في المطار
من يحزر ماذا اشتهيت لما دخلت المطار، ورأيت لبنان يحدث دول الأرض كأنه وإياهم في سهرة عائلية؟
قلت يا ليتني أجلت مجيئي إلى الدنيا نصف قرن، أنا واثق أن أحفادي الذين لا يزالون في ظهر الليالي سوف يضحكون من تعجبي الآن، كما أضحك أنا من جدي الذي هبط إلى بيروت راكبًا جحشًا ابن أتان ليتفرج على القطار، ويرى بابور النار الذي لم يدر في خلده — تعالى — أن يوحي إلى نوح صنع فلك مثله.
كم كان يتضاحك المرحوم حين كان يقصُّ علي حكاية أول قنديل كاز جاء الضيعة، ويصف لي كيف سهروا على ضوئه أول مرة ناظرين فيه آية العصر الكبرى! ثم يروح يقابل بينه وبين مصابيح الغاز التي رآها تضوي شوارع بيروت، ويقول: الفرق شتَّان … وأخيرًا ينتهي به التعجب إلى القول: ما عصي على ابن آدم غير الموت!
ليته يُبعث اليوم ليعلم أن ابن آدم سلوقي عبقري الريح … خبأت له الطبيعة المطامير وهاهت به، فراح ينبشها واحدة بعد واحدة.
لقد جرَّني هذا الفكر إلى التساؤل: ترى أيهما أقدر؟ أمن خلق المادة أم هذا الذي اكتشف خباياها؟!
ما أعظمك أيها العقل؟ لقد جعلت من صاحبك رب أرباب.
ما دخلت مطارنا الدولي وجلت فيه حتى سمعتني أقول لنفسي: بنى الأمير بشير دارًا فاعتد بها لبنان، ترى ما عساه يقول بعد حين فيمن بنى هذا الأثر العالمي؟ هذا الأثر الذي يقف فيه لبنان الصغير في الأمم أمام دول الأرض جمعاء وقفة النظير أمام النظير.
أسفت جدًّا لأني بكرت في المجيء إلى الدنيا، ولكن هذا أمر وقع … فما بقي إلا أن أتمنى أن ينساني الموت حينًا لأسمع ما يقال، وأبصر ما ينبشه السلوقي من جديد …
كنا منذ بضع سنوات نتعب جدًّا لندل القارات الأرضية على مقامنا في المسكونة، أما اليوم فقد صار هذا «الملليمتر» من خريطة الكرة الأرضية دنيا واسعة الشهرة.
سوف يذهب مع الدوي كل ما قيل، وكل ما يقال وسيقال في المطار، فلا كتاب أبيض ولا أخضر، ما هناك إلا أثر باق ما دام عليها وفوقها من يطير …
سوف يبقى مخبرًا بأعمال يدي من أنشأه، ويلقي في آذان الشانئين: