راهبات بونا حنا
كان الأب يوحنا مرشدًا وقيمًا لراهبات دير في مكان قفر، يوم كان الرسول ينقل الأخبار والحوائج. كان المحترم يركب بغلة الدير مرتين كل جمعة ليتحوج من المدينة، ثم يعود مساء وقد أعيا ككل من اكتهل وشاخ، فتلتف حوله الراهبات ليتسقطن أخباره الطرية، فلا يكاد يجيب حضرته على سؤال حتى ترشقه الأخرى بآخر، فيرزح تحت أثقال ألسنتهن وتظل حرب الكلام قائمة على ساقها حتى تفرغ جعبهن، وهيهات …
اختلى الأب بصومعته وشرع يقلع ثيابه فسمع نفسه يقول بدون تفكير: صحيح أن لسان النسوان طويل! إذا كانت هذي حالة الراهبات فكيف تكون حال اللواتي لم يكن لي حظ مخالطتهن! ثم أرسلها زفرات حرى في إثر الشباب الذي راح!
وراح يفكر في حيلة تكفيه شر هؤلاء، فكان كلما خلع قطعة من ثيابه تقفز من تحتها فكرة، فيظهر الاستهجان بقول: ﻫء، لأ. وأخيرًا استلقى على فراشه، وتذكر صلاة المساء والليل فجثا يتلو فرضه على ضوء ذبال المصباح المفتل. وكانت تتخلل الصلاة أفكار وخيالات فيكشُّها بيده كما يكشُّ الذبان، وانقضت الصلاة ونام الأب نومًا قلقًا، ولكنه ما عطَّ هنيهة حتى استيقظ ضاحكًا لما اهتدى إليه من حيلة يقطع بها ألسنة الراهبات.
فقالت له نفسه: ما لهؤلاء الزاهدات وأخبار العالم! فلولا قصد إبعادهن عن شئون العالم وشجونه ما بني لهن الدير على رأس هذا الجبل الأقرع.
وغلَّ المحترم في فراشه وهو يقول: هَيْ هاي يا بونا حنا … وصلت … هذه نكتة لو سمعها «سيدنا» لعملك مطران أبرشية … وهناك تستريح وتغرق في نعيم وتخلص من هذا الأسكيم …
وبعد مرور أسبوع من تاريخه عاد الأب يوحنا من المدينة كعادته، فما وقفت به البغلة على بوابة الدير حتى كانت الراهبات في الانتظار … ولما رأين على وجهه ابتسامة مفلطحة استبشرن وهزجن كالصبيان: أهلًا وسهلًا، معك خبر مليح يا بونا حنا، هات … عجِّل … وانشق قمر بونا حنا ولاحت أسنانه الصفراء، وقال: يا قرود السود! أمهلوا حتى نتنفس. فصاحت إحداهن: عجِّل يا بونا حنا، ورددن جميعًا هلقْ، هلقْ، هلقْ هلقْ …
فصاح الأب يوحنا بعدما صلَّب على وجهه والتفت إلى السماء: طيب، اسمعوا: صدر أمر من سيدنا البابا أن كل راهبة بوزها صغير تُحلُّ من النذر وتتزوج.
فصرَّت الراهبات شفاههن وهتفن بصوت واحد: صحيح يا بونا حنُّو … ثم سكتن كأن على رءوسهن الطير …
وكانت الرحلة الثانية إلى المدينة والعودة، وكان الاستقبال والاستعلام عن الأخبار كالسابق فقال الأب حنا لأخواته بالرب: الخبر الماضي غلط، أما الصحيح فهو أن كل راهبة بوزها كبير تُحل من النذر وتتزوج، فانفتحت أشداقهن كمغارة نهر الكلب، وصحن جميعًا: صحيح يا بونا حناه.
تلك حالة أصحابنا الطامعين بالزواج من الدولة فهم يغلقون أفواههم ويفتحونها على مصراعيها كما توحي إليهم شياطينهم … ولكنهم سيبقون في الدير؛ لأنه ليس من يطلب أيديهم.
فما أكثر المدعوين وأقل المنتخبين! وكم يؤدي حب الرئاسة إلى التنكر للكياسة …