جمهورية فرحات
ما كدت أدلف إلى القسم ومعي الحرس حتى أحسست بانقباضٍ مفاجئ. لم تكن تلك أول مرة أدخله ولكنها كانت المرة الأولى التي أرى القسم فيها في الليل؛ ولهذا شعرت حين تخطَّيت الباب أني أدلف إلى خندق سفلي لا يمتُّ إلى الحاضر ولا حتى إلى الماضي القريب: جدران يكسوها حتى منتصفها سواد على هيئة طلاء وكآبة تكسو نصفها الثاني، وبقع بيضاء مبعثرة هنا وهناك لا تُخفِّف السواد بقدر ما تُظهر بشاعته، وأرض لزجة لا تدري إن كانت من الأسفلت أم من الطين، ورائحة، رائحة لا تستطيع أن تحدد كنهها وإنما لا بد أن تحس معها بغثيان، وضوء باهت يأتي من مصابيح بالغة القدم عشش عليها الذباب وباض، مصابيح معظم ضوئها محكوم عليه بالسجن المؤبد داخلها، والقليل الذي يتسلل منها هاربًا لا يبدد الظلام بقدر ما يحتمي به ويتستر، وإن وقع على الأشياء والناس فإنما ليُظْهِرَ كل ما بها من حزن وقبح وبشاعة.
وأحسست حين احتواني هذا كله وأصبحت جزءًا لا يتجزأ منه، والناس من حولي على سيماهم جدٌّ خطير يمشون كالمنوَّمين، وصناديق الفاكهة وعربات اليد وكراسي المقاهي التي صادرها بوليس البلدية وهي مكومة في ركن، وأصحابها متناثرون حول الجدران والأركان متهالكين على الأرض ورءوسهم ماثلة على حجورهم، والعساكر يَبْدُون في أرديتهم السوداء كعفاريت منتصف الليل.
أحسست حين احتواني هذا كله أنني لا بد أنا الآخر قد ارتكبت جريمة ونسيت، وتمنيت أن أهرب من المكان بأسرع ما أستطيع، ولم أكن أستطيع مغادرة المكان؛ فقد كان عليَّ أن أُحجَز في القسم ليلة لأُرسَل إلى النيابة في صباح الغد، واحتاروا أين يضعونني؛ فالحجز كان ممتلئًا، والحجرة الأخرى التي يُوضع السياسيون فيها عادة تعج بالمراقبات وصاحبات الحرفة، ولم يجدوا لي في النهاية خيرًا من حجرة الضابط النوبتجي، وهناك تُرِكْتُ ومعي حارس.
كانت الحجرة على سعتها تضيق بمن فيها، وكان أبرز الموجودين جميعًا الضابط النوبتجي، وحين رأيته جالسًا إلى مكتبه كالحكمدار وعلى يمينه فوهات أكثر من خمسين بندقية مغمدة في فضاء الحجرة، وخلفه اللوحة الخشبية المثبتة في الجدار والمثقلة بألوان وأشكال من السلاسل والقيود والدروع والبلط والخوذات، وعلى يساره الخزانة الحديدية القديمة، حين رأيته هكذا تخيلت ألَّا حدود لرهبته وقوته، وأنه يستطيع ببساطة أن يقضم ذراعي أو يضع أصبعه في عيني، مع أني كنت متأكدًا ألَّا شأن لي به ولا شأن له بي.
ووجدتني أترك كل ما في نفسي وكل ما يشغلني وأنضم إلى جيش العيون المنصبَّة عليه من الناس المزدحمين أمامه، والذين لا يفصله عنهم إلا سور خشبي منخفض.
وبدا لي أول الأمر وكأنه ليس بكائن حي، وإنما جسده قد صُنِعَ من طلاء الجدران الأسود، ورأسه خوذة من الخوذات المعلقة وراءه، وعيناه فتحات بنادق، ولسانه لا بد كرباج.
ولكني حين هدأتُ قليلًا واعتدت على المكان، وتأملت كيف وضع «الكاب» فوق رأسه في وقار مخيف، وزرر معطفه الضباطي — على غير العادة — إلى آخر زرار فيه، وشد جلد وجهه في تزمُّت صارم، فاختفى كل ما فيه من تجاعيد وأصبح أملس كجلد الطبلة المشدود، وأضفى على نظرات عينَيْه بريقًا تحس معه أنه لا ينظر بهما إلى الناس بقدر ما ينقر ويلسع، وحمل صوته ما لا يطيق وهو يشخط ويهدر بكلمات غير مفهومة كأصوات الرصاص.
حين تأملت كل هذا بدا لي حينئذٍ كأحد الجنرالات الطليان الأسرى الذين كُنَّا نراهم أثناء الحرب، وحدث أن جاء شاويش أو بيتشاويش لا أذكر، ووقف أمامه ونادى عليه: يا فرحات.
عجبت كيف ينادي بلا تكليف هكذا، ولكن عجبي زال حين قال مرة أخرى: يا فرحات، يا سي فرحات.
ولم يردَّ الضابط النوبتجي إلا بعد أن قال له الرجل: يا حضرة الصول.
