رستم يحكم على كيسه
على ذكر التشكيلات القضائية، أو استقلال القضاء أو تطهيره — كما تعنون الصحف أخبارها المحليَّة — قال لي أحد الأصحاب: أما في جرابك شيء من أخبار قضاة أيامكم؟
فضحكت وقلت له: أتظن أني من مواليد طسم وجديس! ألا تعلم أني ابن اليوم! ومع ذلك قل لي: أي زمان تعني؟
قال: أعني أيام المتصرفية.
قلت: إذن اسمع هذه الحكاية: كان رستم باشا، متصرف لبنان الثالث، يحب النسوان حبًّا جمًّا، وجسر الباشا وجنينته المشهورة باسمه أحدثها هذا المتصرف إكرامًا لعيني صاحبته … وهناك في ذلك المنخفض الذي يذكر من يراه بالعهود الرومانية كان يسرح ويمرح معها.
وعرف الناس في رستم باشا هذا الميل فكانوا يدعون السيدات الأنيقات لتناول الطعام معه في المآدب التي تقام على شرفه، وفي إحدى زياراته للجنوب أعجبته سيدة كيِّسة كان يجلسها قبالته على كل مائدة، حتى ظن الناس أن أم شهدان استولت عليه، وصارت صاحبة الكلمة النافذة عنده وكذلك ظنت السيدة.
وحدث بعض مضي شهرين ثلاثة على زيارة أفندينا، أن طعن أخو الست أم شهدان شابًّا من أقرانه طعنة نجلاء، فاستاقوه إلى بتدين ودُكَّ في الحبس، فتزوقت أخته وتطوست وركبت الزرقاء قاصدة بتدين، فاستقبلها صاحب الدولة استقبالًا حارًّا وأنزلها عنده ضيفة، وغالى الباشا في الاحتفاء بها، فطمعت به وسألته أن يعفو عن أخيها ويخرجه من الحبس.
فهزَّ رستم باشا رأسه وقال لها: يا أم شهدان، على «الشالوف» كيف وبسط، أما في سراي بتدين فعدل وإنصاف، هذي مائتا ليرة عثمانية مصروف أخيك، ليأكل ما يشاء، ويشرب ما طاب له، ومتى نفدت تُقدم له غيرها، أما العفو عنه فهذا فوق قدرتي يا أم شهدان.
– يه، يه، يه، تقبر العملة يا أفندينا، القصة قصة نفوذ ونفوس لا قصة فلوس.
– لا نفوذ ولا نفوس على حساب القانون يا أم شهدان، اعذريني، والله لا أقدر.
فقالت الست بغنج ودلال: أما أنت الذي عينت القاضي؟!
– نعم يا ست، ولكني عينته ليحكم باسم مولانا السلطان لا باسم رستم متصرف لبنان، أرجوك يا سيدتي، أن تساعديني على قتل «الخاطرشن» في بلدكم، بلدكم جميل، وأجمل البلدان ما زينها عدل الإنسان.
وأبت أم شهدان إلا المساومة، فأخذها الباشا بذراعها، وقال: قومي، السفرة ممدودة، الأكل غير العدل يا أم شهدان، وفيما كان يدق كأسه بكأسها قال لها: رستم يحكم على كيسه لا على القاضي …
والتفتُّ إلى صاحبي فرأيت شفتيه مندلقتين، وأخيرًا نطق قائلًا: رزق الله على أيامهم!
فقلت: وفي أيامنا أيضًا يوجد قضاة نظاف، مستقلون، مثل قضاة رستم باشا، فلا تيأس من رحمة الله.