شراويل عتيقة
قال لي أحد شيوخ القرية: كان لرجل بقرة وليس عنده من يرعاها، فكان يفك خناقها عند كل شروق شمس ويحوطها باسم قديس ذلك النهار — ولكل يوم قديس عند النصارى — فكانت تروح ترعى وتجيء. ولما جاء يوم عيد جميع القديسين كبر قلب الرجل واطمأن حين أطلقها بحراستهم جميعًا، ولكن البقرة راحت وما رجعت.
إن هذه الحكاية تؤيد — في نظري وحدي على الأقل — حكمة تقليل النواب؛ لأن كثرتهم — وما أستثني إلا بعضهم — ضرَّت الكثيرين وما نفعت إلا القليلين من المحاسيب والأنصار، أما قال المثل: كثرة الطباخين تشيط الطعام، وبيت الثنتين خرب من سنتين.
أظن أن الإقلال من النواب سيؤدي حتمًا إلى الإقلال من غيرهم. إذا قلت لك: إن بيوتًا برمتها تعمل في مأوى الدولة أخشى أن لا تصدق، بلى صدِّق، كما صدقت أنا من روى لي هذه الحكاية، قال: دخلت مرة إحدى الدوائر فرأيت الأب فيها رئيس ديوان، وابنه الأكبر رئيس قلم وزوجته ضاربة على الآلة الكاتبة، وابنه الآخر حاجبًا، فقلت له: جحا وأهل بيته عرس! من بقي في البيت من غير شر؟ فهز رأسه وقال: نفَّقنا والجبر على الله.
فلو شاءت الدولة — اليوم — ففي استطاعتها أن توزع الميزانية توزيعًا عادلًا على جميع اللبنانيين فلا يخلو بيت من نعمة الوظيفة …
أذكر أنه صدر في زمن الانتداب مرسوم يمنع أن يكون في الجمهورية اللبنانية موظفان درجة قرابتهما ثالثة، وإذا وجد فللحكومة الحق أن تصرف من تشاء منهما، فيا ليت شعري! ماذا يصير لو شئنا تنفيذ هذا المرسوم!
ما أظرف انتقاد الشيخ سعيد تقي الدين لهذه الحالة في رائعته التمثيلية «حفنة ريح». اقرأ أول الصفحة ٣١ واذكر هذا المسرحي الموهوب بالخير. لقد ندد باحتكار البيوت اللبنانية للوظائف بأسلوبه التهكمي الساخر، فخلق في مسرحيته تلك أمتع الأجواء الفنية الانتقادية.
أنا لا أدعو إلى التدقيق الذي ذكرت، ولكني أرى أن تبدأ الحكومة بالأميين وأشباه الأميين، والذين لا عمل لهم إلا قبض المرتب، وغير المرتب … وخصوصًا الطوال الأيدي الذين التهموا البرَّاني والجوَّاني … وهكذا يختصر جهاز الموظفين كما اختصر جهاز النواب ويصير توب الدولة مفصلًا على القد.
كانت المرأة اللبنانية، حين تعتق شراويل زوجها، تعمل الاثنين أو الثلاثة واحدًا، وفي إمكان الحكومة أن تعمل اليوم مثلها وأكثر، فتجعل الأربعة والخمسة واحدًا، أما عندها شراويل كثيرة بالية … وقذرة ريحتها طالعة؟!