وكنت قد اقتربت حتى استندت مع غيري من المستندين على السور الخشبي وسمعت لهجته التي فيها آثار باهتة من ريف الصعيد، ونَمَّ صوته العالي عن الفضاء الواسع الذي ترعرع فيه، وعن مستلزمات الوظيفة من شخط ونطر وقد عملت عملها طوال تلك السنين، فأتلفت صوته وأضافت عليه حشرجة كالتي تلحق براديو القهوة البلدي من كثرة رفع صوته، وذهب الجنرال من خاطري تمامًا، ووضحت أمام عيني ملامحه التي كان يلفها ضباب الرهبة والسلطة، ورأيتها صعيدية خالصة بأنفه الكبير كأنف رمسيس وجبهته الحادة العالية كجبهة منقرع، وشيخوخته التي تنم عن تاريخ حافل في خدمة البوليس؛ إذ إنه لا بد قضى أجيالًا حتى يصل إلى رتبة الصول، وقد دخل الخدمة «نفرًا» ككل الأنفار، ورأيت جسده العجوز على حقيقته مستقيمًا في أجزاء منبعجًا في بعضها الآخر، وقد فرضت عليه البدلة العسكرية والحذاء الثقيل و«القايش»، فرضت على جسده شكلها فرضًا كما يَفْرِض قالب المكوى على الطربوش شكله وأبعاده، وكان من الواضح أنه يحب هذا المركز حين تُسند إليه مهمة الضابط النوبتجي، ويحب أن يعامله الناس كضابط بحق وحقيق، وهو الذي — بلا شك — قد قضى ثلاثة أرباع عمره يحلم بهذا وينتظر اليوم الذي يحمل فيه كتفه «النجمة»، وكان باديًا أن كتفه لن تحمل شيئًا من هذا القبيل؛ فهو وإن كان يقوم أحيانًا بدور الضابط النوبتجي إلا أن الإحالة إلى المعاش كانت تبدو وشيكة، ونجمة الفجر أقرب إليه من نجمة الملازم الثاني، وحين تركته وأدرت بصري في الحجرة ورأيت المكاتب الخاوية التي تركها أصحابها، ودولاب الدوسيهات، والمروحة القديمة الموضوعة فوق الخزانة والتي كان يبدو أنها لم تُسْتَعْمَل منذ عشر سنين على الأقل وقد صنع التراب من نفسه عناكب فوقها، والمصباح الكهربائي الذي له «برنيطة» من الصاج، والذي يتدلى من السقف حتى يوازي رأس فرحات المائل على ما أمامه من أوراق، والناس المزدحمين حول الحاجز الخشبي والذين يكوِّنون خليطًا إن تنافر في أشياء فإنه يتفق في نظرات القلق والحزن الغاضب والوجوه المتقبضة الجامدة، كان معظمهم متهمين عائدين من تحقيق النيابة، وتضمهم سلسلة حديدية طويلة، تبينت بعد حين أنهم لا يقيمون وزنًا للسلاحليك أو السلسلة أو الصول فرحات نفسه؛ فشخطته تُقابَل بزمجرة وأحيانًا بردٍّ لا يقل عنها قسوة، حتى انفجر أحدهم مرة لأن فيشه وتشبيهه لم يكن بعد قد جاء من تحقيق الشخصية، وكان عليه لهذا أن يمكث في الحجز بلا إفراج حتى يجيء، انفجر ولعن الدنيا والحظ والفقر والذين كانوا السبب، ولولا الملامة للعن الضابط النوبتجي هو الآخر، ولمحت الضابط الذي في فرحات يعاني الحرج الشديد وهو يسمعهم يهدرون، ولكثرتهم وشراستهم وضربهم الدنيا صرمة لا يستطيع — كالضباط الحقيقين في نظره — إخماد ضجتهم، ولما انتهى منهم ومضَوا وعسكري في أول صفهم وعسكري في آخره، والسلسلة ترنُّ وتصلصل وهم لا يزالون يسبون ويلعنون، تنهَّد فرحات تنهُّد الذي وضع أصبعه في الشق.
حين تركته وأدرت بصري لكل هذا وعدت إليه وجدته حينئذٍ يبدو عجوزًا جِدًّا، عجوزًا إلى الدرجة التي تحس معها أنه عهدة من عُهَد الحكومة عثرت عليه ذات يوم أثناء «كبسة» على بلدته فصادرته، وختمته بالطربوش الأحمر والبدلة الميري، وظل في مخازنها حرزًا من الأحراز يبلى ويصبح كُهْنَة ولا تبلى ما عليه من أختام.
وقال وهو يجوس بعينيه خلال الموجودين: أُف! أقسم بالله الأشغال الشاقة أرحم من دي شغلة.
