الصَّديقات القَديمات
أجلس إلى مكتبي الصغير في غرفة نومي، أُطِلُّ على القاهرة من الدور السَّادس والعشرين، ترقد المدينة تحت سحابة من الضباب الأسود بلون الدُّخَان، يبدو أول النهار كأول الليل. عُدت إلى مصر بعد سنوات الغربة، أعيش الغربة داخل الوطن كالغربة خارجَه، لم تعد السَّماء زرقاء صافية كما كانت، الهواء أصبح مشبعًا بالدخان والهزيمة، نهر النيل أصبح حبيسًا داخل مدينة من الأسمنت، ارتفعت الجدران السوداء وزحفت على كل شيء، لم تَعُد هناك شجرة واحدة خضراء ألمحها في مجال الرؤية.
نافذتي عالية أُطل منها على نهر النيل، كانت له رائحة جدتي وطفولتي، الطمي الأسود بلون بشرتي. كنت أسبح في النيل مغمضة العينين، يدفعني التيار الهادئ، يهبط نحو الشَّمال مع الأشرعة البيضاء، وأجنحة حمائم السلام، والطيور المهاجرة من الشمال أو من الجنوب، مع حركة الشَّمس والقمر.
في مصر تنساب مياه النيل مع الأرض من الجنوب إلى البحر الأبيض، وقد تعاكسها الرِّياح الشَّمالية تبطئ حركتها. تمشي بجوار الشَّاطئ مع حركة الْحَمِير والجاموس، والأقدام الحافية بلون الأرض، يذهبون إلى الحقول عند الفجر، يعودون مع الغروب، بيوتهم من الطين المحترق بالشمس، وجوههم بلون أقدامهم وأكثر سُمرة، ضامرة ممصوصة، وأيديهم مُشقَّقة بالفأس.
تركت حي الجيزة الذي كنت أسكنه قبل أن أسافر إلى المنفى، قررت ألا أعودَ إليه، أركان شقتي في الجيزة تُعشش فيها ذكريات سوداء، سنوات المطاردة والحبس، وجوه رجال البوليس تُطل من الباب، فوهات البنادق مصوَّبة ناحيتي، رائحة الخيانة أشمها في كل ركن، تحت الابتسامات الناعمة ألمحُ آلة القتل، تحت اسم الحماية يمشي البودي جارد خلفي ويده فوق المسدس.
عدت من المنفى منذ عامين إلى هذه الشَّقة الصَّغيرة في حي قديم اسمه شبرا، يكتظ بالجوامع والكنائس. تبرز قِبابها ومآذنها فوق أسطح البيوت الواطئة المتلاصقة. بحر أسود من الأسمنت بلا شجرة واحدة خضراء، يرتفع عند جبل المقطم ناحية الشرق، تعلوه قلعة محمد علي، قمم الأهرامات الثلاثة خوفو وخفرع ومنقرع تبرز من الضباب بلون الدُّخَان ناحية الغرب، والنهر يمشي يشقُّ طريقه بين الأسفلت، كالسهم الأبيض ينعكس عليه الضَّوء، ينقسم عند شبرا ليحتضن الجزيرة الصغيرة، اسمها وراق العرب، ثم يمشي رغم محطة الكهرباء الضخمة إلى القناطر الخيرية، يجتازها رغم السدود، وشبح السِّجن الأسود بنوافذه الصغيرة المسدودة بالقضبان الحديد.
عيناي مشدودتان إلى الماضي بحكم الحنين، رغم الجرح الدفين يبدو الماضي أجمل من الحاضر. والنيل كما كان يمشي إلى الإمام لا ينظر إلى الخلف، ينقسم إلى الفرعين الكبيرين، دمياط ورشيد، كالأم تفرد ذراعيها وتحتضن دلتا النيل، تشبه المروحة أو الكف المفتوحة الأصابع على البحر، صدرها مفتوح لتلقي الضربات من الغرب فوق منارة الإسكندرية. واحترقت بورسعيد من الشرق تحت قنابل بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، وأمريكا من وراء الستار. لم تكن مياه النيل تتقهقر إلى الوراء، تمشي في طريقها، تفرغ شحنتها في جوف البحر، تلقي فيه نفسها كالفتاة العذراء تفضل الموت غرقًا عن أن يغتصبها الإله.
من نافذتي أُطل على المدينة كلها التي يسمونها القاهرة الكبرى، هي العاصمة منذ أكثر من ألف عام، عندَها يختنق النيل بالدُّخَان والجدران المسلَّحة، إنَّها القاهرة، وتقهر أهلها منذ الفراعنة، كما تقهر معبودها المقدس إله الفيضان، وترفع صيحاتها قبل الشروق عبر مكبرات الصوت المثبتة فوق المآذن، وأجراس الكنائس في حي شبرا تتبارى مع أصوات الرِّجَال يؤذنون للصلاة خمس مرات في النهار، وفي الليل تعلو فوق التراتيل المقدسة طرقعة الصَّاجات في حفلات الزفاف مع دقات الطبول والغناء والرقص.
في طفولتي كنت أحب الغناء والرقص، وأجلس إلى جوار عمتي بهية، تتربع فوق الأرض الترابية، بين ساقيها تحتضن الطبلة، تنقر عليها بأصابعها السمراء المشققة، ينطلق اللحن الراقص، والقدم تدق الأرض مع الإيقاع. أقدام النِّساء كبيرة مثل قدم جدتي، بحجم قدم النبي المحفورة فوق الحجر الأسود، أقدام نساء يخرجن قبل الفجر حاملات الفئوس، يأكلن ما تزرعه أيديهن، يشربن من ماء النيل. جدتي أطولهن قامة، ورثت قامتها الفارعة عن أمها، لم تكن أجيرة عند أحد، زوجها مات قبل أن يسيطر عليها، العمدة كانت تقف أمامه مرفوعة الرَّأس، تشوح في وجهه بيديها الكبيرتين المشققتين، وفي الليل تغني مع النِّساء على إيقاع الطبلة: يا عزيز يا عزيز كُبَّة تاخد الإنجليز.
في الخامسة من عمري سألتُها «الإنجليز مين يا ستي الحاجة؟» تضحك حتى تدمع عيناها، تمسحهما بطرَف جلبابها الواسع، وتحكي حكاية الإنجليز حين دخلوا مصر وهي طفلة، تمد عنقها القوي العضلات وتشمخ بأنفاسها وتقول: كنت عيلة صغيرة ألعب مع العيال، سمعنا أن الإنجليز دخلوا مصر، روحنا للعمدة كان عددنا عشرين أو تلاتين وكلنا عيال صبيان وبنات، وسألنا العمدة عاوزين إيه يا عيال؟ قلنا عاوزين نحارب الإنجليز يا عمدة. كان راجل كِشر غِلس وشه أحمر زي الإنجليز، شخط فينا، وقال: امشوا على بيوتكم يا ولاد المركوبة. حسيت إن جتتي ولعت نار، يقول على أمي المركوبة، أمي اللي عمر ما حد ركبها حتى جوزها ما عرفش يركبها، رُحت ماسكة طوبة وزقلاها في عينه، طارت عينه الشِّمال، وأنا جريت على الدار ورايا العيال والغفر ورانا بالشوم، ضربوا العيال، فتحوا راس الواد عقلة الصباع، كان زي القرد، ياما فتحوا راسه وأمه تلطم وتقول مات لكن بعد يومين يقوم زي العفريت، وهو اللي فتن عليَّ وقال إني أنا اللي رميت الطوبة في عين العمدة، وأبويا كان يخاف من العمدة، وقال لازم البنت نجوزها، ما فيش غير الجواز يشكمها ويا لا هوب مسكوني وجوزوني.
ورثتُ بشرة جدتي السمراء، والدماء في جسدي تشدني إليها، في أعماقي عشق لقوة ملامحها، كأنما منحوتة في الصخر، والنيل تسميه البحر، تنعكس عليه أشعة الشمس بلون الذهب السائل، أو الدم القاني المخلوط بالطمي. كانت جدتي جامحة كالنيل في عصره الأول حين كان يفيض، ينحدر من منابعه العليا جَموحًا يجتاز الصخور والنتوءات الحجَرية لا يجسر على ركوبه أحد، فإذا ترك الأرض العالية يفقد جموحه، يستطيع النَّاس الاقتراب منه، قد يضيق فلا يصبح سوى أذرع مسطحة، يجتازه النَّاس مع بهائمهم وسلالهم من الجريد المضفور أو القش المبروم، يبولون فيه دون حرج، يفقد إله الفيضان شموخه القديم، يمضي منحدرًا إلى الوادي السهل، يبتلع في جوفه قُمامة الصعيد والدلتا، وعظامًا مفزعة من اللحم، جلود خراف مذبوحة ومسلوخة ثم منفوخة، يتعلق بها جسد فتاة صغيرة تسبح مع النهر جسدًا إلى جسد، ترتج مع رجرجات الموجات كأنما في رقصة النفَس الأخير.
أتطلع إلى وجوه النِّساء أبحث عن وجه جدتي، قسمات وجهها كانت أكثر حدَّة، قامتها أطول بحثًا من هامات الرِّجَال، رأسها في السماء كالشجرة، عيناها سوداوان، بريقهما خاطف كالبرق، نظرتها ثاقبة كالسهم تفلق الكون نصفين، تنطلق إلى الحقل كالشراع لا يوقفها شيء، وحيدة من غير حارس ولا زوج، وجهها ناحية الشمس رفيقها القمر في الليل، وأشجار النخيل على ضفاف النيل.
القلم في يدي يتحرك فوق الورق كأنما بقوة لا إرادية، أريد التوقف عن الكتابة دون جدوى، إنها الملاذ الوحيد أتمسك بها حتى النفَس الأخير، لولا الكتابة لاندثرت منذ نصف قرن وراح اسمي في العدم كما راح اسم جدتي وأمي.
