أم ٤٤
الكيان اللبناني — في نظر محترفي السياسة اللبنانية — وظائف توزع كالجرايات على بيوتات ورجالات بعينهم. كذلك كانوا في عهود الأمراء، وعلى ذلك ظلوا في زمن المتصرفين وما زالوا هكذا حتى اليوم، ومتى عرفنا هذا فهل نستغرب هذه الصيحة الكبرى حول إنقاص عدد النواب!
ما حاجتنا إلى أكثر من أربعة وأربعين، ومجلس لبنان — قبلما شبَّ وكبر — كان مؤلفًا من اثني عشر.
ولكن كيف تكفي الأربعة والأربعون مقعدًا بلدًا يحلم كباره وصغاره بالكراسي؟
فكل من يرمي ورقة في صندوقه إنما يرميها على أمل الفوز بوظيفة.
وكل من يهتف فليسقط زيد وليحيَ عمرو إنما يسقط ويحيي على هذا الرجاء.
ومن يكتب حرفًا ويطيِّر برقية، ويوقِّع عريضة فإنما يفعل ذلك وهو يتخيَّل الوظيفة فاتحه ذراعيها لتضمه إلى صدرها.
كانوا منذ نصف قرن يقفون على أبواب القناصل عند تعيين كل متصرف جديد، مترقبين دوران رحى العزل والتعيين، أما الشيخ رشيد — وكان من الأقطاب في ذلك العصر — فكان يعتمد على السفير الفرنسي في إستنبول ويلزم بيته.
ووصل المتصرف وتحركت ركاب الشيخ للسلام على «الباشا» وجس النبض، ولما عرفه المتصرف قال له: طمِّن بالك يا شيخ، أنت هنا.
قال المتصرف هذا ودقَّ على قفاه دقات فهم منها الشيخ أن توصية السفير في جيب المتصرف الخلفاني، فرجع إلى بيته ونام على صوف …
وبعد شهر قابل الشيخ المتصرف فإذا به يرى نفسه حيث كان، وكانت الدقات الثانية أزخم من الأولى … فضحك وانصرف لينتظر أسابيع أخر.
وجاء عيد الجلوس الهمايوني فانتهز الشيخ الفرصة، وأعدَّ لها عدَّة خازنية، فبعد تقديم التهاني ورفع الأدعية الحارة بطول بقاء الذات الشاهانية دقَّ المتصرف للشيخ تلك الدقة عند الانصراف، فأخرج الشيخ من جيبه ورقة ملفوفة بشكل أصبع وقدَّمها له، فعبس دولته إذ رآها ظانًّا أنها من أصابع الرشوة الصفراء … ولكنه تناولها منه وهو يقول: ما هذي يا شيخ رشيد؟!
فأجاب الشيخ: شربة ملح إنكليزي تساعدنا على الخروج من هذاك المطرح …
وترجم للباشا ما قال فضحك وأمر بكتابة «البيلوردي».
ترى إلى كم قنطار ملح إنكليزي نحتاج اليوم إذا أردنا تحقيق جميع المآرب!