وتوقفت عيناه عليَّ وفيها دعوة واضحة، وكنت أنا الآخر لي ساعات وأنا صامت فوجدت نفسي أقول: إيه، الشغل كتير واللا إيه؟
وكمن كان ينتظر الفرج من زمن رأيته ينفجر: يو هوه يا أستاذ، هو ده شغل؟! دا سرك، دا موريستان، الناس اجننت، يعملوا إيه؟ حيخس عليهم حاجة؟! كله على دماغنا! والنبي أنا اشتغل في الحديد ميت سنة ولا اقعد هنا ساعة، والأكادة إن كله كلام فارغ، كله كدب، تبالي وحياتك.
اللي معور نفسه، واللي ضاع منه شاكوش، واللي كان نايم قال وراحت طاقيته، ونروح بعيد ليه؟ مش دي واقفة من الصبح؟ مالك يا بت؟ أبقى مش الصول فرحات إن ما قالت إنهم ضربوها وأخدوا سيغتها! ما لك يا بت؟ فيه إيه؟
وكانت «البت» امرأة واقفة ضمن الواقفين ترتدي ثوبًا كان أسود ثُمَّ أحاله ساحر الحاجة إلى رمادي، وتتعصب بمنديل كالح لا يخفي إلا القليل من شعرها البني الأكرت القصير وقد تلوَّت نهاياته وتنافرت، وكان وجهها غامقًا أسمر، وفي عينَيْها كحل أفسدته الدموع.
وردت تقول في ذلة: أم سكينة والبت عيوشة وبنت اختها نبوية والواد …
– مالهم؟ مالهم؟
– اتلمُّوا عليَّ وضربوني في بطني، آه يانا!
وفي ومضة خاطفة كانت في حالة بكاء تام، وأضافت والدموع والشهقات تختلط في حلقها: وام سكينة عضتني هنا، في كتفي وزغدتني في بطني، والبت عيوشة قلَّعتني الحلق.
وقهقه الصول وخشخش صوته وقال: شايف يا أستاذ؟ شايف؟ مش قلتلك؟ كله وحياتك كدب، نصب واحتيال، بقى بذمتك دي حيلتها البلى الأزرق؟ حلق ايه يا بت اللي خدوه؟ حلق حوش؟
– حلق دهب يا بيه وغويشتين.
والتفت الصول إليَّ وقال بلهجة ذكَّرتني بنجيب الريحاني: تفتكر والنبي مين المجني عليه في الحكاية دي؟
– مين؟
– أنا! أنا يافندم، ما هو الكدب العلني ده يبقى سرقة بالإكراه، ومحضرها المصيبة من صورتين، والمصيبة الكبرى إن انا اللي حاكتب الصورتين!
واستدار إلى المرأة ولسعها بنظرة كاوية فيها آثار من لمعة الضحك، وأمسك القلم وفتح دفتر المحاضر الكبير وكأنه يفتح بوابة المتولي، وقال: هاه، إلهي وانت جاهي ربنا ياخدكم وياخدني معاكم خليني استريح.
ولما انتهى من كتابة مقدمة المحضر سألها: إسمك ايه يا بت؟
ولم ينتظر أن تجيب أو يحفل بإجابتها، وواجهني مستأنفًا كلامه وأنا أحس أنه يحدِّث نفسه أكثر مما يُحدثني: أنا والنبي المجني عليه، ومش في الواقعة دي بس، في ألف واقعة، في دشليون، يمكن ما تصدقش، اتفضل، آدي دفتر الأحوال: اصطبحنا بهتك عرض في الطريق العام و٥٩٢ اللي بعدها نشل حافظة نقود قال فيها قال ١٤٧ جنيه و٨٣ صاغ وورقتين بوسطة! أقسم بالله ما كان فيها إلا الورقتين، ويمكن لَجْل الحلفان خمسة تعريفة كمان، واللي بعدها قال سرقة نحاس، قايلين في البلاغ إن النحاس وزنه ٥٠ رطل ومتهمين الخدامة، حتة بت قد كده، متطلعشي كلها على بعضها عشر ترطال، وغيره وغيره، من الصبح وأنا إيدي وقفت من الكتابة، وكله ملاليم وكلام فارغ وكدب، يا شيخ فُضَّك.
والتفت إلى المرأة يسألها: ما تنطقي يا بت، اسمك إيه؟
وقبل أن تجيب ضحك وقال كمن تذكر نكتة: واللا الجثة اللي لقيوها في الخرابة مالهاش صاحب، قصدي صاحبها مجهول، لقيوا السر الإلهي طلع منه كده لوحده ومن غير ما حد يكلمه، قوللي؟ اشمعنى نَقَّى الخرابة دي يموت فيها؟ يعني ضاقت الدنيا في وشه؟ ماكنشي يتمشى لحد شبرا مثلًا، الله يرحمه مات واتعذب أنا ليه؟
نهايته، كُتِبَ عليكم الهم والغم كما كُتِبَ على الذين من قبلكم.
وأدار رأسه إلى المرأة: يا ولية اسمك إيه؟
– خديجة.
– خديجة إيه؟ انطقي.
– خديجة محمد.
