الوجدان العام
لا أحب الخوض وسط المعمعة، ولا أحب الأديب، كما يريد الجيل الطالع: هبَّاط أودية، حمّال ألوية، كصخر الخنساء، نحن ولدنا في الساحة وما زلنا فيها، ولكن كل فريق يريد أن نخوض ساحة بعينها، وهذه الساحات قد أمست لا تصلح لنا، وأمسينا لا نصلح لها …
ما ينقصنا في هذا البلد إلا الوجدان العام، إننا لا نشعر كمجموع بل نحس كأفراد وأسراب، ولهذا ترانا بعداء عن لبنان، ولبنان بعيدًا عنا، كل منا ينتسب إلى ضيعته، فمنطقته، وإلى ملته، فطائفته، أما البوتقة الكبرى فلا تصهر هذه المعادن المختلفة لتجعل منها مثالًا واحدًا؛ لأن النار المصوَّبة من الأنبوب لا تستطيع الصهر والتذويب، وبتشبيه آخر ليس لنا إلا بطارية غير مشحونة لا تضيء الطريق ولا تحرك السيارة.
فالنائب والوزير تهمهما منطقتهما بل لا يهمهما منها إلا تلك الشخوص التي توصلهما إلى كرسي النيابة فالوزارة … ولهؤلاء دون سواهم يعملان … وهذا أصدق دليل على ضعف الوجدان العام.
إن المؤسسة التي ليس لها وجدان عام لا تفلح، والإدارة التي ليس لها وجدان عام يسيِّرها لا تنجح، والشركة التي ليس لها وجدان عام تفلس وتصفي حسابها، والبيت الذي ليس له وجدان عام يخرب.
إن هذه الضوضاء التي تعلو وتخفت تحت قبة البرلمان لتذكرني بحكاية رواها لي صديقي المرحوم المنسنيور غناطيوس ضومط، قال: سافرنا في القطار من باريس وكان معنا الزعيم جوريس، فتجمهر العمال لوداعه. كان يلبس ثوب العمال في ساعة الوداع، وما توارى القطار عن الملوحين بقبعاتهم ومناديلهم حتى بدَّل المسيو ثوبه الكاكي، ولبس الفراك وبرنيطة كبرج إيفل …
أجل يا سادة، إننا نريد ثوبًا لا يخلع، نريد صخورًا لا فقاقيع صابون تتلاشى فور خروجها من الباب. نريد وجدانًا عامًّا لا وجدانًا خاصًّا. الوجدان الخاص هو وجدان «الأنا»، أما الوجدان العام فهو وجدان «الغير» وهذا ما نحتاج إليه.
وبكلمة صريحة واضحة أقول: نريد أن نبني وطنًا يكون لنا فيه بيت، لا أن نبني بيتًا يكون لنا وطنًا.
ومن له أذنان للسمع فليسمع.