منذ طفولتي كنت أندهش كيف تروح أسماء النِّساء في العدم، أتلفت حولي أبحث عن أحد مندهش غيري فلا أجد. أمامي فوق المكتب صورة في الصفحة الأولى من جميع الصُّحف، كلمتان تحت الصورة، صاحب الجلالة، الملك أو الرَّئيس، أتلفت حولي وأندهش، كأنما الماضي يُبعث حيًّا، ينهض من قبره الإله خادم فرعون، أو فرعون خادم الإله. وفي كل بلد أسافر إليه داخل الوطن العربي، أرى الصورة فوق الجدران، لا يكاد يخلو جدار من الصورة بالحجم الطبيعي، بالبدلة العسكريَّة أو بدلة الصلاة أو بدلة التشريفات، أو وشاح القضاء، أو الرُّوب الجامعي، أو بدلة العمال أو الفلاحين إلا فئة النِّساء، لا يمكن للرجل أن يرتدي ملابسهن وإن تحدث باسمهن في الانتخابات وحصل على أصواتهن.
في رحلاتي داخل الوطن العربي أتلفت حولي وأندهش، أبحث عن أحد مندهش غيري فلا أجد، وأسأل النَّاس فيضحكون، يحكي أحدهم فكاهة أو حكاية. كثيرة هي الحكايات عن الحكام العرب، يختلفون ويتفقون، يتخاصمون ويتصالحون، يتغير الحلفاء إلى أعداء، وينقلب الأعداء أصدقاء. يجتمعون في حلقات هرمية يسمونها القمة، بعضهم يسلك الممشى المركزي ويطوف حول المحراب وصولًا إلى البيت الأبيض في واشنطن، بعضهم يفضل الممشى الجانبي الأكثر ظلالًا المفضي إلى الحظيرة حيث تُحجز خراف الأضاحي، أما الخيول الجامحة فهي تُحبس وراء القضبان، تسرح الغزلان والحملان في أي مكان دون خوف، وفي مواسم الانتخابات تطوف بهم العربات البوكس، تجمعهم للإدلاء بأصواتهم وأصواتهن، تتراوح ما بين ٩٨٫٩٪ و٩٩٫٩٪ أو شيئًا من هذا القبيل.
أهبط الأدوار السِّتَّة والعشرين لأمشي على شاطئ النِّيل، ساعة ونصفًا أمشيها كلَّ صباح، عضلاتي قوية، بشرتي مشدودة إلا من خطوط خافتة تحت العينين، البريق الأسود داخل النني يطلُّ كأنما من بؤرة لم تكشف عن نفسها بعد، لم يبقَ أمامي إلا عامان وأبلغ السبعين من العمر، ياه سبعين سنة؟! الرقم يرنُّ في أذني مَهولًا؛ مع ذلك تبدو طفولتي قريبة، تزداد قربًا مع التقدم في العمر، كأنَّما كنت بالأمس في العاشرة، ذكريات الطفولة تعود أقوى مما كانت، وسنوات الشَّباب حين كنت في العشرين أو الثلاثين تبدو الأمس.
منذ أيام قليلة التقيت صدفة بصديقتي بطة «الدُّكتور كاميليا»، رأيت امرأة عجوزًا تملأ وجهها التجاعيد، تتكئ على ذراع زوجها، لم أتعرف عليها، توقفت عن السير حين رأتني وصاحت: نوال! مش معقول!
كانت بطَّة من أقرب الصديقات إليَّ، تخرجنا معًا من كلية الطب، رغم الاختلاف في كل شيء كنا نلتقي، تمر السَّنوات دون أن أراها وفجأة يدق جرس التِّليفون في بيتي وأسمع صوتها: إزيك يا نوال؟ أهلًا يا بطة.
كان هناك شيء يجمع بيني وبين صديقتي بطة، التعود القديم أو الإدمان؟! تملأ حياتي الجادة بشيء من الاستهتار، إلى جوارها أحس بالنقاء، يحتاج النقاء لشيء من الفساد ليرى نفسه.
كانت بطة تحب الفن والسينما والرقص، لم تكن تطيق الحديث في السِّياسة، لا تؤمن بهذه الكلمات الثلاث الكبيرة: الوطنية، الاشتراكية، الإخلاص الزَّوجي. تطلق ضحكتها المتقطعة كالشهقات، وتقول: إذا كان ربنا خلقنا درجات الخيانة الزَّوجية ليه أحيانًا نؤمن بالإخلاص، كان ربنا خلقنا درجات ليه نؤمن بالاشتراكية أو العدالة؟! وإذا لم تكن سامية توافق على ما تقوله بطة، تزمُّ شفتيها الرفيعتين وتصف بطة بالبرجوازية المنحلَّة، تشهق بطة بسخرية وتقول لسامية: أنت شيوعية غارقة لأذنيك في حب البرجوازية. ينسحب الدم من وجه صفية حين تسمع كلمة الشُّيوعيَّة، كأنما تسمع عن مرض أو وباء، كلمة البرجوازي أيضًا كانت تُغضبها، تهمس في أذني: بطة وسامية زي القط والفار لازم يتناقروا، يالا بينا يا نوال نلعب ماتش تنس!
كانت صفية أقرب الصديقات إليَّ، إن غابت عني الصديقات فهي لا تغيب، تزورني في بيتي من حين إلى حين، أراها من النافذة وهي تركن سيارتها الفيات الزرقاء، في شارع جانبي صغير متفرع من شارعنا في الجيزة، في مواجهة سور حديقة الحيوانات. منذ بدأ السادات عصر الانفتاح غرقت الشوارع تحت فيضان من السيارات المستوردة، أصبحنا نستورد كل شيء حتى الخبز وعصير البرتقال، ومن كاليفورنيا أخيرًا جاء الفول المدمس في العلب.
اختفت الشَّجرة أمام بيتي وارتفعت الجدران، حاجبة الشَّمس والهواء، لم أَعُد أرى الشَّارع الجانبي الصغير حيث تركن صفية سيارتها أمام محل البقالة، أتابعها بعيني وأنا واقفة في النافذة بالدور الخامس، يبدو الشَّارع العريض مسدودًا بالسيارات، التي تتلاصق بجوار الرَّصيف وفوق الرَّصيف، لا يبقى إلا ممر ضيق لا يسمح بمرور المشاة. أتابع صفية وهي تشق لنفسها طريقًا بين السيارات، رأسها مُطرق إلى الأرض قليلًا. وفي كلية الطب كانت تتهيَّب الدخول إلى المدرج المليء بالطلبة، تختفي ورائي حين ندخل من الباب، تتعثر خطواتها قليلًا حين ترمقها العيون، تكاد تجري لتلحق بي وأنا أمشي بخطواتي الواسعة السَّريعة أواجه عيونهم أرد إليهم سهامهم، صفية تُطْرِق إلى الأرض، لا تريد النَّظر إلى هذه العيون المحملقة، تمد ذراعها وتمسك ذراعي، تتشبث بيدي كالطفلة تمسك يد أمها.
قالت صفيَّة: مبروك يا نوال روايتك الأخيرة، أنا أحسدك لا أعرف من أين تأتيك الشَّجاعة؟! ألا تخافين ألسنة النَّاس؟! إنها تنهش سمعتك يا نوال، ألا تسمعين ما يقولون؟! ليس عندي وقت يا صفية لسماع ما يقوله النَّاس، اسمعي هذه القصة القصيرة، انتهيت منها الآن فقط.
تراجعت صفية إلى الوراء فوق الكنبة في الصَّالة الصَّغيرة، فوق المنضدة زجاجة بيرة ستلا مثلجة، صحون صغيرة بها قطع جبنة بيضاء، خيار، طماطم، زيتون أخضر وأسود.
تنهدت قبل أن تمسك زجاجة البيرة، مسحت بمنديلها قطرات عرق فوق جبينها، لم يكن العرق يظهر فوق جبينها مهما جرت، كنا نلعب التنس ولم يكن العرق يظهر. شيء ما يحدث في حياة صفية، يظهر رغم إرادتها على شكل قطرات العرق، رعشة خفيفة لأصابعها البيضاء وهي تُمسك زجاجة البيرة، تصبها في الكوب بحذَر حتى لا تفور الرغوة، قطرات ماء تتكثف على جدار الكوب الزجاجي، تنتشي قليلًا، يعود البريق إلى عينيها الخضراوين الناعستين قليلًا. الشمس اختفت تقريبًا، لم أعد أرى الشَّمس من نافذتي، إلا شعاعًا طويلًا رفيعًا يتسرب عند الغروب مائلًا بين الجدران العالية. أبواق السَّيارات تزعق في الشَّارع، لا أكاد أسمع صوت صفية وهي تحكي عما حدث لها بالأمس. أُغلق النافذة بالزجاج والشيش، مع ذلك يصلنا صوت الأبواق تصرخ، أصوات الرِّجَال تزعق فوق مآذن الجوامع من خلال الميكروفونات، طرقعات جارتي بالقبقاب فوق بلاط غرفتها المجاورة، الرَّجل في الشَّقة الأخرى يؤدب زوجته بالصفعات والشتائم، رياح وعواصف رملية تهبُّ من الصحراء، صفافير سيارات البوليس والإسعاف والنجدة، ماسورة المجاري مكسورة في الشَّارع المجاور، طبيخ بايت يغلي تتصاعد رائحته من المنور، أصوات قطط تتنافس حول صفائح القُمامة، مقلوبة أو مفتوحة بدون غطاء، بائع الروبابيكيا ينادي، وبائع الصُّحف يزعق: أهرام! أخبار! السادات يزور إسرائيل، أهرام! أخبار! جمهورية!
أفرغتْ صفية كوب البيرة المثلج في جوفها، أسندت رأسها إلى الوراء فوق المسند، ثم ضحكت جاءه الله في المنام وقال له قُم وانهض وسافر إلى إسرائيل! شوفي الراجل المجنون يا نوال! معقول ربنا يقوله في الحلم روح إسرائيل؟ هو فاكر نفسه سيدنا محمد وبيعمل رحلة الإسراء والمعراج؟ لكن العيب مش عليه، العيب على اللي حواليه، كلهم منافقين وكدابين زي الدُّكتور المحترم جوزي.
– المناخ العام الفاسد يا صفية يشجع النَّاس على الفساد.
– أيوه، لكن جوزي مصطفى طول عمره فاسد، عارفة البنت إياها اللي كان ماشي معاها؟
– البنت أنهيه يا صفية؟
– اللي حكيت لك عنها قبل كده.
كنت أنسى هذه الحكايات عن الخيانات الزَّوجية، ما أكثر هذه الحكايات التي سمعتها من الصَّديقات، ومن النِّساء اللائي يترددن على عيادتي أو بيتي، تشبعت ذاكرتي بهذه الحكايات فلم أعد أسمعها، وهي قصص متشابهة إلى حد كبير، الرَّجل الذي يخون زوجته في السر، تكشف الزَّوجة الخيانة، الصدمة والغضب والرغبة في الانتقام، أكثر مما يخيفها غضب زوجها أو غضب الله، تخشى الطَّلاق أكثر مما تخشى نار الآخرة، أكثر ما تخشاه أن تتحول العشيقة السرية إلى زوجة ثانية، وكم من زوجٍ أقدم على الزَّواج من عشيقته كنوع من العقاب لزوجته التي كشفت السر، وقد منحه الله والقانون حق الزَّواج بأربع نساء.
أصبحت صفية تتردد على طبيب نفسي اسمه الدُّكتور عبد القادر، كان زميلًا لنا في كلية الطب، منذ الصدمة الأولى حينما عرفتْ لأول مرة أن زوجها يخونها ذهبت إلى الدُّكتور عبد القادر، كان يكتب لها بعض الأدوية المهدئة للأعصاب، يتابع حالتها منذ خمس سنوات، تشعر بشيء من الرَّاحة حين تتحدث معه، يكنُّ لها نوعًا من الإعجاب أو الحب منذ أيام الدراسة، أراد أن يقيم معها علاقة، ترددت صفية وامتنعت ربما بسبب الخوف، لكن الدُّكتور عبد القادر كان يرى أن صفية مريضة.
بالوفاء الزَّوجي، يقول لها: الوفاء مرض نفسي عند كل الزَّوجات مثل الوفاء عند الكلاب، يعطيه اسمًا علميًّا في الطب النفسي، ويحكي لها قصة الكلب الوفي.
حكت لي صفية القصة كما حكاها لها الدُّكتور عبد القادر: اشترى الشاب الأعمى كلبًا صغيرًا بخمسة وعشرين قرشًا ليقودَه في الطريق، ظل الكلب مع سيده خمس سنوات، شُفي الشاب وعاد إليه بصره، حاول أن يستغنيَ عن الكلب، رفض أن يفارق سيده، كان للكلب دور هام في حياة سيده الأعمى، أصبح الكلب هو عيناه يرى بهما بدلًا من عينيه المريضتين، أحب الكلب هذا الدور، أحب سيده وأخلص له كل الإخلاص، أصبح إحساسه بحاجة سيده إليه هو الحب في نظر الكلب، وهو القانون الذي يحكم علاقة الكلاب بأسيادها ويجعلها وفية لهم، لكن السَّيِّد شُفي ولم يعد بحاجة إلى الكلب، كيف يتحمل الكلب هذا الموقف الجديد عليه؟ إنه يرفض التنازل عن الدور الذي يؤديه لسيده، دوره الوحيد في الحياة ولا دور غيره، أصبح وجود الكلب يعتمد على وجود سيده، لم يعد هناك كلب له ذات مستقلة عن ذات سيده، لم يعد هناك «أنا وأنت» أصبح «أنت» فقط، ذابت شخصية الكلب في شخصية سيده، كالزَّوجة التي تذوب شخصيتها في شخصية زوجها، إزاء هذا التفاني وهذه التضحية وافق السَّيِّد على رغبة الكلب ولم يطرده من بيته كما تُطرد المرأة المطلقة. ثم مات السَّيِّد، توقف الكلب عن الأكل، ارتدى الحداد ومات حزنًا على سيده كالأرمل التي تموت بموت زوجها، هذا الإخلاص والوفاء يسميه الدُّكتور عبد القادر «الوفاء الكلابي»، وثمن شراء الكلب خمسة وعشرون قرشًا، مثل الحد الأدنى للمهر في عقد الزَّواج.
كفَّت صفية عن الحديث، وامتلأت عيناها بالدموع وهي تردد لنفسها بصوت مشروخ: وفاء كلابي!
كان ذلك في نهاية عام ١٩٧٨، وكان شريف قد أمضى أربع سنوات بعيدًا في الهند، الرسائل بيننا متصلة، تنقطع أحيانًا لانشغاله في العمل، أو لانشغالي في عملي، مسئولية البيت والابنة والابن، وفي الليل أجلس إلى أوراقي أكتب روايتي الجديدة، ومقاومة حرب الإشاعات التي أطلقها أعوان السادات ضدي، وضد كل من عارض سياسة الانفتاح، أي فتح أسواق مصر للبضائع الأجنبية دون ضوابط، تدمير الإنتاج والصناعات المصرية، تكميم الأفواه واستيلاء موظفي الحكومة على الصُّحف والإعلام ودور النشر. بدأ نقاد الأدب المعينون في المؤسسات الصَّحفيَّة الهجوم على أعمالي الأدبية، بدأت الصُّحف الإسلامية الحكومية الجديدة تشوه صورتي ترسمني على شكل الشَّيْطان، الذي يحارب الإسلام ويتمرد على القيم والآداب العامة.
وجدت نفسي معزولة داخل البيت، هرب الأصدقاء والصديقات، انضم بعضهم إلى حزب الحكومة، البعض الآخر إلى حزب الإخوان المسلمين، وأحزاب المعارضة يسار ويمين، كان السَّادات قد أصدر قراره بإنشاء الأحزاب، واختيار أعضائها ورؤسائها، أصبحت هذه المعارضة الشَّرعية بديلًا للمعارضة الشَّعبيَّة الحقيقيَّة.
شعرت بالاختناق والغربة، أغرقت نفسي في العمل والكتابة، امتنعتْ دور النشر في مصر عن نشر أعمالي، أرسلتها إلى دور النشر في لبنان، اخترقت الحصار المفروض عليَّ، انتشرت كتبي في البلاد العربية، أصبحت الرسائل تصلني من المغرب والمشرق، القراء والقارئات العربيات، أصبحت هذه الرسائل تشجعني على الاستمرار في الكتابة، اختفى اسمي من القائمة الرسمية للأديبات في مصر، تم طردي من لجنة القصة في المجلس الأعلى للفنون والآداب، أصبح نقاد الأدب يتبارَوْنَ في الهجوم على أعمالي وكتاباتي، ويقولون إنها لا تنتمي إلى الأدب، إنها مجرد بحوث طبية أو اجتماعية، إنها تسيء إلى المجتمع، تشوِّه صورة الوطن والدين، تدعو إلى الفوضى والإباحية، ترفض القيم الأصلية والتراث المجيد.
ظهر على سطح الحياة الأدبية نساء موظفات مواليات للنظام الحاكم، يضعن الحجاب على عقولهن، تملك كل منهن عمودًا في جريدة حكومية كبرى، أو صفحة كاملة تعرض فيها الأزياء والمكياج، تحولت الصحفيات فجأة إلى أديبات، يحملن لقب مبدعة أو كاتبة كبيرة؛ كالحلية تتدلى من الأذنين، وفصوص الماس تلتف حول العنق، والتيربون الأنيق يغطي الشعر إلا خصلة أمامية تتدلى فوق الجبين، والروج الأحمر القاني بلون الشفتين، والبشرة المشدودة بالعملية الجراحيَّة في نيويورك أو باريس أو لندن، والمساحيق تغطي ما قد يظهر من تجاعيد، والعبارات الإنشائيَّة الضخمة عن الخصوصية والهوية الإسلاميَّة.
لم يكن لي مكان داخل هذا الصَّخب، جاءتني فرصة للعمل خارج مصر بالأمم المتحدة، سافرت إلى أديس أبابا بالحبشة عام ١٩٧٨، وإلى بيروت بلبنان عام ١٩٧٩، قدمت استقالتي في نهاية ١٩٨٠ وعدت إلى مصر، أدركت أن الأمم المتحدة لا يختلف نظامها عن الحكومة المصرية وغيرها من الحكومات، الداخل إليها مفقود والخارج مولود، النظام الطبقي الأبوي تُسيطر فيه القوة على الحق، تسيطر الأموال على الفكر والإبداع، يسيطر الرَّئيس على المرءوسين والمرءوسات، خاصة الصَّغيرات السِّن، الرَّقيقات النَّاعمات المعطرات، النَّاعسات العيون المسدلات الجفون، يخفق قلب الواحدة منهن للحب، في المؤتمر الدولي على جبال سويسرا في الصيف، أو في الشتاء تحت أشعة الشمس الاستوائية في سري لانكا أو الهند، وفي الربيع يُعقد المؤتمر الدولي لمناقشة مشاكل الفقر والجوع في العالم، أو مشاكل ختان الإناث وحوادث الاغتصاب، يتبارى خبراء الأمم المتحدة في إلقاء الخطب عن الجنس أو الاقتصاد، وفي الليل يتبارَوْنَ على الرقص مع الخبيرات الشابات، ينجذب الخبير الإفريقي الأسود إلى الشقراوات البيضاوات من الشمال.
كنت أقاطع هذه الحفلات، يكتب رئيس الإدارة تقريرًا ضدي، يقول لي إن حضور الحفلات جزء من العمل بالأمم المتحدة، والرقص مع الرَّئيس نوع من المجاملة الرقيقة، لا يخرج عن واجبات الموظفة الدولية. بدأ النزع يدب بيني وبين الرؤساء الأفارقة السود والرِّجَال البيض على حدٍّ سواء. حاول أحدهم أن يغازلني، كان يشبه الدُّب الأبيض، يصعد الدَّم الأحمر إلى وجهه حين يراني، أستاذ بجامعة بنسلفانيا في الولايات المتحدة الأمريكية قبل أن يلتحق بالأمم المتحدة، أصبح يحمل لقب كبير الخبراء في اللجنة الاقتصادية الإفريقية، لم يكن يعرف شيئًا عن مشاكل إفريقيا الاقتصادية، يقبض راتبًا من الأمم المتحدة يصل إلى ثلاثين ضعف راتبه في جامعة بنسلفانيا، وراتبًا آخر من البنك الدولي تحت لقب مستشار. كان يناديني باسمي الأول، وأناديه باسمه الأول، المساواة التقليدية الشكلية داخل الأمم المتحدة للتغطية على عدم المساواة بين الأفراد والدول.
– جاية الحفلة الليلة يا نوال؟
– لأ يا رولاند.
– ليه يا نوال؟
– عندي شغل.
– شغل إيه؟!
– رواية جديدة يا رولاند.
– لازم تاخدي إجازة شوية.
إلى مَنْ جَعلتْ شاطئ فيكتوريا أجمل من الوطن، وتركتْ فراغًا في حياتي لا يملأه أحد، انتهيتُ من الراوية التي بدأتها منذ خمس سنوات يوم لقائنا الأول عند منابع النيل، ربما نسيتِ هذا اللقاء يا صديقتي العزيزة، لكنه اليوم الذي رأيت في عينيك نفسي الحقيقية.
حين قرأ شريف البطاقة ابتسم وقال: يبدو أنه إنسان عاطفي. قلت: جدًّا. قال: هل أعجبكِ؟ قلت: جدًّا. ضحك شريف وقال: حكيتِ لي عن كل الذين غازلوكِ بمن فيهم الدُّب الأبيض ولم أسمع شيئًا عن هذا الروبرت؟ قلت: وأنتَ حكيتَ لي عن كل من وقعت في غرامك إلا تلك السوزانا الصغيرة من لوزان (وكانت صورتها قد وقعت في يدي بالصُّدفة وهي مرتدية مايوه بيكيني على شاطئ موزمبيق جوارها شريف يبتسم في سعادة، مرتديًا مايوهًا إفريقيًّا من سبعة ألوان، مثل ألوان الطيف).
في صباح يوم مشرق على شاطئ بحيرة فيكتوريا، دعاني روبرت على الغداء في مطعم صغير يُطلُّ على البحيرة، كنت أمشي كلَّ صباح على الشَّاطئ لمدة ساعة ونصف قبل أن أحضر جلسات المؤتمر الدولي، تعودت على رياضة المشي كلَّ صباح أو الجري سبعة كيلو مترات، أستقبل أول شعاعٍ للشَّمس من وراء البحيرة، أرفع ذراعي في الهواء، أُغمض عيني، أحس الشعاع الدافئ فوق جفوني، أفتح عيني على خضرة الشجر والأرض، وحصان أبيض يركبه فارس يرتدي بدلة بيضاء، لوَّح لي بيده من تحت زرقة السَّماء: صباح الخير يا نوال.
– صباح الخير يا روبرت.
– أين ستتناولين العشاءَ الليلة؟
– لا أعرف، هناك حفلة عشاء للمشاركين في المؤتمر.
– لا أحب حفلات العشاء.
– ولا أنا.
– إيه رأيك أدعوك إلى مطعم صغير يطل على البحيرة؟
– سأدفع ثمن عشائي يا روبرت.
– كما تشائين.
وأنا أرشف النَّبيذ الأحمر مع قضمات من الحمامة المشوية، كنت أراه جالسًا أمامي يرمقني بعينين زرقاوتين يكسوهما البريق، عيناه تلتقيان بعيني، أتظاهر أنني لا أرى ما فيهما، أقضم بأسناني عظام الحمامة الصغيرة، أسمعها تقرقش بصوت مسموع، أُثبت له أنني منشغلة عنه بالحمامة المشوية، وأنني لست هشَّة العظام مثل الحمامة، أو حسناوات الأمم المتحدة، السَّمراوات أو الشَّقراوات، وقلبي مليء بالحنين إلى منابع النيل.
– عيناكِ السَّوداوان ساحرتان وشَعرك الأبيض هذا في رَيْعان الشَّباب.
– أنتَ أيضًا شعرك أبيض في ريعان الشَّباب.
– أهيَ وِراثة؟
– ربما.
– أو دليل العبقرية؟!
الحوار يدور حتى نعود إلى الفندق، لم يكن شريف معي في هذا المؤتمر، قلت له حين سافرت إليه، كدت أقع في الحب يا شريف لولا … قال: لولا ماذا يا نوال؟ قلت: لولا ذلك المرض النِّسائي. قال: أي مرض هذا؟ قلت: هذا المرض الَّذي يسميه الدُّكتور عبد القادر … قال شريف: وما يُسميِّه؟ قلت: الوفاء الْكِلابي. وضحكنا ثم شَرِبنا نَخْب هذا الوباء المزمن.
•••
الصَّوت يُوقظني من النَّوم، أمدُّ ذراعي وأُمسك يده، تنسحب يدي وحدَها وتختفي تحت الوسادة، عيناه زرقاوان بلون البحيرة في يوم مشرق. أعود إلى النَّوم، وأصحو على صوت جرس التِّليفون، إنَّها صفيَّة تكاد تصرخ: صحيح يا نوال ما يقوله الدُّكتور عبد القادر؟ أفتح جفوني، وأرى الساعة تشير إلى الثَّالثة صباحًا، أَصيح بضيق: يا صفيَّة أنتِ تعرفين الدُّكتور عبد القادر مُنذ أيام الكليَّة، ألم يكن يدسُّ لك في الكشكول رسالة حب كلَّ يوم؟ إنَّه يريد الانتقام منك؛ لأنَّكِ رفضتِ الزَّواج منه، يردُّ لكِ الصَّفعةَ يا صفيَّة. الدُّكتور عبد القادر يقول لي ما أقول لنفسي يا نوال، كيف أُخلص لزوجي وهو خائن؟! الوفاءُ مقابل الخيانة ليس وفاءً بل مرضًا! إنه التعلق المريض بالزَّواج وإن كان فاسدًا، إنه الخوف المريض من فقدان الحب وإن كان غير موجود، أو فقدان الدور المزيف الذي لعبْتُه في حياة زوجي خمسَ سنوات، كيف أفقد حاجته إليَّ؟! كان يقول لي لا أستطيع الحياة بدونك، أنا لم أحبَّه يا نوال، لكني أحببت اعتماده على وجودي، لكني تشبثت به، كنت أخاف الطَّلاق، أصبحت أعتمد عليه يا نوال، لا أستطيع أن أعيش بدونه، انقلبت الأوضاع، أصبحتُ مثل الكلب التَّابع لسيده، لا يستطيع أن يفارقَه، ويموت بموته. العبارة تنطقها صفية بصوت يقطر مرارة، تضغط على الحروف، تَلوكها، تَلْفِظها من بين شَفَتَيْها حرفًا حرفًا؛ كالعلقم الْمُرِّ ينساب قطرةً قطرة … وفاء … كلابي؟!
•••
عام ١٩٩٨ دق جرس التليفون في شقتي الصَّغيرة الجديدة في حي شبرا القديم، تركت شقتي في الجيزة بعد العودة من المنفى العام الماضي. عشت فيها منذ عام ١٩٦٠، سبعةً وثلاثين عامًا عشتها في شقة الجيزة شارع مراد، بعد الطَّلاق الثَّاني استأجرْتُ هذه الشَّقَّة في الدور الخامس، إلى جوار الكنيسة الكبيرة، تطل على آخِر سور حديقة الحيوان، عشت مع طفلتي الصَّغيرة ودادة أم إبراهيم، استأجرت لأخَواتي الشَّقة في الدور الثَّالث، دخلت ابنتي مدرسة الحضانة المجاورة في شارع النيل، ودخلتْ أخَواتي الجامعة التي لا تبعد عن البيت إلا مسافة عشر دقائق على الأقدام بالخطوة السريعة.
في ديسمبر ١٩٦٤ تزوجتُ شريف، ترك بيت أسرته في الزمالك وأصبح يشاركني شقتي الصغيرة، ثلاث غرف وصالة، غرفة مستقلة لابنتي تشمل سَرِيرها، دولاب ملابسها، مكتبها الصغير، مكتبها به رفوف حتى السقف تحمل كتبها، كراريسها، ألبومات الصور، عُلَب الألوان، شرائط الموسيقى، والأفلام. منذ العاشرة من عمرها أصبحتْ تكتب خواطرها في مفكرة تشبه مفكرتي وأنا في مثل عمرها. أصبح لها أخ اسمه عاطف، ولدْتُه في المستشفى الجامعي في مدينة نيويورك فجرَ يوم ١٠ ديسمبر ١٩٦٥، كنت أدرس في جامعة كولومبيا للحصول على درجة الماجستير، عدت إلى مصر أحمل ابني وشهادة التفوق، عمره سبعة أشهر، بشرته سمراء بلون بشرتي، عيناه سوداوان يكسوهما بريق، فرحت ابنتي مُنى بأخيها، أصبح شريف أبًا لأول مرة في حياته، حمل عاطف بين ذراعيه وقال: طفل جميل يا نوال لأنه يشبهك، عيناه السوداوان وبريق الذكاء. ضحكت وقلت: ربما بريق ذكاء الأب … ألستَ أكثر مني ذكاءً يا شريف؟! ضحكت ابنتنا الطفلة وقالت أظن أنه ورث ذكاء أخته أكثر من الأب أو الأم!
أصبح لعاطف غرفة خاصة به في الشقة الصغيرة، بها سَرِيره ودولاب ملابسه، مكتبه الصغير، مكتبة بها رفوف حتى السقف تحمل كتبه، كراريسه، ألبومات الصور، عُلب الألوان، شرائط الموسيقى والأفلام السينمائية، منذ طفولته عشق عاطف السينما والموسيقى، يعزف على الجيتار، يسجل أفكاره مثل ابنتنا منى في مفكرته الخاصة.
الغرفة الثالثة في الشقة اقتسمتها مع شريف، لكل منا سرير صغير، دولاب ملابس، مكتب صغير، مكتبة لها رفوف حتى السقف، منذ تزوجنا عشنا في هذه الغرفة، نكتب فيها وننام ونقرأ ونسمع الموسيقى ونشاهد الأفلام. كانت هذه الغرفة هي حياتنا، المساحة الصغيرة الدافئة التي تضمنا، لم تكُفَّ الحكومة عن مطاردتنا داخلَ هذه الشقة الصغيرة، حوَّطها رجال البوليس والحراسة والبودي جارد، تخلل نوافذَها الأصواتُ الزاعقة في الميكروفونات تهدر دمنا، وأجهزة الإعلام والصُّحف تنشر — والهواء في الليل — الإشاعات، قطعوا الأشجار في الشَّارع أمامَنا، حلَّت مكانَها العمارات العالية والجدران الأسمنت، حجبت عنا الشمس، تتسرب من شقوق الشيش أضواء النيون المتحركة من حول الديسكو كلاب، ومآذن الجوامع التي أصبحت تتوالد وتتكاثر على نحو سريع، لا يفوقها سرعة إلا توالد وتكاثر محلات ماكدونالد الأمريكية، أغلقت المحلات المصرية أبوابها واختفت المنتجات المحلية من السوق.
