ديش بَاره سي
إذا كنت من الذين يعومون على وجه «الجراب» فإني لست منك ولست مني، تعمق ولا تكن سطحيًّا فليس على الوجه غير الخبز اليابس.
من جراب اليوم حديث جرى — في ذلك الزمان — مع بيك سطمبولي أصيل، كتب على صلعته الواسعة «ضرب في القسطنطينية» كلَّفه اللقب والنيشان والرتبة الأولى المتمايزة نصف ثروته الضخمة، فرحل في سبيل ذلك، الرحلتين، رحلة الشتاء ورحلة الصيف.
كان يلذُّ لي حديث سعادته لما شيَّخ، فكنت أسهر عنده كلما استطعت، وكان يعجبني منه رد التحية فيقع في قلبي بردًا وسلامًا، والتفتُّ بمن لم يكن دار على لسانهم — بعد — لقبي الطازه لفتة معناها: سمعتم! تعلموا الذوق من صاحب الرتبة المتمايزة، فهو لا ينسى اللقب مثلكم.
تلك أيام يرحمها الله، كنت فيها حديث النعمة وكان البيك بروتوكوليًّا من الطراز الأول، كان — رحم الله عظامه — جميل الوجه، طلق المحيا واللسان، عرك السياسة وعركته، يهندم لحيته التي أطلق سبيلها بعد اللقب والرتبة على النسق التركي فتخاله صدرًا أعظم أو وزيرًا على الأقل. تخلع هامته الضخمة على محضره الأبهة والوقار فتندلق المهابة حوله وحواليه. أما حنجرته فعريضة وصوته جهوري لا بحَّة فيه مثل صوتي، فإذا ما سمعته قبل أن تراه تحسبه لصفاء صوته ببغاء تتكلم.
واجتمعنا مرة في أجر — مأتم في اللغة الفصحى — فهرعت إلى حضرة البيك حيث كان يشرب القهوة بعد الغداء والدفن، تلك عادة مقاطعتنا ولا تزال، فرحب بي ترحيبًا جميلًا — أي لم ينس اللقب — وبعد التأهيل ابتسم وقال: اشتقت إلى حكايات سطمبول؟ سماع، عندي اليوم واحدة تعجبك، تذكرتها عندما رأيت «المغلفات» توزع على المحترمين بعد الغداء.
قلت: أفندم! فكركر في الضحك، وقال: هذي كل بضاعتك من التركية. كان من تقاليد الصدور العظام والنظار — الوزراء — أن يدعوا مشايخ الآستانة العلية إلى إفطار في رمضان، فيركضوا إليها ركضًا، ويقوموا بالواجب بهمة ونشاط، وعند الانصراف كان يدس الوزير في كف كل شيخ منهم إصبعًا من الليرات الذهبية قائلًا له: ديش باره سي، فيخرج من عنده شاكرًا حامدًا، ويبيت ليلته يبصر في نومه وزير الغد، موسم ينتظرونه من الحول إلى الحول.
ولما رآني لم أتحرك قال: ما فهمت معنى الديش باره سي، هذا تعبير تركي معناه: أجرة الأسنان، أرأيت «نزاكة» الأتراك؟ ولكن قل لي بحياتك: كم الذين قبضوا أجرة أسنانهم اليوم من تركة المرحوم؟
وكان حَدِّي في المجلس واحد من رفقاء المدرسة وهو ممن حلت عليهم النعمة ولم تبارحهم مثلي، فكان ممن قبضوا أجرة الأسنان، فقال له البيك: لا تؤاخذنا يا محترم، هذي نكتة …
ومات البيك ومرت سنون وإذا بي — منذ أيام — التقي بالرفيق فأنكرته لجلال الشيب والهرم، أما هو فعرفني وأخذنا نتذاكر أيام الصبا والشباب، وتذكرنا البيك والديش باره سي، فقال لي رفيقي الكاهن الجليل — وهو ينظر إليَّ نظرة المريض إلى وجوه العوَّد: تُرى لو قام البيك اليوم من قبره ورأى كيف تؤكل صناديق الدولة ماذا كان يقول؟
قلت: كان يقول: أنياب: أنياب باره سي …