أخوت يحكي
رآني أمشي في الرواق مشية المدلِّ، أدخل وأخرج وعلى وجهي سيماء الواثق من نفسه، فأخذ يقترب مني بعين مكسورة، يد على الصدر، وأخرى على العكازة كأنه يخشى أن تفلت منه. ظننته أحد أولئك الذين يهاجمونك لينتحوا بك ويشحذوا بشرف فتهيأت لاستقبال النكبة، ما فتح فمه حتى حاولت أن أسده بقولي: لا تغرَّك مني عينك يا عم، الذي في الصندوق على الظهر ملزوق، لست عند ظنك ففتِّش عن غيري.
فتنهد المسكين وقال: أنا لست منهم يا سيدي، أنا رجل لي شغل هنا، أجيء كل يوم أطلب إنهاء قضيتي ولا أحد يرد علي، حتى ولا السلام. أسمعت في زمانك أن أحدًا لا يرد الصباح. لا أسمع منهم إلا كلمة: مشغول يا عم، تعال غدًا، وأعود غدًا، فلا أفوز بغير: تعال بعد يومين ثلاثة.
فقلت: وماذا تريد مني؟
قال: تتوسط لي عندهم ليفكوا أسري، والله العظيم ركبني الدين، صرت أستحي من العيال، الحالة ضيقة جدًّا.
– قل ماذا تريد؟
– بارك الله فيك، تتوسط لي ليدفعوا ما يستحق لي عندهم.
– والدفع يتطلب واسطة! هذي عادة قديمة فينا، إذا أراد الواحد منا أن ينصح ولده يتوسط ولده الآخر … ادخل واطلب حقك يا عم، بعين مفتوحة.
فقال: وماذا ينفعني تفتيح عيني متى أغلقوا الباب بوجهي، فلنفرض أنهم كانوا مشغولين مثلما ادَّعوا، ألا ينتهي شغلهم؟! أراهم يوشوش بعضهم بعضًا، ويشربون القهوة ويتحدثون، وحين ينظروني يصيحون: اتركنا في شغلنا … ولا أراهم في شغل غير المسايرة.
ومر بنا في تلك الهنيهة السعيدة صديق من الموظفين، فأخذ بيدي وسرنا وهو يقول: تظن أنك تحكي مع رجل له عقل، هذا مجنون، يجئنا من وقت إلى آخر ليمثل هذه الكوميديا.
فقلت لصديقي: إذن صح فينا وفيه قول المثل: أخوت يحكي وعاقل يفهم.
فأجابني صديقي: لا أقول لك لا، ولكن أخاطبك كما خاطبتني بقول المثل: ليست أصابع يدك كلها سواء.
فقلت: ما أكثر الصالحين فينا، ولكن ذبانة تفسد خابية، في بلاد الناس صارت المكانس كهربائية، فهل أقل من أن يكون عندنا مكانس قش … نكنِّس بها من يقتلون الناس صبرًا …