تذكر ولا تعاد
دخلت على رياض طه فرأيته ملفف الرأس كأنه مهراجا أو مطعوم نجاص … دخلت، فإذا به — رغم ما به — لا يتخلى عن ابتسامته التقليدية. وبعد السلام والاطمئنان، قال لي مدير مال الأحد وأنباء الشرق: هل في جرابك شيء يشبه حالنا اليوم؟
قلت: ما صار شيء إلا صار مثله، وسيأتيك الخبر.
وبعد استراحة وجيزة عدت إلى قواعدي في عاليه سالمًا، ورحت أتذكر ماضي السعيد فتراقصت أمام عيني أشباح من حاولوا الاعتداء عليَّ، وكان كل بطل منهم يقول: خبِّر عني أنا.
أخيرًا وقع اختياري على معركتين لا غير، الأولى كانت في صيف ١٩٠٨، والثانية كانت في ربيع عام ١٩١٢.
أُعلن الدستور وقطعت الأقلام أرسانها فابتدأنا بمولانا السلطان وانتهينا بآخر باشكاتب في دواوين المتصرفية، وقعدت أتعشى ذات ليلة في مطعم المسكوبي على البرج وأنثر أحاديثي على الملتفين حولي، ممن أعجبهم مقالي: بين حانا ومانا ضاعت لحانا، في جريدة النصير التي كنت أحررها يومئذ، فشغل بالي جلف قبع في الزاوية وكان يزأرني كأنه يريد أن يأكلني بعينيه. فقلت في قلبي: هذا رجل في وجهه شر، يفتل شاربين كقرني التيس ولكنه لا يكاد يقيمهما حتى يناما، يحط دبوسه ويشيله بلا شعور، يتحلحل ثم يجمد، ولما قمت قام، ومشينا فكان يقف إذا وقفت، ويمشي إذا مشيت كأنه ينتظر الخلوة حتى يبوح لي بعواطفه … فقلت في نفسي: الأوفق أن نفقأ الدمل على عيون الناس، فلا أقل من أن يتقدم واحد من أصحاب المروءة فيرده عني، وأعجبني رأيي فعدت إليه فجأة وقلت لأستولي على المبادرة: ماذا تريد مني؟ قل.
وحرك يده فهبط قلبي في بطني، ولكنه ما حركها إلا ليقول لي: «بدي» فك رقبتك، إذا كتبت بعد كلمة واحدة عن سيدنا الشيخ.
فقلت: وإذا لم أكتب.
قال: يسلم جلدك عليك.
فقلت في نفسي إذا كان فك الرقبة بعد حين فالقضية محلولة وعلى هذا تفارقنا، وهكذا كان. وبعد أسبوعين توجهنا إلى بتدين، وهتفنا بسقوط الكثيرين فأسقطهم المتصرف موقتًا …
هذه واحدة، أما الثانية فكانت في جبيل، كتبت مقالًا عن كاهن عنونته: عوافي يا عم — عمبزرع عدس، تاكل وجع — أنا وخيي سليمان.
فغاظ المقال أهل بلدته فنزل إلى عمشيت منها سبعون رجلًا بالسلاح الكامل، أما أنا فكنت في جبيل بمدرسة الفرير، فحماني العلم المثلث الألوان، واليوزباشي جرجس غسطين الذي جعلني أنتقل في الإسكلة كالمتصرف، جنديان خلفي، وجنديان قدامي، فأعجبتني هذه الأبهة ولكنها لم تدم، ما دام إلا رسائل الوعيد التي كانت تنهال عليَّ فتحرمني النوم، وصار محسوبكم: إذا رأى غير شيء ظنه رجلًا …
وهوَّن الله أخيرًا، والتقيت في سراي جونيه بالقبضاي الذي كان يتهددني، فجاء صوبي وعرفني بذاته الكريمة، وأخذ يهدُّ ويقدُّ، فناجاه ابن عم لي على طرازه، وكان «المحترم» في السراي فجاء على الصوت، ودخل — رحمه الله — في الدعوى شخصًا رابعًا، وتصالحنا باسم من قال: من ضربك على خدك الأيمن …
قد يقول القارئ: جرت كل هذه الحوادث يا عنترة، وما أكلت كفًّا!
– لا يا مولاي، خليها مستورة، الماضي مضى … لم يكن القتل دارجًا في زماننا … ومن يقتل رجلًا بمقالة!
إن ضرب الصحفي وسام كبير وإعلان ثمين شهير يعطاهما مجانًا …