– يا ولية اتحركي، محمد إيه؟
وقبل أن تجيب أرقد قلمه، وأسند كوعَيْه إلى الصفحة ووضع رأسه بين يديه وقال من تحت حافة «الكاب»، والمصباح الذي أمامه يهتز كالبندول فيتحرك ظل رأسه على الحائط الذي خلفه، يتحرك رائحًا غاديًا كقرد كبير: أنا المجني عليه والنبي، هي حكاية محضر؟ هو انا عجزت من شوية؟ تلاتين سنة خدمة وحياتك ويوميًّا بهذا الشكل، جبتها من المنزلة لعنيبة ومن العريش لمرسى مطروح، وشفت اللي ادبح عشان عود قصب، واللي حرق جرن عشان كوز درة، الناس اجننت، هو الواحد شاب من شوية؟
وأنهى كلامه فجأة وانقضَّ على يدٍ كانت تمتد إلى المكتب وخبط عليها بعنف وعصبية قائلًا: قلتلك ميت مرة شوفلك نشافة تانية، هو مافيش في القسم كله الا دي؟ أعوذ بالله، احنا في سوق النَّوَر!
قال هذا وانتظر حتى اختفى صاحب اليد مهيض الجناح، والتفت إليَّ بوجهه الجاد المشدود الملامح: والواحد يبقى حارق دمه، وأولاد اﻟ… ولا هاممهم وعمالين يهزروا.
وكان يشير بعينَيْه وهو يتكلم إلى حجرة التليفون حيث اجتمع بعض العساكر حول زميل لهم بَدين مترهل وله كرش كبير، وكان بعضهم يُكَتِّفه والآخرون يحاولون جذب بنطلونه وإنزاله، والرجل يلهث ويناضل بكل ما يسمح به شحمه من قوة.
وبركن عيني لمحت الصول فرحات يبتسم ويضحك ويقهقه، ثُمَّ ينسى كل شيء ويمد رقبته يتابع المعركة، وظهر عليه أسف حقيقي حين انتهت المعركة بانتصار صاحب الكرش وتخلُّصه ممن حوله، ورفع حينئذٍ صوته قائلًا بلهجة صعيدية خالصة: آه يا نسوان! ماقادرنشي على أبو كرش كليته «شغت»؟!
وما كاد يتم كلامه حتى فُتِحَ باب جانبي وظهر المعاون في الفناء، وأصبح القسم فجأة أصم أبكم، وهبطت الصرامة تجمد كل شيء، وقال الصول للمرأة في حزم: بتقولي اسمك خديجة محمد إيه؟
وتركتُه يحقق وشغلتني عنه داورية الليل، وقد بدأت تتجمع في الفناء، وحين تجمعت بدا منظرها عجيبًا: صفان من الظلام التام ليس فيه إلا بريق الزراير النحاسية الصفراء، وفوق الظلام نار من الطرابيش الحمراء الفاقعة، وأمام كل صف صف آخر من الأيدي الممدودة تسند البنادق بلا حماس، وتسمع في الظلام همهمات وضحكات تموت سريعًا كالشهب، وقد يشذ عن الأيدي الممدودة كوع ويلكز جاره.
وفتش عليه المعاون وأنفه — كالديك الرومي — في السماء، وعينه على زرار لا يبرق أو حذاء نفض عنه بعض سواده، وراح وجاء ثُمَّ دخل حجرته، والظاهر أنه تعشى؛ فقد خرج وهو لا زال يمضغ وعلى شفتَيْه لمعة، وفتش مرة أخرى وهو يجفف يديه بعد أن اغتسل.
واندكت الأرض بالأحذية وكعوب البنادق مرات، وعُوقب بعضٌ وكُدِّرَ آخرون.
ثُمَّ …
جنبان سلاح و… كتفان سلاح، و… داورية، معتادان مارش.
وخرجت داورية الليل تئز وتتمايل وفي آخرها العسكري البدين يحاول عبثًا أن يوفق بين جسده غير المنتظم وخطواته المنتظمة.
وأصبح فناء القسم بعد خروجها خاويًا كعربة قطار الليل حين يقترب من آخر محطة، وعُدت إلى الصول فرحات فوجدته لا يزال يحقق مع المرأة ويسألها: اتلموا عليكي فين؟
– جوه السيما.
– وإيه اللي دخلك السيما يا بت؟
– محمود.
– محمود مين؟
– محمود!
وهنا بدت على الصول فرحات صعيديته، وسألها وجبهته معقودة دون أن يكتب في المحضر: محمود دا إيه يا بت؟
– ابن خالتي.
ووضع القلم من يده وهو يقول: آه يا بلد كابوريا يا ولاد اﻟ…
وأخرج من جيبه علبة صفيح قديمة من التي تُباع فيها السجائر الغالية، ولمحت فيها سيجارتَيْن سادة وواحدة بفلة وعلبة كبريت، وأشعل السادة وغمغم بأشياء مبهمة تمسُّ الآباء والأجداد وانجاب الإبهام حين قال لنفسه: سيما، هه، قال سيما قال! وتدخلوا السيما تنيلوا إيه؟! هو انتو بتوع سيما؟!
