فطور ميلادي
كان الميلاد عيد صلاة وخشوع يوم كانت القناديل السود تضيء عتمة الكنيسة بمقدار، فترسم على جدرانها الشهباء أشباحًا يستيقظ الوجدان حين يراها. كان الميلاد يوم تجديد النفوس للأجداد، فصار عيد لعب للأحفاد … ومذبحة دجاج عالمية.
وكنا في المدرسة ننتظر ذاك الفطور من الحول إلى الحول، فنصلي بحرارة إيمان تكاد تصور لنا الديوك تكرج في صحن الهيكل، نرتل جميعًا بصوت واحد: المجد لله في العلا، وعلى الأرض السلام. وكان صوت رفيقي عبد الله يقدح السقف، فما انتهينا من تنغيم «وعلى الأرض السلام» بكل ما فيها من تعويج، حتى ملت عليه وألقيت في أذنه: وعلى المائدة ديوك ومُدام …
فصرخ بي: سد بوزك، قالها وصوَّب رأسه نحوي كأنه يريد أن ينطحني، فاستكنت وأنا منه على مضض، وقلت أسترضيه خوف الفضيحة: كانت تعجبك النكتة! فنب وكاد يأكلني بعينيه وقاطعني قائلًا: في الكنيسة يا كذا وكذا!
وخرجنا بعد الظهر للتنزه، فتحرشت به، وقلت له: الظاهر إنك عزمت على الكهنوت.
فأجاب: ومن أين عرفت؟ قلت: من غيرتك وهجمتك، نسيت؟
قال: هذا واجب، يا ويلك من الله!
قلت: ربما أهتدي — في المستقبل — إذا ذكرتني في قدَّاسك. ظنَّها الجد فتنفَّش وقال: بيفرجها الله …
وما قلت: ولكن … حتى انتصبت أذناه، وأخذ حذره وقال: ولكن إيش؟
قلت: ولكن لا يصح القداس بدون حضور المسيح.
فقال بنزق: ومن قال لك إنه لا يحضر؟!
فقلت: وجهك الحلو … وهربت. وقعد هو يسبني ويشتمني.
ومرت سنون وكانت الحرب الأولى، فصادف أن بت ليلة العيد في ضيعة رفيقي الذي صار الخوري عبد الله، فعزم علي حتى أفطر عنده، فقبلت وقلت في قلبي: ما أسرع ما تمحِّي إساءات المدرسة، فيلتقي الرفيقان وكأن لم يكن شيء مما كان. وما دخلنا البيت حتى قال كالعاتب المؤنب: ما سمعت القداس.
فسكت، فهزَّ برأسه وقال: الطبخة الطيبة تعرف من العصر. ما تظن أني نسيتك، قلت: ولا أنا.
جئتني داعيًا أو واعظًا؟ فقال: وصيادًا أيضًا، أخاطر بالطعم حتى أصطاد السمكة، فقلت: أبشر، لقيت من يأكل الطعم و… فصاح: أوف! وأبدى إشارة من يسد أذنيه، ولكن الضربة لمن سبق …
كانت شيخة السفرة — الدجاجة — محشوة بالبرغل، وكذلك الشوربا، وليس الذنب ذنب رفيقي الخوري عبد الله، فالرز اختفت آثاره في تلك الحرب، والسعيد من كان عنده برغل، ولكن خبز الخوري كان من الشعير، فوقف يصلي ويسارقني النظر، ولما رآني لم أحرك ساكنًا قعد مغيظًا محنقًا، وقال كالهازل: صلِّب على الأقل، اذكر اسم الله حتى نعرف أنك بشري …
فأجبته: الله أجلُّ من أن يذكر على هذا الخبز، هات ملاعق …
فصرخ كمن لدغته أفعى: ملاعق يا صبي … أكل الطعم … ألف صحة وعافية.