الطاهي الأعظم
قال كليمنصو: المعاهدات حبر على ورق، وإذا أردنا تنفيذ بنودها فليكن لنا قبالة كل كلمة دارعة.
وعلى هذا القياس يمكننا القول: عمل الملاكات للدولة مليح جدًّا، وأملح منه أن نضع فيها رجالًا صحاح النفوس والضمائر، ثم نسهر على تطبيقها، فالسهر والتفتيش خير من عمل الملاكات والتطنيش. فتأديب موظف واحد ينفع في الملاك روحيًّا محييًا، وإلا فإنه يظل جثة بل جيفة.
إذا لم تفتح الدولة عينيها الثنتين فعبثًا تتنوق في رصف العبارات وتنشد المثل الأعلى من الألفاظ، فالخريطة غير البناء.
لا ينقص الإسلام والمسيحية دستور ليعودا سيرتهما الأولى، لا ينقصها إلا رجال مؤمنون يعملون بيقين ورجاء وسماحة. الدساتير كلها جيدة، ولهذا قال المثل العامي: اقرأ تفرح جرَّب تحزن.
في ساعة غضب فار رستم باشا متصرف لبنان وضرب سائق عجلته كرباجين ثلاثة، ولما هدأ أدرك أنه توحش فأمر السائق أن يشكوه إلى المحكمة، وتحيَّر القاضي كيف يسمع دعوى عربجي على سيد البلاد وأراد لفلفتها … واستبطأ الباشا مذكرة الجلب فدعا القاضي وقال له: إن لم تمشِ الدعوى تمشِ أنت إلى بيتك.
وبعد أسبوع صدر الحكم بحبس المتصرف أربعًا وعشرين ساعة، واستبدل القصاص بدينار جزاء نقديًّا؛ لأن ماضي «أفندينا» نظيف فدفع دولته لسائقه الدينار مع الاعتذار، وطار الخبر في الجبل فهاب الناس رستم باشا وأجَّلوا حكومته.
إن عملًا كهذا يقر العدالة أكثر من ألف ملاك. نحن لسنا في حاجة إلى طباخ ماهر، ولكننا محتاجون إلى مواد تصدير متى طبخت طعامًا شهيًّا.
منذ ثمانين سنة تقريبًا زار رئيس مدرسة عينطورة تلاميذه — في عمشيت — فحلَّ ضيفًا في بيوت كبيرة كريمة، وأعدت له مآدب غنية بكل طيب شهي، وشاء كبير القوم أن يتواضع ويعتذر، فقال لابنه الذي يحسن الفرنسية: قل للبادري رئيسك إنه شرفنا على غير ميعاد، فما أحضرنا «عشي» يعمل له الأكل، نرجو منه عدم المؤاخذة.
فضحك الأب الرئيس وأجابه: خواجه جبرائيل، الرز الجنوي، واللحم الضاني، والسمن الحموي، والسمك والدجاج كل واحد منها عشي كبير! ألف ممنون.