عصافير التين
رحم الله الصديق راشد طبارة، فقد عاش راشدًا، ومضى لسبيله راشدًا. كانت طلعته توحي إلي الوفاء، وها هي غيبته تلهمني موضوعًا فيه العبرة والموعظة، امضِ بسلام يا أخي، فأنت اليوم أوعظ منك حيًّا!
قالت إحدى الصحف يوم مات هذا الفقيد العزيز: ومات ولم تدنسه الوظيفة، الله! الله! كيف تفسد ذبابة لونًا من الطعام يكاد يؤكل بالعين، أما صارت الوظيفة دنسًا لأن فينا من يسيء استخدامها؟ فإذا كان بعض الموظفين سمنوا فالأكثرون منهم مساكين لا يظفرون بالكفاف.
ما كانت الوظيفة قط في لبنان مورد ثراء، بل كانت واسطة لدك أساس البيوتات، وكنا إذا دخلت الوظيفة بيتك نقول: أخ، خرب البيت. زحل … فما جرد الأسر اللبنانية من ممتلكاتها غير تهافتها على الوظائف وتصارعها حولها، كانت الوظيفة طمعًا بالجاه والوجاهة، وما كانت قط نبعًا يخر وضرعًا يدر، واليوم أيضًا لا يصح أن تسمى دنسًا؛ لأن النظاف الأيدي كثيرون، وما القذرون إلا قلة والحمد لله، فيجب أن تقطع هذه الأصابع المتآكلة من أرجل الهيئة ليسلم الهيكل.
جميل وأكثر من جميل أن نقدر الرجل الطيب بعد موته، كما قدرت الحكومة هذا الموظف الأمين، ولكن المكافأة على الأمانة لا تؤدب أصحاب الجلود المتمسحة، والعيون الوقحة التي لا تستحي. فهؤلاء «الأمناء» يضحكون في سرهم من مثل هذه المكافأة، فليست العشرة آلاف ليرة تحسب شيئًا مما يعدون ويحسبون … فهم يكافئون أنفسهم كل يوم، بل كل ساعة، والذي يقبض المعجل لا يكترث بالمؤجل، فمن بعده الطوفان …
إن مثل هذي المكافأة تحث نبلاء الموظفين — وحدهم — على المضي في شوطهم شوط العفة والنزاهة والأمانة، أما البقُّ والدود العلق فلا يؤدِّبه غير قصاص بلا شفقة، ولكم في القصاص حياة.
إن الوزير مؤازر فعليه أن يسهر على من هم تحته إذا كان يريد تأييد من هم فوقه، عليه أن يكسح الجعل والخنافس التي يفسد منظرها القذر ورائحتها النتنة جو الثقة والإيمان.
على من يعنيهم الأمر أن ينظروا إلى «عصافير التين» ويسألوا: كيف جاءت أمس عجافًا خفافًا … وصارت سمانًا ثقالًا؟
جاءت أول من أمس، وما فيها غير الروح والعظم والجلد؛ فكيف سمنت أولًا بأول؟ يا بارك الله!
انثروا — سادتي — المطاعم حول الوكور، واصلوا الدبق تعلق الوراور وعصافير التين. أما يكفيها ما تأكله على الهينة حتى تطير على أعين الناس، وتغرد آمنة نكاية فيهم …!