وانفلت من حديثه لنفسه يسأل المرأة وقد ثنى ظهره إلى الوراء ووضع ساقًا فوق ساق: وتدخلي سيما يا بت مع واد زي ده ليه؟
وبحث بعينه ناحيتي ولعله كان يودُّ أن يُشْهِدَني على إجابتها فقلت له: إيه، هو المحضر لسه؟
– آه، لسه، هو هيخلص؟ حاضر، أنا عارف إني عطلتك، دقيقة واحدة وافضالك.
والظاهر أنه حسبني شاكيًا أو مبلغًا، ربما هذا، وربما وجدني أصلح مستمعًا يفضفض لي بما عنده في ليلة من لياليه الطويلة، فآثر أن يؤجل انصرافي، وكتب شيئًا وهو يبتسم ويقول لي: وادي انت بتتسلى، مش بذمتك احسن م السيما؟
وتنهَّد وسأل المرأة: هيه، وطليقك سلط عليكي ليه؟ تروحو السيما تنيلو إيه؟ ما تتكلمي يا بت طليقك سلط عليكي ليه؟
– أصلي واخدة عليه حكم نفقة.
وكتب كلمة أو اثنتين والتفت إليَّ بنظرة فيها استنكار: روايات؟ سيما؟ روايات إيه اللي بيعملوها دي؟ يبلوها ويشربوا ميتها أحسن!
– ليه مبتعجبكش؟
– تعجبني؟ تعجبني ازاي؟ الفيلم لازم يملا مخ الواحد، إنما إيه المسخرة والرقص اللي لا تجيب ولا تودي.
وأمسك القلم ووضع سِنَّه على الدفتر وبدلًا من أن يكتب قال لي بفتور: أنا مثلًا لما قرفت من الروايات عملت مرة فيلم.
ولم تجعلني قلة حماسته أصغي إليه تمامًا، ولكن كلامه وقع في أذني موقعًا غريبًا، فقلت: عملت إيه؟
– عملت فيلم، رواية.
– عملته ازاي؟ مثلت فيه واللا إيه؟!
– لأ، فيلم ألفته مخصوص عشان السينمات.
وكدت أستخف بالأمر كله وأضحك؛ فقد اعتقدت أنه لا بد شاهد حادثة أو جناية من الجنايات التي تحفل بها حياته ويريد بسلامة نيته أن يجعلها فيلمًا، فقلت وأنا أكتم ضحكي: فيلم إيه بقى؟
فقال ببساطة ودون أن يتنحنح أو يعتدل أو يضع القلم، أو حتى يُلقي بالًا إلى المرأة والناس الذين عند الحاجز: كان واحد هندي جه يزور مصر، راجل غني قوي، من الجماعة اللي عندهم فلوس قد الفقر اللي عندنا، الراجل جه، وقعد في لوكاندة فخمة قوي، زي ما تقول لوكاندة مينا هاوس واللا شبت، وكان فيه جدع غلبان زي حالاتنا كده.
وانتبهت حواسي كلها فجأة.
ومِلْتُ على السور كثيرًا حتى لا تفوتني كلمة من كلماته.
وأقبلت امرأة تستغيث في شبه صراخ، وكانت بيضاء حلوة وحواجبها مخططة بعناية فائقة، وزمجر فيها الصول فرحات: مالك يا ولية؟ مالك؟ القيامة قامت؟
– الحق ياخويا، الحق، الواد موت امه م الضرب!
– واد مين يا ولية؟
– الواد ابن جارتنا.
– واحنا مالنا؟
– يوه، مش انت ياخويا النبي حارسك البوليس؟
– وهو يصح إن البوليس يدخل بين الواد وأمه؟
– يه، ولما يموتها الدلعدي ياخويا؟!
– تبقى تُفرج، نبقى في الحالة دي نروح نمسكه.
– ويئست منه المرأة فانتحت ركنًا قصيًّا بالعسكري الذي كان يحرسني، وراحت تهمس له بالقصة وتهمس له أكثر بحواجبها، ثُمَّ غادرت القسم والعسكري ساهم وكأنما أعجبته همسات الحواجب.
وعاد إلى الصول فرحات وقال: أمَّا مصايب صحيح! واد قال؟! بس الجدع الغلبان ده كان خالي شغل، يعني زي ما بيقولوا موظف في كوبانية الشمس، يعبي الشمس طول النهار في قزايز ويسرح بيها في الليل، هئ هئ، أمال! آه، فتك في الكلام، الراجل الهندي ده مرة طالع م اللوكاندة فوقع منه فص ألماظ يسوى النهاردة بالميت سبعين تمانين ألف جنيه، شافه الجدع المصري قام واخده ومديه للغني الهندي.
– فص إيه يا راجل يا بكاش؟
والتفتنا سويًّا، وكان الذي قال هذا شاويش طويل معه دوسيه ما لبث أن سأل فرحات: عملت إيه في المتوفى المجهول الاسم؟
وهبَّ فيه فرحات: حاعمل ايه يعني؟ أمشي في الشارع اقول ياللي ضايع له ميت؟
– أنا رحت المستشفى وشفته.
– تشرفنا.
