كنت جئت إلى رومية
كثيرًا ما تمسي خزائن دوائر الدولة قبورًا لمصالح العباد، فلا بعث ولا نشور ولا نفخت فوق رءوس «الأمناء» في بوق رافائيل …
أعرف «قضايا» عمرت أكثر من زهير وما سئم أصحابها تكاليف الحكومة … ولكن ما لنا ولهذه فأتفه قضية تقتضي صاحبها عامًا وعامين، فينفق ما في كيسه حتى يحصل على لا شيء، ويأسف على حق دفع ثمنه غاليًا، نقدًا وعدًا، وإضاعة شهور وأعوام، وهكذا يترك حقه كل من يؤثر الراحة ويأبى أن يهون، وكيف يطلب ذاك الحق عند من يحجبه ساعات ثم يقول له: ارجع بعد جمعة، ثم عد بعد شهر، ثم وثم …
إن هذا المسلك ليس من خصائصنا وحدنا، ولكنه وباء انتشر في جميع العصور وما وقي الناس منه إلا قوانين صارمة تسهر على تنفيذها حكومات لا تراعي في المنام خليلًا.
روي أن أحد مشاهير أحبار الكنيسة الرومانية استدعي إلى الفاتيكان، فطار إلى رومة تاركًا على الله شئون الأبرشية، ظن سيادته أنه مدعو للترقية، فقيل له حين وصل: عليك دعوى وسينظر بأمرك.
وقعد سيادته ينتظر، وبعد عام سئل وأجاب، وقعد ينتظر … ومرت شهور ولم يسأل، ثم عينت جلسة لمحاكمته بعد أشهر، وأقبلت جمعة الآلام فتعطلت أعمال المجمع، وأُجلت جلسة محاكمته فنفذ صبره.
كان سيادته من خطباء الكنيسة المشاهير فكلفوه بخطبة يوم «الجمعة الحزينة» فما أحجم، وقام خطيبًا في الأب الأقدس وكرادلة وأساقفة الفاتيكان جميعًا، ولما بلغ مناجاة المصلوب مد ذراعيه نحوه وهتف: يا سيدنا يسوع المسيح، لحسن حظ أبينا آدم ومن معه في الجحيم كانت محاكمتك في أورشليم، فحوكمت وصلبت ومت وقمت في ثلاثة أيام … فلو كنت جئت إلى رومة لكنت حتى اليوم قيد المحاكمة.
فتماوجت رءوس الأحبار في كنيسة القديس بطرس، وسأل البابا عن قضية المطران فأُخبر فأَمر، وقضي الأمر وعاد الأسقف إلى كرسيه مكرمًا.
ذكرني بهذه الحكاية ما قرأته في مرسومين جمهوريين، أولهما مرسوم ديوان المحاسبة، وقد جعلت فيه مدة التدقيق اثني عشر يومًا لا غير، ومرسوم قانون المعلمين وجعلت فيه مدة النظر شهرين.
جميلة جدًّا جدًّا هذه السرعة، وأجمل منها أن لا تظل حبرًا على ورق … فالموظف الذي يترك ومروءته قد يسترخي ولا يقوم بحمله، فلا بد له — مهما كان نشيطًا — من تحذير وتقدير … أما الذي لا يستنهضه ثناء ولا يؤثر به تقريع، فما دواؤه إلا القلع لأنه ضرس مسوَّس.
وكيفما دارت الحال فلا بد من أن يظل «البابا» متيقظًا …