حين عُدنا من المنفى عام ١٩٩٧ وجدنا شقة الجيزة مظلمة خانقة مثل زنزانة السِّجن، تعشعش فيها ذكريات سوداء، فقدنا فيها الزمن والطمأنينة، لم يكن لنا أن نعيش داخل هذه الشقة، انتقلنا إلى الشقة الجديدة في حي شبرا القديم، غرفتان فقط والصَّالة، وغرفة خاصة بشريف ينام فيها، الصَّالة للاستقبال ومنضدة صغيرة للطعام في المطبخ، وشرفة صغيرة تطل على النيل من الدور السادس والعشرين في حي شبرا القديم.
استقلَّت ابنتنا في حياتها الخاصة، أصبحت الدُّكتورة منى حلمي الكاتبة والأديبة المعروفة، لها مؤلفاتها وكتبها ومقالاتها في الصُّحف والمجلات، ابننا استقل بحياته الخاصة، أصبح المخرج السِّينمائي عاطف حتاتة، يهتم النُّقاد بأفلامه الرِّوائيَّة، يقولون إنها تفتح بابًا جديدًا في السينما المصرية حصلت أفلامه على جوائز مهمة داخل مصر وخارجها.
أصبحت أنا وشريف نعيش وحدَنا في شقة شبرا الصَّغيرة، نهبط الأدوار الستة والعشرين كلَّ صباح في الساعة السادسة، نمشي على شاطئ النيل مسافة سبعة كيلومترات، نعود لنشرب الشاي مع الجبنة القريش أو الزبادي بدون دسم، وعسل النحل والخبز البلدي المحمص.
أصبح لنا عدد قليل من الأصدقاء والصديقات، يتناقص عددهم بمرور السنين، يموت بعضهم أو يهاجرون، أو ينشغلون بمشاكل الأولاد والأحفاد، مرت السنوات دون أن أسمع صوت الصديقات القديمات بطة وصفية وسامية، أقرأ أخبارهن من حين إلى حين، أو يرن جرس التليفون بعد غياب السنين ويأتيني صوت إحداهن.
لم تنقطع زيارات الشَّباب والشَّابات إلى بيتنا منذ عودتنا من المنفى، أجيال جديدة من المبدعين والمبدعات في مجال الأدب والفن والسِّينما، بدأنا فكرة تكوين مدرسة فكرية جديدة تضم هؤلاء الشَّباب والشابات، أصبحت الفكرة تنمو، تتخذ شكلًا أكثر تحديدًا في ظل القوانين المتغيرة، خاصةً قانون الجمعيات الجديد الذي ما إن صدر في نهاية عام ١٩٩٩ حتى ألغته المحكمة الدستورية العليا في بداية العام ٢٠٠٠، وفي مصر يحكمنا قانون الطوارئ الذي يحرِّم الاجتماعات، ويسوق إلى السِّجن أي مجموعة لا ترضى عنها القوى الحاكمة المسيطرة.
ثم دق جرس التليفون في بيتي ذات يوم من أيام شهر يونيو الماضي، صوت رجل عبر الأسلاك يقول: بطة هانم معاكِ على الخط يا دكتورة.
كلمة هانم لم أسمعها من نصف قرن، في طفولتي كانت النِّساء في عائلة جدي شكري بيه يحملن لقب الهانم، أمي كان أبي يناديها أحيانًا زينب هانم، لم تكن النِّساء في عائلة أبي الفقيرة في قرية كفر طحلة يحملن لقب هانم، كلمة هانم توحي بالرقة والنعومة والانتماء إلى الطبقات العليا وسلالات الأتراك منذ المماليك والإمبراطورية العثمانية.
– بطة هانم يا دكتورة معاكِ على الخط.
دوى صوت طويل عبر الأسلاك صوتها المألوف، وقد أصابته بحة أو شرخة الشيخوخة.
– إزيك يا نوال.
– أهلًا يا بطة.
– بنتي شيرين كتب كتابها الخميس الجاي، وقالت لي لازم يا ماما تدعي الدُّكتورة نوال، بنتي معاها الدُّكتوراه من جامعة هارفارد في النَّقد الأدبي، قرأتْ كل كتبك، ورواياتك بالعربي والإنجليزي، ومعجبة بيكي أوي يا نوال، لازم تيجي عشان إنتي وحشتيني أوي، نفسي أشوفك بعد الغيبة الطويلة دي، ده احنا صحاب من زمان من أيام الكلية، ولا يمكن الصَّداقات القديمة تروح يا نوال، أنا عاملة الفرح في الفيلا الجديدة جنب أرض الجولف في مصر الجديدة، خدي العنوان يا نوال، والعريس إنسان ممتاز، كان زميل شيرين في هارفارد ومن أكبر رجال الأعمال.
نطقت الكلمتين من أنفها وقلبت الراء إلى غين كعادتها القديمة، قالت غجال الأعمال، رنَّت في أذني عجول. بعض الأشياء السَّاقطة منذ النِّظام الملَكي عادت، ومنها اللدغة الفرنسية في اللسان، والديوك الرومية المحشوة بالمكسرات في ليالي الكريسماس، والعجول المذبوحة في مولد النبي يوزعونها على الفقراء، والزَّبيبة السَّوداء عادت بارزة فوق جباه المؤمنين الصالحين، والطرحة السوداء أصبحت تلتف حول جبين المؤمنات الصَّالحات، وصديقتي بطة ذات الميكروجيب رأيتها ترتدي الطرحة من الحرير المستورد الثمين، تميل فوق جبينها ناحية أذنها اليمنى بانحدار شديد كما كان الطربوش يميل فوق رءوس الرِّجَال أيام الملك والإنجليز.
– أهلًا يا نوال، الدُّكتور نوال يا هوانم صاحبتي من أيام الدراسة كانت أشطر واحدة فينا، لكن يا خسارة سابت الطب وبقت تكتب روايات مش معقول إن بوسيبل!
– إن بوسيبل ليه يا بطة هانم ما شاء الله الدُّكتورة نوال اسمها مالي الدنيا، ده أنا كنت في سوسيغا «سويسرا» الصيف اللي فات، كان عندي كده شوية دبريشن «اكتئاب»، والدُّكتور بتاعي، الله يمسِّيه بالخير، قال اخرجي بره شمي شوية هوا، قلت أروح أزور بنتي في جنيف، أصل بنتي متجوزة خبير في الأمم المتحدة، طبعًا أَسْلَم وبقه اسمه جابر بدل جورج، وعندهم بنت ما شاء الله زي القمر سموها فاطمة على اسم بنت النبي، يقولوها فاتيما، تتكلم إنجليزي وألماني وفرنساوي وما تعرفش كلمة عربي، علمتها تقول يا جدتي بالعربي، أصل كلمة جدتي حلوة أوي في وداني. وأنا باحكي الحكاية دي كلها ليه؟ أيوه افتكرت، لقيت بنتي ماسكة في إيدها كتاب بالألماني، وقالت لي ده كتاب الدُّكتورة نوال السعداوي بيدرسوه في الجامعة هناك، وهتعمل عليه الدراسة، وقالت والنبي يا مامي لما تروحي مصر ابعتي لي كل كتب الدُّكتورة نوال.
صوتها يذكرني بصوت طنط هانم منذ نصف قرن، إلا أنها أكثر ثراءً، تلمع المجوهرات حولَ عنقها، ترمق خواتمها المرصعة بفصوص الماس وتمصمص شفتيها: «الحاجات» دي كانت مرمية في الصندوق خمستاشر سنة كل سنة تنطح أختها، من أيام الحراسة السودة ربنا ما يعيدها لغاية ما شفت الهانم لابسة جواهرها، الستات كلهم حواليها لابسين، رحت فاتحة الصندوق وقلت يعني أنا مش واحدة من الهوانم، ده أبويا كان بيه وأمي كان أبوها باشا، ويعني الهانم كان أبوها مين؟!
دب الصَّمت في الصَّالون المطل على الحديقة الهادئة في مصر الجديدة، وتظاهرتْ بعض الهوانم بعدم السماع، انكبَّ بعضهن على الأطعمة الممدودة داخلَ الشرفة الزجاجية الطويلة، قربت إحداهن فمها من أذني وهمست: «أصل العريس يقرب للهانم من بعيد» ونهضت إلى الطابور المتدافع نحو المائدة بخطوات وئيدة، كل منهم يحمل صحنًا كبيرًا من الصيني المزركش. تعرفت على الدُّكتور حمدي بسهولة بين الواقفين، ساقاه المعوجتان داخل البنطلون المكوي، صدره النحيف المبطط تحت البدلة الأنيقة المحكمة حول جسمه، رأسه الكبيرة بشعره المجعد، لم يَعُدْ كَثًّا كما كان ولا أسود، ظهرت له صلعة حمراء وسط الرَّأس، من حولها كتلة بيضاء من الشعر المضغوط كأنما بالمكواة الحديدية. كان يتحدث مع أحد الرِّجَال حين لمحني جالسة، تقدم نحوي وقال بصوت تشوبه حرارة غير عادية: الدُّكتورة نوال السعداوي لازم تعرفها يا محمد بيه.
– اتفضلي يا دكتورة.
وأفسح لي الدُّكتور حمدي مكانًا في الطابور، وقفْتُ أمامَه أحمل صحنًا كبيرًا فارغًا، لم ألتقط من الطعام إلا قطعة طماطم مع الجبن وأعواد قليلة من الجرجير، رائحة الأطعمة الدسمة لم تعد تثير شهيتي، منذ سنوات قاطعت السمن والزبدة والدهون الحيوانية، أصبحت أفضِّل الْخَضْروات على اللحوم. في الصحن الضخم وسط المائدة يطل فخذ خروف أو عجل يكاد يشبه أفخاذ بني آدم، تسقط عليه السكاكين بصوت مسموع، والأسنان أيضًا صوتها يكاد يُسمع، لولا صوت الدُّكتور حمدي المرتفع يتحدث مع صديقه غير بعيد عني.