– شوف يا سيدي، عينه عسلية وشعره شايب وعلى صدغه الأيمن …
– وبتقول لي الكلام ده ليه؟ هو انا باعتك تخطبه؟ روح شوف شغلك احسن، عسلية ايه يابو طويلة يا هايف؟!
ثُمَّ التفت إليَّ قائلًا: الراجل الهندي جه يدي للمصري فلوس إلا راسه وألف سيف ما ياخد ولا مليم، يهديك يرضيك مافيش فايدة، فكبر قوي في عين الهندي واكيف منه تمام، راحت الايام وجت الايام وروَّح الغني بلده وهو محتار يجازي المصري ده ازاي، فلقى إن أحسن طريقة انه يشتري باسمه ورقة لوترية، تعرف البريمو كانت تكسب كام؟ واللا استنى أمَّا نشرب شاي.
وصفق كثيرًا حتى جاء صبي البوفيه، وطلب الشاي واختلف معه طويلًا على الطلبات التي تناولها في يومه: الصبي يقول ثلاثة وهو يقول اثنين، ولم ينته الخلاف حتى بإحضار الشاي.
وسمعنا باب المعاون وهو يفتح والمعاون يخرج ويقف في الفناء ويتمطى، وعاد فرحات يسأل المرأة: هيه، إيه الحكاية؟
– لما خدت عليه الحكم، لف عليَّ عايزني اتنازل، مارضيتش، فبعتلي أمه وأخته وبنت خا…
– هوس، كفاية لحد هنا، واتلموا عليكي في السيما؟
– أيوة، وفضلو يضربو فيه لما كانوا حيسقطوني.
– إيه؟
– أصل أنا حامل في ست اشهر.
وترك الصول فرحات المحضر وقد استولى عليه حب الاستطلاع وأعجبته القصة وسألها: يخرب بيتك، حامل من مين يا بت؟
– منه يا بيه، من طليقي.
– إمتى؟
– قبل ما يطلقني.
– وجوزك ده طلقك ليه وانتي حامل؟
– عشان وقع عليَّ اليمين.
– يمين إيه؟ وطلقك إمتى؟
– ليلة أول رمضان اللي فات، كسرت قُلَّة أمه وأنا قايمة أتسحر، فحلف طلاق بالتلاتة ليكسر قصادها دراعي!
– وكسر دراعك؟
– لأ، طلقني.
– أنا قلبي كان حاسس والنبي، بقى قُلة أمه هي السبب؟
بقى عشان قُلَّة أمه اكسرت في رمضان اللي فات، يتحرق دمي النهاردة طول اليوم، قُلَّة تمنها ساغ يا عالم أروح أنا ضحيتها؟
اسمعي يا بت؟ هل لديك أقوال أخرى؟ عايزة تقولي حاجة تانية؟
– أيوه يا بيه، عيوشة هي اللي مقلعاني الحلق، وأمها هي …
– أف، يا بت أقوال أخرى غير اللي قلتيها؟
– هو انا لسه قلت حاجة.
ولم أتمالك نفسي فضحكت، وتحوَّل غضب الصول هو الآخر إلى قهقهة عالية وانتهى من المحضر، وتنهَّد وتثاءب وهز رأسه.
وخرجت المرأة ومعها خطاب للكشف عليها، ولدهشتي خرج معها كل الناس الواقفين.
– هيه، كانت البريمو تكسب كام؟
– إنت لسه فاكر؟ تكسب مليون جنيه؛ ما هي كانت غالية كمان!
واشترى ميت ورقة عشان يضمن المكسب، وجه السحب واحدة فيهم كسبت البريمو، مليون من غير الضريبة، وفكرشي الراجل إنه يطمع عليها ولا حد شاف ولا حد دري؟ أبدًا، عمل ايه؟ راح شاري غليون بضاعة كبير قوي، ووسقه حرير هندي من اللي على أصله، وإشي عاج، وإشي ريش نعام، وإشي جوخ وكشمير ومابوليا محترمة، وراح باعت المركب بالطقم بتاعها باللي عليها على إسكندرية، وراح باعت عقد البيع والبوليصة خالصة كل حاجة لصاحبنا على مصر، يعني ما عليه إلا يستلم.
وهُب، وصلت المركب إسكندرية، حاجة باسم الله ما شاء الله، وبتاعة مين يا جماعة؟ بتاعت فلان، بالاختصار الراجل باع البضاعة اللي عليها واشترى بيها مركب تانية، وخلى مركب رايحة بلاد برة شاحنة ومركب جاية شاحنة، وإذا كان حتة الطرد اللي قد كده الواحد بيخلص عليه في السكة الحديد بكذا، شوف بقى مركب زي دي تكسب قد إيه في السفرية.
واندفع في هذه اللحظة إلى الداخل رجل قصير نحيل يرتدي جلبابًا كله زيت وبقع ورأسه عارٍ، ويرتدي قبقابًا له صوت مزعج، اندفع كالسهم داخلًا وهو يقول وعلى وجهه ألم عظيم: يافندي، يافندي.
