اضرب … علق الشر
الطائفية نار ونور، نار في الشارع ونور في الكنيسة والجامع، فإذا صلى كل منا على نبيه ولم يضمر لأحد بغضًا كانت الخطام والزمام والعهد والذمام، فهي تعلم المسلم: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً، والمسيحي: أحبوا أعداءكم، وأي نور يضيء سبل هذا الشرق أكثر من هاتين المنارتين.
عجيب أمرنا والله، نعيش في جحيم الضغن والشحناء لنحتكر فيما بعد السماء ولا نعطي أحدًا فيها مكانًا يسند إليه رأسه، ومسيحنا يقول في بيت أبي منازل كثيرة، والرسول قال: «لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى». إني أكره الطائفية والتحدث عنها، وقصتي معها أطول من مصيبتنا فيها، فها قد كاد العمر ينصرم وأنا أعالج سرطانها حتى وجدتها أخيرًا كما قال الأخطل:
نعم إنها جرب روحاني، ولو كان جسدانيًّا لهان الأمر، وقلنا مع المتنبي:
إن شر الأمراض ما كان داء دفينًا ينتشر كل ما وافقه المناخ، وهذا ما يصيب هذه الديار من موجات الطائفية العارمة، ومتى ظهرت أعراضها في الجماعات قلب كل منهم الترانشكوت وأربدت الأجواء وأنذرت بالصواعق وأجفل القوم كقطعان الغنم، حتى إذا ما نودي بالأمان عادت إلى مرابضها ترعى وتجتر.
إنها ضوضاء نعارة قد ألفناها، ومتى رفعت صوتها أجبناها، وإذا سكتت نسيناها أو تناسيناها، فمتى تفطس ونقيم لها المآتم والنياحات؟
يظهر أنه لا بد للبشر من التخاصم، فإذا لم نتخاصم دولًا تخاصمنا مللًا، وإذا لم نتشاحن أقطارًا تضاغنا أمصارًا، وإذا لم يكن لنا هذا ولا ذاك، تعادينا قرى وضياعًا، ألسنا من القوم الذين قال فيهم شاعرهم:
كان في لبنان بلدتان متعاديتان؛ فلا يلتقي شبابهما في مجمع حتى تسكت الألسن وتتكلم العصي، وتزغرد المسدسات، وتتبسم الخناجر، وفي أحد الأعياد — والعيد في لبنان، وخصوصًا صيفًا، ملتقى الثنيان والجذعان — التقى الجمعان فكان طرب وغناء وشرب، وفي هذه الحومة تذكر شاب صديقًا له من أهل القرية فراح يبحث عنه ظانًّا أن الجلسة سلام واطمئنان حتى مطلع الفجر. وأخيرًا هون الله ولقي ذاك الصديق فراح يقبل وجنتيه وشاربيه وصلعته بقرم ونهم … وبينما كان يعانقه عناقًا جنونيًّا وقعت عيناه على جماعته فرآهم يقتتلون مع جماعة صديقه، فراح هو يخبط صاحبه بدبوسه ويصيح به: اضرب ولاه … علق الشر.
تلك هي حالتنا الطائفية، يتنكر بعضنا لبعض دون ما سبب غير هذه النعرة الملعونة، وعلينا أن نضرب من نقبل، ونقول له: اضرب ولاه … علقوا.
قال القديس إفرام: كنا وعائلة يهودية نسكن بيتًا واحدًا، فولدت أنا مسيحيًّا وولد صديقي يهوديًّا، ولم يكن لنا أن نختار.
لقد تعودنا في هذا الشرق أن لا نتكلم إلا بلغة الدين، فإذا ساومنا بائع مانيفاتورة على قماش نريده سألناه عن دين الخام الذي عنده … وإذا تكلمنا عن رجل قاس قلنا: ما له دين. وإذا أعجبنا برجل قلنا له: يحرز دين البطن الذي حملك! أما سب الدين فملء أفواه الكبار والصغار.
فما قولك في امرأة أكل الثعلب دجاجتها فسبت دين نوح الذي وضع جده في السفينة؟!
كل هذا يعمل عمله في عقولنا فلنقلع عنه.وإذا شئنا أن نميت الطائفية فلنحذفها من أقوالنا.