن إبراهيم مريضًا بالحمى أو أي مرض عضوي، وأنا أفحصه انفرجت شفتاه الزرقاوان عن أنفاس متحشرجة وصوت خافت: مش قادر أنام يا دكتورة من يوم ما خرجت من عتليت وأنا بافتكر زمايلي اللي ماتوا وزمايلي اللي دفنتهم بإيديا. ويحملق إبراهيم في يديه الناحلتين المرتعشتين ويهمس: بإيديا دول دفنت زمايلي في الرمل في الصحراء، وكل ليلة أحلم إني واقف في الصَّحراء أردم الرمل على أنيس وهو صاحي عينيه في عيني ويقول لي كده يا إبراهيم تعمل كده يا إبراهيم؟! مع إن أنيس يا دكتورة غرق في البحر وما كانش واحد من اللي اندفنوا في الرمل، إيه اللي يخليه يقولي كده يا إبراهيم كده يا إبراهيم؟!
وتجهش أمه بالبكاء تمسح دموعَها بكفها الكبيرة المشققة وتهمس: ما عندوش غير حكاية أنيس يا ضكطورة.
ومات إبراهيم حفيد دادة أم إبراهيم وهو يَهْذِي باسم أنيس، يُخفي يديه تحت الغطاء المهترئ ويصرخ: أبدًا أبدًا يا ناس مش إيديا دول اللي دفنت زمايلي في الرمل، ده ميخا يامَّه! وتلطم النسوة خدودهن، يمزقن شعورهن يمرمغن رءوسهن في التُّراب ويولولن في صوت واحد: إلهي يحرق قلبك وقلب أمك يا ميخا!