لله درها
تلك بقرتنا «عبيدة»، فابنها «الأزهر» أخي الرضعي، فلا تتعجب إذا ما قلت لك إن بيني وبين البقر قرابة … والأستاذ — إن صح قول الشاعر — هو الأب المفضل لتلميذه؛ لأنه مربي الروح، والروح جوهر! وإذا صح قول من قال: إن محبة الآباء تتصل مع البنين، عرفت لماذا صار ابني الروحي «علي سعد» طبيبًا للبقر، بعد أن أجيز ليكون «محاميًا» عن البشر. سوف تأتيك قصة هذا التلميذ الطاهر، فاسمع قبل قصة معلمه.
إن حكاية هذه القرابة البقرية عريقة في القدم، يبتدئ تاريخها بعد ميلادي السعيد بثلاثة أيام. انقطع رزقي من يوم ولدت، فالمرحومة والدتي كانت غير حلوبة، ولو لم أكن طويل العمر رحت ضحية عناد والدي، لم يكن في الضيعة كلها غير مرضعة واحدة، والوالد لا يرضعني حليبها لأسباب مات ولم يصرِّح بها … وبعد ائتمار يومين فضت المشكلة بقرتنا «عبيدة» فكانت مرضعي لله در درها … وهكذا صرت وابنها الأزهر رضيعي لبان، كما كان الندى والمحلق عند الحطيئة.
وتوثقت عرى القرابة بيني وبين البقر، ولكن مصيبة جديدة مدَّت أذنيها في صبيحة حياتي فبعدت الشقة بيني وبين المثلث الرحمات جدي الخوري، كان يتلَّني صغيرًا، ولما كبرت وعسيت صرت أركب رأسي ولا أبالي به، فيحمى علي ويقعد، يؤصلني ويفصلني قائلًا: راضع حليب البقر كيف يكون! مخٌ فجٌ، رأس يابس لا يتكسَّر بالقدوم، متى عرد رح من الدرب ثمَّ لا يسكت حتى يفرغ ما في جرابه من تلك «الألفاظ الكتابية».
ويشاء القدر ومشيئته كائنة لا محالة، فأصير حجر شحذ، ويكون من تلاميذي الدكتور علي سعد. واغتظت مرة من الصف فقلت: اكتبوا موضوع إنشاء: قال الغزالي: رعاية البقر خير من سياسة البشر.
تمرمر الصف، وكان علي سعد من أقرب التلاميذ مني مقعدًا فطفق يبربر ويكتب … كان قزمًا يوم ذلك، جسديًّا، ولكنه كان جبارًا، عقليًّا، فبيض وجهي عام جاءونا بلجنة فاحصة شامية لامتحان البكالوريا فكانت الأولية له، كنت أرجو أن يكون الأديب الأول، وكثيرًا ما كنت أردد، عندما يذكر: هذا تلميذ يرفع الرأس. ولما زارني مودعًا وأخبرني بعدوله عن المحاماة واعتزامه درس الطب البيطري قلت له: هيء يا علي، بدلت الرءوس بالأذناب … هذا عمل «الموجِّه الأعظم» الذي حكى عنه الأستاذ نعيمة، لا حول ولا قوة إلا بالله.
ومنذ مدة التقيت بذاك القزم فإذا به قد اخشوشن واستطال، فحوطته باسم الله من الجهات الأربع، وقلت يخزي العين! وأين أنت اليوم؟
فأجاب بابتسامته التقليدية: في الزريبة، أحقق كلمة الغزالي، فأجبته بالمثل العامي: وإن كان هلغزلي غزلتك حرير بدك تلبسي، فأجابني: حسب التلميذ أن يكون مثل معلمه.
ومنذ أسبوعين أو أكثر قرأت أن الدكتور علي مسافر إلى هولندة لجلب رأسين ثلاثة من البقر لتكون نواة لتحسين نسل القرايب.
فيا تلميذي عليًّا، ما أظن أنك نسيت — كالبعض — كم كنت أرعاك وأراعيك، وكأني بك مسخَّر من «الموجه الأعظم» لتسدد ما على معلمك من دين لذات القرنين، أفلا تكافيني أيضًا بتحقيق أمنية؟
إننا — يا عزيزي — في حاجة إلى تحسين نسل آخر، فبحياتك، مر بالرجعة على قبرص … فأكثر حميرنا صارت بلدية …