مرض الكرسي
أكبر همِّ الوجيه اللبناني أن يقعد ولو على آخر كرسي في دوائر الحكومة، لقد استبطننا هذا الداء فعشَّش وباض وفرَّخ في رءوسنا، فبتنا لا نؤثر على الوظيفة عملًا وأصبح الكرسي أقصى أمانينا. فهذا ناشئنا في المدارس يدرس بإحدى مقلتيه ويتطلع بالثانية إلى الكرسي العتيد الذي يحلم به. وهؤلاء أعياننا ووجوهنا، فجل ما يتمنون، أن يقعدوا ولو على كرسي مخلَّع، وأن يجلس عليه أولادهم وأحفادهم.
تعجب الناس عندنا حين قرءوا أن جمعية أصحاب المطاعم الليلية في نيويورك عرضت على المستر ترومن إدارتها بمرتب قدره خمسة وسبعون ألف دولار.
– يه! يه! يه! من رئاسة جمهورية أميركا! من القصر الأبيض إلى مكتب جمعية أصحاب مطاعم! يا عيب الشوم.
هكذا سمعتهم يقولون: ترى لماذا استغرب هؤلاء ما رآه ترومن والأميركان شيئًا عاديًّا؟! إنهم لبنانيون، ولا عز ولا مجد عند اللبنانيين إلا على الكراسي، لا تنسوا يا سادة: أن أخلاق الأميركان ليست بنت الساعة، لهم عقليتهم ولكم عقليتكم، الوظيفة عندهم خدمة، وهي عندكم تأمُّر وسيادة ولو على الرعاع، لم يرَ ترومن في كرسي أكبر رئاسة في العالم غير كرسي عمل من الأعمال، جلس عدة سنوات على كرسي جورج واشنطن، وما كان جورج واشنطن غير خادم لأمته، كان يهمه أن يكوِّن شعبًا لا أن يجلس على كرسي.
كلنا يعلم سيرة الخلفاء الراشدين وماذا عملوا، فكانوا قدوة للشعب، وخلقوا أمة مثلى. أما جورج واشنطن فهاكم ما فعل:
كان في الشارع فرأى شابًّا طويلًا عريضًا يفتش عن عتَّال يحمل له بقجة صغيرة، فاقترب منه جورج واشنطن على أنه عتَّال، وأخذها من يده ومشى بها إلى البيت. قال لأم الشاب حين سلمها إياها مع ما قبضه منه أجرة: قولي لولدك عتَّالك جورج واشنطن يرجو منه أن لا تعود لمثلها.
إن أمة يفعل رئيسها هكذا لا يستغرب أن تتقدم فيها جمعية مطاعم ليلية بعرض إدارتها على الذي كانت كلمته أمس تقيم الدنيا وتقعدها.
لا رقي لنا نحن الشرقيين عمومًا — واللبنانيين خصوصًا — ما لم نخلع ثيابنا القديمة المزركشة، ونلبس الطقم الكاكي. ولا حياة لنا بين أمم الأرض ما لم نقبل بالعمل الشريف مهما كان نوعه.
في ساعة جدال قال أحد لوردات الإنكليز لأحد النواب: أتعلم أن والدك كان يمسح بوط أبي؟ فأجابه النائب بالبرودة المشهورة: نعم، ولكنه كان يمسحه جيدًا.
إن المدارس مسئولة عن غرس هذه الأخلاق في نفوس رجال الغد، والموظفون أنفسهم هم خير المعلمين، متى تواضعوا واستقاموا، وفهموا أنهم أجراء الأمة لا أمراؤها.