– خلاص يا محمد بيه التلفزيون والفيديو والإنترنت طغوا على كل حاجة، الكتب خلاص سوقها راحت، ماحدش بقه يقرأ يا محمد بيه.
– أيوه صحيح يا معالي الباشا.
– لكن العريس بتاعنا راجل غاوي كتب، عنده دكتوراه في العلوم الإلكترونية، من جامعة هارفارد، وراجل مثقف جدًّا جدًّا رغم أنه قريب الهانم.
جاءت العبارة الأخيرة خافتة شبه هامسة، أعقبتها ضحكة مكتومة متقطعة، ثم صمت طويل … عادت فيه أصوات السكاكين والملاعق والأسنان. وارتفع صوت الدُّكتور حمدي مرة أخرى: إيه يا دكتورة نوال إنت مش بتاكلي ليه عاملة رجيم ولا إيه؟! عشان كده محافظة على قوامك؟ ثم دارت عيناه تبحثان عن زوجته، رآها منهمكة في الأكل والحديث مع إحدى السَّيِّدات، قرَّب فمه من أذني وهمس «قولي لصاحبتك بطة هانم تعمل رجيم.»
كانت بطة منهمكة في الحديث مع المدعوين والمدعوات، ألمح بينهم وجوه الصديقات القديمات وزملاء قدامى من الأطباء والأدباء، وجوه جديدة لا أعرفها من رجال الأعمال «البزنيس» وكلاء الشركات الأجنبية، ونساء الأعمال صاحبات الشركات الجديدة في السوق الحرة، رجال البورصة وقيادات أحزاب المعارضة، وأعضاء مجلس الشَّعب والشورى والقيادات الصَّحفيَّة والإعلامية، رئيسات الجمعيات النسائية والمنظمات غير الحكومية، في العهد الملكي كان اسمها الجمعيات الخيرية، تنشغل فيها النسوة بتنظيم الحفلات أو جمع التبرعات تحت رعاية صاحبة الجلالة الملكة أو الأميرة، تغير اللقب في عهد السادات إلى السَّيِّدة الأولى على غرار النظام الأمريكي، وكانت التبرعات توضع في مكان أمين لا ينفق منه إلا الأمناء والأمينات، يوزَّع الباقي على الفقراء والعميان «عبيد إحساناتهم» بحسب القول المأثور عن الشَّعب المصري بلسان الخديوي.
فوق الجدار لمحتُ صورةً تشبه الملِكة تتطلع بطة هانم إليها بخشوع «والله يا نوال الست دي عظيمة وبتقوم بدور مهم وبتعمل حاجات كتير أوي للنَّاس الغلابة واليتامى»، وأكملت السَّيِّدة التي سافرت تشم الهواء في سويسرا: «يسلم بقك يا بطة هانم، وربنا قال في القرآن الكريم: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ، وربنا ما شاء الله أنعم عليها خير كتير أوي.»
قبل أن تنتهي الحفلة أخذتني بطة من يدي إلى غرفة داخلية، «لازم تشوفي الشبْكة يا نوال، إيه رأيك مش تجنن! أنا عاملة حفلة تانية صغيرة «أنتيم» أوي، داعية صاحباتي القريبين أوي واعملي حسابك حنسهر للصبح!»
•••
الصَّداقات القديمة لها ذكرياتها الخاصة، لكن الضحك لم يعد يخرج من القلب كما كان، أكبرنا سِنًّا هي سامية بلغت السبعين عامًا، وبعدَها بطة تصغرها بعامين، ثم صفية وأنا من عمر واحد، أعلاهن صوتًا هي سامية، يخرج من الأنف المرفوع فوق الشفتين الرفيعتين شبه المتلاشيتين، قامتها طويلة نحيفة تحوطها بشال ملوَّن، تبدو كالطيف الشاحب يتلفع بألوان زاهية، عنقها نحيف ينثني قليلًا تحت رأس كبير وشعر قصير «الأجارسون» مصبوغ بلون أسود داكن، كأنَّما هو رأس مسروق من تمثال رجال إفريقي، الجاكيت من الصُّوف الإنجليزي المتين مطرَّز فوق الصدر بشعار حزب اليسار، أو حزب الطبقة العاملة، وهذا الشكل مجرد ذكرى؛ لأن صديقتي سامية لم تعد من الطَّبقة العاملة، ولا هي عاملة بل مالكة لمزرعة كبيرة في دلتا النيل وشركة استيراد وتصدير، انطفأ في عينيها العنف القديم، وأخذت رعشة تهز شفتيها المزمومتين كأنما سؤال مكبوت يتأهب للإفلات من قبضة إرادتها الحديدية.
على الرَّغم من بلوغها السَّبعين فإنَّ ابنة الطَّبقة العاملة لا تشعر بالتَّقدير الكافي لطبقتها، تتهكم على الرِّجَال في حزبها خاصةً زوجها رفاعة، تمط شفتيها المطبقتين وتقول مناضل ماركسي! بهذه العبارة من كلمتين، كانت تقدم زوجها، وقد أسقطت الكلمة الثَّانية مع سقوط الاتحاد السوفييتي.
في عينها الصغيرتين شبه الخاليتين من الرموش تلمع دمعة شفافة حين تسمع كلمة ماركس أو الاتحاد السوفييتي، الأمر بالنِّسبة لها ليس هذا ولا ذلك، بل هو إيمانها الَّذي سقط، وكانت ترغب في الإيمان بشيء تراه ضخمًا فوق عرشه معصومًا من الخطأ، محصنًا ضد الموت أو السُّقوط، ترتعش جفونها كأنَّما دمعة مكبوتة تستعد للإفلات منها.
صوتها تشوبه رنة أنفية شبه بكائية، تميل إلى النحيب الصامت، حتى قبل السقوط السوفييتي أحيانها فأقول: «لكل جواد كَبْوة يا سامية»، هنا تتحمَّس لإنقاذ ماركس: «يا نوال ده جورباتشوف الملعون تآمر مع أميركا!» تضيق عينها حتى تطفر الدمعة الحبيسة وترتعش شفتاها كأنما تكبت الرغبة في الصراخ، إلا أن هذا الغضب ينقلب إلى حزن صامت شبه مستسلم حين تتحدث عن زوجها رفاعة. يدق جرس التليفون في بيتي ويأتيني صوتها الباكي: «نوال عاوزة أشوفك.» تجتاحها هذه الرغبة المفاجئة لرؤيتي حين تريد أن تغتابَ زوجها: «تصوري يا نوال بعد أربعين سنة جواز أكتشف إني عمري ما حبيت الراجل ده!»
•••
في غرفة داخلية لا يدخلها الرِّجَال تربعت السَّيِّدة التي سافرت إلى سويسرا أمامها السبرتاية تعلوها الكنكة، ورائحة البن المطحون بالحبهان، فناجين صغيرة من الصيني، ترشف الهوانم القهوة، ترتسم الشفاه الحمراء على حافَة الفناجين، لا يبقى في القاع إلا الثمالة، ترجُّها السَّيِّدة بحركة تذكرني بطنط نعمات وأنا طفلة في العاشرة، تقلب الفنجان ثم تعدله وتقرأ البخت أو الطالع. هؤلاء الهوانم أكثر دجلًا من الهوانم القديمات منذ نصف قرن، يكتبن ما يسمى الوثيقة، تشبه العهد القديم بين أرواح الجان والبشر، مكتوبة على مطواة قرن غزال أو حدوة حصان، تطلب من الجان إبقاء الزَّوج مع زوجته كي لا تخلعَه من قدمها مدى العمر، وحروف مكتوبة بدم الحيض على ظهر صورة الزَّوج تأمره بالعودة راكعًا فوق ركبتيه كالخروف يعود إلى الحظيرة.
تلتقي عيناي بعيني بطة، الدُّكتور كاميليا، متربعة فوق الشلتة بجسمها القصير السمين، ازدادت سمنة، عيناها الواسعتان أقل اتساعًا، النني الأسود أقل سوادًا، جفونها وارمة شاحبة رغم الكحل الأسود، تحت الجفون تجاعيد تختفي تحت البودرة والمكياج، ساقاها السمينتان القصيرتان مضمومتان تحتها، تُبَسْمِل وتُحَوْقِل فيما يشبه الشبَق، تكركر بضحكتها القديمة كأنما عادت التلميذة الصغيرة «فاكرة يا نوال أد إيه أنا كنت باحب حسين، وكنت مخطوبة لحمدي وباكرهه زي العمى، كنت واخدة حريتي وأنا متجوزة، ولا عمري حفظت آية في القرآن ولا ركعت لربنا ركعة واحدة، وطلع طارق ابني طويل وحلو مش زي أبوه المكعبر، أصلي وأنا حامل كنت باتوحم على حسين.»
وقاطعتها السَّيِّدة الهانم التي سافرت إلى سويسرا: أيوه يا بطة هانم الوحَم مفعوله باتع زي السحر تمامًا، وربنا زكره في القرآن وسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام قال …
وانطلقت أصوات النِّساء تصلِّي وتسلِّم على النبي، وبطة هانم تواصل كلامها، توجه الحديث إليَّ. كنت جمهورها المستمع الوحيد والأخريات انشغلن عنها بأحاديث جانبية، كل منهن تحكي قصة حبها المكبوت، كلمة هنا أو هناك، وعبارة تكاد تتكرر وبصوت خافت «أصل جوزي عمري ما حبيته يا حبيبتي» ويرتفع صوت بطة هانم على الأصوات، وقطعة الشَّبَّة تطرقع في النَّار وتتخذ شكلًا آدميًّا مثل جمجمة محروقة تشير إليها الأصابع القصيرة ذات الظفر الأحمر الطويل المدبب يشبه مخلب القط.
