المسيح حقًّا قام
الله، الله! ما أكثر غرائب هذا الزمان! إذا كان المثل يقول: عش رجبًا تر عجبًا، فكيف تكون حال من عاش ستين سبعين رجبًا.
لم أصدق أذني أني أسمع إذاعة دينية مسيحية تنقلها محطة إذاعة إسرائيل، وزادت عجبي عجبًا تلك الخطبة عن قيامة المخلص.
اعتاد اليهود أن يحاكموا يسوع كل بضع سنوات ويثبتوا الحكم الذي صدر منذ ألف وتسعمائة وتسعة عشر عامًا، أما بعد أن سمعت بعد ظهر الأحد الواقع فيه ٤ نوار هذه الإذاعة، فتبادر إلى ذهني أنهم نقضوا أحكام بيلاطس وقيافا ويوحانان … وبالاختصار: آمنو أنه «أتى».
كان لنا رفيق يهودي في المدرسة كنا نمازحه، وحينًا نوجعه ونؤلمه لنحمله على أن يقول «أتى» ولكنه كان لا يقولها مهما آلمناه، وهنا يحلو لي — كما يحلو لكل من تتقدم به السن — أن يرجع إلى ذكرياته يجترها.
ففي سنة ١٩٠٧ ذهبت من بيروت إلى عين كفاع في فرصة عيد الفصح، ومعي ذاك الرفيق اليهودي، كنت أغشى بيتهم في المدينة فأحب أن يزورني في الجبل، وفي الربيع. فوصلنا عين كفاع، ليلة خميس جمعة الآلام، وأوغل صاحبي في التسامح، كما علمتنا مدرستنا في ذلك الزمان، فأحب أن يحضر الاحتفال بدفن المسيح فثنيته عن ذلك لئلا يسمع ما لا يحب من شتم لملته، وسب لجماعته.
قل قطعنا خط نار يوم الجمعة، ولكن صاحبي أراد أن يعمل بقول المثل: إن فاتك يوم استبشر بغيره، فأبى إلا أن يحضر قداس أحد القيامة، الشتم يوم الجمعة بالسريانية، أما السب يوم العيد فبالعربي المفلطح والقلم العريض، فصار عليَّ أن أتدارك الأمر مع عمي جناديوس. ذهبت إليه بعد السهرة ليلة السبت فاستغرب قدومي في تلك الساعة بعد أن كان سهرانًا عندي، فقلت له: جئتك في حاجة ولا أظن أنك ترجع ابن أخيك خائبًا.
فأجاب مستغربًا: قل، خير إن شاء الله.
قلت: الشاب الذي عندي يهودي، ويريد أن يحضر القداس فأرجو منك أن تحذف السب.
فصفق كفًّا على كفٍّ وصاح: أحذف السب! مارون، تطلب من عمك أن يحذف من خدمة القداس كلمات إكرامًا لسواد عيون يهوديك! حط عقلك برأسك …
ورحت أداوره ولكن من يزحزح جبلًا، كان — رحمه الله — تقيًّا يخاف الله، ولما تضايق هتف: مارون، تريد أن تخسرني ملكوت الله؟! نسيت يا صبي إيش قال يسوع: من يستحي بي قدام الناس أستحي به قدام أبي الذي في السما؟ فالج لا تعالج، وأومأ برأسه وهو يقول: لا لا لا.
قلت: طيب، مغمغها.
فتضاحك وقال: لا تقلل عقلك، أحسن لك أن تبقيه في البيت.
وبعد أخذ ورد خرجت من عنده ظانًّا أنه يدبرها بحكمته، ولكن الغد خيَّب ظني فراح العم يفخم ويضخِّم ويمطِّط ويترنَّم، ولما بلغ المحطة رجح رأسه كعادته وهتف ملتفتًا صوبنا: وتنكس رأس قيافا واليهود الملاعين إلخ …
فقلت لصاحبي اليهودي اقبض … عرَّضت نفسك للبلا فاستهدف، وخرجنا أخيرًا من الكنيسة بعد امتلاء أذني رفيقي سبًّا وشتمًا ولعنًا باللغتين العربية والسريانية.
كم تمنيت أمس أن يكون المرحوم عمي جناديوس جالسًا حدِّي ليسمع بأذني رأسه صلوات وعظة القيامة وتراتيلها تذاع من محطة يهودية هي محطة إسرائيل.
الله، الله، كم في السياسة من ضحك على اللحى والذقون، ولكن أكثر الناس ينخدعون.
لا أدري، والله، من هم أكثر بلاهة، المسيحيون الذين يذيعون صلوات القيامة من محطة إذاعة يهودية؟ أم اليهود الذين يذيعون ما يطعن معتقدهم في صميم قلبه؟!
حقًّا إن السياسة نفاق ورياء ودجل.