هُمْ هُمْ!
يا صاحب اليوبيل:
جهاد ربع قرن في خدمة هذه الأمة وهذه اللغة وهذه الناشئة، ثائرًا على الاستعمار، ثائرًا على التقاليد، ثائرًا على التفرقة، تصنع هذا الجيل، وتطبعه بالطابع الاستقلالي الاجتماعي، متحرر التفكير، رفيع الأهداف.
بالأمس كنت حربًا على الاستعمار، وكان بين من يركبون كراسي اليوم ويتمتعون بخبرات هذا الاستقلال، وهذه السيادة من يساير الدخيل.
ما ذنب الشعب فيمن فرض وجودهم عليه بقوة الغريب؟
يا عزيزي ويا تلميذي، تذكر ما كنت أردده على مسمعك في الصف من آيات التاج الأربع.
العدل يدوم وإن دام عمَّر، والظلم لا يدوم وإن دام دمَّر، السائل ذليل ولو أين السبيل، الدين ثقيل ولو درهمًا.
لا تأسف على أنه كان علينا طبع الاستقلال ولغيرنا الاستغلال، فالمهم إصلاح الحال، ولا تصلح الحال في الحال، فعمر الدول لا يقاس بالسنين.
«العروبة»، بضاعة اليوم الدارجة، كنا لها يوم كان التلفُّظ بها جناية، وكذلك هذا الاستقلال الذي يدَّعي كل واحد أنه خلقه من العدم … ليقولوا ما شاءوا، فأنتم تعلمون، وعلى علمكم المعول لا على ادعاء أكثر هؤلاء الفارغ، إنكم تعلمون أننا نحن كنا نصدر بضاعة العروبة في صناديق مكتوب عليها: سريعة الالتهاب. إن تلك الصناديق من لحم ودم، لا حديدية ولا فولاذية كالتي يحشوها أصحابنا بالذهب والورق ولا فرق عندهم، ثم لا يحسبون حسابنا بفضلة عشاهم …
أما عرفت — يا عزيزي — تلك الصناديق؟ إنها صدور الشباب وأنت واحد منهم.
يقول المثل: إذا كذبت بعِّد شهودك، فالحمد لله أنكم أنتم تشهدون من تلقاء أنفسكم، وما تشهدون إلا بالحق.
قال السيد المسيح عندما سئل عمن يشهد له حين ادعى أنه ابن البشر: أنا أشهد لنفسي، وأبي الذي في السماء يشهد لي، وأنا أقول: أنا، علم الله، شهيد لنفسي، وتلاميذي يشهدون، وما عوَّدتهم غير قول الحق، ووقوفهم أمامي بجسارة، على رغم ما في روح الأستاذ — وخصوصًا إذا كان مديرًا — من دكتاتورية.
لا تحزن على شيء مما تراه، ولا تحسد من يتمتعون بخيرات هذا الاستقلال، ولا تفرح لخيرات كهذه … ولا تحترم من يدير «لفته» كل ساعة مع الهوى …
وأنا — إن حزنت على شيء — فعلى هذا الاستئثار الذي يضر «بالعهد» فالعهد لا توطد أركانه بضع عشرة أسرة. العهد محتاج إلى أن يكون له في كل بيت نصير، وأن يكون له من كل شاب شهيد.
تذكر يا حسن، كيف دُك عرش الأمير بشير الكبير، حين أصبح أعوانه بضعة عشر نفرًا. ما عتم أن عرف بالمالطي بعد أن كان أبا سعدي المرهوب الحمية.
الناس يا عزيزي مع الواقف، ومتى تسنَّى لهم دفشه لا يقصرون.
أما أنا يا عزيزي، فعليَّ أن أعظ، وما وقفتي من الحوادث التي مرت على رأسي إلا كما قال المتنبي في ممدوحه العظيم:
وليس لي أن أخاطب بهذا البيت إلا شخصًا أو شخصين:
سأظل وحدي، وما أنا وحدي إن كنتم معي.