وضايق دخوله الصول فرحات، وكأن أحدهم قد صوَّب إلى أرنبة أنفه لكمة فاستدار إلى الرجل وأرعد فيه: مالك؟
– ماليش يافندي، واد ابن حرام حدف طوبة كسرت لوح القزاز بتاع بترينة الدكان، لوح القزاز اللي معرفشي أجيبه النهاردة، بَنُّور بلجيكي من الأصلي اللي قبل الحرب، تلاتة متر في تلاتة، روح الله يخرب بيتك يا بعيد زي ما خربت بيتي.
– دكان إيه؟
– بقالة المودة والإخاء في الشارع العمومي.
– عارفها، اللي عالناصية قدام الجاراج؟
– أيوة، إلهي يعمر بيتك، ربنا ما يوريك.
– البترينة نهين اللي اكسرت، اللي عالشارع ولا التانية اللي ع الحارة؟
– الكبيرة يافندي اللي ع الحارة.
فقال الصول وهو ينفض يده من الأمر ويستعد لمتابعة الرواية: تبقى مش تبعنا، تبع بولاق.
– إزاي يا بيه والبيت تبعكو؟!
– الناحية اللي ع الحارة تبع بولاق.
– يافندي اعمل معروف.
– قلتلك مش تبعنا، روح قسم بولاق.
– ياﻓ…
– روح، جك ريح خماسي.
واندفع الرجل يُقَبْقِب خارجًا كالسهم، وانتظر فرحات حتى اختفت دقات القبقاب، ثُمَّ رجع محاولًا أن يستعيد الجو الذي عكَّره البقال، وثنى ظهره إلى الوراء كثيرًا ومال الكرسي لانثنائه، وخلع الكاب وأمسك به في يده يديره أحيانًا وأحيانًا يهف به وقال: الراجل كان طهقان قوي من مراكب الخواجات، ففي ظرف سنة ربنا اداله واتسع قوي، وحبه بحبه راح شاريلك مراكب إسكندرية كلها، وما أصبحشي فيه مركب إنجليزي، طلياني، تلتاني، كله رفع العلم الأخضر.
ولاحظتُ أن ملامح الصول فرحات قد تراخت وانزاح عنها كل ما فيها من صرامة واشمئزاز، واتخذت طابعًا عجوزًا راضيًا، وعيناه هامتا في سماء الحجرة كفراشتَيْن حالمتَيْن، وصوته خلا من كل تشويش وحفل بنشوة طارئة حلوة كانت تخرج الكلمات من فمه لذيذة وكأنها محلاة بعسل النحل، فلا تملك إلا أن تحبها وتحب رعشتها الممتلئة بالرنين وهي تنساب في تؤدة من خلال السكون الحزين الذي خيم حتى أصبح القسم كسرادق المأتم في آخر الليل، حين لا تسمع فيه إلا فحيح الكلوبات وهمسات المُعَزِّين.
– وأصبح للراجل مراكب لا تُحصى ولا تُعد، أصغر ما فيهم تيجي قد القسم دهه عشرة خمستاشر مرة، يسكتشي على كده؟ أبدًا، الفلوس مالحستشي عقله فراح شاري بالإيراد بتاع المراكب مصنع نسيج كبير قوي، وشغل فيه ييجي نص مليون عامل، بعد شهر واحد مصنع النسيج عمل مصنع قزاز، والقزاز عمل مطاحن ومضارب رز، وبعد كده إشي محالج، وإشي سكر، وإشي جاز، وإشي ورق، وإشي مكن، وإشي صلب، المهم إنه جه يوم عليه امتلك فيه مصانع مصر كلها.
وماعجبوش الحال الملخبط ده فراح لامم المصانع وبناها على حتة تطلع ألف فدان، لأ، ألف إيه؟ هي الألف تنفع، ييجي عشرة آلاف فدان، خمستلاف منهم مصانع والخمستلاف التانية سكن فيها العمال، مش سكن كلشنكان، لأ، سكن، بيت، بجنينة ببلكونة وحاوي مما جميعه حتى فيه عشش الفراخ والأرانب، ومش بس كده كان مايخدش من عرق العامل حاجة، اشتغل بخمسة ياخد خمسة، بعشرة بعشرة، ما هو لا مؤاخذة في دي الكلمة العامل لما ياخد اللي يقضيه يشتغل ويتفرعن في الشغل، واحنا شعب وارث الفرعنة أبًّا عن جد، فبدل ما يطلع متر يطلع مترين، وبدل جزمة جوز جزم، مهو كده هات وخد، اديني حقي وخد حقك، إنت راخر العامل أصبح حاجة تانية، هدوم نضيفة أربعة وعشرين قراط، عفريتة مكوية يروح بيها الشغل، وييجي بعد الضهر يلبس بدلة الأيافة والطربوش النسر والجزمة الأجلسيه، وقهاوي إيه وجناين إيه وكازينات ايه وأبهة إيه، والناس بقوا حلوين وفرحانين ومبسوطين، ولا قرف ولا بلاوي، طول النهار ضحك وفرفشة والليل يروحوا السيمات، والسيمات دي مهمة قوي، في كل شارع سيما، وبالأمر لازم كل كبير وصغير يخش، والأفلام، أفلام تمام، وبوليس، مافيش بوليس، العسكري بدل ما يتلطع ٨ ساعات في الداورية له كشك قزاز في قزاز في وسط الشارع، ومكتب صغير واللي عايز حاجة يجيله.
