عصر ورق!
كل شيء في هذه الدنيا صار حبرًا على ورق: النقد حبر على ورق، والقوانين حبر على ورق، والشهادات حبر على ورق، وأقدس المبادئ أمست حبرًا على ورق.
ﻓﻠﻠﻪ أمك وأبوك أيها الورق! ما أوسع دولتك، وما أقوى شوكتك!
التراب في فم من يقول: ما أﺿ… من الحبر إلا الورق.
كانوا فيما غبر يكتفون بكلمة: قلنا، خلص، أما اليوم فأشداق سجلاتنا تسمع الدنيا وما فيها، ثم لا يخلص شيء.
نظل حيث كنا لأن الورق لا يقابله شيء من ذهب القيم، فكيف تطلب أن يكون ذا قيمة!
سألوا كليمنصو عن رأيه في المعاهدات، فأجاب المعاهدات حبر على ورق، يجب أن يكون قبالة كل كلمة دارعة، وقبالة كل بند من بنود المعاهدة أسطول لكي تنفذ.
تعنى معاهد لبنان اليوم بمعادلة بعض شهاداتها. الجامعة الأميركية والجامعة اليسوعية فريق أول والعلم والحكومة فريق ثان. أما الذي يتأمل ويقيس الأشياء على أشباهها ونظائرها فيرى شبهًا عظيمًا بين الشهادات الجامعية والنيابية، يزيدون في معادلاتهما كما زاد النواب المحترمون راتبهم، وأما «النصاب» فيظل مفقودًا … إن أكثر شهادات هذا العصر مثل دنانيره، كل أربعين بواحد …!
كان في قريتنا «فلاح» يلقبونه الحداد، وكان الحداد مشهورًا بحراثته السطحية، فلا يلجأ إلى سكَّته وفدانه إلا المضطر. استأجره مرة رجل اسمه بركات رزق، فما كان الصباح حتى التقيا في بستان الزيتون. وقف الحداد قبل الشروع بالحرث ينفخ في يديه الثنتين ويلقي خطاب العرش: عمي بركات، الكبَّة بالصينية لها فلاحة، والفاصوليا مع الرز لها فلاحة، والمجدَّرة لها فلاحة، والبطا…
فصاح بركات: بس، بس، وحق مار شليطا مزرعتنا، لو غدَّيتك سمكة مقلية، وعشيتك دجاجة محمَّرة فلاحتك هي هي، فلاحة حدَّادية … سق يا عمي سق …
أفلا تظن مثلي أن معظم شهادات اليوم مثل فلاحة الحداد؟ أوليست إذا عدلت أو لم تعدل، تظل هي إياها؟
أليس علينا، أولًا أن نسلح الشباب فلا نحملهم بندقيات فارغة!
عجيب أمرنا! كيف صرنا من حبر وورق، بعدما كنا من لحم ودم.
أو كلما انفتح باب في الدولة نسده بلوح كرتون!
فتشوا يا جماعة الخير عن الحديد والفولاذ، وأقل شيء عن خشب … وإلا تركتم بيوتكم عورة …
للشهادات حسنات وسيئات، ولكنها — وأنا خبير بذلك — قد نزَّلت المعرفة ثمانين بالمائة.
إنهم يكتبون اليوم على تذكرة الهوية: يقرأ ويكتب، أما بعد حين فأخشى أن يُكتب حامل شهادة …