مركز حيفا أخذوه
حب الوظيفة داء متأصل فينا ولا يبرئنا منه علاج. أذكر — وما أكثر ما أذكر! إنه كان إذا ما فرغ كرسي في زمن الدولة العثمانية تقدمت المئات لكي تملأه. وكان للتوظيف سماسرة، وكان لكل وظيفة ثمن ذهبًا رنانًا، نقدًا وعدًّا، وبالمئات …
وفرغ مركز قاضٍ في حيفا، فلجأ أحدهم إلى السيد حسن شقيق أبي الهدى، سمير السلطان عبد الحميد ونجيه، فوعده به لقاء مائتين من الذهبات العثمانية.
واشتد الصراع حول هذا المنصب الشاغر، وشاع أنه أُخذ، فطار عقل الرجل وهرع إلى بيت الشيخ حسن فقيل له تجده الساعة الثالثة في «الزاوية» الفلانية يعقد مع المشايخ حلقة الذكر، فهرول إلى ذلك المكان وزجَّ نفسه في الحلقة.
رأى الشيخ حسن الصيادي يطوف على المتحلقين واحدًا واحدًا، ينتصب أمام كل واحد منهم ويصفق كفًّا على كف ويهتف: الله هو، الله هو، الله الله الله هو.
فيردد الشيخ والمشايخ معًا: الله، الله، الله هو.
وحميت الحديدة واشتد الصخب والتبست الأصوات. وكانت دهشة الشيخ حسن الصيادي شديدة إذ وجد نفسه بغتة أمام رجله الموعود بالمنصب، ولكنه ما تضعضع بل صاح به: الله الله الله هو.
فمد الرجل رقبته نحو الشيخ وأجاب: مركز حيفا أخذوه! فصفق الشيخ حسن صفقة ارتجت لها الزاوية وأجاب على الفور: فشروا، فشروا، الله الله الله هو.
فصرخ الرجل من فرحته: الله، الله، الله هو.
وكان أن فشروا حقًّا وعين الرجل قاضيًا بعد أيام، ولا عجب فكل من كان له «صيادي» في ذلك الزمان، كان يصطاد حتى الدلافين والحيتان …
كانت وسيلة الأمس ذهبية أما وسائط اليوم فعملتها طائفية، نفوذية برلمانية. كان الوسطاء اثنين ثلاثة، أما اليوم فعشرات ومئات، وكان الله في عون الحكومة.
فالنواب والزعماء والمتزعمون يريدون أن تبقى «زلمهم» حيث هم، والشعب قد كره الوجوه العتيقة التي لا تحول ولا تزول، حجارة داما نتلهى بنقلها من هنا إلى هناك بعد تفكير عميق وألف حساب، والشعب يطلب من الحكومة التطهير، أن تطلع داما وتقش الحجارة قشًّا …
وتصفها صفًّا جديدًا لا يبقي ولا يذر إلا الصالح والنظيف، فهل تلعب الحكومة هذه اللعبة الخطرة.
فلنقدم قد يفيد تغيير المناخ مسلولًا في الدرجة الأولى، أما أصحاب الدرجة الثالثة فما يريحهم، ولا يريح الناس منهم إلا القبر، فاقبروا هؤلاء الأحياء الأموات …