استنى بقى لحسن الواغش بعيد عنك جه، أمَّا نشوف إيراد النهاردة حيبقى كام!
وحقيقةً كنت أسمع الضجة القليلة التي أخذت تترى من ناحية الباب، ولكني كنت أنا المنساق هذه المرة وراء ما يقوله فرحات وما ذُهلت له تمامًا.
والتفتُّ ناحية الباب فوجدتُه قد ازدحم بأربعة مخبرين أو خمسة طوال عراض أيضًا ويرتدون اللبد، وقد أمسك كل منهم في كل يد من يديه قبضة أطفال مشردين، ومتسولين عجائز وكل منهم يجر ما في يديه جرًّا، وقد ربط جلباب الطفل في جلباب الآخر، وكان المخبرون يبدون كالعمالقة الطوال، والأطفال يبدون بجوارهم قصارًا صغارًا كالكتاكيت المذعورة، وعبروا الفناء ووصل ركبهم إلى السور الخشبي، وكذلك وصلت ضجتهم، فأنهى الصول فرحات كل الأصوات بقوله: بس، اخرس انت وهوه، وقفهم طابور يابو طه قدامي، بطل كلام عمى في عينك.
وذهب باقي المخبرين، واصطف الطابور في سكون.
ورجع الصول فرحات إلى الوراء كثيرًا وهو لا يزال في نشوته فقلت: وبعدين.
– ولا قبلين، حالًا مكن من ألمانيا جه، والمهندسين والعمال اشتغلت، وراحوا زارعينلك الصحرا كلها، شوف بقى الرملة دي كلها لما تزرع؟ الإكس يمشي فيها سبع تيام ما يحصلش آخرها، وأهم من ده وده إن مافيش قولة حاجة اسمها توابيت محاريت سواقي، كلام فارغ من ده كله مكن: الري بمكن والدراس بمكن والسباخ بمكن، وحتى كان فيه مكن يجمع القطن ويحش البرسيم، والفلاح اللي عليه العمل، مافيش قولة جلابية، طاقية، بشت، أبصر إيه معرف إيه، أبدًا، كله بدل، بنطلونات كاكي لحد الركبة، وبرانيط بيضة نضيفة، وجزم بنعل دوبل مايدوبش ابدًا. والفلاحين يسرحوا طابور، يشتغلوا لغاية الضهر بس وبعدين يرجعوا طابور، والنسوان كذلك، بس دول في غيط ودول في غيط، والبيوت كلها حجر، ولمض جاز تبطل خالص، كله كهربا، والسحب على صاحب الأرض، وكل صف بيوت له ميز ياكلوا فيه ويرجعوا لبيوتهم يقيلوا، وبعدين العصر طابور على المدرسة يقروا ويكتبوا ويعرفوا اللي لهم من اللي عليهم. بس يا سيدي مطولشي عليك، الراجل من كتر الفلوس عنده زهد فيها، كانت أرخص من التراب، وحاكم الفلوس لما تبقى بالشكل ده الواحد لازم يقرف منها، اللي ياكل تفاح كل يوم بيقرف منه؛ ففي يوم من الأيام أعلن في الراديو، أيوه — مهو نسيت أقولك إنه عمل محطة إذاعة وعمل ليها في كل بيت من البيوت وصلة — أعلن في المكرفون إنه متنازل عن جميع …
وكان الصول فرحات ينظر إليَّ ويقول كلماته الأخيرة وكأنه يفكر في مشكلة أخرى.
وقال للعسكري فجأة: أنت واقف بتعمل ايه يا جدع؟! أنت ما وراكشي شغل؟
وقال العسكري في صوت متقطع: أصل، الا… الافندي، أنا مستلمه.
– مستلمه؟ ليه؟
– حرس عليه.
واستدار إليَّ الصول فرحات وألقى عليَّ نظرة ما رأيتها منه قبل الآن واستمر يحدجني طويلًا، ولا ريب أنه لم يجدني أصلح كي أكون قاتلًا أو سارقًا أو خاطف طفل، ولست أدري ما كان يعنيه حين قال في بطء وشك كثير: آه، الافندي ده، هو انت منهم؟
فقلت وأنا أبتسم: من مين؟ المهم، الراجل أعلن إيه في الإذاعة؟
واستمر ينظر إليَّ ثُمَّ قال بصوت تائه: آه، والله مانا فاكر، يا شيخ فضك، أهو كلام، انت بتصدق؟
ثُمَّ شد جلد وجهه حتى عاد كالطبلة الصارمة، وجذب «الكاب» حتى بلغ موضعه التقليدي من جبهته تمامًا، وهوى على «المتسول» العجوز الواقف في أول الصف بنظرة صاعقة من عينيه، وانطلقت جعجعته المعهودة: ما تنطق يا بجم، اسمك إيه؟!