شوفي يا نوال رأسها السودة زي وشها علشان تعرفي إن البت السِّكرتيرة كانت عاملاله عمل، وأنتِ عارفة حمدي طول عمره راجل دوغري لا يمكن يبص لواحدة، إلا البت المفعوصة دي ما عرفش عملت إليه شألبت كيانه، عمرها عشرين سنة وهو فوق السبعين، أصل الرِّجَالة عقلهم بيصغر كل ما يكبروا في السن، ورحت شفتها في مكتبه، بت سودة وجربانة جلدة على عضمة، وطردتها من المكتب، رحت عملاله عمل عند الشيخ المحلاوي، ده شيخ مشهور أوي يا نوال لازم سمعتي عنه، النَّاس تيجي له من كل البلاد، حتى من أميركا وأستراليا، ناس متعلمين ودكاترة.
وكنت لا يمكن أصدق في حكاية المشايخ وأنتِ عارفاني من زمان، لكن قالوا لي عليه، وكان حمدي عشان يعاندني فرش شقة في الزمالك للبت المفعوصة، وسمعت إنه عمل معاها عقد عرفي، أو رسمي ما اعرفش، بقيت ما نامش الليل يا نوال، وقلت يانا يا هي في الدنيا. ورحت للشيخ المحلاوي، قلت أجرب، مش حاخسر حاجة، أول ما دخلت عليه شفت النور، نور يا نوال والله، نور من عند ربنا، قمر منور قاعد على الكنبة، وقال لي تعالي اقعدي جنبي يا كاميليا يا بنت سعدية، عرف اسم أمي إزاي ما اعرفش، أمي ماتت من ثلاثين سنة وماحدش يعرف اسمها، لقيته عارف عني كل حاجة، عمل لي العمل، علقه في صدري، حجاب عليه كلام من القرآن وكلام تاني لا يمكن حد يقراه غيره، وقال بعد أسبوع واحد جوزك حيرجع ويقفل شقة الزمالك.
وفعلًا يا نوال بعد أسبوع واحد بالضبط، وكان يوم جمعة الصبح، لقيت حمدي راجع، من يومها مابقتش اقرأ غير القرآن، وربنا قال عن السحر يا نوال وعن أرواح الجان، وآلاف النَّاس بتروح للشيخ المحلاوي، رغم إن الفيزيتا بتاعته بقت عشرة آلاف دولار يعني ثلاثين ألف جنيه، لكن كل يوم عنده آلاف ولازم أحجز قبلها بشهر أو شهرين، باشوفه مرة واحدة في السنة، وحمدي يقولي إزاي تصرفي فلوسك على الشيخ المحلاوي، وأقول له أهي فلوسي من عرق جبيني أصرفها على حد واحد عارف ربنا أحسن ما أصرفها على الشَّيْطان، ويسكت حمدي، يخاف يفتح سيرة الشيطان، عشان مافكروش بالفلوس اللي صرفها في شقة الزمالك.
•••
كانت المرة الأخيرة أرى فيها صديقتي القديمة بطة، صوتها كان يأتيني أحيانًا عبر الأسلاك، يرد عليها شريف نيابة عني: نوال خرجت يا بطة لما ترجع أقولها تطلبك. لم أكن أطلبها، عيناها لا أريد أن أراهما مرة أخرى، رأيت فيهما شيئًا مخيفًا يشبه الموت، كأنما ماتت عيناها، تسري قشعريرة باردة في جسدي إذا تذكرتهما، وأسأل نفسي أهي الصدمة النفسية العنيفة في الزَّواج وشريك الحياة؟! أهو الانحدار الذي أصاب المجتمع في السنين الأخيرة؟! أهو اليأس المطلق إلى حد الإيمان المطلق بالشيخ الأعمى؟! وكان الشيخ المحلاوي أعمى مثل الشيخ حمدان في القرية، وكانت تقول عنه أم إبراهيم منذ أربعين عامًا: «ربنا كشف الحجاب عنه يا ضكطورة وماحدش يعرف ربنا إلا العميان.»
•••
إنها بدايات يونيو ٢٠٠٠، يوم صيفي رَمادي غارقة تحت شبورة خانقة بلون الدخان، أعيش المنفى داخل الوطن كما عشته في الخارج، أشعر بالغربة وأنا أمشي في الشَّارع، تشبه غربتي حين كنت في مدرسة منوف الابتدائية ويرمقني الرِّجَال بعيون جاحظة، يقذفني أحد الصبية بطوبة! أو كلمة نابية يسب بها أمي، يصب اللعنات على أعضاء الأنثى، خاصةً العضو المبتور بالموسَى، الملعون في الغياب كالحضور.
هربت من القرية إلى المدينة، لكن الضجيج، في النهار والليل، ومكبرات الصوت مثبتة فوق الجوامع والبيوت حتى المقابر، أصبح من حق الموتى سماع الأذان للصَّلاة وتلاوة القرآن في المأتم أو الطُّبول والغناء في الأفراح، ولم يعد من حق الأحياء النَّوم، خاصةً في الأحياء الفقيرة مثل حي شبرا القديم، وفي الأحياء الرَّاقية في مصر الجديدة لا تسمع الطَّبقة العالية ورجال الأعمال ونساؤهم إلا زقزقة العصافير وحفيف الأشجار في الحدائق الخضراء.
شبح الموت يطاردني منذ زيارتي الأخيرة لبطة، أشعر بالإثم حين تطلبني فأنكر وجودي، أقلِّب أحيانًا في ألبوم الصور القديم، أراها إلى جواري يدها في يدي نضحك وسط حوض من الزهور، شعرنا الأسود يطيره الهواء، فمها مفتوح عن آخره كأنما أطلقت نكتة من نكاتها المأثورة، تبتسم صفيَّة في الصُّورة بهدوئها المعهود، لم تكن تطلق هذه الضحكة الرنانة التي تطلقها بطة، تكركر ضحكتها مثل الماء الراقراق يخرج من عنق بِلَّوْرية ضيقة، وسامية واقفة في طرَف الصورة، شفتاها الرفيعتان مزمومتان في مواجهة الشمس القوية، لم تكن تضحك أبدًا، وإن ابتسمت لا تنفرج شفتاها عن مساحة مرئية للعين.
أحيانًا يدفعني الحنين فأطلب صفيَّة، هي أقربهن إليَّ، إن لم أجدها أطلب سامية. ذلك اليوم طلبت بطة، بالأمس تركت لي رسالة تليفونية على آلة التَّسجيل: نوال كلميني، أنا في البيت. صوتها المبحوح تشوبه شرخة خفيفة جديدة وربما عندها زكام أو برد، في صيف أيام متربة حارَّة يهب هواء ساخن من الصحراء مع ذرات الرِّمال والدُّخَان وفيروسات الأنفلونزا الصَّيفيَّة القادمة من وراء البحار، ترشح الأنوف مع ارتفاع خفيف في الحرارة ثم ينتهي الزُّكام بعد أيام قليلة.
قلت: ربما أصابها فيروس وهي في البيت لم تخرج، ربما هي تنتظر مكالمتي، وأدرت قرص التِّليفون برقمها، رعشة خفيفة كالقشعريرة زحفت عليَّ كالهواء البارد، كأنَّما النافذة انفتحت مع أنَّها مغلقة كأنَّما جسدي يدرك اللَّحظة القادمة قبل أن يدركها عقلي، وجاءني صوت رجل غريب، هل أخطأت الرقم؟! كنت أضع السَّماعة حين سمعته يقول: عاوزة مين حضرتك؟
– عاوزة بطة.
– مين حضرتك؟
– أنا نوال السعداوي.
– أهلًا يا دكتورة.
– مين حضرتك؟
– أنا الدُّكتور حمدي.
– ما عرفتش صوتك يا دكتور … أقدر أكلم بطة؟!
– بطة؟ … تعيشي إنتي.
توقف الهواء في صدري، الكلمتان «تعيشي إنتي» نسيت معناهما، غاب عن ذاكرتي لحظة، أصبح عقلي مثل صفحة بيضاء، ثم بدأت الذاكرة تعود بالتدريج. كنت طفلة في منوف حين سمعت الكلمتين لأول مرة في حياتي، كانت لنا جارة اسمها أم محمد، سألتْ عنها أمي ذاتَ يوم فقالوا لها تعيشي إنتي. وقالت أمي إن أم محمد ماتت.
أمسكت رأسي بيدي الاثنتين وأجهشت دون بكاء دون دموع، كأنما نسيت البكاء منذ الطفولة ولم تعرف عيناي الدموع. عاد شريف إلى البيت رآني راقدة في الفراش مربوطة الرَّأس، قلت له: بطة ماتت يا شريف. كأنما أقول أمي ماتت أو أختي أو أخي، وكان أخي طلعت قد مات منذ شهور قليلة، ربما لم يكن وجهي شاحبًا مثل هذا الشحوب؛ فلم يكن أخي صديقي في الطُّفولة، لم يكن بيننا حكايات عن الحب ولم نكن نضحك كثيرًا كما كنت أضحك حين تحكي بطة آخر النُّكت، وأفقت على صوت شريف: البقية في حياتك يا نوال.
ومن يمكن أن يواسيني في هذا اليوم إلا صديقتي صفية أو سامية؟! لم تكن سامية في مصر، كانت في مؤتمر خارج البلد، وبكت صفيةُ عبر الأسلاك حين سمعت الخبر، أغرقتها بالدموع، وسماعة التليفون في يدي أصبحت مبللة.
قلت لها تعالي شوية يا صفية، وجاءت صفية إلى بيتي، جلست إلى جواري وأنا راقدة في السَّرير، حكيت لها عن زيارتي الأخيرة لبطة، كانت تعرف كل شيء، ولا شيء يدهشها، هي أيضًا تعرضت لصدمة من نوع آخر، إلا أنها لم تذهب مثل بطة إلى الشَّيخ المحلاوي، كانت تذهب إلى الدُّكتور عبد القادر أستاذ الطِّب النَّفسي، وكان زميلًا لنا في الكلية منذ أربعين عامًا، أصبح يمتلك الخمسة «عين»، ومنها عمارة عالية في مصر الجديدة يسمونها عمارة «الدُّكتور» إلى جوارها عمارة لا تقل عنها ارتفاعًا يسمونها عمارة «الشَّيخ»، أصبح الدُّكتور والشَّيخ متجاورَيْن كما كانا في العصور السَّالفة، ومن الكهنة ورجال الدِّين القدامى انزلق الأطباء إلى التَّاريخ الحديث. كان الليل قد تأخر وصفية تحكي دون انقطاع، ست ساعات مضت وهي متكئة بكوعها على الوسادة دون أن تغير جلستها على السَّرير، دون أن تتغير نبرة صوتها الخافت، أو تتحرك عيناها الشاخصتان نحو قطعة من السماء وراء زجاج النافذة المغلق، كأنما تهمس لنفسها أو لامرأة أخرى كامنة في أعماقها، أو تخاطب القوة المجهولة داخل هذا الخِضَمِّ الأسود الذي اسمه السَّماء، والَّذي بدأ سواده ينقشع بالتَّدريج ليُصبح رَماديًّا بلون الضَّباب، وانتبهت صفيَّة فجأة كمن تصحو من النَّوم وصاحت: يا خبر، النَّهار طلع يا نوال!
