قص لحية عضو
البقية الباقية من ألسنة النواب تحاول إلغاء الطائفية، والطائفية مرجة خضراء فيها كل طيب مري لمن يحبون أن يؤتوا أكلهم على الهيِّنة.
كان لي صديق صيَّرته طائفيته محافظًا، وكانت تعجبه هذه الوظيفة ويحمدها كثيرًا لأنها سيمفونية تطرب لها آذان إقطاعيته المعتقة، قال لي مرة: تريد مني يا مارون أن أتعرى من طائفيتي، وأنا لولاها ما صرت محافظًا! أما على المحافظ أن يكون محافظًا؟ هب الطائفية ألغيت اليوم فبعد غد أقعد في بيتي للعزاء … قالوا: من قلة الرجال سموا الديك أبا قاسم، ولك أنت أن تقول: لولا الطائفية ما صار «أخوك» ما صار.
صدق صاحبي، إذا نظرنا إلى الطائفية بمنظاره هذا فهيهات أن نقبرها ولو أنتنت وأفسدت جو البلاد، فوظائف الدولة في لبنان شركة كولكتيف معقودة بين أهله منذ القدم، احتاجوا في زمن المتصرفية إلى عضو محكمة من طائفة ما، فما وجدوا إلا رجلًا أميًّا ولكنه صاحب ضمير، فعملوه عضوًا — مستشارًا — في محكمة بداية كسروان. وتطبيقًا لما جاء في المثل: أرسل نبيهًا ولا توصه، جعل مولانا القاضي علامة بينه وبين الباشكاتب، فإذا أشار هذا إلى ظفر إبهامه كان على العضو أن يختم بختمه الصغير، وإذا ثني الباشكاتب سبابته ودورها لتتصل برأس إبهامه ختم بختم المحكمة الكبير، وهكذا كانت حياة قاضينا الفاضل طوع إبهام الباشكاتب وسبَّابته …
وحكاية ك.ع. مشهورة يعرفها بعض اللبنانيين المخضرمين انتخب هذا الشيخ المعظم عضوًا عن طائفته لمجلس الإدارة اللبناني، وما كان عنده من آلة الوظيفة سوى لحية طويلة يحركها، وشاء أعضاء مجلس الإدارة الاثنا عشر أن يتسلوا فكتبوا مضبطة وقدموها له فمهرها كعادته بختمه الشريف، وشد ما كان غضبه حين عرف أنها تتضمن «التوصية» بقص لحيته، كما أوصى النواب أمس بإلغاء الطائفية …
وبلغ الخبر داود باشا فمات من الضحك وقال: هكذا يصير متى وزعت الوظائف على الطوائف كالجرايات.
وأعرف قائمقام كان داهية في تصريف الشئون وتدبير الأمور عن ظهر قلب، أما الحبر والورق فلا خبز له فيهما. اضطر سعادته مرة أن «يحول» بخط يده عريضة قدمتها له في بيته فكتب رحمه الله: للفصِّ عن هذه المسألة، أي للفحص عن هذه المسألة.
وأخذت هذه العريضة لضابط كسروان وهو يوزباشي، فإذا شهاب الدين … من أخيه: لا يفك الحرف، فقرأتها له فلبى الأوامر وأرسل «ضابطيته» للفصِّ عن هذه المسألة … التي تحتاج إليها جلودهم …
هذا بعض ثمرات الطائفية الزكية، فحرام علينا أن نجهز على هذه الفأرة العمياء التي تعيش في النافقاء … يؤذيها النور، ولا تقرض غير الجذور …