الحرباء والسنونو
كان لأمير قصر منيف تطوِّقه حدائق وجنَّات، للزحافات في نخاريبها أحجار وللطير في شجرها أوكار. وكانت هذه المخلوقات الدنيا تعيش في جيرة الأمير آمنة لا تمتد إليها يد أحد بسوء؛ لأن رب القصر كان ممن عرفوا بالبديهة شرع الرفق بالحيوان.
ورأى الأمير في إحدى نزهاته الصباحية حرباء تتشمس، والغلمان من حولها يعبثون بها، فأومأ الأمير إليهم وقال: هذا حيوان لا يضر فلا تؤذوه، فتركوا الحرباء تنعم بالدفء وتتلون كما تشاء.
وفهم خدم القصر وحشمه أن مولاهم لا يطيق أن يؤذي حيوانًا تحرم بجواره، فتركوا السنونو تحلِّق وتسفَّ، ومشت الحرباء الهوينى آمنة تتسلق الأشجار وتتعلق بالجدار، تحمِّر وتخضِّر وتصفِّر، وتنفخ في وجوه العابرين فيمرون بها مر الكرام امتثالًا لأوامر سيد القصر.
وكانت غارة شنها إقطاعي آخر على سيد القصر فقهره، وبعدما سلب ذخائره، أضرم النار في قصره، وهبت الحاشية لمكافحة النار ولكنهم لم يقدروا عليها.
وكان شيخ من رجال الأمير يشاهد الكارثة العظمى بحسرة وتفجُّع، إلا أن مشهدًا آخر لفت نظره فأنساه هو النكبة، رأى السنونو تطير إلى بحيرة قريبة من القصر، ثم تصدر عنها وفي مناقيرها نقطة ماء تصبها فوق اللهيب، ثم تعود أدراجها جادة في عملها كالواثق من نجاح مجهوده، وظلت تلك الطيور تروح وتجيء حتى شلت أجنحتها وسقطت في النار فالتهمتها.
فأسف الشيخ لمصرعها ورفع يديه نحو السماء وصاح: أين أنت يا رب؟ من غيرك يا الله لمساعدة فاعل الخير؟
ولكن مشهدًا آخر أنساه مصيبته، رأى الحرباء، وقد جرت وراءها أسرتها الكريمة، تجدُّ في النفخ محاولة من كل عقلها إضرام النار.
فقال الشيخ في نفسه؟ الله الله، أما أحسن الأمير إليها مثلما أحسن إلى السنونو؟
قال هذا وتناول حجرًا، وما همَّ برميها حتى رأى يدًا تمسكه وسمع صوتًا يقول له: أما نهانا الأمير عن الإضرار بها.
فأجابه الشيخ: أما رأيت هذه الملعونة يا ابني! تأمَّل كيف تنفخ بالنار.
فصاح الفتى: اسأل ربك الستر يا جدَّاه، فلا الحرباء تضرمها، ولا السنونو تخمدها، ولكنها الطباع …