– باين عليك تعبانة تحبي أوصلك البيت؟!
– بيت إيه وزفت إيه خليه ينهد على أصحابه!
– نامي شوية يا صفية وبعدين نتكلم.
أغمضت عينيها، راحت في النَّوم وكوعها كما كان في مكانه لم يتغير، حرَّكتها قليلًا لتنزلق الوسادة تحت رأسها، غطيتها بالبطاطين، وأطفأت اللمبة الصغيرة إلى جواري، لتغرق الغرفة في الظلمة إلا خيطًا رفيعًا من الضوء الرَّمادي يتسرب من وراء الزجاج.
وأغمضت عيني أنشد النَّوم دون جدوى، صوت صفية الهامس يسري كأنَّما لم ينقطع، أراها إلى جواري نائمة مغمضة العينين. ليلة كاملة مضت ونحن نتحدث، تذكِّرني بليالي الدَّاخليَّة في حلوان الثَّانويَّة. كنا نقضي الليل كله في حديث متصل، تفتح القلب الذهبي يتدلى من السِّلسلة حول عنقها، تلثم الصورة وخصلة شعر من رأسه، اسمه مرقص أبوه قبطي وأبوها مسلم، هددها بالسِّكين لتقطع علاقتها بمرقص. أصابته ذبحة صدرية حين دخل أخوها سعد السِّجن بتهمة الشُّيوعيَّة، أمسكه البوليس وهو يهتف في مظاهرة ضد الإنجليز، وكانت ضابطة الدَّاخليَّة تمر علينا بكشافها، تفتش على نومنا وأحلامنا، لم نكن نحلم إلا بالحب والحرية، وفي ضوء القمر تشتعل فوق صدورنا الحروف «الجلاء بالدماء»، والنَّاظرة تضربنا بالمسطرة فوق أصابعنا حتى تنزف منها الدِّماء، نلف حولها أربطة من الصُّوف، ندفنها تحت البطاطين ونتهامس طوال الليل، نتشاطر الألم والفرح والأمل في المستقبل.
الليل ساكن لا أسمع إلا صوت أنفاسي، وأنفاسًا خافتة إلى جواري، صفية غارقة في النَّوم، عضلات وجهها مسترخية كأنما نفضت عنها العبء، بشرتها بيضاء إلا خطًّا واحدًا داكنًا عميقًا في اللحم يمتد من زاوية عينها اليسرى حتى زاوية الفم، لم ألحظ هذا الخط من قبل، أدرك فجأة أنها لم تعد شابة، لم يبقَ أمامَها إلا شهور قليلة وتبلغ السبعين من العمر، إلا أن أنفها وذقنها وشفتيها وكل ما في وجهها يبدو طفوليًّا، كما كانت في المدرسة الثَّانويَّة، ولا شيء يخرجها من الطُّفولة إلا هذا الخط الوحيد الذي بدا أنه ظهر فجأة على وجهها كأنما طعنة مباغتة أصابت نصف وجهها الأيسر، أو صفعة حادة غيرت موضع الفك فتحرك نحو الأنف، أكاد أرى الأصابع مرسومة فوق الخد الأيسر، تشبه أصابع زوجها الدُّكتور مصطفى، كانت له كف كبيرة ضخمة تشبه قدم الفيل.
وعلى مهل ومن دون أن أوقظها طبعت على خدها قبلة خفيفة كأنَّما بهذه الملامسة السَّريعة أمسح نصف قرن من الألم الغائر في اللحم.
•••
منذ كتابه عن أبي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ والاشتراكية في الإسلام لم يكتب مصطفى الزهيري إلا مقالات قصيرة تنشرها صحف الحكومة في مصر وصحف حكوميَّة أخرى في عدد من البلاد العربيَّة، تصله المكافآت بالدينار أو بالدُّولار على شكل شيكات، تكون فوق مكتبه قبل النَّشر، إلا أن كلمة الاشتراكيَّة سقطت تمامًا من مقالاته منذ السبعينات، وسقط أبو ذَرٍّ الْغِفَارِيُّ في الثَّمانينيات، ولم يبقَ في التِّسعينيات إلا الإسلام ووجه الله الكريم. أعلن الدُّكتور مصطفى الزهيري في أحد المقالات أنه رأى الله، ومنذ ذلك المقال ظهرت الزبيبة السوداء فوق جبهته العريضة، والسبحة الصَّفراء بين أصابعه لها فصوص تلمع في الظلمة، وأصبح أستاذًا له لحية طويلة بكرسيٍّ في أرضي الحجاز بجوار الحرمين الشريفين، وفي مصر أصبح يملك الخمسة «عين»، وعيونًا أخرى تتجاوز أحلام طلبة الطب والكليات الأخرى، ومنها شارع وجامع في مصر الجديدة أصبح يحمل اسم الزهري، ومكتبة كبيرة وقاعة سينما واسعة لعرض الأفلام الدينية في رمضان وموائد الرحمن لليتامى والمساكين.
حين تزوج صفية منذ أربعين عامًا على الوفاء والصدق حكى لها عن حبه الأول لابنة العمدة، حين تزوجت ابن خالتها التاجر بالموسكي، صام عن الطعام ثلاثة أيام، في اليوم الرَّابع قرصه الجوع، كان يوم الجمعة وأمه تخبز أمام الفرن تساعدها واحدة من البنات اليتيمات، تكسب قوت يومها بمساعدة النِّساء في الخبيز. حملت أمه الخبز الساخن مع الجبن والمخلل وخرجت إلى زوجها في الحقل، كان يومًا شتويًّا باردًا، وقبع الدُّكتور الزهري — وكان عمره عشرين عامًا — على ظهر الفرن يلتهم الرغيف والبنت اليتيمة الصغيرة كانت تقاومه بذراعيها وساقيها، تستحلفه بالله والرَّسول أن يتركَها، ولم يتركها وقد تخيلها حبيبته الأولى ابنة العمدة، إلا أنَّها بلا أم ولا أب، ولن يصيبَه أذًى إذا انكشف الأمر، وفعلًا ظل الأمر طَيَّ الكتمان، ولم يعرف شيئًا عن البنت منذ حادث الفرن. غادر القرية إلى القاهرة، استأجر غرفة في شارع الملك. كانت له مع البنات والنِّساء مغامرات، حكى لصفية عنها بزهو كثير، كأن الفساد الأخلاقي هو الرجولة، وسألها عن حياتها السابقة، كانت صفية عذراء لم يمسسها بشر، إلا أن قلبها مليء بالإثم. في المدرسة كانت تعلِّق في عنقها صورة مرقص، لم تعرف في حياتها إلا هذا الحب العذري، لم يقبِّلها أحد على شفتيها أو خدها، حرقت الصُّورة ومعها الذِّكرى قبل الزَّواج، وفي ليلة الزِّفاف أرادت أن تقول الصِّدق، حكت لزوجها قصة حبها الوحيدة، نسي كل شيء في الكون إلا هذه القصة، وإن شردت عيناها لحظة نحو السماء بعد أربعين عامًا يسألها: بتفكري في الدُّكتور مرقص؟!
– كان عنده شك فيكِ يا صفية رغم السنين دي كلها؟!
– أبدًا، كان عنده شك في نفسه طول الوقت، رغم جسمه الطَّويل العريض وغزواته مع البنات والستات كان عنده شك في رجولته، ودايمًا يبلع فيتامينات ويشتري برطمانات زيت كبد الحوت وملكات النَّحل، وكل ما يسمع عن أقراص جديدة للتنشيط الجنسي يشتريها، حتى حبوب الفياجرا، لكن المشكلة مش الجنس، المشكلة الشرخ في الشَّخصيَّة من الطفولة، الفساد اللي ينخر في العضم، أبوه كان كده وجده، ويظهر إن معظم الرِّجَال بالشكل ده إلا القليل جدًّا، ويمكن كلامك صحيح يا نوال عن النظام الطبقي الأبوي، كنت دايمًا أعارضك وأقولك طبقي إيه وأبوي إيه، لكن أخيرًا فهمت بعد أربعين سنة جواز وكنت مش عارفة حاجة، ومشغولة بالعيال والشغل في المستشفى، وهو كان المدير لا شغل ولا مشغلة، ييجي آخر الليل ويقول كان في اجتماع مع الوزير، وبعد ما انحال على المعاش بقت الحجة السَّفر في المؤتمرات، والحقيقة إنه كان متجوز واحدة تانية، وعايش معاها أكثر من عشرين سنة وأنا مش داريانة، ولما عرفت قالي ده حقي حسب القانون والشرع، وإن كان مش عاجبك نعمل طلاق، قلت له نعمل طلاق، راح رافع إيده وضربني، حسيت إن عيني الشمال طارت، ولعن أبويا وأمي وقال: كان لازم أطلقك من أربعين سنة من أيام سي مرقص أفندي بتاعك!
بعد ساعة نهضت صفية وعادت إلى بيتها، لم يطلقها زوجها ولا هي طلبت الطَّلاق، جاءني صوتها مستسلمًا عبر أسلاك التليفون: طلاق بعد أربعين سنة يا نوال وأروح فين؟ … أبويا مات وأمي ماتت والعيال اتجوزوا وما عنديش بيت إلا بيتي، يروح هو مطرح ما يروح وأنا في بيتي لغاية ما أموت، وعندي معاشي ومش عاوزة حاجة من حد، ولكن أي بنت تسألني: «أقول لخطيبي بصدق عن حياتي قبل الخطوبة؟» أقول لها: «تبقي حمارة لو قلتي والدنيا دي ما ينفعش فيها إلا الكذب!»